الغيمة الكتابيّة-13 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
سجلاّت ابن عيدان.. والمجتمع المدنيّ الحُرّ!
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة الثالثة عشرة ]

في الحلقة الثانية عشرة من هذه القراءة في "الغيمة الرصاصيّة" للشاعر علي الدُّميني وقفنا على مغامرة سهل الجبليّ للدخول إلى مخبأ سجلاّت ابن عيدان (التي تمثّل البُعد التاريخيّ الرمزيّ وراء صراعات العصر الحاضر وإشكالاته)، ومحاولته قراءتها، حيث عَثَر على أسرار ما كان يَحدث من خصومات تفضي إلى سفك الدماء والإفساد في الأرض. وإذ يُتابع قراءته في تلك السّجلاّت، يقف على ما حَدَث من تنازعٍ بين القُرى اقتضى محاولة ابن عيدان الصُّلح بينها، بتقسيم "الدِّلالة" بين عرائف القُرى، ممّا أطرب عريفة العبادل وأغضب عريفة الينابيع، فانتهى الأمر إلى غير اتّفاق. وبذا فإن سهلاً، وقد بات في غيابة قَبْو ابن عيدان، كان قد عَلِمَ، غير أنه قد فَقَد حُرّيّة العِلْم، وإمكانيّة الحياة، لولا أن نورة جاءت لإنقاذه من هناك، مشيرةً عليه بعد أن خرج من القَبْو بأن يُلقي بنفسه في الحفرة الكبيرة التي يخبّئون فيها الجِرار المعتّقة، خَلْف عشّة عُبيد، كي يدّعي أنه سَقَط فيها فأُغمي عليه، حتى لا ينكشف أمر محاولته اكتشاف أسرار سِجِلاّت ابن عيدان.(1)
ولدى هذا يظهر حمدان عائدًا إلى القرية بدابّته الغريبة، (السيّارة). ويتّهم أهل وادي الينابيع حمدانًا بالعقوق والشطحات والأوهام. لكنّه يعتذر بأنه إنما لبّى نداءً غامضًا خرج من الشرق، وها قد تقاعد من عمله في أرامكو، وعاد إلى الوادي الذي يرجو أن يراه وقد تغيّر عن ذي قبل، مُحْضِرًا معه زوجته، مستأذنًا الوادي في قبوله وقبولها. فيُرجئ ابن عيدان الأمر للتشاور. ها هو ذا حمدان، إذن، يمثّل ربيب الثقافة الغربيّة في وادي الينابيع، السابقة الإشارة إلى أنه الوجه النقيض لدلالة عَزَّة في النصّ.
وعلى الرغم من أن كلمة السِّرّ إلى مكان السّجلاّت من قلعة ابن عيدان كان قد غيّرها الحُرّاس، كما أخبرتْ نورةُ سهلاً، فإنها قد وعدتْه بالبحث عن بابٍ آخر إليها. بيد أن القلق المتداول بينهما ظلّ على مصير (صفوان) الذي ما زال معتقلاً في مغارات ابن عيدان. صفوان الذي يمثّل في ذاكرة النصّ المعلِّم الأوّل، والمنظِّر لنصّ عَزَّة، والمبشِّر بتَحَقُّق أحلامه. فهو- كما اتّهم المحقّقُ (أبو عاصم) سهلاً- مَن فَتَح أمامه أفاق التفكير والتخييل، متسائلاً: هل هو الذي عرّفه على أفلاطون والفارابي وهيجل وماركس والآخرين، ليُجيب سهل: نعم.(2)
وإلى جانب الإرباك البنائي في تسلسل الأحداث الذي مرّ الحديث عنه في الحلقتين الماضيتين من هذه القراءة، فلقد جعل الكاتب داخل كلّ قِسمٍ من أقسام النصّ جزيئات متفرّقة، يفصل بعضها عن بعض بنجمات، لا تمثّل أنساقًا متنامية، ولكنها مسطّحات حكائيّة تفتقر إلى الترابط في كثير من الأحيان. وذلك كما فعل في هذا القِسم المعنون بـ"عتمة المصابيح، 1- سهل الجبليّ"؛ إذ تحدّث فيه عن: حواره مع أبي مريم ومريم، ثم قَفَزَ إلى مغامرته لدخول قلعة ابن عيدان وقراءة السجلاّت، ثم انتقل إلى قدوم حمدان بسيّارته إلى وادي الينابيع، ثم عاد إلى نورة للتباحث معها حول بابٍ آخر لدخول القلعة، ثم أورد الحديث عن خلافٍ نَشِب بين أهل قرية الرمليّة وابن عيدان حول ضريبة موسم الحصاد- ممّا دفع ابن عيدان إلى سدّ مجرى قناة الماء إلى الرمليّة- وأخيرًا خَتَمَ بأقصوصة تبدو متّصلة بهذا، وإنْ على نحو باهت، تروي اعتلال ابن عيدان وإيذانه بالفناء، وتحوّل موسم الخِصب والحصاد إلى موسم قحطٍ وجفافٍ في الأرض والأحياء، نتيجةَ الخلافات والانقسامات؛ ممّا دفَعَ نورة إلى أن تمارس طقوسها في دعاء جدّاتها من آلهات الخِصب؛ لعلّها تُنقذ الحال من مآل فنائه العامّ، لكنّ أبناء ابن عيدان ينتهرونها عن ذلك بغلظة، فتُغادر "مثخنةً بكآبة القحط والتراب".(3)
لقد ران الجدب على ينابيع وادي الينابيع بصورتَيه الماديّة والروحيّة، حتى ليكون الدعاء إلى العودة إلى ينابيع الخِصب لإحياء الحاضر بنور الماضي جريرةً أو محض هذيان، كما باتت تُهمة نورة لدى أبناء ابن عيدان.
ولمّا كانت آمال النور قد اشرأبّت إلى التبلّج، فإن النصّ يخطو إلى القِسم الثاني من "عتمة المصابيح"، وهو بعنوان: "عتمة المصابيح، 2- الأصدقاء (2)". ويبدأ هذا القِسم بتصوير الأجواء عَقِب حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت، ناقلاً الحوار السياسيّ والفنّيّ والشِّعريّ بين الأصدقاء: مصطفى، وجاسم، وخالد، وسعد، كاشفًا عن ذائقة مصطفى- ذي الشخصيّة القوميّة- المباشرة والمحاصِرة لمخيّلة الشِّعر، مقابل ما تكشف عنه رؤية جاسم- في جدله معه- من وعيٍ فنيّ سليم.
ثم ينتقل الكاتب إلى ما استطاع (خالد) جمعه من نصّ عَزَّة. وفيه تبوح عَزَّة بحُبّها، في مستهلّ مجلسها بين راعيات الغنم وبعض نساء قرية الشماليّة (قرية جابر). وينساق مجرى الحديث في تداعياتٍ اعترافيّة، تتشوّف من خلالها عَزَّة إلى عودة الغائب- وذلك في حضور نورة، التي تشاركها الوجد بمحبوبها، وحضور مريم، التي تضمّد جراحها وتدفئ انفعالاتها- معاقرة حالة من الغيبوبة بعد حفل الاعتراف، لا تسمع فيها ولا ترى إلاّ أطياف حمدان. يمرّ بالذاكرة- في أثناء هذا- ذلك اليوم الذي علا فيه ندبُ عَزَّة قتلاها على يدَي مسعود. وبعد تلك التهويمات التي تضمّنها ما اكتشفه خالد من نصّ عَزَّة(4)، يسوق مرويّات مولد عَزَّة الأسطوريّ، وتفوّقها الذهنيّ منذ نعومة أظفارها.
إن من معضلات هذا النصّ السرديّة أنه لا يصطنع إقناعيّة للقارئ. وهذا ناتج عن أن شخصيّة الكاتب شخصيّةُ شاعرٍ لا شخصيّة راوٍ؛ والشاعر يعوّل على اللغة أكثر من منطقيّة الواقع، وعلى الرمزيّة أكثر من البُعد الاجتماعيّ للمضامين. وهذا ما انتهى ببعض أجزاء "الغيمة الرصاصيّة" إلى مشاهد بالغة المجّانيّة، بالمعيار السرديّ؛ من حيث إن القِصّة- وإن كانت خياليّة أو حتى أسطوريّة- لا بُدّ أن تتوافر على إيهام القارئ باحتماليّة الخياليّ، وبواقعيّة الأسطوريّ. ومن شواهد هذا الأسلوب في نصّ "الغيمة الرصاصيّة" ما يرد في المقطع:

"مثل ملدوغ راح خالد يدور في موقع الخيمة وعلى الكثبان المحيطة باحثًا عن الحشية الحمراء. سأل الجيران عن خيمته الضائعة، والرمال عن كنزه، وجذوع النخيل اليابسة عن "كتاب السّجلاّت"، حتى جفّ الكلام على لسانه، وفيما كان يتفقّد الكثيب المرتفع، الذي كانت تتبدّى له خيالات عَزَّة على سفحه، وَجَدَ كِيْسًا من الجِلْد. داخَلَهُ فرحٌ طفليّ لكنّه لم يَجِد سِوى وُريقات قليلة من الجِلْد موشومة بقِصّة عَزَّة، وبعض القِطَع الصغيرة من جرار قديمة، وخرزة زرقاء في قاع جرّة تمّ تجميعها بالقطران والدِّبس."(5)

فمثل هذا المشهد، وغيره كثير، لن يستسيغه قارئ نصّ سرديّ؛ إذ يبدو أشبه بالهذيان الشعريّ، منه بالترميز والتخييل الروائيّ. ومردّ هذا إلى أن الكاتب لم يتخلّص من شخصيّة الشاعر فيه وهو يكتب نصّه هذا.
وينتهي هذا القِسم من "الغيمة الرصاصيّة" بما أشار إليه الكاتب من مشروعٍ لميثاق تعاقدٍ اجتماعيّ، وقّعه بعض المثقّفين، يدعو إلى تطوير المؤسّسات العامّة، وصولاً إلى مجتمعٍ مدنيّ حُرّ. وقد اختلف الأصدقاء حوله، فرَفَضَه (أبو أنس)، وأَعْلَمَهم أنّ له ولتيّاره مشروعًا مستقلاًّ. كما رفضه (سعد)، و(مصطفى). وفي هذا تعبير عن بعض هواجس المؤلِّف نفسه، ومواقفه من بعض التيّارات الفِكريّة والسياسيّة، ولاسيما التيّارين الإسلاميّ (أبي أنس) والقوميّ (مصطفى)، إلى جانب ما يمكن وصفه بالتيار السلبيّ (سعد). غير أن الخيمة التي كان يجتمع فيها الأصدقاء قد سُرقت في نهاية المسعَى، وضاعت معها قِصّة عَزَّة، فلجأ خالد وأصدقاؤه إلى التذكّر، واستنطاق ما بقي لديهم من شذرات النصّ، إلى جانب الجزء الذي كانوا قد بعثوا به إلى الآثاريّين للترجمة في الرياض. وكأنما وثيقة عَزَّة الضائعة هاهنا هي المعادل الرمزيّ لمشروع الميثاق الذي اختلفوا عليه وتفرّقوا لأجله.
ثم ينتقل الكاتب إلى فصل قصير، بعنوان: "عتمة المصابيح، 3- الراوي". حيث يعود إلى الراوي ليحكي على لسانه ما واجهه من صعوبات في قراءة المخطوط الذي أعطاه إيّاه جاسم، وكيف أنه، في ظلّ انقطاع (جاسم) عن المجيء إليه ومعرفة ما أسفرتْ عنه ترجمة أجزاء النصّ في الرياض، انتقل إلى الرجل المُسِنّ الذي كان قَصَدَه من قبل ليُرشِدَه إلى ضرورة استفتاء الشيخة زعفرانة. فيذهب بحثًا عنها إلى (الخَفْجي)، إلاّ أنه لا يضفر بها، فقد غادرت المدينة على "حمارتها الزرقاء!". ثم قَصَدَ (الظهران) بعد معلومة أسعفه بها "البنك" عن سهل الجبليّ، فوجد بيته قد بيع، ومكتبته قد حملتها زوجته إلى حيث منزلها الجديد، ولم يبق منها إلاّ "كرتون" صغير مليء بالأوراق وبعض الكتب، لم يجد فيه ما يفيد. سوى أنه قد عثر على دفترٍ صغير، وَجَد فيه نثارًا من مسوّدات زوجة سهل، وأطرافًا من مذكّرات عَزَّة.
لينتقل من ثمّة إلى قِسم جديد، بعنوان: "عتمة المصابيح، 4- من أوراق عَزَّة". وهو ما ستنتقل القراءة إليه في الحلقة المقبلة، بإذن الله.



aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر: الغيمة الرصاصيّة، 142- 143.
(2) م.ن.، 46.
(3) م.ن.، 148.
(4) انظر: م.ن.، 152- 153.
(5) م.ن.، 159.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 1 رجب 1430هـ= 24 يونيو 2009م، ص8.
http://al-madina.com/node/152430/arbeaa




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©