الغيمة الكتابيّة-2 :3.دراسات: إضبارة د.عبدالله الفـَيفي http://www.alfaify.cjb.net

الغيمة الكتابيّة
تماهي الشعريّ بالسرديّ في الرواية السعوديّة
نصّ "الغيمة الرصاصيّة" بوصفه (قصيدة-رواية)
بقلم: الدكتور عبدالله بن أحمد الفَيفي

[ الحلقة الثانية ]

‏يمثّل نصّ "الغيمة الرصاصيّة"، لعلي الدُّميني(1)، أثرًا من آثار هجرة بعض الشعراء في السعوديّة من عالم الشِّعر إلى عالم السَّرد. وهذا النصّ- الذي أرسله المؤلّف من مدينة الظهران، بتأريخ 4/ 2/ 1998، قائلاً: "لعلّ هذه الغيمة النقيّة الخالصة للحرف والنَّدَى تصلكَ وقد تخفّفتْ من صمتها ورصاصها"- هو نصٌّ ملبّدٌ بالصمت والرصاص بالفعل. ذلك أنه نصّ سورياليّ الأسلوب، وإنْ سمّاه صاحبه "رواية"، مثبتًا تحديده الأجناسيّ هذا على صدر العمل، بخلاف ما فعله (أحمد أبو دهمان) إذ ترك نصّه "الحزام"(2) مفتوحًا لرياح التصنيف من قِبَل القارئ، مكتفيًا بدور الكاتب.
إن عنوان "الغيمة الرصاصيّة" ليشفّ للقارئ، منذ أوّل وهلة، عن ذكرى تلك الغيمة الرصاصيّة التي غطّت عين الشمس إبّان حرق آبار النِّفْط أيّام غزو العراق الكويتَ. وقد أشار النصّ إلى ذلك مباشرة في قوله- وهو يتحدّث عن أزمة الخليج الثانية-: "يوم أطفأت الصواريخ موجاتها، وأغلقتْ المدافع فوّهاتها بالهواء، كانت السماء رصاصيّة، تهلّ المطر والقطران ودخان الآبار المحترقة."(3) أو قوله: "أطفأت الكويت مئتي بئر مشتعلة، وانقشع جزء من غيوم البترول الرصاصيّة التي تحجب الشمس فوق الخليج."(4) وهو ما يرسم للنصّ في مخيّلة القارئ جوّه السياسيّ. بيد أن عنوان النصّ الفرعيّ، "أطراف من سيرة سهل الجبليّ"، يشكّل غيمة أخرى من علامات الاستفهام حول "سهل الجبليّ" هذا وأطراف سيرته؟
وسيتّضح منذ مدخل النصّ أن سهلاً الجبليّ هو سارد النصّ وحامل ضميره المتكلّم، متألّفًا من هذا الطِّباق بين (السهل) و(الجبل)، وكأنما هو- في الدلالة النصوصيّة- سهلٌ ممتنع، ظلّ يبحث عنه بطل النصّ. مثلما هو في بُعده التناصّيّ مع التراث يُحيل على (سُهيل اليمانيّ)، الذي يتطابق رمزيًّا مع المكان الذي ينتمي إليه المؤلّف، في جنوب الجزيرة العربيّة. ما يعني أن سُهيلاً اليمانيّ هو رمز للمؤلّف نفسه، وأن سيرته هي سيرة المؤلّف نفسه، لا بصفته الشخصيّة ولكن بماهيّته الرامزّة إلى الإنسان العربي. وسيذكرنا بقول (عمر بن أبي ربيعة)(5):

أيها المنكح الثُّريّا سُـهيلاً،
عَمْركَ اللهَ، كيف يلتقيانِ!
هي شاميةٌ إذا ما استقلّتْ،
وسُهيلٌ إذا استقلّ يماني

وسَهْلٌ وسُهَيْلٌ: اسمان. وسُهَيْلٌ: كوكبٌ يَمانٍ. وكان سُهيل- بحسب الأسطورة- رجلاً يمانيًّا فحلاً فاتكًا، وقيل كان عَشَّارًا على طريق اليَمَن، ظَلومًا، فمسَخَه الله كوكبًا، وقد رَوَوْا قصّة زواجه بالجوزاء. وكانت الثُّريّا في المقابل امرأة شاميّة فاتنة متعرّضة للخطبة، حسبما جاء لديهم في قِصّة ما ساقه (الدَّبران) من قِلاص لمَهرها(6).
وأهميّة رمزيّة سهل تلك ستتضح من خلال "الغيمة الرصاصيّة"، لا في تركيبة الاسم بين "سهل" و"جبل" فحسب، ولكن كذلك في تلك الخلفيّة التناصّيّة مع "سُهيل اليمانيّ"، الذي لا يمكن أن يلتقي بالثُّريّا، بما هذه الأخيرة رمز شآميّ مقابل رمز يمانيّ، وأنثى تكامليّة مع ذَكَر، لكن كلاًّ منهما في اتجاه، نكاحهما مستحيل، كاستحالة أن يكون اليَمَن شامًا، والشام يمنًا، في بنية وطنٍ واحد غيرِ واحد، وظروف جسدٍ فَرْدٍ لا تلتقي أطرافه. وتلك هي الأبعاد التي ستنشغل بها مضامين النصّ.
وفي نصّ "الغيمة الرصاصيّة" نقرأ نموذجًا آخر من نموذجات (القصيدة-الرواية)، يضاهئ "الحزام"، لأبي دهمان، و"سقف الكفاية"، لمحمّد حسن علوان. بل إن "الغيمة الرصاصيّة" ليكاد أن يبثّ القارئَ الأجواء ذاتها التي تبثّها إليه قصائد معيّنة من شعر الدُّميني، ولاسيما قصيدته "يمامة على جداريّة الأزمة"، أو "غيمة لي وقميصٌ لفتنتها"، من مجموعته الشعريّة "بياض الأزمنة"(7). فمن أجواء النَّصّ الأول وُصُوله إلى القول:

بغداد كيف أفرُّ من هلعي عليكِ
واسيتُ جرحكِ حين غرّبكِ الزمانُ،
وكنتُ أملأ بابكِ المائيَّ
بالأعراس والحلوَى
وأجلو ساعديكِ
ما مرّ فوق عرائش الليمونِ إلاّ وجهكِ العربيّ، يا بغداد
هل هانت لديكِ
أرواح من نَفَقُوا على سواد الجبال
أحزان من حملوا إلى باب "المعظّم"
عرش أسراهم، وقتلاهم،
وغُصّة كل بيت؟
أرأيت فاجعة الكويت!
لا حلّ إلاّ من يديك
لا حلّ إلاّ من يديك
فتسوّري وجه الفرات إلى مخادعهم
وخوني قاتليك(8)

وفي النصّ الآخر، بعنوان "غيمة لي وقميص لفتنتها"، نقف على ثلاثة عناوين لثلاثة أجزاء، هي: "فجر الاثنين"، "مساء الأحد"، "صباح الجمعة". في رمزيّة زمنيّة عدديّة يتنامَى النصّ فيها بين الزوجيّ والفرديّ والجمع، في إشارة إلى هاجسَي الفراق والأمل في العودة؛ فالمدينة- كما يقول في "فجر الاثنين"(9)-:

غارقةٌ في هواء من القار،
غائبةٌ في حضورٍ من النار
تهائهة في الهويّة والاهتواء
...

فيما يقول في "مساء الأحد"(10):

وأسلمتُ لله أمرَ المدينة مذبوحةً دون ذنبٍ سوى حزنها، ...

ويبزغ الوطن في "صباح الجمعة"(11):

(ولي وطـنٌ) قاسَمتُه فتنة الهوَى
ونافحتُ عن بطحـائه من يقاتـلُهْ
إذا ما سقاني الغيث رطباً من الحيا
تنفّس صبحُ الخيل وانهـلّ وابلُـهْ
وإن مسّني قـهرٌ تلمّستُ بـابَـهُ
فتورق في قـلبي بُروقاً قـبائـلُهْ
تمسّكت من خـوفٍ عليه بأمـّتي
وأشهرتُ سيفَ الحُبّ هذي قوافلُهْ

وهذان النصّان الشعريّان- "يمامة على جداريّة الأزمة"، و"غيمة لي وقميصٌ لفتنتها"- مؤرّخان بتأريخ تلك الأزمة، فالنصّ الأول بتأريخ 27/ 10/ 1990، (الظهران)، والنصّ الآخر مؤرّخ: بين يناير ويوليو من عام 1991. فيما جاء نشر "الغيمة الرصاصيّة" متأخّرًا، بطبيعة الحال، إلى 1998. لكنه نصٌّ يلوب على هذه الرموز، والهموم، وإنْ بطريقة أكثر إيغالاً في غموضها، وإبعادها عن الاحتمالات المباشرة للقراءة.
وفي المقال التالي نواصل القراءة في "الغيمة الرصاصيّة".

aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة).
(2) (2001)، (بيروت: دار الساقي).
(3) الغيمة الرصاصيّة، 120.
(4) م.ن.، 150.
(5) (1992)، ديوان عمر بن أبي ربيعة، عناية: فايز محمد (بيروت: دار الكتاب العربي)، ص397: 3- 4.
(6) يُنظر: ابن قتيبة، (1956)، كتاب الأنواء ( في مواسم العرب)، (حيدر آباد الدكن: مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية)، 152- 157؛ الصوفي، أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر الرازي، (1954)، كتاب صور الكواكب الثمانية والأربعين، (حيدر آباد الدكن: دائرة المعارف العثمانية)، 288- 289؛ المعرّي، (1986- 1987)، شُروح سَقْط الزَّنْد، تح. مصطفى السقّا وعبد الرحيم محمود.. وآخرين، بإشراف: طه حسين (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب)، [مصوّرة عن نسخة دار الكتب، سنة 1945م]، 658- 659؛ وابن منظور، (د. ت)، لسان العرب المحيط، إعداد وتصنيف: يوسف خيّاط (بيروت: دار لسان العرب)، (سهل).
(7) (1999)، (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة)، 63، 89.
(8) م.ن.، 73- 74.
(9) م.ن.، 90.
(10) م.ن.، 92.
(11) م.ن.، 96- 97.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملحق "الأربعاء"، صحيفة "المدينة"- السعوديّة، الأربعاء 12 ربيع الآخر 1430هـ= 8 إبريل 2009 م، ص 8.
http://al-madina.com/node/125561/arbeaa




شكراً لزيارتك هذه الصفحة!

جميع الحقوق محفوظة ©