موقع القدس


الصفحة الرئيسية لموقع القدس
تاريخ القدس القديم |  قبل الإسلام |  الرومان والقدس |  منذ الفتح الإسلامي |  عهد الأمويين |  عهد الفاطميين |  الإحتلال الصليبي
عهد الأيوبيين |  عهد المماليك |  عهد العثمانيين |  العهد العباسي |  عهد الطولونيين |  الإحتلال البريطاني |  الإحتلال الصهيوني
الصحابة |  علماء وزهاد |  مؤرخون ورحالة |  نساء |  أدباء |  شخصيات فلسطينية وعربية
القدس في التاريخ |  مكانة القدس |  الموقع الفلكي |  كنيسة القيامة |  موقف العرب |  المقاومة |  برنامج القدس
دعم أمريكا لإسرائيل |  القضية الفلسطينية في قرنين |  إحصائيات عن اليهود |  الصهيونية
العهدة العمرية واللورد بالمرستون ونابليون والبيع لليهود ورد الشريف حسن ووعد برلفور
صور القدس 1 |  صور القدس 2 |  صور القدس 3 |  صور القدس 4 |  صور القدس 5 |  مواقع

 

1- إبراهيم بن أدهم:

 

هو إبراهيم بن أدهم بن منصور، التميمي البَلْخِيّ، أبو إسحاق: أحد الزهاد العبّاد. كان أبوه من أغنياء بَلْخ، فترك إبراهيمُ ذلك، ورحل إلى بغداد، فتفقه، وجال في العراق والشام والحجاز، وأخذ عن كثير من علمائها.

وكان يعيش من العمل بالحصاد وحفظ البساتين والحمل والطحن، ويشترك مع الغزاة في قتال الروم. وجاءه إلى المصيصة (من ثغور الشام) عبدٌ لأبيه يحمل إليه عشرة آلاف درهم، ويخبره أن أباه قد مات في بَلْخ وخلف له مالاً عظيمًا، فأَعتق العبد ووهبه الدراهم ولم يعبأ بمال أبيه.

وكان يلبس في الشتاء فروًا لا قميص تحته، ولا يتعمم في الصيف، يصوم في السفر والإقامة، وينطق بالعربية الفصحى لا يلحن. وكان إذا حضر مجلس سفيان الثوري وهو يعظ أوجز سفيان في كلامه مخافة أن يَزِلَّ.

أخباره كثيرة، وهو من العبّاد الزهّاد الذين زاروا القدس، وأقاموا زمنًا بين ربوعها.

الراجح أنه مات ودفن في حصن من بلاد الروم، كما في تاريخ ابن عساكر. وذلك سنة 161هـ ـ 778م.

 

2- أُوَيْس القَرَنِيّ

هو أُوَيْس بن عامر القَرَني اليمنيّ؛ من مراد ثم من بني قَرَن، ذكره الرسولُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخير، وأثْنى عليه دون أن يراه، وعَدَّهُ من خير التابعين، ممن لو أقسم على الله لأَبَرَّهُ.

رَوَى مسلم في صحيحه، عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَفَدُوا إِلَى عُمَرَ وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنَ الْقَرَنِيِّينَ؟ فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدْ قَالَ: إِنَّ رَجُلا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ لا يَدَعُ بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ فَدَعَا اللهَ فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ إِلا مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ.

 

عَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ: أَفِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ، فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَانَ بِكَ بَرَصٌ فَبَرَأْتَ مِنْهُ إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ. فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ، قَالَ: أَلا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا؟ قَالَ: أَكُونُ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرَ، فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ، قَالَ: تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ قَلِيلَ الْمَتَاعِ، قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ، فَأَتَى أُوَيْسًا، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفَرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: لَقِيتَ عُمَرَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ، فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ. قَالَ أُسَيْرٌ: وَكَسَوْتُهُ بُرْدَةً، فَكَانَ كُلَّمَا رَآهُ إِنْسَانٌ قَالَ: مِنْ أَيْنَ لأُوَيْسٍ هَذِهِ الْبُرْدَةُ!

 

كان أويس القَرَنِيّ من خير التابعين الذين دخلوا بيت المقدس، وصلَّوْا فيه، ورُوي أنه أتَى بيت المقدس عامَ حَجَّ ولقي عُمر.

 

وفاته:

يقال: إن أويسًا لَقِيَ عمرَ بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في موسم الحج، فقال: قد حججتُ واعتمرتُ وصليتُ في مسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووددتُ أنْ صليتُ في المسجد الأقصى، فجهّزه عمر فأحْسَنَ جهازَه، فأتى أويس المسجدَ الأقصى، فصلى فيه، ثم أتى الكوفة، وخرج غازيا راجلا إلى ثغر أرمينيّة فأصابه مرض في البطن فالْتجأ إلى أهل خيمتِه، فمات عندهم. وقيل غير ذلك.

 

3- ذو النون المصري:

هو ثوبان بن إبراهيم الإخميمي المصري، أبو الفيّاض، أو أبو الفيض: من أهل مصر، نوبي الأصل، من الموالي. وهو أحد الزُّهّاد العُبّاد المشهورين الذين رحلوا إلى القدس فأقاموا فيها حينًا. كانت له فصاحة وحكمة وشعر. وهو أول مَنْ تكلم بمصر في "ترتيب الأحوال ومقامات أهل الولاية"، فأنكر عليه عبد الله بن عبد الحكم، واتهمه المتوكل العباسي بالزندقة، فاستحضره إليه وسمع كلامه، ثم أطلقه، فعاد إلى مصر. وتوفي بالجِيزَة سنة 245هـ ـ 859م.

 

4- رابعة العدوية:

هي رابعة بنت إسماعيل العدوية، أم الخير، مولاة آل عتيك، البصرية: صالحة مشهورة، من أهل البصرة، ومولدها بها. لها أخبار في العبادة والنسك، ولها شعر، من كلامها: "اكتموا حسناتكم كما تكتمون سيئاتكم".

 

زارت القدس، وتوفيت بها، قال ابن خلّكان: "وقبرها يزار، وهو بظاهر القدس من شرقِيِّه، على رأس جبل يسمى الطور".

 

وفاتها:

قال ابن خلكان: "وفاتها سنة 135هـ كما في شذور العقود لابن الجوزي.

 

5- رجاء بن حَيْوَة

هو أبو المِقْدَام رجاءُ بن حَيْوَة بن جَرْول الكِنْدِيّ، كنيته أبو نصر، وُلد في بَيْسانَ من أرض فلسطين أواخر خلافة عثمانَ بن عفان، وينتمي إلى قبيلة كِنْدَةَ العربية اليمنية، وكان تابعيًا زاهدًا عابدًا، أقبل على العلم منذ حداثة سِنّه حتى صار فقيهًا راجحَ العقل، صادق اللهجة، حكيمًا في معالجة الأمور.

رَوَى عن طائفة من كبار الصحابة، كأبي سعيد الخدري، وأبي الدرداء، وأبي أُمامة الباهلي، وعُبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والنواس بن سمعان، وغيرهم.

قال عنه مَسلمة بن عبد الملك بن مروان المجاهد العالم: "إن في كِنْدَةَ لثلاثةَ رجال يُنزل الله بهم الغيث، ويَنصر بهم على الأعداء، أحدهم: رجاء بن حَيْوَة".

 

قضى رجاء جزءا من طفولته في خلافة عثمان، وصار غلامًا في خلافة عليّ، حتى آلَ الأمرُ إلى معاوية، وبذلك عاصر التحولات التي جرت في أواخر حكم الراشدين وانتقال الأمر إلى بني أمية.

وتولى الوزارة  التي لم تكن حينها منصبا رسميا - في عهد طائفة من خلفاء بني أمية، بدءًا بعبد الملك بن مروان، وانتهاءً بعمر بن عبد العزيز، وإذْ ساقَتْه الأقدار إلى ذلك، فقد نصح ووجه، وكانت له اليد الطولى في تولية الأمير الصالح عمر بنِ عبد العزيز الخلافة.

ومع أن رجاء بن حيوة لم يُعْرَف أنه شارك في فتوح الهند والسند والأندلس بنفسه  إلا أنه كان قريبا جدًا من الخلافة في دمشق، حيث الإعداد للحروب والفتوح.

 

كان رجاء بن حيوة عند عبد الملك بن مروان يومًا، وقد ذُكر رجلٌ بسوء طويّته، وذَكر الواشي ما أثار حفيظة الخليفة، فأقسم الخليفة لئن أمكنه الله منه ليفعلن به وليفعلن، ثم لَيَضْرِبَنَّ عنقَه بالسيف. ثم انقضت الأيام، وجاء يوم تمكّن فيه عبد الملك من ذلك الرجل، فلما وقعت عليه عيناه هَمّ بإنفاذ وعيده، فقام إليه رجاء بن حَيْوَة وقال: يا أمير المؤمنين، إن الله ـ عز وجل ـ قد صنع لك ما تحبه من القدرة، فاصنع لله ما يحبه من العفو. فعفا أمير المؤمنين عن الرجل، وأحْسَنَ إليه.

ولرجاء مع سليمان بن عبد الملك مواقف كثيرة وعظيمة، أعظمها على الإطلاق موقفُه من أمر ولاية العهد، وأثرُه في البيعة لعمر بن عبد العزيز.

 

كان رجاء بن حيوة أحدَ رجلين وُكِلَتْ إليهما مهمة تشييد مسجد قبة الصخرة، حين استدعاهما أميرُ المؤمنين عبد الملك بن مروان وجمع لهما أمهرَ الصُّنَّاع، وبَنَى شرقيَّ الصخرة بيتًا للمال، وشحنه بالأموال، ووكل أمر التشييد والإنفاق إلى التابِعِيَّيْن الجليلَيْن: رجـاء بن حيوة، ويزيد بن سلام، وخَوّلهما إفراغَ المال على المسجد وقبته إفراغًا، فشيدا بناءً هندسيًا بديعًا، وأحْكَمَا عمارتَه.

 

وفاته:

توفي التابعي الجليل رجاء بن حيوة عام مائة واثنتي عشرة من الهجرة (112هـ)، بعد حياة حافلة بعطاءٍ جزيل.

 

6- روحي الخالدي:

هو روحي بن محمد بن ياسين بن محمد الخالدي، باحث فلسطيني من رجال السياسة، ولد عام 1281هـ ـ 1864م بمدينة القدس، ونشأ فيها، وتعلم في مدارس فلسطين ثم في الآستانة، ورحل إلى باريس فالتحق بمدرسة العلوم السياسية فأتمّ دروسها، ثم درس فلسفة العلوم الإسلامية والشرقية في جامعة السوربون. وصار محاضرًا عربيًا اتصل بعلماء المشرقيات وأقيم مدرسا في جمعية نشر اللغات الأجنبية بباريس، وكان من أعضاء مؤتمر المستشرقين المنعقد بباريس سنة 1897م، وعاد إلى الآستانة فعين "قنصلاً عامًا" في مدينة بوردو بفرنسا. كانت له تصانيف كثيرة، منها: "العالم الإسلامي"، نَشَرَ منه قسمًا كبيرًا في جريدة المؤيد المصرية، و"علم الأدب عند الإفرنج والعرب"، و "أسباب الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة" نشر في مجلة الهلال، و"رحلة إلى الأندلس"، و"المسألة الشرقية"، و"علم الألسنة" في مقابلة اللغات، و "تاريخ الصهيونية"، كلاهما في المكتبة الخالدية بالقدس، و"الكيمياء عند العرب".

 

كان روحي الخالدي مقدسيًّا، ولد في القدس، ونشأ بها، ولما أُعلن الدستور العثماني، انتخبه أهل القدس نائبا عنهم في مجلس "المبعوثان"، وكانت وفاته هناك في القدس.

 

وفاته:

بعد حياة مليئة بالبحث والدراسة والتصنيف توفي الخالدي في عام 1331 هـ ـ 1913م في القدس.

 

7- محيي الدين ابن الزَكي:

هو أبو المعالي محمد، ابنُ أبي الحسن علي، بن محمد أبي المعالي مجد الدين، ابن يحيى، أبي الفضل، يرتفع نسبه إلى عثمان بن عفان أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه، لُقِّب بمحيي الدين، وعُرِف بابن زكِيّ الدين، الدمشقيُّ، الفقيه الشافعي.

ولد بدمشق سنة 550هـ (خمسين وخمسمائة للهجرة)، وكان أبوه زكي الدين أبو الحسن على القضاء بدمشق فاستعفَى، ثم توفي ببغداد سنة 564هـ ، وكذلك كان جده وجَدُّ أبيه من قُضَاتِها.

وقد نال الشيخ محيي الدين بن الزكيّ من الفقه والأدب ما أهَّله لولاية القضاء، فإنه لما فتح السلطان صلاح الدين حلب، فَوَّضَ إليه الحكم والقضاء فيها سنة 579هـ. وفي يوم الأربعاء العشرين من شهر ربيع الأول سنة 588هـ ـ تولى قضاءَ دمشق، وَفْقَ ما قال القاضي الفاضل.

 

كانت لابن زكي الدين عند السلطان صلاح الدين الأيوبي ـ رحمه الله تعالى ـ المنزلةُ العالية، والمكانة المكينة؛ لما له من فضل وعلم ودين وفقه وأدب، ولمّا فتح السلطان الناصر مدينة حلب يوم السبت 18 صفر سنة 579هـ، أنشده القاضي ابنُ الزَّكِيِّ قصيدة بائية أجاد فيها كل الإجادة، منها قوله:

وفتْحُك القلعةَ الشهباءَ في صفر

مُبشر بفتوح القدس في رجب

وتحقق ما بشر به ابن الزكي وفتح السلطان صلاح الدين القدسَ في رجب سنة 583هـ، وسئل القاضي عن بشارته، فقال: أخذتُها من تفسير ابن برّجان في قوله ـ تعالى: (ألم. غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون. في بضع سنين)؛ فقد جاء في تفسير أبي الحكم الأندلسي "ابن برّجان" لأول سورة الروم أخبارٌ عن فتح بيت المقدس، وأنه يُنزع من أيدي النصارى سنة 583هـ. قال السخاوي: ولم أره أخذ ذلك من علم الحروف، وإنما أخذه فيما زعم من قوله تعالى: (ألم. غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين)، فبنى الأمر على التاريخ كما يفعل المنجمون، فذكر أنهم يَغلبون في سنة كذا وكذا، ويُغلبون في سنة كذا وكذا، على ما تقتضيه دوائر التقدير، ثم قال: وهذه نَجَابةٌ وافقتْ إصابةً، إن صح. قال ذلك قبل وقوعه، وكان في كتابه قبل حدوثه، قال: وليس هذا من قبيل علم الحروف، ولا من باب الكرامات والمكاشفات، ولا يُنال في حساب.

 

كان إجلال صلاح الدين لمحيي الدين ابن الزكِيّ كبيرا، وحين جاء يوم الفتح العظيم للقدس الشريف لثلاثٍ بَقِينَ من رجب سنة 583هـ، ولم يتمكن المسلمون أول جمعة بعد الفتح من الصلاة ـ تطلع إلى الخطبة في الجمعة التالية كل مَنْ كان حاضرًا من العلماء؛ طمعًا في نوال شرف إلقاء أول خطبة بالمسجد الأقصى بعد استخلاص المدينة المباركة من الصليبيين، حتى خرج مرسوم من السلطان صلاح الدين يعين للخطبة القاضي محيي الدين ابن الزكي، فخُصَّ هذا الرجل بما خلد ذكرَه وزاده علوًا ورفعة، فحضر السلطان وأعيان الدولة، ورقَى القاضي منبر الأقصى، وخطب خطبة بليغة استفتحها بجميع تحميدات القرآن الكريم، ثم ختم خطبتَيْه بالدعاء للخليفة الناصر العباسي، ثم للسلطان الناصر صلاح الدين. واستمر يخطب بالناس في أيام الجُمَع، ثم انتقل إلى دمشق.

 

وفاته:

في سابع شعبان سنة 598هـ، توفي ابن الزكيّ بدمشق ودُفن من يومه بسفح جبل قاسيون ـ رحمه الله تعالى.

 

8- سِبْط ابن الجوزي:

هو يوسف بن قز أوغلي ـ وهو لفظ تركي معناه ابن البنت، أي : السِّبْط ـ ابن عبد الله، أبو المظفر، شمس الدين، سبط أبي الفرج ابن الجوزي المؤرخٌ الكاتب الواعظ.

وُلد يوسف ببغداد سنة 581هـ ـ 1185م ونشأ بها، ورباه جده. وانتقل إلى دمشق فاستوطنها، وصنف كتبًا عديدة، منها: "مرآة الزمان في تاريخ الأعيان"، و "تذكرة خَوَاصّ الأمة بذكر خصائص الأئمة"، و"منتهى السول في سيرة الرسول"، و"مناقب أبي حنيفة"، و"شرح الجامع الكبير" في الحديث، و"إيثار الإنصاف في آثار الخلاف" في الفقه على المذاهب الأربعة.

توفي بدمشق سنة 654هـ ـ 1256م.

 

9- السَّرِيّ السَّقطي:

هو سرِيّ بن المغلِّس السَّقَطِي، كنيته أبو الحسن: من كبار الزهاد. بغدادي المولد والوفاة. وهو أول مَنْ تكلم في بغداد بلسان التوحيد وأحوال الصوفية، وكان إمام البغداديين وشيخَهم في وقته، وهو خال الجُنيْد وأستاذُه. قال الجنيد: ما رأيت أعْبَدَ من السَّرِيّ، أتت عليه ثمانٍ وتسعون سنةً ما رُئِيَ مضطجعًا إلا في علة الموت. من كلامه: "مَنْ عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعْجَزَ". أقام في رحاب القدس حينًا، وكانت وفاته في بغداد سنة 253هـ ـ 867م.

 

10- سفيان الثوري:

هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، من بني ثور بن عبد مناة، من مُضر، كنيته أبو عبدالله: رقَى في أخذ الحديث حتى حاز درجة أمير المؤمنين فيه، وكان سيدَ أهل زمانه في علوم الدين والتقوى، وهو ممن زاروا القدس وصلوا في مسجدها، بل إنه ختم القرآن في قبة الصخرة. وُلد في الكوفة سنة 97هـ ـ 716م، ونشأ بها، واستدعاه المنصور ليوليه القضاء، فأبى. وخرج من الكوفة سنة 144هـ، فسكن مكة ثم المدينة. وأكرهه المهدي على تولي القضاء، فَفَرَّ وتوارَى. وانتقل إلى البصرة ، فمات فيها مستخفيًا، سنة 161هـ ـ 778م.

له من الكتب في الحديث: "الجامع الكبير"، و "الجامع الصغير". وله كتاب في "الفرائض"، وكان آيةً في الحفظ، ومن كلامه: "ما حفظت شيئًا فنسيتُه". ولابن الجوزي كتاب في مناقبه.

 

11- محمد بن إدريس الشافعي:

هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافعٍ الهاشميُّ القرشي، كنيته أبو عبد الله: أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة، وعالِمُ قريشٍ الذي ملأ طِباق الأرض علمًا، وإليه نسبة الشافعية كافّة.

وُلد في غَزَّة بفلسطين سنة 150هـ ـ 767م، ومات أبوه صغيرا فنشأ محمد يتيمًا، وحملتْه أمه إلى مكة وهو ابن سنتين؛ لتُعينه على طلب العلم. وزار القدس فأقام في رحابها حينًا، وزار بغداد مرتين. ورحل إلى مصر سنة 199هـ، فأقام بها حتى وفاته، قال المبرد: كان الشافعي أشعرَ الناس وآدبَهم، وأعرفَهم بالفقه والقراءات.

وإلى الشافعي يرجع الفضل في تأسيس علم أصول الفقه، وله فيه كتاب "الرسالة". وقال الإمام أحمد بن حنبل: ما أحد ممن بيده محبرة أو ورق إلا وللشافعي في رقبته مِنَّة.

وكان من أحذق قريش بالرمي، يصيب من العشرة عشرة، برع في ذلك أولاً كما برع في الشعر واللغة وأيام العرب، ثم أقبل على الفقه والحديث، وأفتى وهو ابن عشرين سنة. وكان ذكيًا مُفْرِط الذكاء. له تصانيف كثيرة، أشهرها كتاب "الأم" في الفقه، و"أحكام القرآن"، و"الرسالة" في أصول الفقه، و"اختلاف الحديث"، ولابن حجر العسقلاني "توالي التأسيس بمعالي ابن إدريس" في سيرة الشافعي.

توفي بمصر سنة 204هـ ـ 820م، وقبره معروف بالقاهرة.

 

12- ضياء الدين المقدسي:

هو أبو عبد الله بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل بن منصور، السعدي المقدسي.

وُلد في جمادَى الآخِرة سنة 569 للهجرة في دمشقَ، وطلب فيها العلم، وتنقل بين أمصار العالم الإسلامي ومدنِه،؛ مثل بغداد ومصر وأصْبَهان وهمْدان ونيسابور وهراه ومَرْو، وطلب العلمَ على يد المشايخ، حتى قيل: إنه كَتَبَ عن أكثرَ من خمسمائة شيخ. وكُتِبَ عنه العلمُ في بغداد ونيسابور ودمشق، ووصفه أهلُ العلم بأنه: "حافظٌ مُتقنٌ ثبْتٌ ثقةٌ صَدوقٌ نبيلٌ حجةٌ عالمٌ بالحديث وأحوالِ الرجال".

 

أهم ما يميز عصر الضياء المقدسي هو موجات الاعتداءات والحملات الوحشية التي شَنّها الصليبيون والتتار على ديار العالم الإسلامي، وكان الرجل في الرابعة عشرة من عمره حين هَزَمَ صلاحُ الدين الصليبيين في حِطِّين، وحرر بيت المقدس من أيديهم.

وقد عاصر ضياء الدين المقدسي الأزماتِ الكبيرةَ التي دخل فيها البيت الأيوبيّ بعد صلاح الدين، والصراعَ المريرَ بين الأيوبيين والصليبيين .

 

يصرّح المؤرخون بأن ضياء الدين رجل "مجاهد في سبيل الله"، وكان مجال الجهاد حينئذٍ ضد الصليبيين الذين شنوا حربًا لا هَوَادَةَ فيها على المسلمين.

وأضاف إلى الجهاد بالسيف جهادَه في نشر العلم والتصنيف فيه، وأشهرُ مُصَنَّفَاتِه "الأحاديث المختارة"؛ وهو المصنَّفُ الذي يُكثر العلماءُ الثناءَ عليه والاستشهادَ به، فيقولون: ذكره الضياء في المختارةِ، وقال الضياء في المختارةِ.. وقد فَضَّلَ المختارةَ على صحيح الحاكم وصحيح ابنِ حبّان أكثرُ من عالِمٍ ـ منهم ابن تيمية.

 

ترجع أصولُ أسرةِ الضياء إلى بيت المقدس، وتُنسب إلى هذه المدينة المقدسة، غير أنها نَزَحَتْ من هناك إلى دمشق، وقد ألف ضياءُ الدين نفسُه كتابًا نفيسًا من عشرة أجزاء عنوانه: "سبب هجرة المقادسة إلى دمشق، وكرامات مشايخِهم".

ويُذكر اسمُ الشيخ في المجاهدين، ولم يكن في هذا الزمن مجال للجهاد بالسيف في بلاد الشام سوى جهاد الصليبيين، الذين عاصر الضياءُ المقدسيُّ تحريرَ القدس من أيديهم ثلاث مرات؛ سنة 583 هـ على يد صلاح الدين، وسنة 637 هـ بقيادة الناصر داود، وسنة 642 هـ على يد الملك الصالح نجم الدين أيوب ـ ومن الراجح جدًا أن يكون الشيخ شارك في بعض هذه الأعمال على الأقل.

 

وفاته:

تُوفي الشيخُ ضياءُ الدين المقدسيّ في مثل الشهر الذي وُلد فيه (جمادى الآخرة)، وذلك سنة 643 هـ، ودُفن في دمشق.

 

13- عبد الحميد السَّائح

هو الشيخ عبد الحميد بن عبد الحليم بن محمد بن عثمان السائح. وُلد في الثاني والعشرين من مارس عام 1907م في مدينة نابلس بفلسطين. كان والده رجلاً متدينًا، وكان يصطحب عبد الحميد وأخاه الأكبر إلى المسجد الكبير في نابلس والمعروف باسم المسجد الصلاحي، نسبةً إلى صلاح الدين الأيوبي.

ويقول الشيخ عبد الحميد عن نفسه: "منذ حداثة سني ـ أي ما بعد السابعة من عمري.. لا أَذكر أني تساهلت في تأدية صلواتي وصيام رمضان ـ والحمد لله ـ لا في سفر ولا في حضر".

حفظ الشيخ القرآن الكريم وهو في سن الحادية عشرة، ودرس المرحلة الثانوية في المدرسة الرشادية الشرقية ـ التي سميت فيما بعد: الصلاحية ـ نسبة إلى القائد صلاح الدين الأيوبي، ومن أساتذته الذين تأثر بهم كثيرًا في هذه المرحلة الشيخ سليمان الشرابي الذي شمله بعطفه وتوسّم فيه الخير، وكان ما زال في ذات الوقت يتابع حضور حلقات التدريس في المساجد.

وكان قد تعلّم في المدرسة مبادئ اللغة التركية ـ وذلك ضمن خطة الدولة العثمانية التي سعت إلى تتريك العرب ـ إلا أنه نسيها بعد ذلك لعدم الممارسة. وحينما هُزمت تركيا في الحرب العالمية الأولى واستولى البريطانيون على فلسطين أُلغيت اللغة التركية وحل تعليم الإنجليزية محلها.

وظل الشيخ عبد الحميد في المدرسة الصلاحية حتى أنهى الدراسة فيها بنجاح. وحينما تألفت لجنة من العلماء والوُجَهَاء برئاسة الشيخ أحمد البسطامي لاختيار عدد من الطلاب لإرسالهم في أول بعثة دراسية إلى الأزهر كان الشيخ عبد الحميد ممن وقع الاختيار عليهم. وفي الأزهر استفاد الشيخ عبد الحميد كثيرًا، خاصة من العلامة الشيخ المرحوم محمد بخيت المطيعي ـ مفتي الديار المصرية ـ وقد استمرت علاقته به حتى بعد عودته إلى فلسطين. ونال الشهادة الأهلية سنة 1923م، ثم شهادة العالمية سنة 1925م ، وحصل على شهادة تخصص الشريعة الإسلامية من مدرسة القضاء الشرعي سنة 1927م.

وبعدها مباشرة عاد إلى نابلس وعُين مدرسًا للغة العربية والدين بمدرسة النجاح الوطنية، ثم عُين قاضيًا في محكمة نابلس سنة 1935م. وخلال عمله في مدرسة النجاح والمحاكم الشرعية تزوج من ابنة خالته فضيلة بنت عبد الرحمن بكري يوم الأربعاء أول محرم سنة 1349هـ / 28 مايو سنة 1930م، وقد رُزق منها ثلاثة ذكور: قدري وأسامة وبسام، وثلاث بنات: نوال ونائلة وباسمة. وفي إبان الحرب العالمية الثانية التي أُعلنت في سبتمبر سنة 1939م عُين قاضيًا لمحكمة القدس الشرعية، وبقي في هذا المنصب إلى نهاية سنة 1945م حيث رُقي إلى وظيفة عضو في محكمة الاستئناف الشرعية.

 

قبل الانتداب البريطاني كانت بلاد الشام تابعة لحكومة الخلافة العثمانية، وكانت القدس متصرفيّة مستقلة تتبع الآستانة مباشرةً؛ لمكانتها الدينية. وفي الوقت نفسه كانت بريطانيا تعطي العرب وعودًا بنيل استقلالهم إذا ناصروها في الحرب العالمية الأولى، في حين أنها كانت تتقاسم المنطقة سرًا مع فرنسا في اتفاق (سايكس ـ بيكو) الذي وُقّع بين البلدين سنة 1916م، وظل سرًا حتى قامت الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917م وأذاعت الوثائق السرية، وفيها وعدٌ بريطانيٌّ لليهود بوطن قومي لهم في فلسطين.

وقمع الإنجليز بقوة كل ثورات العرب، وفرضوا عليهم ضرائب باهظة، بينما منحوا اليهود تسهيلات كبيرة للهجرة إلى فلسطين وتملك أرض العرب، كما قاموا بتسليحهم.

ومع زيادة امتلاك اليهود لأرض فلسطين عُقد مؤتمر في القدس في 26 يناير سنة 1935م برئاسة الحاج أمين الحسيني، ضم نحو خَمْسِمائة من علماء الدين الإسلامي والمُفْتِين والخطباء والأئمة والوعاظ، وكان منهم الشيخ عبد الحميد السائح، وانتهى هذا المؤتمر إلى إصدار فتوى مضمونها "أن بائع الأرض لليهود في فلسطين، سواء كان ذلك بالذات أو بواسطة، وكذا السمسار والمتوسط في البيع والمسهِّل له والمساعد عليه بأي شكل ـ كل أولئك ينبغي ألا يُصَلَّى عليهم إذا ماتوا، وألا يُدفنوا في مقابر المسلمين، ويجب نبذُهم ومقاطعتهم واحتقار شأنهم وعدم التقرب منهم".

وفي أواخر سنة 1938م أفصحت بريطانيا عن رغبتها في التخلِّي عن مشروع التقسيم ـ لجنة بيل ـ وأصدرت الحكومة البريطانية ما سُمي بالكتاب الأبيض لسنة 1939م، أعلن رئيس الوزراء البريطاني آنذاك أن شرف بريطانيا يرتبط بتنفيذ مضمون هذا الكتاب، سواء قَبِلَهُ الطرفان أو رفضاه. وقد اعترفت بريطانيا في هذا الكتاب الأبيض بحق فلسطين في الاستقلال بعد عشرة أعوام من الحكم الذاتي، وفي أن ترتبط هذه الدولة بمعاهدة مع بريطانيا، كما أعلنت فيه بصورة حاسمة أنه ليس من سياستها أن تصبح فلسطين دولةً يهوديةً، ولا أن تتحول إلى دولة عربية، بل أن تصبح دولةً مستقلةً يتقاسم العرب واليهود فيها السلطة على نحو يصون مصالح الطرفين.

وما إن شعرت الصهيونية العالمية بأن الكتاب يعني أن لا تقوم دولة لليهود في فلسطين، حتى تحركت وبدأت تنتظر أن تنفذ الولايات المتحدة الأمريكية مخططاتها، أما العرب فرفضوا الكتاب، ومنهم الحاج أمين الحسيني؛ لأنه لم يُلَبِّ طموحاتهم، وكان الشيخ عبد الحميد السائح يرى أنه من الأصوب قبولُه على قاعدة خُذْ وطالِبْ.

وصدر قرار التقسيم سنة 1947، وألغى البريطانيون انتدابهم على فلسطين، ورحلوا عنها في مايو من عام 1948، فأعلن اليهود قيام دولتهم على التراب الفلسطيني، وهو أمر لم تستطع المقاومة ولا الجيوش العربية المشارِكة في حرب 1948 الحيلولة دونه.

منذ تلك اللحظة بقيت مشكلة وجود دولة إسرائيل في الوسط العربي قضية القضايا التي تشغل كثيرا من دول العالم والمنظمات الدولية، وتضفي على أجواء السياسة العالمية طابع الصراع والتنافس، خاصة بعد وقوع الحرب بين أطراف عربية وبين إسرائيل في سنوات 1956 و1967 و1973.

وفي نهاية عقدِ الستينيات كَثُرَ الحديث بشأن حل سلمي للقضية الفلسطينية، ومنها مشروع وزير الخارجية الأمريكي روجرز، لكن العرب لم يعلنوا عن أي استجابة لذلك في أجواء هزيمة 5 يونيه المُرة. وجاءت زيارة السادات للقدس بعد حرب أكتوبر بقرابة أربع سنوات ليبدأ مسار جديد من العلاقة بين العرب وإسرائيل، وإن لم يحُل ذلك دون اعتداء اليهود على لبنان عام 1982، وضربها لبعض الأهداف والمنشآت العربية في بغداد وتونس وغيرهما.

 

مثل الشيخ عبد الحميد السائح النموذج الإسلامي النقي، وقد كانت حياته تسير في خَطَّيْن: خط عمله الوقور كقاضٍ يحكم بين الناس بالعدل، وخط انخراطه في الجهاد مع مجاهدي القضية الفلسطينية.

في البداية شارك في التظاهرات التي كان يقوم بها طلاب الأزهر، ويخطط لها علماؤه والقيادات الشعبية والطلابية ضد القوات الإنجليزية التي كانت تحتل مصر آنذاك، وفي إحدى المرات قبضت عليه الشرطة وقضى شهرًا في السجن.

كما شارك في العديد من المؤتمرات واللقاءات التي كانت تنبه العالم العربي والإسلامي إلى خطر الصهيونية، ليس على فلسطين فقط، ولكن على الدول العربية والإسلامية جميعها، بدءًا من مؤتمر القدس الذي عقد في يناير سنة 1935م، وطوال حياته الحافلة بالجليل المشرف إلى أن استقال من رئاسة المجلس الوطني الفلسطيني.

وفي سبتمبر سنة 1937م عقب اغتيال أندروز؛ حاكم لواء الجليل آنذاك ـ قامت السلطات البريطانية بالقبض على الشيخ عبد الحميد السائح، وكان وقتها يعمل قاضيًا في نابلس، واعتقلته في مزرعة عكا، وبعد ستة أشهر من الاعتقال استدعاه مدير المعتقل ليخبره بقرار عزله من القضاء من قِبَلِ المندوب السامي، فاستقبل هذا الخبر بروح طيبة شجاعة قائلاً: إنه على استعداد للتضحية بروحه في سبيل وطنه فكيف بوظيفته!! وبعد ثلاثة أشهر من قرار العزل أبلغه مدير المعتقل أن المندوب السامي قرر إطلاق سراحه على أن يختار بلدًا يُنفَى إليه غيرَ البلد الذي كان يقطنه ويعمل فيه (نابلس)، فاختار مدينة رام الله.

وبعد عام واحد من إقامته في المنفى وافق المندوب السامي على عودته إلى العمل ولكن نظرًا لعدم وجود مركز قضائي شاغر فقد عمل سكرتيرًا عامًا للمجلس الإسلامي الأعلى، ومهمة هذا المجلس هي الإشراف على المحاكم الشرعية والأوقاف الإسلامية، وفي هذه الوظيفة قدّم الشيخ السائح إلى المناضلين الخدمات الكثيرة، وألحق عددًا منهم بوظائف في أقسام المجلس الإسلامي الأعلى، وقد بقي في هذه الوظيفة حتى نهاية سنة 1940م حيث عُين قاضيًا شرعيًا في القدس من بداية سنة 1941م حتى نهاية سنة 1945م فرقي إلى عضو في محكمة الاستئناف الشرعية.

وبعد صدور قرار التقسيم سنة 1947م شارك الشيخ عبد الحميد السائح في جمع الأموال لشراء الأسلحة للثوار، كما اشترى لنفسه سلاحا وتدرب عليه؛ إذْ كان يعتقد أن لكل فرد دورًا في المعركة، وهو على الأقل حماية نفسه وعائلته، والقتال إذا سمحت الأوضاع، وقد كان يشتري السلاح من بعض التجار ومن البلاد المجاورة، بل من اليهود أنفسهم.

وفي سنة 1955م ـ حينما نشطت بريطانيا لإنشاء حلف بغداد ـ كان الشيخ السائح يشغل منصب رئيس محكمة الاستئناف الشرعية، فأخذ يشارك في التوعية ضد الحلف الذي كان يوسع نفوذ بريطانيا في المنطقة، وحَرَّضَ الشعب على التظاهر وإعلان النقمة على الإنجليز مجازفًا بمصالحه ووظيفته في سبيل مصلحة بلاده، وأخذ يومئذ يغذي الحركات التي تناهض الحلف متعاونا مع الوطنيين في الضفتين الشرقية والغربية.

وبعد هزيمة سنة 1967م وصل إلى الشيخ السائح خبر بأن سلطات الاحتلال الإسرائيلي في سبيلها لوضع تشريع تستولي بمقتضاه على سجلات محكمة القدس الشرعية وسجلات الأوقاف وأعمالها، ويعني تنفيذ هذه الفكرة مصادرة جميع الوثائق التي تثبت علاقة الفلسطينيين بالقدس وبغير القدس من فلسطين؛ لأن نسبة كبيرة من أرض فلسطين أرض وقف إسلامي، كما أن تاريخ سجلات محكمة القدس الشرعية يبدأ من القرن الثامن الهجري، وهي المرجع الأهم في إثبات ملكية المسلمين وغيرهم، سواء في الوقفيات أو في غيرها؛ فقد بدأت سجلات المحكمة تسجيل العقود والوقفيات قبل إنشاء دائرة تسجيل الأراضي في فلسطين بمئات الأعوام.

وهنا ـ ولقطع الطريق أمام سلطات الاحتلال ـ أُعلن في يوليو من سنة 1967 إنشاء الهيئة الإسلامية العليا في القدس لرعاية الشئون الإسلامية في الضفة الغربية، بما فيها القدس، إلى أن يزول الاحتلال، وفُوِّض الشيخ عبد الحميد السائح ممارسة صلاحية قاضي القضاة في الضفة الغربية المنصوص عليها في التشريعات الأردنية. وكان لهذا البيان دَوِيُّه الهائل عربيًا وإسرائيليًا ودوليًا، وهو يعتبر باكورة حركة المقاومة الفلسطينية، حيث انهالت على الشيخ عرائض التأييد والمساندة.

وفي هذه الآونة حاولت سلطات الاحتلال بجميع الوسائل ترغيبًا وترهيبًا، أن تقنع الشيخ عبد الحميد السائح بضرورة أخذ موافقتها على القرارات والإجراءات التي تتخذها الهيئة الإسلامية فيما يتعلق بالشئون الإسلامية في المحاكم الشرعية والأوقاف، فكان رده دائمًا: إنهم سلطة احتلال وليس لهم حقوق السيادة، وإن كان هناك أي سبيل للحوار فليس قبل أن يتركوا البلاد ويسلموها لأصحابها.

وبعد محاولات متكررة معه وتصميمه على عدم الرضوخ لهم صدر قرار بإبعاده عن القدس وترحيله إلى عَمَّان بالأردنّ، فقُبض عليه في صباح يوم 25 من سبتمبر 1967م ورُحِّل إلى معتقل المسكوبية، حيث سُلِّم قرارَ الإبعاد الذي أصدره موشيه ديان ـ وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك ـ ومن المعتقل مباشرةً تم ترحيله إلى عَمَّان حيث استُقبل استقبالاً رائعًا، ونُقِل إلى مجلس الوزراء حيث تسلّم قرارًا من المجلس يقضي بضمه إلى الوفد الأردني في الأمم المتحدة، وبينما هو على أهبة السفر حدث أن استقالت الوزارة الأردنية وشُكلت وزارة جديدة فحِيلَ بينه وبين السفر، وعُيِّن وزيرًا للشئون الدينية والأماكن المقدسة في الوزارة الجديدة، وكانت سلطته تشمل الشؤون الدينية لغير المسلمين. وبعد ذلك أقنع الحكومة الأردنية بتعديل اسم الوزارة إلى وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية كما هو اسمها حتى الآن.

وفي عام 1970م عُيِّن قاضيًا للقضاة ووزيرًا للأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية مرة أخرى في شهر يونيو، وفي شهر سبتمبر من نفس العام أُقيلت الوزارة وقُبلت استقالات رئيس الوزراء والوزراء على الرغم من أنهم لم يقدموها.

وفي 22 من نوفمبر 1984م في افتتاح الدورة السابعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني تم ترشيح سماحة الشيخ عبد الحميد السائح رئيسًا للمجلس بإجماع الآراء، وقَبِلَ الترشيح هادفًا من موقعه إلى خدمة القضية الفلسطينية، وقام بزيارات عديدة إلى عدد من الدول تلبيةً لدعوات رسمية، وكانت فُرَصًا لعرض قضية فلسطين والتعريف بها.

وكان قد رشح في أوائل سنة 1981م ليكون من مؤسسي مجمع بحوث الحضارة الإسلامية، فلبَّى مقدِّرًا مسئوليته. كما مُنِح جائزة الملك فيصل العالمية في مجال الدراسات الإسلامية سنة 1405هـ/1985م. ورشح مستشارًا للبنك الإسلامي للتنمية والاستثمار في مارس سنة 1971م.

وقَبْلَ عَقْدِ المجلس الوطني الفلسطيني دورتَه العشرين في ربيع الأول 1412هـ / سبتمبر 1991م كانت القيادة الفلسطينية قد أجمعت على ترشيح الشيخ رئيسًا للمجلس في الدورة الجديدة، ورغم محاولاته إفساح المكان لآخرين إلا أنه تسلَّم الرئاسة في هذه الدورة، وفي سنة 1993م قدم استقالته من رئاسة المجلس مُرجعًا تلك الاستقالة إلى أسباب سياسية وصحية.

 

حينما كان الشيخ عبد الحميد السائح عضوًا في محكمة الاستئناف الشرعية اتصل به في أحد الأيام محافظ القدس ليبلغه رغبة الملك عبد الله في أن يُلقي الشيخ درسًا في المسجد الأقصى يوم الجمعة قبل الصلاة من كل أسبوع، فوافق وقال: أنا ألقي الدرس الأول ثم يلقي الشيخ عبد الملك غوشة الدرس في الأسبوع الذي يليه، وبعد أن وَفَّى الشيخ السائح بما وعد، وكذلك الشيخ غوشة في الأسبوع التالي، أظهر الملك إعجابَه بالدرسَيْنِ وأبلغ الشيخين بواسطة المحافظ أنه خصص لكليهما مبلغًا من المال، ولكن الشيخ السائح قال للمحافظ إنه لن يأخذ شيئًا؛ لأنه آلَى على نفسه ألا يَمد يده إلى أحد ولا إلى المَلِك؛ وحينما سأله الملك أمام بعض جلسائه: كيف ترد عطيَّتِي؟ أجابه بأنه غير محتاج ومُكْتَفٍ براتبه.

وحاول الملك أن يدفع له أموالاً لتوزيعها على المحتاجين، فقال له: إنه لا يحب أن تكون له أي علاقة بالمال؛ لأنه مَهْلَكة.

وحينما كان وزيرًا للأوقاف والشؤون الدينية في عَمّان عامي 1967م ـ 1968م أراد بعض الأفارقة المسلمين بعد أن حجوا بيت الله الحرام ـ أن يزوروا القدس والمسجد الأقصى، وحاولوا الحصول على إذنٍ من السلطات الأردنية فأحالتهم إليه، فأوضح لهم في فتوى صريحة أن زيارة القدس والمسجد الأقصى من العبادات المندوب إليها، غير أن الإقدام عليها إنما يصح بعد أن تزول معالم الظلم والطغيان عنها، وبما أن زيارتها تتطلب إذنًا من سلطات الاحتلال الصهيوني، فإن ذلك يعتبر اعترافًا ضمنيًا بسيادتهم على القدس، وهذا بالطبع يتنافى مع الإسلام.

 

إن السيرة الذاتية للشيخ السائح تندمج في السيرة الذاتية لفلسطين وكفاحِ شعبِها عبر الأجيال، دفاعًا عن قضيتهم وعن المسجد الأقصى الشريف. فلقد حضر جُلَّ المؤتمرات الإسلامية والوطنية التي عقدت في القدس دفاعًا عن القضية الفلسطينية، بدايةً من المؤتمر الإسلامي العام الذي عقد في القدس في ديسمبر سنة 1931م، وحتى استقال من رئاسة المجلس الوطني الفلسطيني سنة 1993م.

وعُيِّن سماحته قاضيًا شرعيًا في القدس من بداية سنة 1941م حتى نهاية سنة 1945م، ثم رُقي بعدها إلى وظيفة عضو في محكمة الاستئناف الشرعية بالقدس، وكان خلال هذه الفترة من (1946م ـ 1948م) يشارك في جَمْعِ الأموال لشراء الأسلحة للثوار، بل يشارك هو أحيانًا في القتال إذا تسنَّى له.

كما تولى الشيخ السائح منصب قاضي القضاة في الضفة الغربية بما فيها القدس، بمقتضى البيان الذي أعلن إنشاء الهيئة الإسلامية العليا في القدس لرعاية الشؤون الإسلامية فيها إلى أن يزول الاحتلال. ولقد كان سماحته أولَ مَنْ دعا إلى إنشاء هذه الهيئة في يوليو سنة 1967م.

وصدر قرار من موشيه ديان ـ وزير دفاع الكيان الصهيوني آنذاك ـ بإبعاد سماحة الشيخ عبد الحميد السائح عن القدس وترحيله إلى عمَّان، وذلك صباح يوم 25/9/1967م.

وكان الشيخ يفتي بحرمة زيارة القدس ما دامت تحت سلطة الاحتلال، لأن مثل هذه الزيارة تعني الاعتراف بالكيان اليهودي.

ألف الشيخ السائح ـ رحمه الله ـ العديدَ من المؤلفات، منها ما كان عن القدس، مثل: "مكانة القدس في الإسلام"؛ والذي طبع عدة مرات، وتُرجم إلى الفرنسية، ومنها "ماذا بعد إحراق المسجد الأقصى"، و"القدس: تاريخًا وحضارة ومستقبلاً"، و"عدوان اليهود على المقدسات".

 

14- العز بن عبد السلام

هو عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسين بن محمد بن مهذب السُّلَمي. لقَّبَه تلميذُه تقيُّ الدين ابن دقيق العيد بسلطان العلماء؛ لعلمه الغزير وحبه للحق، وكان شافعيَّ المذهب.

ولد سنة 577هـ، وقيل سنة 578هـ ببلاد الشام، وقد أغرم بالعلم منذ صغره، وتتلمذ لكثير من أفذاذ العلماء، ومن شيوخه: فخر الدين بن عساكر، وسيف الدين الآمدى، والحافظ أبو محمد القاسم ابن عساكر. وقد عاش الإمام الجليل زمنًا طويلاً في أيام حكم الأيوبيين، وطلب العلم حيث كان منشؤه، وقيل: إنه سمع هاتفًا يقول له: "يا ابن عبد السلام، أتريد العلمَ أم العمل؟" فقال: "العلم لأنه يهدي إلى العمل".

وقد هداه الله إلى العلم وذلل له سبله، فحفظ منه الشيء الكثير في زمن وجيز. وأقبل على عبادة الله حتى صار أعبدَ أهل زمانه.

وقد برع في الفقه والأصول، والحديث والتفسير والتوحيد، وتولَّى كثيرًا من المناصب المهمة خدمة للعلم ورغبة في نفع المسلمين.

وفي سنة 637هـ ولي الشيخ عز بن عبد السلام خطابة جامع دمشق، فلما سلم الصالحُ إسماعيل أميرُ دمشق حصن شَقِيف إلى الفرنج ثار العزُّ ثورتَه الكبرى، فاعتُقل وحبس، ثم رُحّل إلى مصر، ودخلها سنة 639هـ، فأكرمه ملكها الصالح نجم الدين وولاه الخطابة وجعله قاضي القضاة، كما تولى الخطابة بجامع عمرو بن العاص، فلبث في القضاء زمنًا. ثم ولاه هذا السلطان تدريسَ فقه الشافعية بمدرسته الصالحية التي بناها بين القصرين بالقاهرة، وفوض إليه كذلك عمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة.

ومما يذكر أنه عزل نفسه مرارا من القضاء والسلطانُ نجم الدين يعمل على إعادته إليه، وهو بين هذا وذاك ينشر العلم ويستكثر من التلاميذ.

واتصل الشيخ عز الدين بعدد من سلاطين عصره وعظمت مهابتُه في نفوسهم، ولم يرتفعوا في نظره إلا بمقدار حرصهم على مصالح المسلمين ومحافظتِهم على الدين، مع شدة منه في معاملتهم وقوة في إسداء النصيحة إليهم.

 

كان عصر الإمام الجليل يموج بالأحداث العظام، ويكفي أنه عصر تأجُّجِ الصراع الإسلامي مع الصليبيين والتتار في وقت واحد.

في طفولته فتح العز عينيه على انتصار صلاح الدين على الصليبيين في معركة حطّين سنة 583هـ، وانتزاعِهِ بيتَ المقدس منهم. ثم كانت وفاة صلاح الدين سنة 589هـ. وفي نفس الوقت كان صراع المسلمين مع الإسبان ببلاد الأندلس محتدما، وانتصر المسلمون هناك في موقعة الزَّلاقة سنة 591هـ انتصارا كبيرا.

وفي سنة 648هـ، كانت معركة المنصورة الشهيرة التي هُزم فيها لويس التاسع وجيوش فرنسا، وخسروا ثلاثين ألف قتيل ومثلهم أسرى.

ثم كانت أحداث سنة 656هـ وأهوالها، حيث اقتحم هولاكو بجحافل التتار بغداد وقتل الخليفة وجموعا ضخمة من السكان، وفى سنة 658هـ اجتاح التتار حلب فأوسعوها قتلا ونهبا لتلحق بأختها بغداد، واستدعى الأميرُ قطزُ الشيخَ عز الدين يشاوره ماذا يفعل والتتار قادمون إلى مصر؟ فأفتى العز فتواه الخالدة، وشجع الأمير قطز على خلع الصبي الذي مُلِّك على مصر، وتولِّي أمر المسلمين مكانه. وخرج قطز بجيشه المسلم ليسجل في سنة 658هـ أعظم هزيمة نزلت بالتتار في تاريخهم العسكري الرهيب، وذلك في معركة عين جالوت.

 

ثبت له أن الأمراء المماليك أرقّاء لم يحررْهم أحد، وأنهم أنفسَهم من حق بيت مال المسلمين، وجهر العز بذلك بين الأمراء، وأعلن أن حكم الرق لا يزال مصاحبا لهم، وينبغي ـ إذا أرادوا العتق ـ أن يُشْهَرَ بيعُهم ويحصَّلَ ثمنُهم ويُضَمَّ إلى بيت المال، ثم أفتى أن تصرفاتهم من بيع وشراء وولاية عقود ونكاح ونحو ذلك لا تنعقد، فأفسدت هذه الفتوى على الأمراء حياتهم، فقد توقف الناس عن التعامل معهم، فعُطِّلت مصالحهم، وكان في جملتهم نائب السلطنة فاستشاط غضبًا، وعَجِب من جرأة هذا الشيخ على الحاكمين بأمرهم، وأقسم ليشجن رأسه، وليَقُدَّن هامته بحد حسامه، وليلقين عليه درسا في معاملة الأمراء، وأسرع الأمير إلى دار الشيخ ممتطيا صهوة فرسه، قابضا على قائم سيفه، وشررُ الغضب يتطاير من عينيه، وطرق الباب، فقام الشيخ للقاء الأمير، وابنه يرتعد فَرَقًا عليه، وأبوه يقول له: "يا ولدي، أبوك أقل من أن يقتَل في سبيل الله"، فيبست يد الأمير وسقط السيف منها، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له، واستطلعه في مسألته الرأيَ، فطلب الشيخ أن يباعوا ويضم ثَمَنُهم إلى بيت المال، فكان له ما أراد، وأُشْهِر بيعهم.

ويُروى أنه في يوم عيد وأبهة دخل الشيخ على السلطان الصالح أيوب بالقلعة، فشاهد العسكر مصطفّين بين يديه ومجلسُ المملكة حافل، والسلطان قد خرج على القوم في زينته، وكاد الأمراء يقبلون الأرض بين يديه. فالتفت إليه الشيخ وناداه: "يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئْ لك مُلْكَ مصر، ثم تبيع الخمور؟ فقال: هل جرى هذا ؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية تباع فيها الخمور وغيرُها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة.."، فقال السلطان: " ما أنا عَمِلْتُه، هذا من زمان أبي"، فقال الشيخ: "أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ فأمر السلطان بإبطال تلك الحانة.

وروي أن أحد تلامذةِ الشيخ سأله عن هذه الحادثة، فقال له الشيخ: يا بني، رأيته في تلك العظمة فأردت أن أُهينه لئلا تَكْبُر عليه نفسُه فتؤذيه، فقال: يا سيدي أما خِفْتَه؟ فقال: والله، استحضرت هيبة الله ـ تعالى ـ فصار السلطان قُدَّامي كالهِرِّ.

ورُوي أن شخصا جاء إلى الشيخ عز الدين بن عبد السلام فقال: رأيتك في المنام تنشد:

وكنتُ كذي رِجلَيْنِ رجلٍ صحيحةٍ             

ورجلٍ رمَى فيها الزمانُ فشُلَّتِ

فسكت الشيخ عز الدين، ثم قال: أعيش ثلاثا وثمانين سنة. فإن هذا الشعر لِكُثَيِّر عَزَّةَ، وقد نظرت فلم أجد بيني وبينه نسبة، فإني سُنّي وهو شيعي، وأنا طويل وهو قصير، وهو شاعر ولست بشاعر، وأنا سُلَمِي وهو خزاعي، وأنا شامي وهو حجازي، فلم يبق إلا السن فأعيش مثله، فكان ذلك.

 

كان العز بن عبد السلام صبيا ابنَ ستِّ سنينَ حين سَمِعَ القومَ يتحدثون عن انتصار المسلمين بقيادة الناصر صلاح الدين على الصليبيين في معركة "حطين" وتتويج هذا النصر بفتح بيت المقدس سنة 583هـ، وكان هذا الحادث من الضخامة بمكان حتى شغل الناس في زمانه إلى الآن.

وشب العز وترعرع في بلاد الشام قريبا من القدس، التي كانت غالبا تتبع سلطان دمشق.

وفي مصر كان قريبا من السلطان سيف الدين قطز، يحثه على الجهاد ومجالدة التتار، فكان سلطان العلماء ـ وهو شيخ كبير قد جاوز الثمانين ـ أحد عوامل النصر المهمة في عين جالوت سنة 658 هـ، تلك المعركة التي حمت الكثير من أنحاء البلاد الإسلامية من التدمير الذي لحق بغداد وحلب وغيرهما من بلاد المشرق الإسلامي.

 

وفاته:

مرض الشيخ، وعاده السلطان الظاهر بيبرس، ورآه مشرفا على الموت، فاستشاره في أن يعين أحد أبنائه مكانه للتدريس، فقال له الشيخ: "ما فيهم مَنْ يصلح، فَوَلِّ القاضي تاج الدين المدرسة الصالحية".

ثم طلب إلى أبنائه أن يُعينوه للذهاب إلى المدرسة الصالحية التي تَعَوَّدَ أن يدرس فيها، وكان شديدَ الضعف من المرض فضلاً عن كبر سنه، فحاولوا أن يُثْنُوه، لكنه أبَى، ووصل إلى المدرسة فألقى الدرس وكان درسه الأخير، فقد مات وهو يفسر قول الله تعالى: " (الله نور السموات والأرض..)، في العاشر من جمادى الأولى سنة ستين بعد الستمائة وقد زاد سِنُّه على الثمانين، وشيعتْه مصرُ كلها، وأمر السلطانُ الأمراءَ أن يحملوا نعش الشيخ، واشترك معهم بنفسه في حمله إلى حيث دفن بسفح جبل المقطم.

أما في دمشق فقد صلى أهلها عليه صلاة الغائب في الجامع الأموى وجوامع دمشق الأخرى.

 

15- عمر بن عبد العزيز:

هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، يُكنى أبا حفص، ويقال له: خامس الخلفاء الراشدين، تشبيهًا له بهم، فقد كان خليفة صالحًا، وملكًا عادلاً، ولد بالمدينة - وقيل بحلوان في مصر - سنة 16هـ ـ 186م، ونشأ فيها، وكان يُدعَى "أشَجَّ بني أمية"؛ إذْ رمحتْه دابة وهو غلام فشجته. وقيل في صفته: كان نحيف الجسم، غائر العينين، بجبهته أثر الشجّة، أبيض رقيق الوجه مليحًا.

وقد ولي إمارة المدينة للوليد بن عبد الملك، ثم صار وزيرًا لسليمان بن عبد الملك بالشام. وولي الخلافة بعهد منه سنة  99هـ؛ وكان لرجاء بن حيوة - الذي أشرف على بناء مسجد قبة الصخرة - فضل كبير في نصح سليمان باستخلاف عمر.

وبعد أن غُسّل سليمانُ بن عبد الملك وكُفّنَ، صَلّى عليه عمرُ بن عبد العزيز، فلما فُرغ من دفنه أُتِيَ عمرُ بمراكب الخلافة: البراذين والخيل والبغال، ولكل دابة سائس، فقال: ما هذا! قالوا: مركبُ الخلافة، قال: دابّتي أوْفَقُ لي، وركب دابّتَه، فصُرفت تلك الدواب، ثم أقبل عمر سائرًا، فقيل: منزل الخلافة، فقال: فيه عيال أبي أيوب (يقصد سلفه سليمان)، وفي فُسْطاطي كفايةٌ حتى يتحولوا، فأقام في منزله حتى فرغوه بعدُ، فلما كان المساء من ذلك اليوم قال: يا رجاء، ادْعُ لي كاتبًا، يقول رجاء: فدعوته وقد رأيت منه كل ما سرني؛ صَنَعَ في المركب ما صنع، وفي منزل سليمان، فقلت: كيف يصنع الآن في الكتاب؟ أيصنع نُسَخًا، أم ماذا؟ فلما جلس الكاتب، أمْلى عليه كتابًا واحدًا مِنْ فِيهِ إلى يد الكاتب بغير نسخة، فأمْلى أحسن إملاء وأبلغَه وأوجزَه، ثم أمر بذلك الكتاب أن يُنسخ إلى كل بلد.

وبويع عمر في مسجد دمشق بيعة مباركةً.

وقد سكن الناسُ في أيامه، ومَنَعَ سبّ عليّ بن أبي طالب ـ وكان مَنْ تَقَدَّمَه من الأمويين يسبّونه على المنابر.

ولم تطل مدة خلافة عمر أكثر من سنتين ونصف سنة، إذ وافاه أجله  سنة 101هـ ـ 027م.

 

16- القاضي الفاضل

هو أبو علي عبد الرحيم ابنُ القاضي الأشرف بهاء الدين أبي المجد علي ابن القاضي السعيد أبي محمد الحسن بن الحسن بن أحمد بن الفرج بن أحمد اللخميّ، الملقبُ بمجير الدين، ولد على الراجح يوم الإثنين خامس عشر جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة (529)هـ في عسقلان، حيث كان أبوه قاضيًا عليها. شبّ فأرسله أبوه إلى الديار المصرية في الدولة الفاطمية، فاشتغل بكتابة الإنشاء على أبي الفتح قادوس وغيره، ففاقَ أهلَ زمانه، فلم يكن له يومئذ نظير، وحينما استقر الملك في مصر للناصر صلاح الدين اتخذه كاتبًا وصاحبًا ووزيرًا، وكان أعزَّ عليه من أهله وولده، وقد آزره الفاضلُ بقلمه ولسانه وبيانه.

وكان الفاضل كثير المال، كثير الصدقات والصيام والصلاة، كما كان حسن السيرة، نقي السريرة، بنى بمصر مدرسة للشافعية والمالكية، و كانت له أوقاف على تخليص الأسارى، وكان عالمًا جليلاً، لَسِنًا، ذا قريحة وقّادة وبديهة معجزة، اقتنى من الكتب قُرابة مائة ألف كتاب.

وُلد القاضي الفاضل قبل القائد صلاح الدين الأيوبي بثلاث سنوات، مما يعني أنه عاش في قرن الصراع المرير للمسلمين مع الصليبيين من أجل استرداد ما سيطروا عليه من ديار المسلمين، وقد كان "الفاضل" في هذا الصراع أحد أهم رجال صلاح الدين، يشارك في المعارك، ويسهم في إيقاظ الهمم، ويكتب لصلاح الدين رسائله وكتبه إلى الملوك.

 

ما إن استقر المُلْك لصلاح الدين بمصر حتى جعل القاضيَ الفاضلَ كاتبَه ووزيره وجليسه، وظل الفاضل إلى جواره يكتب له، ويفتح معه الأقاليم والبلاد سلمًا وحربًا، وعقب تحرير القدس كان القاضي الفاضل أحد المساندين للقائد صلاح الدين حين مل جنوده كثرة القتال مع الفرنجة وشدَّتَه.

وحينما آل الأمرُ إلى أولاد صلاح الدين بعد وفاته، بقي الفاضلُ إلى جوار الملك العزيز بن صلاح الدين وزيرًا ومُعِينًا، وبعد وفاة العزيز بقي وزيرًا للمَلِك الأفضل وصيِّ الملك المنصور، ولم يزل كذلك حتى دخل الملك العادل أخو الناصر صلاح الدين مصر عام 596هـ، فوافق ذلك وفاةَ الفاضل.

 

كان الملك العزيز بن الناصر صلاح الدين يُجلُّ القاضي الفاضل ويميل إليه في حياة أبيه، فحَدَثَ أن العزيز هَوِىَ من جواريه قَيْنَةً (مغنِّية) شغلتْه عن مصالحه، وبَلَغَ ذلك والدَه السلطان الناصر، فأمره بتركها ومَنَعَها من صُحبته؛ لأن الدولةَ كانت تحتاج إلى الجد وعدم التوسع في المباح، فشق ذلك على العزيز، وضاق صدرُه، ولم يجرؤْ على مخالفة أبيه، فلما طالت الحال بعثت إليه مع الخدم كُرة عنبر، فكسرها فوجد في وسطها زرَّ ذهب، فلم يعرف معنى ذلك، ووافق الأمرُ حضورَ القاضي الفاضل، فكتب في ذلك بيتين وأرسلهما إليه، وهما:

أهدتْ لك العنبر في وسطه        

زِرٌّ من التبر دقيقُ اللِّحام

فالزرّ في العنبر معناهما                       

زُرْ هكذا مستترًا في الظلام

 

لم يكن القاضي الفاضل وزيرًا لصلاح الدين فحسْب، بل كان وزيرًا وكاتبًا وصديقًا تربطه بالسلطان الناصر علاقة حميمة، وكان السلطان لا يكاد يُبرم أمرًا إلا بعد استشارته والاهتداء برأيه، ولم يخض معركة إلا ويَدُ الفاضل معه تؤازره، ولسانُه وقلمُه يناصره، حتى فُتحت مدينة بيت المقدس، واستمرت جهوده أثناء المقاومة الرهيبة للحملة الصليبية الثالثة التي استهدفت استرداد القدس من المسلمين.

كان القاضي الفاضل أثناء هذا كله يجهز ما يحتاجه السلطان الناصر من أموال وأسلحة، فضلا عن كتابة الكتب السلطانية إلى الجُند والأنحاء؛ يحذرهم فيها ارتكاب المحارم واقتراف الذنوب، ويُعْلِمُهم أن اللهَ لا يُنَالُ ما عنده إلا بطاعته، ولا يفرِّج الشدائد إلا بالرجوع إليه، وأن المسلمين لا يُؤْتَوْن إلا من قِبَلِ أنفسِهم، فلو صَدَقُوا اللهَ لعجَّلَ لهم عواقب صدقهم، ولو أطاعوه لما عاقبهم بعدوهم، ولو فعلوا ما يقدرون عليه من أمر الله لفعل الله لهم ما لا يقدرون عليه إلا به، فإنما النصر من عند الله..

 

وفاته:

ظل القاضي الفاضل وزيرًا ناصحًا أمينًا لبني أيوب منذ مرافقته صلاحَ الدين وحتى وصول الملك العادل أخي صلاح الدين إلى الديار المصرية، فتوفي فجأة في ليلة الأربعاء سابع عشر من ربيعٍ الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة (596هـ) بالقاهرة، ودفن بسفح المقطم، وقد احتشدت الجموع في جنازته، وزار قبرَه في اليوم التالي لدفنه الملكُ العادل، وتأسف عليه أسفًا شديدًا.

 

17- موفق الدين ابن قدامة المقدسي:

هو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي المقدسي ثم الدمشقي، الفقيه المحدِّث الزاهد، تنتسب أسرته إلى القدس التي رحلوا عنها في فترة الحروب والاضطرابات التي شهدها القرنان الخامس والسادس الهجريان.

وُلد موفق الدين بجَمَّاعيل بالقرب من نابلس سنة 541 للهجرة. وفي سنة 551 هـ انتقلت أسرته إلى دمشق، وبقي هنالك يتلقى العلم على يد أبيه وغيره حتى مرت عليه عشر سنوات، فانتقل وراء العلم إلى بغداد، ونهل منه الكثير على يد أعلام العلماء في عصره، وبعد أربع سنوات خرج من بغداد ورجع إلى دمشق، وسمع بمكة، وتلقى المذهب والخلاف والأصول. وفي سنة 567هـ رجع إلى بغداد. ورافق حجيج العراق في أداء المناسك سنة 574هـ، وعاد إلى بغداد ليمكث هناك سنة، ثم يرجع من جديد إلى دمشق، حيث كان قد نضج علما وفهما وفقها، فألف موسوعته الكبرى "المُغْنِي" .

وظل الشيخ مقصدَ الطلاب والباحثين عن العلم زمنًا طويلاً.

 

وُلد الموفَّق المقدِسِيّ بعد القائد الكبير صلاح الدين الأيوبي بتسع سنوات فقط، أي أن العصر الذي كان فيه ابن قدامة هو ذروة المواجهة الإسلامية مع الصليبية، وهو الحدَث الذي ملأ هذا العصرَ، وشَغَلَ أهلَه في كل مكان من الدنيا حينئذ.

 

أَفْرَضُ الفرائضِ في عصر ابن قدامة كانت هي الجهاد؛ للخطر الداهم الذي هدد المسلمين بالمَحْوِ حينئذٍ، من خلال أعمالِ الصليبيين (التي بلغت ذروتَها في عصره) وأعمالِ التتار (التي تفاقمتْ في أيامه).

وقد شارك الشيخُ في الجهاد العلميِّ بقوة، فحدَّث وعَلَّم وألَّف الكتب، ومن أشهرها كتاب "المغْني" في شرح متن الخرقى.

وإن كانت المصادر لم تذكر مشاركاتِ ابنِ قدامةَ في الجهاد بالسيف، فيبدو أن الرجل كان يَستخفي به، ويؤكد هذا الثناءُ العَطِرُ الذي صاغه العلماء فيه.

فقد قال عنه سبط ابن الجوزي: "كان إمامًا في فنون كثيرة، ولم يكن في زمانه بعد أخيه أبي عمر العماد أزهد ولا أوْرَع منه، وكان كثير الحياء، عَزُوفًا عن الدنيا وأهلها، هيّنًا ليّنًا متواضعًا مُحبًا للمساكين، حسنَ الأخلاق جوادًا سخيًا، مَنْ رآه كأنما رأى بعض الصحابة، وكأن النور يخرج من وجهه، وكان كثير العبادة؛ يقرأ كل يوم وليلة سُـبُعا من القرآن".

وقال: "شاهدت من الشيخ أبي عمر وأخيه الموفَّقِ ونسيبِه العماد ما نَرويه عن الصحابة والأولياء، فأنساني حالُهم أهلي وأوطاني، ثم عدت إليهم على نية الإقامة عسى أن أكون معهم في دار المُقَامة".

وقال ابن النجار عنه: "كان الشيخُ موفَّقُ الدينِ شيخَ الحنابلة بالجامع، وكان ثقةً حُجة نبيلاً غزير الفضل كامل العقل، شديد التثبّت دائم السكون، حسن السَّمْتِ، نزيهًا ورِعًا عابدًا على قانون السلف، على وجهه النور وعليه الوقار والهيبة، ينتفع الرجلُ برؤيته قبل أن يسمع كلامَه، صَنَّفَ التصانيف المَليحة في المذهب والخلاف، وقصدَه التلامِذَةُ والأصحاب، وسار اسمُه في البلاد، واشتهر ذِكْرُه".

وقال الحافظ عمرُ بن الحاجب عنه: "هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة، خَصَّه اللهُ بالفضل الوافر والخاطر العاطر والعلم الكامل، طَنَّتْ بذِكْرِهِ الأمصار، وضَنّت بمثله الأعصار، قد أخذ بمجامع الحقائق العقلية والنقلية؛ فأما الحديث فهو سابقُ فرسانِه، وأما الفقه فهو فارس ميدانِه، أَعْرَفُ الناس بالفُتْيَا، وله المؤلفات الغزيرة، وما أظن الزمانَ يسمح بمثله، متواضعٌ عند الخاصة والعامة، حَسَنُ الاعتقاد، ذو أَنَاةٍ وحِلم ووقار، وكان مجلسه عامرًا بالفقهاء والمُحَدِّثين وأهل الخير، وصار في آخر عمره يقصده كلُّ أحدٍ، وكان كثير العبادة دائمَ التهجد، لم نَرَ مثلَه، ولم يَرَ هو مثلَ نفسِه".

 

أسرة ابن قدامة مَقْدِسِيَّة الأصل، بل هي من أشهر الأسر المنسوبة إلى بيت المقدس؛ فقد كانت نابلس وجَمَّاعيل التي ولد فيها ابن قدامة وأقامت بها أسرته - تابعة للمدينة المباركة. وقد تحررت القدس من يد الصليبيين حين كان ابن قدامة في الثانية والأربعين من عمره، وبعيدٌ أن يكون مثلُه قد تأخر عن المشاركة مع المسلمين ولو في بعض أعمال التحرير، كما يُتوقع بقوة أن يكون الشيخُ موفقُ الدين قد دخل المدينةَ المقدسةَ بلدَ أجداده مراتٍ غيرَ قليلةٍ عقب تحريرها.

 

وفاته:

توفي الشيخُ في دمشق عام 620 للهجرة، وعمره تسعة وسبعون عاماً.

 

18- كعب الأحبار

هو كعب بن ماتِع الحِمْيَرِيّ، المعروف بكعب الأحبار.

قال البخاري: يقال له: كعب الحبر، يُكْنَى أبا إسحاق، من آل ذي رُعَين أو من ذي الكَلاع.

رُوي أنه أسلم في زمن عمر سنة اثنتيْ عشرة للهجرة.

 

أدرك كعب زمنَ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكنه لم يُسلم حينئذ، وأسلم في خلافة عمر.

وعنه أنه قال: لما قدم عَلِيّ اليمنَ أتيتُه فسألتُه عن صفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرني، فتبسَّمْتُ، فسألني، فقلت: مِن موافقة ما عندنا، وأسلمتُ وصدَّقْتُ به ودعوتُ إلى الإسلام فأقمت على إسلامي إلى أن هاجرْتُ في زمن عمر، وياليتني تقدمتُ في الهجرة.

قال ابن سعد: كعبٌ الحبر في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام، وكان على دين اليهود فأسلم وقَدِمَ المدينة.

ذكر أبو الدرداء كعبًا، فقال: إن عند ابنِ الحِمْيَرِيّةِ لَعِلْمًا كثيرًا.

وعن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير قال: قال معاوية: ألاَ إنَّ كعبَ الأحبارِ أحد العلماء، إنْ كان عنده لَعِلمٌ كالبحار، وإنْ كنا فيه لمُفَرِّطين.

 

أخرج الطبراني عن عوف بن مالك أنه أتى على كعب وهو يقصّ فقال: سمعتُ رسولَ الله  صلى الله عليه وسلم  يقول: "لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو متكلّف". فأمسكَ عن القَصَص حتى أمَرَه به معاوية.

وأخـرج ابن أبي الدنيا من طريق أسـامة بن زيد، عن أبي معن قال: لقي عبد الله بن سلام كعبًا عند عمر، فقال: يا كعبُ، مَنِ العلماءُ؟ قال: الذين يعملون بالعلم. قال: فما يُذْهِبُ العلمَ من قلوب العلماء؟ قال: الطمع، وشَرَهُ النفس، وتطلُّب الحاجات إلى الناس. قال صدقتَ.

 

كان كعب الأحبار ممن شهد فتح بيت المقدس.

يروي البكري فيقول: عندما افتتح عمر بن الخطاب بيت المقدس صلحًا كان معه كعب الأحبار، فسأله عمر قائلاً: يا أبا إسحاق، أتعرف موضع الصخرة؟ قال: أذرع من الحائط الذي يلي واديَ جهنم، ثم احفر، فإنك تجدها ـ وهي يؤمئذ مزبلة، فحفروا، فظهرت لهم، فسأله عمر: أين ترى أن نجعل المسجد؟ فقال كعب: خلف الصخرة، فتجمعَ القبلتين: قبلة موسى عليه السلام وقبلة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال عمر: ضاهَيْتَ اليهوديةَ أبَا إسحاقَ. ثم بنى المسجد، وخالف رأي كعب، وصير الصخرة في آخر المسجد.

وكان كعب ممن أهَلَّ بالعمرة من بيت المقدس، فعن يوسف بن مالك، عن أبي عمارة قال: "أهللت من بيت المقدس مع معاذ بن جبل، ورجالٍ فيهم كعب الأحبار  فأهلّوا بالعمرة".

وتنسب إلى كعب أقوال كثيرة في فضل الشام وبيت المقدس، منها قوله: بطَرَطُوس من قبور الأنبياء عشرةٌ، وبالمِصيصة خمسةٌ، وبالثغور من سواحل الشام ألفُ قبرٍ، وبأنطاكيةَ قبر حبيب النجار، وبحِمْصَ ثلاثون، وبدمشقَ خَمْسُمائة قبر، وببلاد الأردنّ مثلُ ذلك، وبفلسطينَ مثلُ ذلك، وببيت المقدس ألفُ قبر، وبالعريش عشرةٌ.

 

وفاته:

قال ابن سعد: مات كعبٌ بحِمْصَ سنة اثنتين وثلاثين، وفيها أرَّخه غيرُ واحد. وقال ابن حبّان في الثقات: مات سنة أربع وثلاثين، وقد بلغ مائة وأربع سنين.

 

19- الليث بن سعد:

هو الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي بالولاء، كنيتُه أبو الحارث: كان إمام أهل مصر في عصره حديثًا وفقهًا. قال ابنُ تَغْرِي بردي: "كان كبيرَ الديار المصرية ورئيسَها وأميرَ من بها في عصره، بحيث كان القاضي والنائب من تحتِ أمره ومشورته".

أصله من خراسان، وقيل: من أصبهان، ومولده في قلقشندة سنة 94هـ ـ 713م في خلافة الوليد بن عبد الملك. وكان من الكرماء الأجواد.

قال الإمام الشافعي: "الليث أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به".

أخباره كثيرة؛ ورد أنه خرج للحج سنة 113هـ وهو ابن عشرين سنة، وطَوَّفَ في كثير من البلاد، وزار القدس وأقام فيها مدة. وله تصانيف. ولابن حجر العسقلاني، كتاب "الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية".

توفي ـ رحمه الله ـ في القاهرة سنة 175هـ ـ 791م، في خلافة هارون الرشيد.

 

20- يزيد بن سلام:

هو معماري خبير من أهل القدس، كان أحـد معماريّيْن عظيمَيْن أسند إليهما عبد الملك بن مروان أمر بناء مسجد قبة الصخرة، وقد أنجـز هو ورجاء بن حيوة مهمة تشييد المسجد بعد سبع سنين سنة  27هـ ـ 196م، وتبقى من الأموال المخصصة لبناء وعمارة المسجد مائة ألف دينار، فأمر الخليفة بمنحها لمهندسَيْهِ الكبيرَيْن جائزة لهما على ما أنجزاه، لكنهما أبَيَا أخْذَ المال، وكتبا إلى الخليفة: أنَّ الأولى بهما أن يُخرجا لعمارة المسجد من حلي نسائهما، لا أن يأخذا  جائزة على قُرْبة تقرّبا بها إلى الله ـ تعالى ـ وطلبا إليه صرف المال المتبقي في مصالح المسلمين.

 

21- راغب نعمان الخالدي

فقيه وقاضي درس في القدس، ثم عين في العهد العثماني عضوا في مجلس المعارف وعضوا في محكمة البداية، وفي عام 1900 أنشأ مع أسرته المكتبة الخالدية في القدس ووقف عليها بعض ماله وهي من أغنى مكتبات فلسطين بالمخطوطات والمطبوعات.

 

22-اسعد قدورة

مفتي صفد والقاضي الشرعي في شمال فلسطين. ولد في مدينة صفد، وتلقى دراسته الأولى في دمشق، ثم انتقل إلى الأزهر حيث تابع دراسته الدينية وتتلمذ على يد الشيخ محمد عبده في آخر أيامه. عاد إلى مدينته بعد أن أنهى دراسته وأنشأ مدرسة وطنية في الجامع الأحمر عني فيها بتعليم اللغة العربية.

في العهد العثماني  شغل وظائف كثيرة في سلك القضاء، ثم عين مفتيا لصفد أثناء الحرب العالمية الأولى. وفي فترة الانتداب البريطاني شارك أسعد قدوره في الحركة الوطنية، وبخاصة في الثلاثينات. عينه المجلس الإسلامي الأعلى قاضيا شرعيا في الناصرة وعكا وصفد.

قاوم عمليات بيع الأراضي للصهاينة، وكان أحد الموقعين على الفتوى الصادرة في 26/ 1/ 1935 عن مؤتمر علماء فلسطين المنعقد في القدس بشأن بيع الأرض للصهاينة، وجاء فيها أن بائع الأرض لليهود في فلسطين، سواء كان ذلك مباشرة أو بالواسطة، والسمسار والوسيط في هذا البيع، والمسهل له، والمساعد عليه.. كل أولئك ينبغي ألا يصلى عليهم ولا يدفنوا في مقابر المسلمين، ويجب نبذهم ومقاطعتهم واحتقار شأنهم وعدم التودد إليهم والتقرب منهم ولو كانوا آباءاً أو أبناءاً أو أزواجاً.

شارك في عدد من المؤتمرات، ومنها المؤتمر العربي الفلسطيني السابع سنة 1928، ومؤتمر علماء فلسطين. وبعد نكبة سنة 1948 نزح إلى دمشق وفيها توفى ودفن.