الأحوال:4.مقالات:إضبارة د.عبد الله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

Thursday 2nd March,2000 G No.10017 جريدة "الجزيرة"، الطبعة الاولى الخميس 25 ,ذو القعدة 1420 العدد 10017

المساق 136: في الأحوال الشعرية
مقاربات نقدية لحركة النشر اليوم1
د.عبدالله الفيفي

من أين نبدأ هذه المقاربات؟ وما مساحة هذا اليوم الذي يشير إليه العنوان؟ وهل كل منشور حريّ بالقراءات والنقد أصلا؟
أسئلة تعترض خطوات هذا المشروع القرائيّ. لكن مقام الكتابة ها هنا يبيح تخطّي هذه الأسئلة, لا تخفّفا من محددات منهجية وإنما تحريّاً للتواصل مع ضرب من الكتابة الصحفية السيارة، التي لا تحتمل صرامة منهج يرسف في نظامه، زماناً وموضوعاً ومكاناً وأدوات.
لذلك فإن هذه القراءات الحرّة ستتجه إلى مقاربة النصوص المنشورة حديثاً، في المملكة بالدرجة الأولى وفي خارجها بالدرجة الثانية، بقطع النظر عن مستواها الفنيّ، إيمانا بأن من حق العمل الضعيف أن يوصف بما فيه إبراء لذمة الناقد في قول كلمة الحق وإعلاناً عن مظاهر الضعف كما نعلن عن مظاهر القوة، إذ الأمر في جدلية النقد مرهون بتبيّن عدم الجودة وأسبابها إزاء تبيّن الجودة وأسبابها.
أمّا اليوم المشار إليه، فسيمتد بالضرورة ليشمل عقداً من السنوات الأخيرة، بتاريخنا الهجري أو الميلادي.
وعليه ستمضي القراءة في مجموعات شعرية تتفاوت تجديداً وتقليداً كما تتفاوت أصالة ومعاصرة، على ما بين هذين المصطلحين من تداخل حتميّ تفاوتاً يتبدّى أول ما يتبدّى في عنوانات هذه المجموعات، على هذا النحو مثلا:
البراق.
الأضداد.
وردة في فم الحزن.
لا تقولي وداعاً .
انكسرتُ وحيداً.
إبحار بلا ماء.
حيث يلحظ ها هنا مسالمة معظم هذه العناوين للعرف الغالب في التسمية العربية، القائم على نمطية القالب الاسميّ العلميّ، الذي هو:
اسم يعين المسمى مطلقا
علمه: كجعفر، وخرنقا
على حد قول ابن مالك في ألفتيه، أو الاسم المعرّف بالألف واللام، كالبراق، أو الأضداد، أو تلك المعرّفة بالإضافة، أو المكتسب بعض التعريف بالإخبار عنها أو بالوصف، كوردة في فم الحزن، أو إبحار بلا ماء ، وكأنما العنوان اسم شخص أو موضوع ذهني يتطلّب قدراً من التعريف والتحديد.
بينما تأتي طائفة أخرى من هذه المجموعات الشعرية، وهي الأقل، لتتخذ أسلوباً في العنونة يكسر قالبية التسمية الاسمية، لتجنح إلى تسمية فعلية إنشائية أو خبرية، لكن هذه الطائفة بدورها تنقسم على نفسها، فمنها مايظل في مستوى المألوف من صيغ العنونات ذات التركيب الإنشائيّ، كـ"لا تقولي وداعاً"، ومنها ما ينحو إلى تجاوز المألوف فيرتاد عنونة خبرية كعنوان "انكسرت وحيدا"، مما يكسبها شعرية تتولد عن هذا الانحراف عن نمطية المألوف، من جهة، بما تحدثه من كسر أفق التوقّع، حسب نظرية التلقّي عند (هانز روبرت باوس). ومن جهة أخرى تتولد شعريّة العنوان هنا عن مفاجأة القارئ بلافتة لا تقتصر على إثارة الانتباه فحسب، وإنما أيضاً تثير فضول التساؤل، حينما لا تتركه يطمئن إلى جمالية العنوان أو مفارقة الدلالة فيه، ولكنها تستدرجه إلى الدخول في الحدثيّة عبر مفتاحية العنوان الذي يلتقط من قلب المشهد الشعري، وهو في ذُراه، لتقديم طرف مما يغري القارئ بالبحث عن باقيه. ذلك أن (الفعل اللغوي) تتشجّر علاقاته في البنية اللغوية مستدعياً فاعلاً ومفعولاً به ومفعولاً فيه وزماناً ومكاناً وحالاً... إلخ. وهو ما لا تستدعيه طاقة الاسم، وإن كان اسم فعل كقولنا "إبحار بلا ماء"، مثلما لا يستدعيه الاسم المنفي كقولنا: "لا تقولي وداعاً".
إن العنوان حينما يأتي على كيفٍ تعيينيّ، فيقال "البراق"، كمجوعة الشاعر (محمدبن ناصر المنصور) المطبوعة 1999م، أو "الأضداد"، كمجموعته الثانية المطبوعة في السنة نفسها، لا يحرك في ذهن القارئ لأول وهلة سوى جمالية المفردة المنتقاة،و ما قد توحي به مما يشدّ القارئ للدخول إلى جوّ المجموعة الشعرية، ناهيك عن أن هذا الضرب من العنونة لا يعطي للطبيعة النوعية للعمل، بوصفه شعراً، فرصة لأن تتجلى في عنوانه، من حيث إن عنواناً كـ"البراق" أو "الأضداد" قد يكون عنوان كتاب علمي، وقد يحسبه القارئ كذلك، لو لا كلمة شعر معلقة إلى جواره. وهناك على سبيل المثال كتب في اللغة منذ القرن الثاني الهجري بعنوان مجموعة المنصور نفسه ككتاب "الأضداد" للأصمعي (216هـ=831م)، و"الأضداد" لابن السكيت (244هـ= 858م)، و"الأضداد" للسجستاني (248هـ= 862م).
ويصدق هذا مع بعض التميز النوعي على عناوين تلك المجموعات التي تصاغ في مضاف ومضاف إليه، كمجموعة الشاعر (حسن حجاب الحازمي) المطبوعة 1416هـ ، بعنوان "وردة في فم الحزن"، وإن كانت تحاول الاتكاء على شعرية المفارقة الدلالية بين مفردة "وردة" ومفردة "حزن"، مع ما خرج به العنوان من هذه الصورة الهزلية، رغم الحزن، اذ يصبح فيها الفم أصيص زهر، إن لم يوح بفم مخلوق غير بشريّ!
وعلى مثل تلك المفارقة بين عجز العنوان وصدره وإن نجا من ضعف الصورة يتكئ عنوان مجموعة الشيخ عبدالله بن إدريس الأخير المطبوع 1419هـ= 1989م، الموسوم بـ"إبحار بلا ماء"، الذي يذكّر بعنوان ديوانه السابق المشتقّ كذلك من بيئة البحر، "في زورقي"، وإن كنتَ قد لا تجد في الديوانين من البحر سوى العنوان، فإشارة البحر هنا وهناك ما زالت بنموذجية البحر في المخيال العربي، حلماً للمغامرة والمجهول ورمزاً للطموح، بماء أو بغير ماء.
(وذلك هامش تفصيلي قد نعرج عليه لاحقاً).
وكذا ينتفي رصيد الصيغة الفعلية في العنوان بما تمنحه من حركيّة تصويرية عندما يأتي الفعل ملغيّاً بنهي أوبنفي، كعنوان الشاعر عيسى بن علي جرابا "لا تقولي .. وداعاً"، المطبوع للمرة الأولى 1420هـ= 1990م، حتى مع وضع الشاعر نقاطاً بين "لا تقولي" و"وداعاً"، من أجل تحميل العنوان بعداً درامياً في مواجهة المخاطبة، يفتح خيال القارئ على تصوّر مقول القول الذي لا يؤدي إلا إلى الفراق. إلا أن طبيعة العنوان البسيطة والمباشرة تلك لم تدع للقارئ حاجة إلى مثل هذا التأويل، بل لم تجعله يلتفت إلى شعرية الكتابة في العنوان.
والحديث موصول إن شاء الله.





شكراً لقراءتك هذه المقالة !

أنت القارئ رقم :


FastCounter by bCentral

جميع الحقوق محفوظة ©