كتاب شعر العميان:3.دراسات: إضبارة أ.د.عبدالله الفـَيفي

كتاب شعر العميان.. لنادر مصاروة

(نقد لأطروحة دكتوراه)

فريال الحوار



‏الأربعاء 28/ 03 /2012

يقول السيميائي الفرنسي “رولان بارت” أنه لم يعد هناك وجود للكاتب العبقري الذي يبدع كل شيء فقد أصبح الكاتب يأخذ ما يكتبه من وسائل الإعلام، ومن حياته اليومية، ومما يقرؤه ويسمعه ويراه. رولان بارت نفسه أشار إلى أنه كتب قصة قصيرة وثيقة الصلة برواية “الليالي المضيئة” للروائي الروسي ديستويفسكي والقصة تحمل نفس العنوان الذي حملته رواية الأديب الروسي، كما المناخ والمكان والشخصيات في الرواية والقصة متشابهة، وقد نفى رولان بارت أن تكون قصته سرقة لرواية ديستويفسكي بل هي استلهام لها. قد لا يبرر ذلك لبارت، وقد نبرره بحجة حرية الفن والإبداع وبأننا نعيد إنتاج ما كتبه الآخرون، عبر قراءتنا لهم وإعادة ما كتبوه بصيغ مختلفة وتصورات مغايرة أو متشابهة! ونعلم جميعا ما قام به الفلاسفة والعلماء العرب والمسلمون، في مرحلة تألق الحضارة العربية الإسلامية، عندما أعادوا صياغة ما كتبه فلاسفة اليونان بأسلوب يتناسب مع خصوصية الثقافة العربية، وذلك لإدراكهم أن الأغراض التي تناولها الفلاسفة والطريقة التي قدموا بها أفكارهم لا تتناسب مع الواقع العربي الإسلامي. قد نبرر لهم هذا على أنهم نقلوا ما يستحق القراءة من كتابات الفلاسفة، وأنه إعادة إنتاج للمعرفة واقتباس مشروع! لكن لا نستطيع أبدا أن نجد مبررا لمن أخذ من هنا وهناك.. وقال هذه رسالة علمية حصلت بموجبها على درجة الدكتوراه، التي تؤهلني لرئاسة قسم في جامعة مرموقة يشهد لها بمخرجات تعليمية متفوقة في البحث العلمي والاختراع!
هل الهدف في رسالة دكتوراه هو الحصول على الشهادة، والمتاجرة بنشر كتاب، وليس خدمة العلم والمعرفة؟ ثم إذا كانت هناك مسؤولية على الباحث في عمله، أليست هناك مسؤولية كذلك على من أجاز العمل أولًا، ثم على من أشرف، ومن ناقش؟ ومن طبع ونشر؟
تواردت على ذهني مثل هذه الأسئلة وأنا أطالع خلال أحد معارض الكتب الدولية كتابًا بعنوان فضفاض هو “شعر العميان الواقع والخيال المعاني والصور الفنية حتى القرن الثاني عشر الميلادي”، لنادر مصاروة، طبع في دار الكتب العلمية- بيروت2008. والمؤلف حصل على الدكتوراه بهذا الكتاب من جامعة تل أبيب، في الكيان الإسرائيلي، ويعمل محاضرًا في الجامعة العبرية- القدس/ أكاديمية القاسمي باقه الغربية/ معهد اعداد المعلمين بيت بيرل. وقد دفعني التشابه اللافت بين هذا الكتاب وكتاب آخر قرأته من قبل لقراءة هذا الأخير ومقارنته. إذ لا شك أن هناك من يأخذ من هنا وهناك ليضيف ويختلف ويناقش، من أجل التفاعل أو الخروج بنص مكتمل. لكن أغلب من يعيد نشر ما جمعه لا يفعل هذا من أجل نشر الفكر والفكرة، بل من أجل الصعود فوق ما ظفر به للانتشار والكسب المادي. خصوصًا إذا كانت درجة الدكتوراه ممنوحة من الجامعة العبرية التي تتلقى جزءا كبيرًا من تمويلها عن طريق أرباح الكتب ومنح حقوق نشر الأبحاث! وربما من هذا الجزء فقط ينفق على أكاديمية بيت بيرل وطلبتها “الإسرائيليين العرب”! أما التمويل الحكومي من إسرائيل فهو يمنح لأبحاث العلوم التكنولوجية والمعلوماتية، والتي حقق فيها خريجو هذه الأقسام من اليهود نجاحات مبهرة منح أحدهم على أثرها جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002 وثلاثة من خريجيها حصلوا على جائزة نوبل في الكيمياء عام 2004 وخريج رابع حصل على جائزة نوبل للفيزياء عام 2004 كما حصل خريج قديم فيها على جائزة تورنج في المعلوماتية. أما الخريجون العرب فلم يتعلموا من الإسرائيليين سوى تلفيق الأبحاث لأن عقولهم سرقت كسرقة أرضهم، وقدمتهم الجامعة العبرية كنموذج للعرب الذين لا يمكن أن يبتكروا أو يضيفوا جديدا. يبدأ الكتاب بتقديم تقريظي لغالب عنابسة، رئيس قسم اللغة العربية في المعهد الأكاديمي بيت بيرل وهو يثني مطولًا على الكتاب والمؤلف، مبشّرًا القارئ بتقديم رؤى جديدة، وعمل متميّز مختلف، منوّهًا بمدى الدقة العلمية في الكتاب. ومع هذا سنرى كيف أن الكتاب لا يعدو النقل عن الآخرين و”شرح” الشعر، نقلًا أيضًا عن الدواوين، دون تحليل فني للصور.
1. إن عنابسة نفسه ينقل في مقدمته، ولا يشير إلى من نقل عنه، فهو يقول مثلًا في تقديمه (صفحة: د): “ومن المعروف أن مصطلح الخيال يتخذ في مقابل كلمة imagination ليشار به إلى الملكة الذهنية القادرة على تصور الأشياء مع غيابها عن متناول الحسّ وذلك بإعادة تشكيلها في كيان جديد متميز منسجم يجمع المتنافر والمتباعد ويذيب الحواجز العرفية”. فمن أين أتى بصياغة هذا التعريف “المعروف”، حسب قوله؟ لم يشر إلى مرجعه في هذا النقل الذي يصفه بأنه معروف! وكنت قد قرأت في وقت سابق كتابًا بعنوان (الصورة البصرية في شعر العميان: دراسة نقدية في الخيال والإبداع، للدكتور عبدالله بن أحمد الفيفي، الرياض، النادي الأدبي، 1996)، وهذا الكتاب -كما كُتب عليه- في أصله أطروحة جامعية، نوقشت صباح يوم السبت 29 شعبان 1413هـ الموافق فبراير 1993م، بكلية الآداب جامعة الملك سعود بالرياض، ونال بها صاحبها درجة دكتوراه”، كما نال بكتابه جائزة “الإبداع في الشعر والنقد” لعام 2001، وهي جائزة عربية محكّمة تمنحها هيئةُ جائزة شاعر مكة محمّد حسن فقي، التابعة ‏لمؤسسة يماني الثقافيّة بالقاهرة. وهي دراسة علمية واسعة مستقصية، أجرت مقارانات موضوعية دقيقة بين شعر العميان في مختلف عصور الشعر العربي وشعر المبصرين. وحين نقارن ما أورده عنابسة نجد أنه ينقله حرفيًّا من كتاب الفيفي (ص280)، الذي صاغ تعريف الخيال محيلًا إلى بعض المراجع في ذلك، فقال: “الخيال مصطلح حديث يتخذ في مقابل كلمة (imagination) ليشار به إلى: الملكة الذهنية القادرة على تصوّر الأشياء، مع غيابها عن متناول الحس؛ وذلك بإعادة تشكيلها في كيان جديد متميز منسجم، يجمع المتنافر والمتباعد، ويذيب الحواجز العرفية”. كما جاء من نفس كتاب الفيفي (ص57): أن المركب الإبداعي “يصدر عن ملكة ذهنية خاصة، قادرة على تصور الأشياء مع غيابها عن متناول الحسّ، وإعادة تشكيل مادتها وقيَمها في كيان جديد متميز منسجم، يجمع المتنافر والمتباعد ويذيب الحواجز العرفية، وتلك الملكة هي ما اصطلح عليها بـ (الخيال)”. فعنابسة إذًا ينقل عن كتاب الفيفي دون أن يشير إليه.
2. ومن الطريف أنه يرد على كتاب “الصورة البصرية في شعر العميان” للفيفي التحذير التالي: “لا يجوز نسخ أو استعمال أيّ جُزء من هذا الكتاب في أيّ شكل من الأشكال أو بأيّة وسيلة من الوسائل -سواء التصويرية أم الإلكترونية أم الميكانيكية-، بما في ذلك النسخ الفوتوغرافي والتسجيل على أشرطة أو سواها، وحفظ المعلومات واسترجاعها -دون إذنٍ خطّي”! ونلاحظ أن هذا ما يفعله المصاروة أيضًا في تعريف الخيال والتخييل، مشيرًا في الهامش إلى نفس المراجع، بنفس طبعاتها وترتيبها، ولكنه في استعجاله ينسى أحيانًا ذكر الصفحات، مما يعني أنه قد ينقل المراجع عن مراجع الباحثين السابقين دون الرجوع بنفسه إلى تلك المراجع.
3. يذكر مصاروة في مقدمته أن الدراسات لم تتناول المعاني والخيال والصور الفنية في شعر العميان لتوضح لنا الاختلاف عن عالم المبصرين. وهذا مناقض للحقيقة تمامًا. وهو لم يذكر الدراسات السابقة في مقدمته، ليتبين منطلقه وما الذي سيستكمله هو، بل اعتمد عليها، ونقل عنها، ثم زعم أنه الرائد في هذا المضمار!
4. هل يكفي أن يشار إلى كتاب بشكل هامشي وعابر هنا وهناك، ثم ينقل عنه فقرات وفقرات وأفكار ومعلومات بدون توثيق علمي ودقيق؟ سؤال نترك إجابته لحكم القارئ. فلقد استلهم مصاروة فكرة بحثه البلاغي- الذي يكرر الإشارة فيه إلى “الزخارف”-، وكأن فنون البلاغة والتصوير مجرد زخارف لديه، أي مجرد ألعاب وزينة من زخرف القول! استلهم والتهم من باحثين سبقوه بعشرات السنين، واتكأ على المادة المجموعة سلفًا في كتاب “الصورة البصرية”، لعبدالله الفيفي- وقد جعل الفصل السادس بنفس العنوان، وهو “الصور البصرية في شعر العميان”، حيث لا نجد في ذلك الفصل أكثر من الشرح المنقول من دواوين الشعراء أو الكتب التي تناولت شعر العميان، يسرده في المتن والهامش، بلا استنباطات تذكر، يفعل ذلك مثل تلميذ في مادة النصوص يشرح معاني المفردات لا كدارس أدبي أو بلاغي. كما اتكأ على المواد المجموعة المدروسة سلفًا فيغيره من الكتب، ككتاب رسمية السقطي “أثر كف البصر”، وغيره، ولم يجمع معظم تلك المواد بنفسه ابتداءً من مظانها. مثال على ذلك للقارئ أن يقارن ص284 من كتاب المصاروة، بالصفحة 91 من كتاب “الصورة البصرية” للفيفي، خلال الحديث عن أنماط الصور في شعر العميان وتصوير المعري لليل في صورة الزنج، ليلاحظ الإتيان بنفس النماذج الشعرية وبنفس الترتيب. فمن الواضح أنه استرشد بكتاب “الصورة البصرية” وغيره لتحديد نماذج الصور وأبياتها دون أن يكلف نفسه عناء البحث عنها! أو قد يشير الفيفي مثلًا إلى الصورة دون ذكر البيت، فيأتي مصاروة فيشير إلى الصورة نفسها ويورد البيت.
5. وإذا كان كتاب “الصورة البصرية” في خاتمته، (ص369- 380)، قد توصّل إلى نتائج شاملة، بعد تفصيله في رصد ظواهر التشخيص والتجسيد والتخييل والمحاكاة مقارنة بين شعر العميان وشعر المبصرين، تمثلت تلك النتائج في ما أورده المؤلف قائلًا: “أولًا اتحاد الصور البصرية في شعر العميان في نموذج بنائي نفسي جامع، نطلق عليه (نموذج التوحّش)، هو مولد الطاقة الكلية لنظام تصويرهم البصري. ثانيًا أن أهم خصائص هذا النموذج: أ. كثافة النسج، ب. رتابة التكوين؛ لافتقارها إلى إيقاع النبض بالحياة الواقعية، ج. “سوريالية” الأداء؛ مجنحًا بـ(التخييل) و(التشخيص) و(التجسيد)، د. سوداوية الطابع؛ منعكسًا عن سودواية المزاج في التركيبة النفسية”، مؤكّدًا قبل ذلك في مواضع مختلفة من بحثه على أهميّة الطبيعة النفسية في تجربة الصورة البصرية في شعر العميان وأن “أشد خطوط الصورة البصرية في شعر العميان وضوحًا وصفاء متأثر في وجوده وتشكيله بخصوصية حياة العميان بدرجة ظاهرة أو خفية”، وأنها “قد تجلت أربعة أنماط خاصة للصورة البصرية في شعر العميان، هي: نمطيات (الظلام)، و(الضوء)، و(المرأة) بخاصة، مرتبطة بآصرة ذهنية ونفسية كانت وراء تولداتها، بحيث تستحيل إلى رموز مشتركة لمعاناة الأعمى ومخاوفه وآماله؛ لأنها قد جاءت من الإلحاح على أذهان هؤلاء الشعراء ونفسياتهم بمقدار يشي بما وراءها في أغوار أنفسهم”، إضافة إلى حديثه المطول عن عوامل البيئة والثقافة التناص، فيما يسميه “التمثل الثقافي”- وهو ما يسوقه مصاروة (ص329 وما بعدها) تحت عنوان “التقليد والتجديد في شعر العميان”؛- نقول إذا كان هذا قد ورد بتفاصيله وشواهده في كتاب “الصورة البصرية في شعر العميان” للفيفي منذ عام 1993، فسنجد هذا مقتضبًا- بكلماته تقريبًا- في ما ساقه مصاروة، تحت عنوان “الصور التشخيصيّة” (ص172)، حيث جاء: “وهكذا نستطيع أن نخلص إلى رصد مجموعة من الملامح الفنية للصورة التشخيصية والتجسيدية في شعر العميان، حيث أنها تكثف المعنى وتضفي الحركة والحيوية والألوان والطباع... والشاعر يستبطن أغوار نفسه متأثرًا بعماه وبما حوله من مظاهر الحياة والبيئة”! وكذلك بإمكان القارئ الكريم أن يقارن كلام مصاروة عن الألوان وإيحاءاتها ص288، فهو لا يعدو ضمنيًّا ما ورد في مواضع عدة من تحليلات كتاب “الصورة البصرية في شعر العميان”. فما الجديد هنا سوى النظر في جهود الآخرين والنقل مع الاختصار أو الاستشفاف والتضمين.
6. من يرجع إلى هذا الكتاب سيلاحظ أن المؤلف ينطلق في نقول متتابعة منذ التمهيد عن تلك الدراسات التي أنكر وجودها في المقدمة. فجهد المؤلف لا يعدو النقل، ويكاد يكون دوره الربط الطفيف بين الفقرات والصفحات المستنسخة عن الآخرين، على طريقة التحقيقات الصحفية “ويضيف... ويقول... “. وهي اقتباسات يضرب بعضها بعضًا، خاصة أن البحث يسير بلا منهج واضح.
7. يقتصر الكتاب على شاعرين تقريبًا، هما بشار والمعري، وإن التفت لغيرهما في شواهد محدودة، يتكثر بها ولا يقدم عنها دراسة. ولكن لأن نادر مصاروة مغرم بالنقل فقد يخرج عن موضوع دراسته، فهو مثلًا يستدعي الشاعر عبدالله البردوني أحيانًا، وقد سرد في مراجعه دواوين كثيرة لهوكتب له أو عنه أوعن اليمن، رجع إلى بعضها وبعضها لا ندري لماذا سرده في مراجعه الأساسية؟ أو حسب عنوانه(PrimarySources) ! هكذا وضع العنوان، وكأنه لم يجد مقابلًا باللغة العربية مما اضطره إلى العنونة بتلك العبارة الإنجليزية الفريدة في معناها التي لم يستعملها في العالم إلا الإنجليز!! أما البردوني الشاعر الحديث فمع أن رسالته تنتهي بالعصر العباسي، فقد حشره كغيره! وحينما يجد المؤلف أن الفيفي قد اقتبس كلامًا للبردوني في أحد مقابلاته عن إحساس الأعمى بالألوان، ص186- 187، وذلك في (الباب الثاني- الفصل الأول) من “الصورة البصرية”، في المقارنة بين الأكمه والضرير والمبصر، لأن البردوني من ضمن الشعراء الذين درسهم الفيفي، يصر مصاروة على أخذ نفس الاقتباس، مع أخطاء في النقل كالعادة. وعمومًا فإن مصاروة لا يلتزم بالفترة التي حددها لنفسه في البحث، فإذا كان قد قفز إلى البردوني في العصر الحديث، فإنه قد تطرق إلى شعراء من القرن الرابع عشر الميلادي، مع أنه قد حدد بحثه بالقرن الثاني عشر، كما يبدو أنه يحشر الحديث عن أي أعمى له شعر حتى لو لم يكن مهمًّا شعريًّا، وحتى لو أصيب بالعمى في آخر سنة من عمره! وهذا يعني أنه يسعى في مناكبها بغير منهج.
8. قد يتخذ المؤلف المراجع جسرًا إلى كتب من الواضح أنه لم يرجع إليها بنفسه. من ذلك أنه حين وجد الفيفي قد اقتبس نصًّا طويلًا عن د. أمينة عبدالرحيم حول الألوان المتتامة في كتابها بعنوان “الضوء”، وذلك في “الصورة البصرية، الباب الأول الفصل الأول، ص13”، بدأه الفيفي هكذا “تقول (الدكتورة أمينة عبدالرحيم) عن “الألوان المتتامة والإحساس باللون”، أصرّ مصاروة على اتخاذ كتاب “الصورة البصرية” جسرًا إلى ذلك الاقتباس، بادئًا بمدخل الاقتباس نفسه لدى الفيفي هكذا: “تقول د. أمينة عبدالرحيم عن الألوان المتتامة والإحساس باللون”، مع تعديلات هامة، تمثلت في تعديل (الدكتورة)، كما جاء في كتاب الفيفي إلى (د. )، وحذف بعض الأقواس!! أمّا الاقتباس فأخذه بحذافيره، ص271، إلى درجة أنه لما كان الفيفي قد استغنى عن جزئية من الاقتباس، وجعل مكان ذلك ثلاث نقاط (... )، تابعه مصاروة في ذلك وفي وضع النقاط تلك؛ ممّا يؤكّد أنه ينتسخ من كتب الآخرين ولم يرجع إلى “كتاب الضوء”، لأمينة عبدالرحيم، ولكنه ينقل عن كتاب “الصورة البصرية”، وغيره، وإلا ما سر هذا التطابق في اختيار الاقتباسات، حرفًا حرفًا ونقطة نقطة؟! وقد أحال مصاروة في الهامش مباشرة إلى كتاب أمينة عبدالرحيم، وإلى نفس الصفحات والطبعة التي رجع إليها الفيفي،. ومن هنا يبدو أن مصاروة يعتمد على جهد الآخرين وما وجده جاهزًا في بحوثهم من أفكار وقراءات ومقارنات، ولا يكلف نفسه البحث هو، ناهيك عن الاستنتاج! فهنا لولا اقتناصه هذه المعلومة الواردة في كتاب الفيفي ربما ما كان لنظرية الأدب ذكر في كتابه. وإذا كان البحث العلمي بهذه السهولة فلا غرابة في ركام الكتب والرسائل على الرفوف العربية!
9. إن نادر مصاروة مع ذلك النقل قد أغفل نهائيًّا ذكر كتاب “الصورة البصرية في شعر العميان” ضمن ثبت المراجع. وهذا أمر مستغرب، رغم كثرة ما أخذه منه، ورغم أنه سرد مراجع كثيرة جدًّا، بعضها لم يتضح أين رجع إليه في كتابه.
10. أمّا ثبت المراجع، فليس أدلّ على دقته واستيعابه من نسبة كتاب نادر، بل اكتشافه للبخاري، أبو عبدالله محمد بن إسماعيل الجعفي، صاحب صحاح الحديث، وهو بعنوان “محيط المحيط مطول للغة العربية”. فلله در باحثنا! لكن الأكثر إثارة وتقديرًا في كشوف الباحث اكتشاف كتاب للفرزدق- الشاعر ما غيره- عنوانه “جواهر الألفاظ”! وهذا مصداق آخر لما وصفه الدكتور غالب عنابسة من دقة هذا الكتاب وتميزه واختلافه! وهناك كتب أخرى منسوبة إلى غير مؤلفيها، لكن لن نثقل على القارئ بسردها.
11. كان مصاروة يقتبس من كتاب “الصورة البصرية” فقرات مطولة، وبشكل حرفي، ومع ذلك لا ينصصها، كما يقتضي المنهج العلمي، وفي ذلك إخلال بالتوثيق العلمي الصحيح. وقد يقتبس حرفيًّا حتى في هوامشه من هوامش كتاب الفيفي، كما في صفحة 305، ومع ذلك لا يضع الاقتباس بين علامتي تنصيص. والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا يهمل ذلك باحث في أطروحة دكتوراه؟! واللافت أنه ينصص اقتباساته من كتب أخرى! مثال ذلك ما يرد على الصفحة 26، حيث يورد اقتباسين حرفيين عن كتاب “الصورة البصرية، ص282، 273”، أحدهما في المتن والآخر في الهامش، ولا ينصّصهما، مع أنهما مقتبسان حرفيًّا. يضاف إلى هذا أنه يقتبس النصوص المطوّلة، ثم يقول: “انظر:...”، بما يوهم القارئ بأن الصياغة من عنده هو، ولكنه أخذ الفكرة فقط، في حين أن الفكرة والصياغة كليهما من كتاب الفيفي. ولا يكتفي بذلك، بل بعد أن ينقل ما ينقل، ويحيل بطريقة غير علمية إلى المرجع المذكور، يضيف أحيانًا: “نقلًا عن:...”، وكأن الآخرين هم الذين نقلوا. ومن هنا يتضح أن طريقة توثيق المصاروة لم تكن طريقة علمية ولا دقيقة، بل فيها الإيهام والتعمية على جهود الآخرين.
12. أكثر من ذلك كان ينسب بعض الكتب إلى غير مؤلفيها. وإذا كان يفعل ذلك في ثبت المراجع كما سبق، فإنه يفعله في الهوامش، ويكرر ذلك الكتاب بصورة غريبة، فهو ينسب أحد الكتب إلى مؤلفين مختلفين عدة مرات، ومتفحص الكتاب سيندهش لملاحظة ذلك. وكأن العمل نقل آلي فقط، إذ كيف يحدث الخلط بين المؤلفين؟ مما يطرح سؤالًا جوهريًّا: هل العمل من تأليف شخص واحد؟
13. بل أكثر من هذا وذاك، نجد أن مصاروة نسب أبياتًا -كان نسبها من قبل إلى علي بن جبلة العكوك- إلى المعري في “اللزوميات”، ذاكرًا في الهامش كتاب اللزوميات ومحددًا الجزء والصفحة! فأين الحقيقة؟ إنه هكذا يمضي خبط عشواء، مما يدل على أن توثيقاته غير صحيحة ولا موثوقة!
14. حقا إن في هذا الكتاب خلطًا عجيبًا يصعب تصوره. حتى إنه إضافة لما سبق قد يذكر نموذجا شعريا على أنه لبشار بن برد ويشرحه على أنه للمعري، وربما العكس. وليس من مهمتنا هنا خدمة المؤلف بتصحيح كتابه له، فتلك مسؤوليته، لذلك نكتفي بالإشارة إلى الظواهر المعيبة في الكتاب لأي متصفح جاد، وعلى من أراد أن يتتبعها فهي غير خافية، وما ذكر هنا مجرد أمثلة وإلماحات.
15. الكتاب بعد ذلك حافل بأخطاء لغوية ونحوية وأسلوبية وطباعية شائنة، مع أبيات شعرية مكسّرة، لا حصر لها، وهي حالات مستغربة، على الأقل من متخصص في اللغة العربية. وأكثر غرابة حين نعلم أن أستاذا أكاديميا آخر تولى التصحيح والتدقيق والمراجعة، وهو غالب عنابسة. ولا يعنينا تتبع ذلك كله، فهو كثير جدًّا.
16. ربما كان ديدن المؤلف في النقل العشوائي هو ما يوقعه في تلك الأخطاء اللغوية والأسلوبية أحيانًا، لأن الكاتب يدمج نصوص الآخرين بكثرة في كلامه ودون تعديل، أو حتى دون أن يكلف نفسه التدقيق في ما ينقل. مثال ذلك أنه نقل على صفحة 61و 62 اقتباسًا طويلًا عن كتاب “الصورة البصرية في شعر العميان” للدكتور الفيفي، حيث نقرأ من كتاب الفيفي ص68 ما يلي: “... لكن (بشارًا) خرج عن ذلك كله بصورة تبدو جديدة، فصوّر الغمام، الذي ذكره الشعراء الآخرون بـ “الزبرج”... ثم صوره منقدًّا عن أشعة الجمال الشمسيّ تتخايل منه، معبّرًا عن فتنة التناسق اللوني بقوله: “سلطان مبيضّ على مسودّ”. مع هذه الحركة الإيقاعية اللونية المخيّلة لدلال الجميلة المتلألئة بالإغراء، مزاوجًا في صورته بين إيقاع اللون و(التقسيم النفَسيّ) للإلقاء، في مزيج من التشكيل البصري والموسيقى، يختمه بهذه اللقطة البصرية السمعية في الشطر الأخير:”ثم انثنت كالنفَس المرتدّ”. ومن هذا المركب الفني البارع -الذي كونت طاقته التعبيرية مختلف العناصر من: التشبيه.. وإيقاع الألوان.. والحركة.. والطباق.. والموسيقى- استخرج الشاعر من النمط التقليدي القديم صورة أخاذة، تنطلق من النمط لتخلّقه خلقًا آخر، في روح شعرية ترتفع بالصورة إلى مستوى الصور الذهنية”. وقد اقتبس مصاروة في كتابه كل هذا النص كعادته دون تنصيص، مع أنه منقول حرفيًّا! وبالمقارنة يلاحظ أن كلمة “الزبرج” في نص الفيفي قد أصبحت “الزبرجد” عند مصاروة- وهو ينقل حتى بيت الشاعر خطأ في كتابه ويكسر وزنه- وحين ترد عبارة “فتنة التناسق اللوني” في كتاب الفيفي، ينقلها مصاروة: “فتنة الفاسق اللوني”! ويتحدث الفيفي كذلك عن “اللقطة البصرية”، فينقلها مصاروة: “اللفظة البصرية”! أي أنه ينقل ولا يدرك ما ينقل أيضًا! وهكذا كأن عدوى العمى قد انتقلت هنا إلى كاتبنا! ولذلك نرى كيف أن الأمر قد تعدى عدم التوثيق السليم إلى النقل الآلي غير البصير. وبعد أن نقل مصاروة النص السابق في المتن وانتهى منه نقل كذلك في الهامش هامش الفيفي المتعلق بتعريف الصورة الذهنية.
17. ختامًا، ما الجديد في الكتاب؟ تمنيت أن أجد تحت عنوانه العريض المهلهل شيئًا، لكن للأسف لم أخرج إلا بتلك الملحوظات، وهي غيض من فيض، ومحتوى الكتاب مهلهل كعنوانه ومضطرب. ولأن الباحث نقال فقط فهو لا يدري ماذا يريد؟ فهل العميان مقلدون أم مبدعون؟ وما هي علاقتهم بالمحاكاة والإبداع؟ هو ينقل تارة ما قيل في تقليدهم وتارة ما قيل في إبداعهم، دون رؤية واضحة.
18. وأخيرًا يورد المؤلّف خاتمته، وهي في صفحة ونصف، فقط لا غير! لأنه لا يملك نتائج، وأنى له؟ وكل ما ذكره في تلك الصفحة والنصف، التي يفترض أنها زبدة العمل وحصيلته، هو بعض النتائج الموجودة والجاهزة والمثبتة والمحسومة قبل كتابه بأكثر من عشر سنوات، من خلال كتاب “الصورة البصرية في شعر العميان”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:

ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة"، الأربعاء 5/ 5/ 1433هـ 28/ 3/ 2012م، العدد : 17871
http://www.al-madina.com/node/367254/arbeaa





شكراً لاطّلاعك على هذا الموضوع!

جميع الحقوق محفوظة ©