الإعلام ثقافة!: 4.مقالات:إضبارة أ.د.عبدالله الفـَيفي



الإعلام ثقافة!
بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي

-1-
الإعلام ثقافة، أو هو جزء من الثقافة بمفهومها الشامل. وليس الإعلام (الإخبار)، كما تشير التسمية العربيّة: "إعلام". إلاّ أنه يبدو أن دلالة كلمة (إعلام) في العربيّة- بمعنى: إيذان، أو أذان، أو إخبار وإشعار(1)- قد طغت في الأذهان على الدلالة التعليميّة التثقيفيّة للمصطلح، وعلى الوظيفة الآخذة لذلك الجانب التثقيفيّ بقوّةٍ في التطبيق. ولعلّ التسمية الإنجليزيّة، المتعلّقة بالمعلومة والمعرفة (information)، كانت الأدقّ والأوفى إيحاءً بدور الإعلام الثقافيّ والمعرفيّ، في حين ضلّلتنا- نحن العرب- التسمية العربيّة (إعلام) عن أصالة الجانب المعلوماتيّ- المعرفيّ والثقافيّ- في الإعلام. والمعلومة هي لُبّ المعطَى الثقافيّ والمعرفيّ، ما يؤكّد التلازم بين الإعلام والثقافة. ولذا فقد ظلّت- على الصعيد الثقافي- أندية الأدب والمراكز الثقافيّة في الوطن العربيّ ضعيفة بشكل يستوجب البحث عن حلٍّ ناجع، ومن الحلّ الناجع مساندة الإعلام لتلك المنابر، التي بقيتْ منعزلة أو معزولة لسنوات، ولم يتحوّل الهَمُّ المعرفيّ اجتماعيًّا إلى همٍّ عامّ.
إن المشكلة تبدو، إذن، في غياب الذراع الإعلاميّ عن الثقافة؛ إذ كان لا بدّ من استثمار ما يملك الإعلام من وسائل تُمَكِّنه من مخاطبة كلّ الناس، وإثارة اهتمامهم، وشدّهم إلى مجالات الفكر والأدب والمعرفة، وخَلْق توجُّهٍ عامٍّ للاهتمام بمعارف العصر وأفكاره وتفاعلاته. ذلك لأن الثقافة، أيضًا، لم يعد في الإمكان تقديمها بالطرق التقليديّة، فالناس لن يحضروا منابر الثقافة كما كانوا في الماضي؛ لأن الواقع قد اختلف، ووسائل التثقيف والتلقّي قد اختلفت. وهنا يأتي دور الإعلام، لتجسير الهوّة بين الثقافة والمتلقّي. ومن ثم تظهر أهميّةُ دعم خطط الإعلام العربيّ في مجال الثقافة، وتطوير مشروعاته المستقبليّة في هذا المجال، أملاً في صنع حركةٍ ثقافيّةٍ فاعلةٍ ومؤثّرةٍ عربيًّا وعالميًّا.
إن الوطن العربيّ يعجّ بالفعاليّات الثقافيّة، من مهرجانات، وندوات، ومؤتمرات. وعلى الرغم من ذلك المدّ الأفقيّ والرأسيّ من الاهتمامات الثقافيّة، فإن الإعلامَ العربيّ لا يواكبه بتغطيةٍ كافية، أو شِبْه كافية، فضلاً عن أن يكون له دور التفعيل والتحفيز والجذب. وليس القصد بالمواكبة تلك التغطيات الإخباريّة، التي قد تَبثّ افتتاح فعاليةٍ ما مباشرةً عبر الأقمار الصناعيّة، وإنما القصد التغطية الشاملة لأيّام المهرجانات والفعاليّات، وبشكلٍ احترافيّ، وحيّ، وشامل، ومغرٍ بحراكٍ ثقافيّ جماهيريّ. وهو واجبٌ ثقافيّ إعلاميّ، لا بُدّ أن يَطمح إلى أكثر من رسائل يوميّة مقتضبة، تقدَّم- إن قُدِّمت- في هزيعٍ متأخّرٍ من الليل، أو في تلك الفترات التي تُوصف بالفترات الميِّتة، لضعف متابعة الجمهور.
إن الإعلام العربيّ- والحالة تلك- ما يزال في طور (الإخبار)، لا (التثقيف). حتى لقد بات يُنظر إلى بعض الفعاليّات الثقافيّة- كتلك المصاحبة لمعارض الكتب الدوليّة- على أنها مدموغة بطوابع إعلاميّة، وتغلب عليها صِيَغ العلاقات العامّة. ومعنى ذلك أن الإعلام، عِوَض أن يخدم الثقافة، أصبح يسخِّر الثقافة لخدمته.. وبعبارة أخرى: بدل أن يكون الإعلام وسيلة للثقافة، صار الإعلام غايةً والثقافة هي الوسيلة. من جهة ثانية، ما زالت الثقافة العربيّة نفسها تتلكّأ في مواكبة التطوّر الثقافيّ بين ثنائيّات، تمرّ بها الثقافات الإنسانيّة وتتخطّاها، ونحن ما نزال في جدليّاتها. ويبرز ذلك في مجالين حيويّين، هما ما يتعلّق بثقافة الصورة، عبر تاريخها المديد: من السينما إلى التلفاز إلى "اليوتيوب"، وما يتعلّق بثقافة الحَرْف والكتابة: من المشافهة والسماع إلى الحِبْر والتأليف، وصولاً إلى النشر الإلكترونيّ.
إن الإعلام اليوم- بوسائله المتعدّدة- لم يعد في العالم قوةً رابعة، بل هو قوّة أولى، تَرْفُدُهُ وسائط الاتصال بتقنياتها المتنوّعة. وهو بذلك مؤثّرٌ في مختلف جوانب الحياة، بل صانع حياةٍ ثقافيّة، شاء ذلك أم أبى، أحسن الصناعة أم أساء. كما أن الثقافة في عمومها اليوم قد أصبحت ثقافة إعلامٍ واتّصال، عبر الصورة، والتلفاز، والحاسوب، و"الإنترنت"، ولم تعد ثقافة سماعٍ أو وَرَق. وبتلك الكيفيّة صارت الثقافة مشكِّلة لاقتصاد الشعوب المعرفيّ، مؤثِّرة في اقتصادها الماديّ. بيد أن الثقافة تعجز عن ذلك كلّه بلا إعلامٍ جادٍّ ومتطوّر. والإعلام الجادّ المتطوّر- المنافس لما يكتسح الفضاء من تحدّيات- لن يتأتّى، بطبيعة الحال، دونما تخطيطٍ استراتيجيٍّ مستمرّ ٍودعمٍ ماليّ متواصل.
على أن الوسائط الاتصاليّة المعاصرة تظلّ أدوات محايدة، يمكنها أن تغدو ذات آثارٍ جدِّ إيجابيّة في مستقبل الثقافة العربيّة، غير أنها يمكن أن تغدو- بإهمالها أو سوء استعمالها- ذات آثارٍ جدِّ سلبيّة في مستقبل الثقافة العربيّة.

-2-
من جانب آخر، فكثيرًا ما يُسأل المتخصّصون في اللغة العربيّة وآدابها: أين اللغة العربيّة في عصر العولمة، وتعدّد وسائط الاتصال الحديثة، وعُجمة تلك الوسائط، وما مدى الخطر الذي يتهدّد اللغة منها؟
واللغة العربيّة مهدّدة قبل العولمة وبعدها، ولأسباب كثيرة. والتباكي والنحيب لن يغنيانها شيئاً؛ لأن اللغات إنما تقوى بقوة أهلها حضاريًّا وإعلاميًّا، وتضعف وتضمحلّ بضعف أهلها واضمحلال لسانهم الحضاريّ في العالم. هذا اللسان الذي حمل حضارة العرب عبر العصور، مفضيًا بهِباتها إلى مشارف عصر النهضة الأوربيّة، التي نهلت من معين العقل العربي ما نهلت، وكانت اللغة اللاتينية قبل ذلك قد تروّت من صفوه وأخصبت. كما أنه لسان الدِّين الإسلامي، الذي به نزل كتابه، ?بلسانٍ عربيٍّ مُبِيْن?، ولا صلاة لمعتنقيه إلّا بلغته العربيّة، التي ينعتها بعض الناعتين بـ"لغة القرآن"؛ بالنظر إلى هذه الواشجة العميقة، التي تأسَّست منذ مجيء الإسلام، بين البُعد الدِّيني والبعد اللغوي، بجعل العربية، لا وسيلة إبلاغٍ فحسب، بل هي ذاتُ منزلةٍ أبعد من ذلك: إنها عنصرٌ من الدِّين جوهريٌّ، تكتسبت قداستها لدى المسلم من قداسة كلام الله، وكلام رسوله، وشريعة الإسلام. حتى بلغ الأمر بقائلين إلى الزعم أنها كانت لغة آدم، وستكون لغة أهل الجنة(2).
إن للراصد اليوم أن يقف على جملة من الظواهر ذات الأثر السلبيّ على مستقبل اللغة العربيّة، والمدعومة بالإعلام العربيّ ووسائل الاتصال الحديثة. ومنها إفشاء العاميّات وترسيخها المتصاعد يومًا تلو آخر. وأُمّة بلا لغة صحيحة واحدة موحّدة، أُمّة ضائعة الهويّة، مشتّتة الكلمة، كتشتّت العرب اليوم في لهجاتهم. وإذا كان تفشّي الدارجة في الشارع العربيّ مظهراً لغويًّا غير صحِّي، فإن تفشّيها في المدارس والجامعات والإعلام أكثر خطورة وأبقَى أثرًا. ذلك أن المسألة ستتعدّى هاهنا الخطورة على اللسان الواحد إلى الخطورة على الفكر والقِيَم. وهناك تلازمٌ طبيعي بين اللغة والفكر- كما يقرّر علماء اللغويّات- من حيث إن الإنسان لا يفكّر إلاّ من خلال لغة، أيًّا ما كانت طبيعتها(3). والقائلون بأن العاميّة- بمعنى عدم التزام الفصاحة والإعراب- أمرٌ قديم، إنما يهرفون بما يسوِّغون به تطميناتهم وتبريراتهم الانحراف عن العربيّة. وإلّا فإن الشواهد متظافرة على أن العربيّة ظلّت مرعيّة، مرذولًا الخطأ فيها خلال القرون الإسلاميّة الأُولى، حتى خَلَفَ خَلْفٌ ضاعوا وأضاعوها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر مثلاً: الفراهيدي، معجم العين، (علم)؛ الجوهري، معجم صحاح اللغة، (أذن).
(2) للحماس الديني أن يقول ما شاء، غير أن ما يعنينا هنا أن شأن العربية كان عظيمًا في تاريخ أُمّتها، ثقافيَّا ودينيًّا وحضاريًّا.
(3) للاستزادة حول هذه المسألة الجدليّة عن (اللغة والفكر)، انظر مثلًا:
Ryle, G, (1949), The Concept of Mind, (New York), 27; Vander, Z, (1977), "Wordless and Language" in Language and Thought, ed. W. McCormack et al, (The Hague), 29-45; Wittgenstein, L, (1953), Philosophical Investigation, (Oxford), 1, 109.
كما يمكن، على شبكة الإنترنت، مطالعة هذه الماّدة: Christopher Gauker, Language and Thought، على الرابط:
http://host.uniroma3.it/progetti/kant/field/lat.htm


20/ 4/ 2012
p.alfaify@gmail.com
http://khayma.com/faify
 | 

....................................................................................................

* صحيفة "الرأي" الكويتيّة، الثلاثاء 17 أبريل 2012 م، ص34.
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/11978/P34.pdf
http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=344083&date=17042012



للتعليق على الموضوع: اذهب إلى ساحة نقاش الإضبارة!

شكرًا لاطّلاعك على هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©