الغيمة الكتابيّة-6 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
بين متن السيرة وهامش التفسير !
( قراءة في تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة )
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة السادسة ]

‏رأينا في الحلقة الخامسة أن شخصيّة الشاعر (عُبيد) في "الغيمة الرصاصيّة" لا تمثّل بالضرورة هذا الشاعر أو ذاك، أو هذا الرمز أو ذاك، وإنما تحمل دلالة الحُبّ والكلمة، التي تتفانَى في التغنّي بالأمل وإشراق صبحٍ جديد، على الرغم ممّا تستشعره من اغتراب، وممّا تجده من محاولةٍ لتوظيفها إعلاميًّا في خدمة القبيلة، ونفيها حينما تسعى إلى إخلاص فنّها للجمال والحق والخير فقط. ذلك ما شكَى منه الشاعر عُبيد إلى سهل الجبليّ، لمّا قال:

"لقد مَدحتُ القبيلة وأعلامها، فأحبّوني، وحينما أطلقتُ لشيطان شِعري عنانه، ولقلبي لسانه يتغزّل بالجميلات، خشيَ الناس على زوجاتهم من شِعري، فقرّروا قتلي. ولمّا علمتُ بالأمر، احتميتُ بالجبال والأودية والصحارى، حتى أتيتُ وادي ابن عيدان، واستجرتُ به، فأجارني. لكنني لستُ من العشيرة، فلا يجوز لأصلابي أن تتناسل بينهم، ولا يحقّ لقلبي أن يسكن لمن وجَدَت فيّ ملاذًا من وحشة العمر القارسة. ومنذ ذلك الحين ما برحتُ أقود عذابي كالجِراب خلفي، وأحمل اسمي على وجهي وفي عصاي(1): الراعي أنا، صبّاب القهوة أنا، الشاعر أنا، ...".(2)

تلك إذن مأساة الشاعر بصفة عامّة، أو قل: مأساة الكلمة والرأي في مجتمع الشاعر.
وتذكرّنا شخصيّة (مسرور) بـ(مسرور) خادم الرشيد وسيّافه. إذ يوثِق سهلاً من ساقَيه بقيدٍ حديديّ، ويديه بحبل، ويقتاده. وإنْ كان يبرّر عمله بأنه صنيعة الكاتب نفسه (سهل الجبليّ). أي أنه- على نحو فلسفيّ- صنيعة الثقافة والمعطَى التاريخيّ، كما هي رؤية النصّ في مختلف المواقف التي يعالج فيها تلك القضايا التي يعترض عليها سهل، فيقول له الآخرون: إنما هي من صنع يديك.
ولا يقف حَجْر السُّلطة في وادي الينابيع على فِكر سهل الجبليّ عند حدّ، بل إنهم- إذ يقتادونه ليحقّقوا معه- يسألونه: في شأن ما قَبَسَه مِن تفكير مَن أطلق عليه اسم (صفوان). فلقد كان ذَكَر في روايته أن صفوان "فَتَحَ أمامه آفاق التفكير والتخييل؛ فهل هو الذي عرّفه على أفلاطون، والفارابي، وهيجل، وماركس، والآخرين؟". كان لا بُدّ من ذلك التقصّي حتى يأخذوا منه معلومات صفوان، كي يعتقلوه أيضًا هو وأصدقاءه، ممّن "يكتبون القِصّة والشِّعر والرواية، ويصطادون عصافير الوهم ومخاتلات الحقيقة مثلي"، كما قال سهل.(3) إنها حكومة الفِكر والرقابة عليه. وتلك سياسة وادي الينابيع. كأن النصّ- بلعبته السرديّة- إنما أراد أن يقول: ما نحن إلاّ ضحايا نصوصنا، وذبائح أعمالنا، نُخرب بيوتنا بأيدينا، على حَدّ قول صفوان لسهل الجبليّ: "ها هو نَصّك يضعكَ ويضعنا في هذه المغارة، وكأنكَ تأثّرتَ بشيخ الدادائيّين الذي قال: نحن دائمًا نَرتكب الأخطاء، ولكن أعظم أخطائنا هي تلك (النصوص) التي كتبناها."(4) إنها الكتابة، بمعناها الحضاريّ، والثقافيّ، والقيميّ، مصائد مصائرنا. وتلك مأساة سهل، مع ذاته، ومع الآخرين.
وعلى هذا النحو يزاوج السارد بين أبعاد الشعريّ والأسطوريّ والفلسفيّ. وتتوالج الأجزاء التي تُمثّل ما يُشْبه السيرة الذاتيّة من النصّ- أو ما أسماه الكاتب "الأصل"(5)، وهو المكتوب بحبرٍ سميك- مع الشرح والتوهّم والهامش كما وصفه "في الختام"(6). إذ ينكسر تتابع النصّ ليدخل منه الكاتب إلى نصٍّ آخر، منتقلاً من الجمعيّ إلى الذاتيّ، أي من حكاية سهل الجبليّ في وادي الينابيع إلى حكاية التنظيم الشيوعي والرفيق (سهل/ مبروك)، الذي يفرّ بفِكْره إلى اليونان، إلاّ أنه سرعان ما يُؤْثِر العودة؛ فسجن الوطن أرحم من حُرّيّة الغُربة. ليقول هاهنا: إن الفِكْر بات محاصَرًا، سواء ما كان قادمًا من الخارج أو كان فِكْرًا مهاجرًا إلى الخارج.
وهكذا يظهر أن "الغيمة الرصاصيّة" تتألّف من نصّين متوازيين، أحدهما يمثّل متنًا- وهو نَصّ أقرب إلى السيرة الواقعيّة، تحكي عن عذابات شخصيّة معاصرة، هو سهل الجبليّ/ الرفيق مبروك- والنصّ الآخر الموازي، الذي يمثّل هامشًا، وإن بدا، من حيث الطول والتشعّب، كما لو أنه هو المتن، وهو نَصّ سهل الجبليّ في وادي الينابيع، بتفريعاته وتفصيلاته، ويلعب دور الشَّرح للنص الأوّل، وإن بطريقة حُلُميّة رمزيّة. وشرح النصّ الآخر (الهامش) هو شرحٌ لملابسات كثيرة، يبدو أن الكاتب كان يتوقّى أن يبوح بها في نَصّ المتن. على أن النصّين قد يلتحمان أحيانًا في سياقٍ واحد، فيتداخل صوتا الساردَين في صوتٍ واحد، كما في قوله: "الآن أتذكّر تلك اللحظات، وأتساءل: ماذا سيكون موقفي لو أنّهم وجدوا البرنامج في ركن من بيتي غفلتُ عنه؟ وهنا أيضًا أتمنّى لو أنني كنتُ قد كتبتُ نصّ عَزَّة ليكون من جملة المضبوطات المصادرة؛ لكيلا يضمّني هذا الكهف الموحش في الوادي، وحيدًا أخشى أبطاله الذين صنعتُهم، وظننتُ أنني قد حدّدتُ أدوارهم وتصرّفاتهم سَلَفًا، وبكلّ دقّة!"(7) وبذا تلتحم البنية، بشقّيها: ذكريات سهل الجبليّ (الملقّب حركيًّا بمبروك) في التنظيم الشيوعيّ الذي تورّط فيه، وذلك قبل ذهابه إلى وادي الينابيع، ثم تجربة سهل في وادي الينابيع.
وهذا يعني أن بطل النصّ واحد، وليس اثنين، وإنما الكاتب يعرض المَشاهد والأحداث من خلال مرآتين متقابلتين. وسيأتي لاحقًا صوتٌ ثالث هو صوت الراوي (الدُّمَيني) نفسه، ليحكي رحلة بحثه عن سهل الجبليّ مع بعض أصدقائه. إيهامًا بواقعيّة القصّة وما حَدَث لبطلها. وهكذا فمن الواضح أن بنية العمل في أطواره الثلاثة هي بنية سيريّة، غير أن الكاتب كان يُدمج طور السيرة (سهل الجبليّ/ الرفيق مبروك) في طورٍ آخر "فنتازيّ" (سهل الجبليّ في وادي الينابيع)، ثم يسعى إلى انتشال الراوي من ذلك كلّه، بتصويره شاهدًا على الأحداث، لا جزءًا منها.
ويصوّر الكاتب سُلطة ابن عيدان الشموليّة، التي تتدخّل حتى في تزويج الناس وطلاقهم، وذلك بحسب مواعيد يحدّدها هو.(8) فهو حامي النسل، والشرع، والوادي. يمضي خلفه الفقيه إلى حيث يقتاده، فيأمره ليكتب ما يريد. ولمّا كانت نساء قرية (العبادل) ونساء قرية (الرمليّة) يلدن الكثير من البنات والقليل من الأبناء، فقد حلّ عليهنّ إذن الطلاق البائن بينونة كُبرى. ولذا فقد طلّق ابن عيدان (مريم)- بنت عريفة الرمليّة- من (عطيّة)، عريفة العبادل، بحُجّة أنه كان المقرّر أن تتزوّج جاره (عيضة)، لكنه حدث خطأ بينه وبين الفقيه (عمران) في احتساب مواعيد الزواج! وهذا ما قوبل بحنق من عطيّة ونساء العبادل وأطفالهم. أمّا نساء قرية (الينابيع) فكنّ يلدن الذكور أضعاف ما يلدن من الإناث، فكان على ابن عيدان أن يُزَوّجهنّ لبعولتهنّ المرسومين، كما أنه سيُزَوّج رجال القرية المتزوّجين بأُخريات، يحدّدهن لهم.
وما ينفكّ الكاتب في غضون حكايته قصّتيه بصياغتيهما المختلفتين- القصة الواقعيّة، عن سهل الجبليّ في التنظيم، والقصّة التخييليّة الأسطوريّة، عن سهل مختطفًا إلى وادي الينابيع- يومئ إلى إسقاطات كثيرة سياسيّة وتاريخيّة، وإنْ في غير تسلسل سرديّ، وإنما في نقلات غير متنامية ولا مترابطة. ومن ذلك وصفه ما خضع له سهل الجبليّ من تحقيق في المغارات بتهمة تحريض مبروك على تحريض الرعاة والموالي على مغادرة معركةٍ وقعت بين أهالي قرية الرمليّة والعبادل بسبب الخلاف على الحدود بين القريتين. وكأنه يشير بذلك إلى الخلاف بين الكويت والعراق على الحدود، وإن كان النصّ، كما سيتبيّن، هو أشدّ التباسًا من تحديده بتأويل واحد كهذا. ولقد تكلّم (جابر) عريفة الشماليّة طالبًا من ابن عيدان أن تكون الأرض مقسومة بين القريتين بالتساوي، غير أن العبادل قد اعترضوا بأنهم هم الأكثر، ومن ثم لم يتمّ الاتفاق بين الطرفين، وكان "الميدان يا حميدان"، حسب تعبير الكاتب.(9)
وفي المواجهة بين قريتي العبادل والرمليّة، يوجّه ابن عيدان سؤاله إلى أبي عاصم: "هل وَرَدَ فيما بلغنا من الرواة عن قِصّة عَزَّة شيء ممّا حَدَث اليوم؟ أجابه: لا." (10) وكأن سؤاله هنا يقول: هل التاريخ يعيد نفسه؟! هل هذه الأُمّة المتناحرة هي الأُمّة ذاتها المرويّة في التاريخ؟!
وبذا يظهر نصّ "الغيمة الرصاصيّة" حافلاً باختلاط الأزمنة: زمن الحكاية بزمن قراءة الحكاية/ زمن قِصّة عَزَّة بزمن أَسْرِ راويها، متداخلاً ذلك بأصل الحكاية كلّها، أي بالسيرة التي تبدو ذاتيّة، وهي سيرة تورُّط سهلٍ الجبليّ في التنظيم الحركيّ، التي يستغلّها الكاتب لنبش إسقاطات كثيرة، تاريخيّة وراهنة. بل إن النصّ السيريّ الواقعي- قصّة التنظيم والسجن- ليبدو عديم المعنى والقيمة خارج كونه محاولة لربط الكلّ بالجزء، والعامّ بالخاصّ، والماضي بالحاضر، في محاولة جاهدة لتحويل ذلك كلّه إلى نسق روائي أسطوريّ، يبدو التحرّزُ السياسيّ وراء اختطاطه أكثر من الهدف الفنّيّ. ولقد ألمح الكاتب إلى ذلك- وهو يتحدّث عن خلافه مع (منصور) و(سعيدان) حول تأويل قِصّة عَزَّة، وما أضافاه أو حذفاه منها- حيث قال: "بدا كلٌّ منهما وهو يحاكمني على ما خطّت يدي، ويتّهمني بقصور الرؤية والخوف."(11)
ولذا فإن العمل بمجمله، وما دار حوله، ممّا دعاه الكاتب قِصّة عَزَّة، هو رمزٌ للتاريخ، وإعادة كتابة التاريخ، والسُّلطات أو الظروف التي قد تحول دون تغيير مجرى التاريخ، فضلاً عن إعادة كتابته.
ولتتبع ذلك نواصل القراءة في الحلقة المقبلة، بإذن الله.


aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net
ــــــــــــــــــــــــــ

(1) في الأصل: "عصاتي"، والصواب ما أثبتناه.
(2) الغيمة الرصاصيّة، 44- 45.
(3) م.ن.، 47.
(4) م.ن.
(5) انظر: م.ن.، 7.
(6) انظر: م.ن.
(7) م.ن.، 50- 51.
(8) انظر: م.ن.، 53- 57.
(9) انظر: م.ن.، 62.
(10) م.ن.، 65.
(11) م.ن.، 74.




ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة "- السعوديّة، الأربعاء 11 جمادى ا لأولى 1430هـ= 6 مايو 2009م، ص6.
http://www.al-madina.com/files2/arb/06-07.pdf




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©