الغيمة الكتابيّة-19 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
مكانة المرأة في تاريخ العرب!
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة التاسعة عشرة ]

في سياق الجدليّة حول القدامة والحداثة، والماضويّة والمستقبليّة، التي تدور في فَلَكِها رموز "الغيمة الرصاصيّة" للشاعر علي الدميني، وفي نصٍّ شعريّ ذكر أنه من أوراق إحدى بطلات السرديّة، وهي نورة، تَرِد قطعةٌ من التاريخ الحضاريّ لرحلة العرب من صحرائهم إلى الرافدين، وما آلت إليه حضاراتهم هنالك- بعد حِقَب الاستقرار والتشييد- من التمزّق والاندثار. ويظلّ التاريخ يعيد نفسه.. فيقول/ تقول:

قالت جَدّتي الملِكة:
من خلف الجبال الجُرد دَفَعَنا عطشٌ وسمومٌ وغبارٌ للرحيل
حملنا الصغار على ظهور البغال والجِمال
قُدنا القطعان في جفاف البراري
كنتُ أبكي كشجرةٍ جَرَفها السّيل
من فوقنا غطّت الهوامّ، كغيمة رصاصيّة، دائرة الشمس.
السماء تصبّ شواظها على رؤوسنا والأرض تتشقّق تحت أقدامنا
في يومنا السابع لاح لنا سواد مصبوغ بخضرةٍ لامعة.
شدّنا إشعاعه البعيد
مات أطفال كثيرون، وشيوخ، وزوجي
ربطتُ الحزن في صُرّة قلبي
ودفعنا أرجلنا صوب الماء.
نهرٌ عذب يسيل أمامنا
سالت أحزاننا ونمَت أوراق السعادة في أجسادنا
اغتسلنا، وبالقرب من ضحكة الماء أقمنا بيوتنا
خفيفة من سَعَف النخل وقَصَب الغدران.
كُنّا نرعَى القُطعان من مهاجعنا
ونقطف الثمار من ساحاتنا
ورأينا أن الجنّة الموعودة قد فتحت أبوابها لنا.
أقامت الملِكَة "الأُمّ" أعلام الآلهة على الماء والهواء والطّين وعلّقتها على رؤوس الجبال، فاحتربتْ الآلهة ومات الأحفاد."(1)

وفي إشارات تاريخيّة إلى حضارات ما بين النهرين يورد الكاتب من أوراق نورة أيضًا أن جَدّتها الثانية قد انتقلت إلى الضّفّة الأخرى من النهر، وجَدّتها الثالثة هربت إلى أسفل ملتقى النهرين، لتستقرّ سلالتها على أطراف الماء والصحراء. أمّا جَدّتها الأخيرة، فقد أقامت "حُلم المشتركات، فعمّ الخير، لكن الخوف من الفناء استبدّ بالناس فهلكوا وهم يبحثون في أعماق المياه والنباتات النهريّة عن نبتة الخلود"(2)، في إشارة إلى الدولة الأكديّة وأسطورة كلكامش وأنكيدو.
وبعد إشارته إلى هذا المخاض التاريخيّ للحضارة السومريّة والأكديّة والآشوريّة والبابليّة يُلْمِح الكاتب، من خلال ما ينسبه إلى أوراق نورة في نَصّها الأوّل، إلى قولها: "وحين رأى أبي ومن تبقّى معه في المدن المهجورة ما حلّ بأهلها حملونا على ظهورهم بعيدًا في قلب الصحراء."(3) والكاتب في هذه السياقات يحوم حول معلومات تاريخيّة، تشير إلى أنه قد شهد ما بين النهرين الانتقال من القرى الزراعيّة إلى حياة المدن. وفيه قامت المدن الأولى. وكانت بدايات التخطيط للسيطرة على الفيضانات، وإنشاء السدود وحفر القنوات والجداول. ممّا جعل السومريّين بناة أقدم حضارة في التاريخ. وقد ابتكر السومريّون الكتابة- في حدود سنة 3200 ق. م.- ونشروها في بلدان شرق أوسطيّة عديدة. وقامت في بلاد سومر أُولى المدارس في التاريخ. (4) والتاريخ يشير كذلك إلى أن المرأة كانت لها مكانة عظيمة في تاريخ العرب، جعلتْ منها مَلِكةً لحضارات شتّى، بل جعلت تلك الحضارات في بعض حِقَبها التاريخيّة ترى فيها آلهة. ورحلة العودة إلى الصحراء التي أشارت إليها نورة هي رحلة حقيقيّة تاريخيًّا، حين عاد ملوك ما بين النهرين إلى الجزيرة ليستوطنوا فيها ويؤسّسوا بعض المراكز الحضريّة. إذ تشير الكتابات العراقية القديمة إلى صلات حضارية وسياسيّة كانت للجزيرة العربيّة ببلاد الرافدين، تُراوح بين مدٍّ وجزر، عبر حقب تاريخيّة مختلفة. فمن ذلك ما يُذكر في نقوش الأمبراطور الآشوري سلما نصر الثالث من أنه تحالف ضدّه في سنة 854 ق.م. أميرٌ عربيّ اسمه (جُنْدُبٌ/ جِنْدِبُو) مع الآراميين، فأرسل إليهم ذلك الأمير مَددًا على ألف جمل أثناء موقعة (قرقر). فيما يَرِد في حوليّات الملك الآشوري تجلات بليزر الثالث Tiglath-Pileser III (727- 745ق.م)- وكأن تلك الحوليّات سجلاّت ابن عيدان الموصوفة في "الغيمة الرصاصيّة"!- أنه شَنّ حربًا على الحواضر العربيّة والقبائل، شملت مساي Mas'ai، وتيماء Temai، وسابيا Sab'ai، وخيافة Haiapai، وبدانيا Badania، وفرض عليها الجزية. وممّن دفعوا الجزية إليه ملكة العرب (زبيبة)، كما دفعتها خليفتها الملكة العربيّة (شمس) إلى سرجون الثاني (722- 705ق.م).(5) ثم يرد في نقش حرّان- المحفوظ في متحف اللوفر في باريس- أن الملك البابلي نبونائيد (556-539ق.م) قد غزا تيماء(6) (550ق.م)، واتخذ منها مقرًّا لإقامته عشر سنوات من حكمه، وابتنى له فيها قصرًا شبيهًا بقصره في بابل، ومعبدًا، جاعلاً تيماء مركزًا دينيًّا لعبادة الإله سِيْن، ربّ القمر الآرامي. كما جاس خلال الديار في شمال غرب الجزيرة العربيّة: العُلا، وخيبر، وفدك، ويثرب. وكان ذلك من الأهميّة بمكان في تطوّر العرب الثقافي والديني.(7) وكأن لا ملجأ، إذن، من الصحراء إلاّ إليها.
ولقد أعطى الكاتب دورَ الريادة الحضاريّة والمغامرة الخصبة للمرأة، فيما أعطى الرجلَ (الأبَ) دور التراجع التاريخيّ والفرار من النهر إلى القفر. لا على أن تلك حقائق تاريخيّة بالضرورة؛ فالكاتب ليس مؤرّخًا، ولكن على أن ذلك هو ما تحمله الأنوثة- حقيقة ورمزًا- من معاني الجمال والخصب والولادة، التي كان الكاتب يعوّل عليها في تعبيره وتصويره، حتى لقد جعل عناصر البطولة المحوريّة في النصّ عناصر أنثويّة: عَزَّة، نورة، مريم، وغيرهن.
ثم يرد النصّ الثاني من أوراق نورة، وهو نصٌّ شعريٌّ قصير، رامزٌ إلى تشكّل قلب نورة بتشكّل الرجال الذين عرفتهم، في إيماءات إلى الرحلة الحضاريّة التي ترمز إليها نورة، من: حضارة الرعي، وحضارة الزراعة، وحضارة الدِّين، وحضارة الكلمة. لتختم النصّ بما يعبّر عن إيمانها بضرورة التعدّد والتنوّع، وأن ذلك هو نبع الثراء والخصب والحياة، وبدونه لا حياة في الحياة. إذ تقول:

"توّجتُ قلبي بالراعي
فأصبحتُ مرعَى
توّجتُ قلبي بالفلاّح
فصرتُ شجرة
ولمّا اقترب منه عمران
غدوت إبريقًا للوضوء(8)
وحين أدخلت ابن عيدان إلى رحابه
صرت...(9)
بحثتُ عن سهل الجبليّ
فألفيتني كلمات مبعثرة في نصّه
يا عُبيد.. في قلبك امرأتان
وفي قلبي عشّاق كثيرون
بارد هو القلب الذي يعشق امرأتين فقط
وميّت هو القلب الذير يعشق رجلاً واحدًا(10)

ولا تحضر دلالة هذه الإشارات إلاّ بجعلها في سياقاتها الرمزيّة، المتعلّقة بالمخاض الفكريّ من النصّ الذي يناقش شؤون الثقافة والحضارة من خلال الشخوص المشار إليهم فيه، ولا علاقة للأمر في نهاية الأمر بالمرأة أو بالرجل أو بالعشق.


aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدميني، علي، (1998)، الغيمة الرصاصيّة، (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة)، 215.
(2) م.ن، 216.
(3) م.ن.
(4) انظر: موسوعة ويكيبيديا، مادة "سومر"، على شبكة الإنترنت: http://ar.wikipedia.org
(5) بالآشوريّة: زبيبي، سَمْسِي.
(6) وتُعدّ تيماء مدينة كلدانيّة، اسمها تيمو، بالكلدانية، ومعناها: "جَنوب"؛ لأنها جنوب ممالكهم. (انظر: الجميل، ماجد، "أصل سكان العراق القُدامى من شبه الجزيرة العربيّة"، مجلة "أقلام الثقافيّة"، على شبكة الإنترنت: http://www.aklaam.net/aqlam/print.php?id=973).
(7) انظر: ظاظا، حسن، (د.ت)، الساميون ولغاتهم: تعريف بالقرابات اللغويّة والحضاريّة للعرب، (؟: مكتبة الدراسات اللغوية)، 126- 127. محيلاً إلى:
Fleisch, Henri, Introduction à L'étude des Langues Sémitiques, Paris, 1917, P.90
وكذا انظر:
Luckenbill, Daniel David, Ancient Records of Assyria and Babylonia, Paragraph 799
Gadd, C .J., “The Harran Inscription of Nabonidus,” Anatolian Studies, 3, 1958, P.P. 35, 69, 78
وكذا: فسمان، فون (Wissmann, H. v)، (د.ت)، "البداوة في الجزيرة العربيّة"، (دائرة المعارف الإسلامية- الترجمة العربيّة)، إعداد وتحرير: إبراهيم زكي خورشيد؛ أحمد الشنتناوي؛ عبدالحميد يونس (القاهرة: دار الشَّعب)، 6: 469.
(8) في الأصل: "للوضؤ".
(9) علّق الكاتب هنا: "كلمات ممحيّة في النصّ لم يستطع المترجم معرفتها."
(10) علّق هنا: "وضع المترجم ملاحظة بأن هذه الكلمة لها معانٍ عديدة منها: "وحيدًا، مسنًّا، ليست له خِبرة سابقة مع النساء.."."


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 14 شعبان 1430هـ= 5 أغسطس 2009م، ص8.




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©