رابطة الأدب الإسلامي:5.لقاءات:إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://alfaify.cjb.net

الدكتور عبد الله الفـَيفي: مصطلح (الأدب الإسلامي) من أساس وضعه مغالطة كُبرى وبدعة لا سابقة لها في التاريخ الإسلامي
حوار: ساري الزهراني

لصحيفة"المدينة"، ملحق"الرسالة"، الجمعة22/ 6/ 1428هـ=7 /6/ 2007، ع 16130

بادئ ذي بدء، لقد كان لي اعتراضٌ قديم- كغيري- على المصطلح: "الأدب الإسلامي"، وأشباهه من احتكارات صفة "إسلامية" لتيار أو حزب أو جماعة أو جامعة. فالإسلام جاء إلى الناس كافة، والاتصاف به للمسلمين جميعًا، لا لفئة أو تيّار أو توجّه. فإذن المصطلح من أساس وضعه مغالطة كُبرى، تحاكي تسميات بعض التيارات الأدبية أو الإيديولوجيّة الغربيّة، في غفلة عن أن الإسلام ليس تيّارًا ولا إيديولوجيا حزبيّة، إضافة إلى أنه لا يحقّ اختطاف دين أمّة لإلصاق اسمه على بعضها دون بعض.

ولذلك جاء هذا المصطلح بدعة، لا سابقة لها في التاريخ الإسلامي. وكان يمكن أن يُسمى هذا الاتجاه بـ"أدب الدعوة الإسلامية"، مثلاً، كما كان يمكن أن تسمى الجامعة الموصوفة بالإسلامية كذلك: "جامعة الدراسات الإسلامية"، لكنه هوس التصنيف، الذي ينطوي على الاستئثار، ولا يبرأ من اتهام الآخرين. وهذا الحرص على التصنيف- بما يحمله من إقصائيّة- قد أوقع هذا التوجّه نفسه في مأزق التصنيف، لا مع المعاصر فحسب، ولكن مع التراث أيضًا؛ إذ هل نَعُدّ شاعرًا كالمتنبي إسلاميًّا، ناهيك عن أبي تمّام أو أبي نواس؟ بل هل سُمّي شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم، (حسان بن ثابت)، شاعرًا إسلاميًّا، أو حتى شاعر الإسلام، وحُرم من ذلك شاعر كالحطيئة أو ابن مقبل أو النجاشي الحارثي؟ لم يحدث ذلك قط، بل كان الجميع يستظلّون بالإسلام ويتّصفون به، عقيدة وهويّة، بعيدًا عن الزجّ بلقبه في شؤون الأدب أو غير الأدب من نتاج الناس وشؤون الحياة. ومن هنا فإن (موجة التصنيفات والألقاب) الحديثة، التي انطلقتْ عن خلفيّات فِكريّة أو سياسيّة، والتي جاءت ردة فعلٍ لبعض التصنيفات الأخرى غربية أو شرقيّة، لم تُفلح جميعها في أدبيّتها؛ لأنها في الأصل تصنيفات حركيّة انتهت بانتهاء تيّاراتها. وأكبر مثال على هذا ما سُمّي (الأدب الاشتراكي)، الذي وُلد ميتًا، ليندثر دوره باندثار إيديولوجيّته أو تلاشيها. وكذا الأمر في (الأدب الوجودي)، حتى لقد فَطِنَ بعض منظّري هذا التيار الأخير إلى ضرورة الحريّة الفرديّة في الأدب، فأخذوا يتحدثون عن أن خدمة الأدب لقضيّة ما يجب أن لا تكون إلزامًا بل التزامًا، نابعًا من الذات المبدعة، فكان (جان بول سارتر)- منظّر هذه المدرسة الوجوديّة الأول- لا يرى وجوب الالتزام على الشاعر، بل على الناثر، حسب كتابه "ما الأدب". وقد تجلى لديه ذلك الالتزام النثري في مسرحيته "الشيطان والرحمن"، على سبيل المثال. وقبل هؤلاء فَطِنَ العرب والمسلمون إلى خصوصيّة الأدب، فقالوا بأنه: "يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره"، كما قَبِلَ الرسول صلى الله عليه وسلم شعرًا- (غير ملتزم، بمعايير رابطة الأدب الإسلاميّ)- في مسجده الشريف، شعرًا يُستهل بالغزل الحسي، يتضمن وصف جسد المرأة، ولذة الخمر، ممّا لو قاله الشاعر في غير شعرٍ لأقيم عليه الحدّ. وكذا ظلّ نقادنا القدامى يردّدون: إن "الأدب بمعزلٍ عن الدين"، ومن هؤلاء (أبو الحسن الجرجاني)، الذي قال في كتابه المشهور "الوساطة بين المتنبي وخصومه": "لو كانت الديانة عاراً على الشعر، وكان سوء الاعتقاد سبباً لتأخّر الشاعر، لوجب أن يُمحى اسمُ أبي نواس من الدواوين، ويحذف ذِكْرُه إذا عُدّت الطبقات، ولَكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية، ومن تشهد الأمة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبَعري وأضرابُهما، ممّن تناول رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وعاب من أصحابه، بُكْماً خرساً، وبِكاء مفحمين؛ ولكنّ الأمرين متباينان، والدين بمعزل عن الشعر." حتى استوردنا بأخرة- فيما استوردنا- أدلجة الأدب، فصار هناك (أدب إسلامي) مقابل (أدب اشتراكي)، وانخرط في هذين التيارين من انخرط من الشعراء والكُتّاب العرب. غير أن هؤلاء وأولئك قد أثبتوا فشلهم جميعًا، وإنْ لم يتّعظ بعضهم من فشل بعض؛ ذلك أن سيطرة السياسة في العصر الحديث على مجريات كثيرٍ من أمور الحياة قد ألزم بما لم يكن يلزم من الالتزام، بل جعل الالتزام سياسيًّا محضًا؛ لأن المشكلات- وإن كانت اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو فكريّة في ظاهرها- غالبًا ما تكون السياسة هي المحرّك الذي يقف وراءها.

نعم، لقد يسوغ أن تنشأ في الأدب تيّارات فنّيّة، أمّا التيّارات الفكريّة فتُفسد الأدب أيّما إفساد، بل قد تُلغيه، أو تشوّه طبيعته؛ من حيث إن الأدب ثورة في أصل وجوده، باعثه نزوع التحرّر في الإنسان، ودافع الانطلاق والطلاقة، بعيدًا عن حدود النواميس، وكبح القيود، وقمع القوانين، بما تورثه من شعور بالرقابة الخارجيّة أو التردّد الداخليّ، فإذا انتفى ذلك خرج النصّ نكِدًا، قد يشبه الأدب وليس بأدب في رُوحه ورُوائه وصدقه.

إن الأدب صورة فطريّة صادقة عن الإنسان، في تقلّبات أحواله وظروفه، لا صورة مصطنعة مركّبة نمطيّة. وإزاء هذا المأزق توقّف لبيد بن ربيعة عن الشعر لمّا أَسْلَمَ، لا عجزًا ولا وَرَعًا، ولكن خشية أن لا يفي الشعر حقه، ليقيم تلك المعادلة بين الفكرة والخاطرة؛ لأن الرجل في سنٍّ متأخرة لم يعد يملك تلك المقدرة على التقمّص والتوفيق. على حين انطلق شاعر كمحمّد إقبال عذبًا فراتًا؛ لأن الجانب الديني كان قد مازج تجربته الشعريّة ممازجة تامّة، فَنجح وأطرب وأشجى، فكان شاعرًا وكان ذا فكر ديني في آن معًا. وقبله نجح الشعراء الصوفيّون؛ لمّا كان محرّكهم الدينيّ نفسيًّا، لا سياسيًّا، ولا تقليدًا، ولا تمذهبًا، ولا بهدف مقارعة غيرهم من التيارات على مطايا النصوص الأدبيّة وخيولها.

كل هذه المعطيات إذن تضعنا على محكّات الإشكالية في ما سُمّى "الأدب الإسلامي"، وما يُنسب إليه من فشل أدبيّ أو نقديّ. وبعيدًا عن الاحتكام إلى معايير الكمّ والإحصائيات- التي لا نملكها بدقـّة حول إنتاج الأدب الإسلامي ومدى انتشاره وقبوله- فإن ما نقرؤه عادة، متخصّصين أو متذوّقين، من ذلك الأدب المنعوت بالإسلامي يغلب عليه النظم شعرًا، والمباشرة نثرًا، وهاجس التوجيه الفوقيّ في معظم الأحوال. لذلك لا يروق نتاجه مَنْ يبحث عن الأدب للأدب، ولا يشوق عطاؤه مَنْ يبغي الأدب بوصفه غاية لذاته، لا وسيلة إلى غيره من القضايا والغايات. وحين نقول "الأدب للأدب" هنا فنحن لا نعني بذلك أن يتجرد الأدب من رسالة ضمنية، أخلاقية أو إنسانية أو حتى دينيّة، فذلك مستحيل أصلاً؛ بيد أن (الأدبيّة) في حدّ ذاتها هي رسالة الأدب الأُولى والعُظمى، بما لها من وظائف لغويّة ونفسيّة واجتماعيّة، وهي تتأتي إلى أداء تلك الوظائف بوسائلها الخاصة. إن الأدب يجب أن يكون أدبًا أولاً وثانيًا وثالثًا، ثم من بعد ذلك تأتي مهمّاته الأخرى، أمّا إذا قلبنا المعادلة، فإننا عندئذٍ قد وضعنا العربة أمام الحصان، ولا يفلح الشاعر أو الناثر حيث أتى، ما لم يعِ هذا المبدأ الأوليّ في طبيعة الأدب ووظيفته.





شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

أنت الزائر رقم:


FastCounter by bCentral

جميع الحقوق محفوظة ©