يا فتاة .. مناقشة مقال ( ... )  - الجزء الثاني - للشيخ أبي سارة حفظه الله تعالى
 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

         

 مناقشة مقال ( ... )  1 - 2

3- عورة النظر وعورة الصلاة.

* قال الكاتب: " وفي الحقيقة أن كلامه هو الأكذوبة العلمية التي نالها هو من قلة اطلاعه والنقل عمن أخفى تلك الحقيقة وإليك الدليل على أن هذا القول ليس بأكذوبة علمية. يقول النووي (المشهور من مذهبنا أن عورة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين وبهذا كله قال مالك وطائفة وهي رواية عن الإمام أحمد.... ومن قال عورة الحرة جميع بدنها إلا وجهها الأوزاعي وأبو ثور، وقال أبو حنيفة والثوري والمزني قدماها أيضا ليس بعورة، وقال أحمد جميع بدنها إلا وجهها فقط) المجموع ج3 ص 175.

وقال ابن هبيرة - من أعلام المذهب الحنبلي - (قال أبو حنيفة وكلها عورة إلا الوجه والكفين والقدمين... وقال الشافعي: كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وقال أحمد في إحدى روايتيه: كلها عورة إلا وجهها وكفيها كمذهبهما، والرواية الأخرى: كلها عورة إلا وجهها خاصة وهي الرواية المشهورة) الإفصاح عن معاني الصحاح ج1 ص 86.

 

قال ابن عبد البر في التمهيد (قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وهو قول الأوزاعي وأبو ثور على أن المرأة تغطي منها ما سوى وجهها وكفيها) التمهيد لابن عبدالبرج 6 ص364 . من هذا النقل يتضح أن هذا القول هو قول الجمهور وليس أكذوبة علمية."

أقول:

يقولون: "اختلف العلماء في الوجه واليدين بالنسبة للمرأة، فمنهم من أجاز لها كشفها، ومنهم من منع".. لكن الذي نعتقد أن كثيرا من الناس لم يفهم حقيقة هذا الخلاف بين أهل العلم..

والحقيقة تبرز إذا عرفنا أن الكلام عن عورة المرأة إنما يذكر دائما في " باب شروط صحة الصلاة"، فيقول العلماء:

" وكل المرأة عورة إلا وجهها وكفيها"..

وهم إنما يقصدون عورتها في الصلاة، لا عورتها في النظر..

وعورة الصلاة ليست مرتبطة بعورة النظر لاطردا ولا عكسا، فما يجوز كشفه في الصلاة بالنسبة للمرأة هو الوجه بالإجماع، واليدين عند جمهور العلماء، والقدمين عند أبي حنيفة وهو الأقوى..

أما خارج الصلاة فلا يجوز كشف ذلك أبدا، فإذا قيل: " إن وجه المرأة وكفيها ليستا بعورة"..

فهذا المذهب إنما هو في الصلاة إذا لم تكن بحضرة الرجال، وأما بالنسبة لنظر الأجنبي إليها فجميع بدنها عورة لابد من ستره عن الأجنبي لقوله عليه الصلاة والسلام: ( المرأة عورة) ..

قال موفق الدين ابن قدامة:

" وقال مالك والأوزاعي والشافعي: جميع المرأة عورة إلا وجهها وكفيها، وما سوى ذلك يجب ستره في الصلاة" .

وقال ابن القيم: " العورة عورتان: عورة في الصلاة، وعورة في النظر، فالحرة لها أن تصلي مكشوفة الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك" .

وقال البيضاوي في تفسير قوله تعالى: {ولايبدين زينتهن إلا ماظهر منها}:

"والمستثنى هو الوجه والكفان لأنهما ليستا من العورة، والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة، لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة" .

وقال الصنعاني: "ويباح كشف وجهها حيث لم يأت دليل بتغطيته، والمراد كشفه عند صلاتها بحيث لا يراها أجنبي، فهذه عورتها في الصلاة، وأما عورتها بالنظر إلى نظر الأجنبي إليها فكلها عورة كما يأتي تحقيقه" .

فهذه النقول عن أهل العلم كافية لإثبات الفرق بين حدود العورة وحدود الحجاب..

وعليه فلا يصح أبدا ما قد يذكره بعض الناس من إجماع العلماء على جواز كشف الوجه واليدين، فبالإضافة إلى كونه جهلا بمواقف العلماء هو كذلك جهل بحقيقة الخلاف بينهم.

فمن ورد عنهم جواز كشف الوجه واليدين على قسمين:

قسم لا يجيز ذلك بإطلاق، بل يخصه في الصلاة فقط، ويحرمه عند وجود الرجال الأجانب، وهذا القسم لم يفهم بعض الناس قوله، فلما سمعه يقول: " والمرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها"..

ظن أن ذلك بالعموم حتى في النظر، فحمل قوله على جواز الكشف مطلقا، وهذا خطأ، فإنهم لم يقصدوا التعميم. فهذا سبب من أسباب الاختلاف في المسألة. ( انظر: عودة الحجاب228-233)

القسم الآخر أجاز الكشف بإطلاق..

والمقصود من هذا تحرير كلام العلماء الذين ورد عنهم جواز الكشف، وأنه لا بد من التدقيق في كلامهم، فكثير منهم قصد الصلاة، ولم يقصد ذلك بإطلاق..

وقد نقل الأخ الكاتب  كلاما لابن عبد البر، وهو ما يلي:

* "قال ابن عبد البر في التمهيد (قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم وهو قول الأوزاعي وأبو ثور على أن المرأة تغطي منها ما سوى وجهها وكفيها) التمهيد لابن عبدالبرج 6 ص364 . من هذا النقل يتضح أن هذا القول هو قول الجمهور وليس أكذوبة علمية." أقول: الأخ الكاتب قفز كلمات مهمة تبين أن كلام الإمام ابن عبد البر إنما كان في الصلاة، وهاك تمام كلامه: قال ابن عبد البر: " وقد أجمعوا أن المرأة تكشف وجهها في الصلاة، والإحرام، وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي، وأصحابهم، وهو قول الأوزاعي وأبي ثور: على أن المرأة تغطي منها ما سوى وجهها وكفيها".. التمهيد 6/364.

من الواضح جدا أن سياق الكلام في عورة الصلاة لا عورة النظر، ولا أدري كيف غفل الكاتب عن تلك الجملة المهمة السابقة مباشرة لما نقله؟!.

ومما يدلك على أن المقصود عورة الصلاة، ما نقله الكاتب  أيضا عن النووي حيث قال: "(وقال أبو حنيفة والثوري والمزني قدماها أيضا ليس بعورة، وقال أحمد جميع بدنها إلا وجهها فقط)" المجموع ج3 ص 175.

موطن الشاهد: ذكر القدمين.. فمعلوم أن أحدا لم يقل أن القدمين ليستا بعورة في النظر، بل هم مجمعون على أنهما عورة في باب النظر، إنما الخلاف في الوجه واليدين، وإنما جاء ذكر القدم في كلامهم هنا، لأن الكلام في عورة الصلاة…

فليتنبه لمثل هذا..

* ذكر الكاتب أن أول من قال بالتفريق بين عورة الصلاة وعورة النظر هو ابن تيمية وتابعه عليه ابن القيم.. هنا يقال:

لا ينبني على هذا كبير فائدة؛ سواء كان كذلك أو غير ذلك، فالأمر واحد، ذلك لأن ابن تيمية لم يخترع شيئا جديدا في الدين أو قولا محدثا، غاية الأمر أنه فصل وفسر وبيّن حقيقة كلام أهل العلم، فنبه إلى أن القول بأن جمهور العلماء يقولون بكشف الوجه اعتمادا على ما جاء عنهم في باب شروط الصلاة، ليس دليلا كافيا في نسبة ذلك القول إليهم؛ وقد صدق في هذا.

فليس قولهم بجواز كشف الوجه في الصلاة دليلا على جواز الكشف مطلقا، لما بين الكشف في الصلاة والكشف خارجها من فرق ظاهر واضح، عكس ما قاله الكاتب، وبيان ذلك:

أن الكاتب أراد أن يبين خطأ التفريق بين عورة الصلاة وعورة النظر من حيثيتين:

ـ من حيث اللغة..

ـ من حيث اتهام من يقول بالتفريق للفقهاء بالخلط بينهما؛ على حد قوله.

وجواب ما ذكره في الأصل اللغوي أن يقال:

( العورة) كذا بأل العهدية ينصرف إذا ذكر إلى العورة المعروفة، وهي عورة النظر.. نعم هو كذلك، لكن ذكرها في باب شروط الصلاة أخرجها من كونها معهودة، فصارت مقيدة بالصلاة، فيقال: عورة المرأة في الصلاة.. فهنا مقيدة وليست عامة ولا عهدية؛ فتبين من هذا أن ما ذكره الكاتب غير صحيح..

فالعلماء إن ذكروا العورة في باب شروط الصلاة فهي مقيدة، ولو ذكرت بأل العهدية، لكونها مدرجة تحت باب شروط الصلاة..

وإن ذكروها بقولهم: عورة المرأة في الصلاة؛ فهي مقيدة في نفس الجملة، كما هو ظاهر، بل الأغلب ذكرها منكرة لا معرفة بأل العهدية، عكس ما ذكره الكاتب بقوله: *** "وهكذا تذكر (العورة) في هذا المبحث الفقهي معرفة بأل العهدية أي إنها العورة المعروفة المعهودة وهي عورة النظر"..

وللتأكد انظر ما نقله الكاتب في مقاله من أقوال أئمة المذاهب:

فقد نقل عن المرغيناني: ( بدن المرأة ((عورة)) كلها إلا وجهها وكفيها .. )..

وعن ابن عبد البر في التمهيد: " الحرة كلها ((عورة)) مجتمع على ذلك إلا وجهها وكفيها)...

وعن الشافعي: " والمرأة كلها ((عورة)) إلا وجهها وكفيها"..

وعن الشيرازي: "وأما الحرة فجميع بدنها ((عورة)) إلا وجهها وكفيها"..

وكذا عن أحمد: " كلها ((عورة)) إلا وجهها وكفيها.. ".

وانظر بقية النقول تجد الأمر كما بينته لك...

ولا أدري هنا أيضا: هل كان الكاتب غافلا وهو يقول: "وهكذا تذكر (العورة) في هذا المبحث الفقهي معرفة بأل العهدية أي إنها العورة المعروفة المعهودة وهي عورة النظر"؛ عن حقيقة النقولات التي جاء بها، والتي تضاد ما ذكره؟!.

فالأقوال التي نقلها هو بنفسه عن الأئمة تبين أنهم في الغالب يذكرون العورة منكرة خالية من " أل " العهدية.

وقد خلص من قوله هذا إلى أن عورة النظر هي عورة الصلاة، من غير فرق!!!!!!..

أما وقد تبين خطأ دعواه من أن الفقهاء يذكرون العورة معرفة بأل العهدية، وأن الحقيقة أنهم إنما يذكرونها منكرة مضافة مقيدة، فإن ما بنى عليه من اتحاد عورة الصلاة وعورة النظر لا يقوم ولا يصح ولا يثبت، بل الثابت التفريق بينهما، ومما يؤكد هذا: أنه لا خلاف بين المجيزين للكشف أن التغطية ـ خارج الصلاة ـ أفضل من الكشف.

فالتغطية أمام الأجانب إما أن تكون واجبة عند جمع من أهل العلم، أو مفضلة عند غيرهم، أما في الصلاة فالكشف واجب عند الجميع. كما ذكر ابن عبد البر في التمهيد 6/365...

فلو كانت العورتان ـ النظر والصلاة ـ متحدتان لما وجد هذا الفرق فيهما في تغطية الوجه..

--------------------------

أما عن الخطأ الثاني بحسب تعبير الكاتب؛ فإن أحدا لم يتهم الفقهاء المتقدمين بالخلط بين عورة الصلاة وعورة النظر، إنما الخلط فيمن حمل كلامهم على الاتحاد بينهما وجعلهما شيئا واحدا ـ كما تبين من التفصيل الآنف ـ ..

وهنا نقول:

لا ننفي أن يكون من يقول بجواز كشف الوجه واليد في الصلاة أن يقول بمثل ذلك خارج الصلاة، إنما الذي نريد بيانه أن قول الإمام من الأئمة في حد عورة النظر لا يؤخذ مما ورد عنه في حد عورة الصلاة بمجرده.. بل لا بد أن يرد عنه قول آخر صريح وواضح في حد العورة خارج الصلاة.. كأن يقول: عورة المرأة مع الرجل، أو عورة المرأة مع الأجانب.. ونحوها...

فهذا النوع من التصريح واضح، وعليه يصح الاعتماد لنسبة القول بجواز الكشف إلى من صدر عنه.. أما ذكر الأئمة حد عورة المرأة في باب شروط الصلاة، بمجرده، فليس كافيا في إثبات أن الإمام يقول بأن عورة الصلاة هي عورة الرجل... ..... وقبل أن أنهي الكلام على هذه النقطة أذكر ما يلي:

البحث هنا إنما هو في نسبة الكلام إلى الأئمة، هل صح عنهم القول بالكشف؟، وهل ما ورد عنهم في الكشف الصلاة كاف في إثبات أنهم يقولون بالكشف أمام الأجانب؟… وليس البحث في أدلة الكشف..

ننبه إلى هذا، حتى يعلم أن الأصل في معرفة الأحكام الشرعية هي الأدلة الصحيحة، وليس مجرد معرفة الأقوال الواردة.

-----------------

4-رأي الشيخ الألباني في التغطية حال الفتنة.

* قال الكاتب : " وإنما الأكذوبة العلمية هي القول إن القائلين بجواز كشف الوجه يوجبون ستره عندما تكون المرأة شابة ويخشى على غيرها الفتنة بها وعن هذه المسألة يقول الشيخ الألباني في كتابه جلباب المرأة المسلمة (ثم غلا أحد الجهلة من المقلدين المعاصرين فنسب هذا الشرط إلى الأئمة أنفسهم فنتج من ذلك عند بعض من لا علم عنده إلا التحطيب والتحويش أن لا خلاف بين الأئمة) إلى أن يقول (والحقيقة أن هذا الشرط المذكور وإنما ذكره العلماء ومنهم مؤلف كتاب الفقه على المذاهب الأربعة في نظر الرجل إلى وجه المرأة فقالوا (يجوز ذلك بشرط أمن الفتنة) وهذا حق بخلاف ما فعله المقلدة.....) ص 16 "

أقول:

في مقال لي بعنوان:

http://209.39.13.51:81/sahat?128@55.mueUaDEbacG^1@.eeaf302

بينت بالأدلة أن تغطية الوجه واجبة بإجماع العلماء في زمن الفتنة، وعلى ذلك قول المجيزين لكشف الوجه..

وقد كنت سردت قول الأحناف لأبين أنهم يقولون بذلك، وكذا بقية المذاهب، فالقول بوجوب التغطية زمن الفتنة حقيقة ثابتة عن القائلين بجواز الكشف، وليست أكذوبة علمية...

والذي يبين هذا، ما ورد عنهم، فما ورد عنهم ليس غيبا، بل هو مكتوب في الكتب، وبيانا للحقيقة سأنقل هنا قول الأحناف، على أن أورد بقية الأقوال إن شاء الله في موضعه..

-------------

هذا إيراد لأقوال أئمة المذاهب الأربعة في وجوب التغطية حال الفتنة ( نقل هذه الأقوال وغيرها الشيخ محمد إسماعيل المقدم في كتابه العظيم الذي ننصح بقراءته "عودة الحجاب").:

--------------------------------

أولا: قول الحنفية..

1- قال الجصاص في تفسير قوله تعالى: { يدنين عليهن من جلابيبهن}:

" في هذه الآية دلالة على أن المرأة ((الشابة)) مأمورة بستر وجهها من الأجنبي، وإظهار الستر والعفاف عند الخروج، لئلا يطمع أهل الريب فيهن".

2- وقال الطحاوي: " وتمنع المرأة ((الشابة)) من كشف الوجه بين الرجال، لا لأنه عورة، بل لخوف ((الفتنة))، كمسه، وإن أمن الشهوة، لأنه أغلظ". رد المحتار على الدر المختار 1/272

3- قال ابن عابدين في شرحه:

" تمنع من الكشف لخوف أن يرى الرجال وجهها فتقع ((الفتنة))". المصدر السابق

4- نقل ابن عابدين عن صاحب المحيط قوله:

" ودلت المسألة على أن المرأة منهية عن إظهار وجهها للأجانب بلا ضرورة". المصدر السابق 2/189 5- قال الإمام محمد أنور الكشميري:

" يجوز الكشف عند الأمن عن ((الفتنة))، على المذهب، وأفتى المتأخرون بسترها لسوء حال الناس". فيض الباري على صحيح البخاري 1/254  

6- قال ابن نجيم:

" وفي فتاوى قاضيخان: ودلت المسألة على أنها لا تكشف وجهها للأجانب من غير ضرورة" البحر الرائق شرخ كنز الدقائق 2/381

وقال أيضا: " قال مشايخنا: تمنع المرأة ((الشابة)) من كشف وجهها بين الرجال في زماننا(( للفتنة))". نفس المصدر 1/284

7-وفي الهدية العلائية: " وتمنع ((الشابة)) من كشف وجهها خوف ((الفتنة))"..

8- وفي المنتقى:

" تمنع ((الشابة)) من كشف وجهها، لئلا يؤدي إلى الفتنة، وفي زماننا المنع واجب، بل فرض لغلبة الفساد".  

وأقوال بقية المذاهب لا تختلف كثيرا عن قول الأحناف..

أما الشيخ الألباني رحمه الله تعالى فقد ذكر أن المتأخرين من الأحناف قيدوا كشف الوجه بشرط أمن الفتنة؛ ومفهوم الكلام أن المتقدمين لم يقيدوا.. وهذا نص كلامه:

" من عجائب المتأخرين من الحنفية المقلدين وغيرهم أنهم ـ تقليدا منهم لأئمتهم ـ يتفقون معنا على المخالفين المتشددين، ولكنهم سرعان ما يتفقون معهم على أئمتهم! وذلك أنهم اجتهدوا ـ وهم المقلدون ـ فقيدوا مذهب الأئمة فقالوا: "بشرط أمن الفتنة"؛ يعنون: فتنة الرجال بالنساء، ثم غلا أحد الجهلة من المقلدة المعاصرين فنسب هذا الشرط إلى الأئمة أنفسهم! فنتج من ذلك عند بعض من لا علم عنده إلا التحطيب والتحويش: أن لا خلاف بين الأئمة والمخالفين!. " جلباب المرأة المسلمة ص15-16

مفهوم كلام الشيخ أن الأئمة المتقدمين لم يذكروا هذا الشرط؛ لكن عدم الذكر لا يعني عدم قولهم به، إذ الحامل على ذكر الشرط قد لا يكون موجودا في زمانهم، بخلاف الذين ذكروه، فإنهم ما ذكروه إلا لغلبة الفساد، يدل على هذا ما سبق نقله، من ذلك:

- قال الإمام محمد أنور الكشميري:

" يجوز الكشف عند الأمن عن ((الفتنة))، على المذهب، وأفتى المتأخرون بسترها ((لسوء حال الناس))". فيض الباري على صحيح البخاري 1/254

- قال ابن نجيم:

" قال مشايخنا: تمنع المرأة ((الشابة)) من كشف وجهها بين الرجال في زماننا(( للفتنة))". نفس المصدر 1/284

- وفي المنتقى:

" تمنع ((الشابة)) من كشف وجهها، لئلا يؤدي إلى الفتنة، ((وفي زماننا المنع واجب، بل فرض لغلبة الفساد))".

هذه النقول توضح أن الفتوى جاءت لواقع الحال، والشيخ رحمه الله يوافق على هذا ـ بالرغم مما يظهر عنه من خلاف ذلك ـ فإنه يقرر في الموضع ذاته في كتابه "جلباب المرأة المسلمة" أن الفتنة والخشية على الخلق والدين موجب ـ لا أقول للتغطية فحسب ـ بل للزوم البيت وعدم الخروج منه، انظر ماذا يقول:

" ولو أنهم قالوا: يجب على المرأة المتسترة بالجلباب الواجب عليها إذا خشيت أن تصاب بأذى من الفساق لإسفارها عن وجهها: (((أنه يجب عليها في هذه الحالة أن تستره دفعا للأذى والفتنة)))، لكان له وجه في فقه الكتاب والسنة..

بل قد يقال: (((إنه يجب عليها أن لا تخرج من دارها إذا خشيت أن يخلع الجلباب من رأسها))) من قبل بعض المتسلطين الأشرار المدعمين من رئيس لا يحكم بما أنزل الله، كما وقع في بعض البلاد العربية منذ بضع سنين مع الأسف الشديد؛ أما أن يجعل هذا الواجب شرعا لازما على النساء في كل زمان ومكان، وإن لم يكن هناك من يؤذي المتجلببات فكلا ثم كلا.. " جلباب المرأة المسلمة ص17

فهو بالرغم من قوله بجواز كشف الوجه على وجه الإباحة ـ مع كونه يرى الأفضل هو التغطية ـ إلا أنه يرى، لا أقول وجوب التغطية فحسب، بل وجوب القرار في البيت، ألا تخرج أصلا، إذا صار الزمان زمان فتنة، يتعرض فيه السفهاء للصبايا واليافعات.. هذا واضح من كلامه، ونحن نقول:

ألا ترون قدر الفتنة التي تكون اليوم جراء خروج الفتاة من بيتها؟..

الخروج لوحده يستفز السفهاء ليحوموا حول الحمى، من أجل التحرش والأذى، فما بالكم حينما تكشف عن وجهها، وكلكم سمع ورأى من مثل هذا، ما صار معلوما مشهورا؟.

هذا بالإضافة إلى الكيد الكبير الذي يخطط له أعداء الحجاب، وهو معلوم لا يخفى..

إذن، نحن نعيش حالة حرب حقيقة مع أعداء الحجاب، وكل متبصر، أو لديه نصف تبصر يدرك هذا، وعلى هذا ألا تتفقون معي أن:

ـ كل العلماء يجمعون أنه في زمان كهذا يجب التغطية، حتى من أجاز، حتى الشيخ الألباني نفسه في كلامه السابق يقرر هذا؟...

ـ وأن الحكمة والعقل يأمران بالحجاب والتغطية، وأن ندعوا إلى هذه الفضيلة درءا لهذه الفتنة العمياء؟. لو كان هناك من يرى جواز الكشف مطلقا، حتى في حال الفتنة، فإنهم بالنسبة لعموم الأمة شيء لا يذكر، وقولهم لا يقبل في محكم العقول.

--------------

5- حديث الخثعمية.

روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:

" أردف رسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن عباس يوم النحر خلفه على عجز راحلته، وكان الفضل رجلا وضيئا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم للناس يفتيهم، وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفق الفضل ينظر إليها، وأعجبه حسنها، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم والفضل ينظر إليها، فأخلف بيده فأخذ بذقن الفضل، فعدل وجهه عن النظر إليها".

في الاستئذان، باب: قول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم..}

احتج بهذا من قال بجواز كشف الوجه، وموضع الشاهد قوله: " وضيئة".

قالوا: لا تعرف الوضاءة إلا بكشف الوجه، فالوجه كان مكشوفا إذن.

وهذا موضع النزاع...

فإننا ننازعهم في أن الوجه كان مكشوفا... فليس في الروايات تصريح بأنه كان مكشوفا، وأما عن دعوى أن معرفة الوضاءة تستلزم كشف الوجه نقول:

الوضاءة تعرف بالوجه، وتعرف كذلك بالقوام من دون رؤية الوجه، ومن تأمل هذا أدرك حقيقة ما نقول، وشاهد هذا من كلام العرب قول الشاعر:

.... طافت أمامة بالركبان آونة... يا حسنها من قوام ما ومنتقبا...

فالوضاءة أو الحسن، كلاهما بمعنى، يدركان بالقوام، وهو أمر محسوس، فقد تمر المرأة بالرجل وهي مستترة بالكامل، فيرجح حسنها ووضاءتها بما يراه من اعتدال قدها وحسن مشيها، فتقع في قلبه، ويتابعها بنظره، ويطير بها، ولو لم ير شيء منها، وقد تمر به أخرى بدينة قصيرة، فلا يلتفت إليها..

هذا أمر...

وأمر آخر: أنه على فرض أن يكون الفضل قد رأى وجهها، فذلك لا يدل على أنه كان مكشوفا على الدوام، إذ لا يمتنع أن يكون الريح حرك خمارها فظهر شيء منها فوقع نظر الفضل على ذلك فأعجب بها..

والنتيجة أنه لا يمكن الجزم بأن المرأة كانت مكشوفة الوجه مع ورود الاحتمالات الآنفة، التي لا يمكن إلغاؤها أو إهمالها، وقد تقرر في قواعد الفقه: أن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال، لبس ثوب الإجمال، وسقط به الاستدلال..

فلا يمكن إذن الاستناد إلى دليل محتمل كهذا الحديث لتقرير حكم شرعي يناقض به نصوصا أخرى محكمة.. والله أعلم..

        ______________

abu-sarah@maktoob.com  

الجزء الأول