موقع القدس


الصفحة الرئيسية لموقع القدس
تاريخ القدس القديم |  قبل الإسلام |  الرومان والقدس |  منذ الفتح الإسلامي |  عهد الأمويين |  عهد الفاطميين |  الإحتلال الصليبي
عهد الأيوبيين |  عهد المماليك |  عهد العثمانيين |  العهد العباسي |  عهد الطولونيين |  الإحتلال البريطاني |  الإحتلال الصهيوني
الصحابة |  علماء وزهاد |  مؤرخون ورحالة |  نساء |  أدباء |  شخصيات فلسطينية وعربية
القدس في التاريخ |  مكانة القدس |  الموقع الفلكي |  كنيسة القيامة |  موقف العرب |  المقاومة |  برنامج القدس
دعم أمريكا لإسرائيل |  القضية الفلسطينية في قرنين |  إحصائيات عن اليهود |  الصهيونية
العهدة العمرية واللورد بالمرستون ونابليون والبيع لليهود ورد الشريف حسن ووعد برلفور
صور القدس 1 |  صور القدس 2 |  صور القدس 3 |  صور القدس 4 |  صور القدس 5 |  مواقع

الصهيونية

مقال 1 الصهيونية واليهودية

د/ محمد آمحزون

استقر تعريف الصهيونية في المصطلح السياسي على أنها: حركة يهودية دينية سياسية تهدف إلى إعادة مجد إسرائيل بإقامة دولة يهودية في فلسطين، وهي تمزج بين السياسة والدين وتتخذ الدين ركيزة تقوم عليها الدعوة السياسية(1).

كما جاء تعريفها بأنها: دعوة وحركة عنصرية دينية استيطانية تطالب بإعادة توطين اليهود وتجميعهم، وإقامة دولة خاصة بهم في فلسطين بواسطة الهجرة والغزو والعنف كحل للمسألة اليهودية(2).

لقد تأثر العديد من المفكرين اليهود بالنزعة القومية العنصرية التوسعية التي سادت أوروبا في القرن التاسع عشر، مثل هيرش كاليشر (1795-1874م) في كتابه البحث عن صهيون، وموشي هس (1812-1875م) في كتابه روما والقدس، وليوبينسكر (1821-1891م) في كتابه التحرير الذاتي.

ثم بدأت الصهيونية تتغلغل وتنتشر أكثر بين اليهود منذ عام 1881م عندما اضطرت أعداد ضخمة منهم إلى النزوح عن روسيا على إثر المجازر التي تعرضوا لها بعد اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني، وإلى قيام جمعيات أحباء صهيون التي طرحت مسألة استيطان اليهود لفلسطين وغزوها عن طريق الهجرة كاحتمال عملي، كما درست إحياء اللغة العبرية لتصبح لغة غالبية اليهود عوضاً عن اليديشية، وقد تمكنت حركة البيلو من إيصال عشرين مستعمراً يهودياً عام 1882م كانوا طلائع الهجرة الأولى إلى فلسطين؛ وأوجدوا عدة مستعمرات صهيونية شكلت المراكز الأساسية للاستعمار الزراعي الصهيوني في المراحل اللاحقة(3).

إلا أن أحد أعضاء جمعيات أحباء صهيون البارزين وهو آحاد هاعام ذهب إلى إعادة النظر في فكرة إقامة المستعمرات، وأخذ يركز على ضرورة الحفاظ على القيم الروحية اليهودية، وأكد بأن طريق وقف الانحلال الروحي اليهودي في نظره هو إقامة مركز روحي لليهودية في فلسطين يعيد لليهود حيويتهم ووحدتهم ويؤدي في النتيجة إلى تحقيق الحلم القومي اليهودي، وسُميت صهيونيته بالصهيونية الروحية(4).

وبادر أنصار آحاد هاعام لأجل هذا الغرض إلى تشكيل جمعية بني موسى، وتتلمذ على يده عدد من المثقفين اليهود(5).

وفي العقد الأخير من القرن التاسع عشر: اعتنق صحفي يهودي من فيينا هو تيودور هرتزل الفكرة الصهيونية على أثر موجة من العداء لليهود في أوروبا، وقام بتأليف كتاب حول المسألة اليهودية شرح فيه تصوره ووجهة نظره لحل المسألة اليهودية بعنوان الدولة اليهودية في عام 1895م(6).

وبعد عامين من هذا التاريخ تمكن هرتزل من عقد المؤتمر الصهيوني الأول بحضور (204) من المندوبين اليهود يمثلون جمعيات صهيونية متناثرة في أرجاء مختلفة من العالم، وتمخض هذا المؤتمر عن تحديد أهداف الحركة الصهيونية فيما عرف ببرنامج (بال)، وإنشاء الأداة التنظيمية لتنفيذ هذا البرنامج، وهي: المنظمة الصهيونية العالمية، وقد حدد المؤتمر هدف الصهيونية على أنه خلق وطن لليهود في فلسطين بواسطة الهجرة وربط يهود العالم بهذا البرنامج (7).

وتعتبر صهيونية هرتزل صهيونية سياسية لأنها حولت المشكلة اليهودية إلى مشكلة سياسية وأوجدت حركة منظمة محددة الأهداف والوسائل (8).

أما الصهيونية الدينية فقد اتخذت شكلاً تنظيمياً عام 1902م بقيام حركة مزراحي تحت شعار أرض إسرائيل لشعب إسرائيل حسب شريعة توراة إسرائيل، وتحت شعار آخر التوراة والعمل، ويرى هؤلاء أن اليهود أمة متميزة عن غيرها، لأن الله في زعمهم هو الذي أسسها بنفسه، وأن وحدة الوجود اليهودي تتمثل بالتحام اليهود والتوراة وفلسطين، ذلك الالتحام الذي يفجر عبقرية اليهود، ولحركة مزراحي هذه فروع في كل العالم، ويتبعها الحزب الديني القومي والعديد من مزارع الكيبوتز و الموشاف والكثير من المدارس التلمودية(9).

وظهرت تيارات صهيونية أخرى مثل الصهيونية التنقيحية، ومن روادها: جابو تنسكي الذي عرف هو وأتباعه بالتشديد على أهمية بناء قوة عسكرية صهيونية كبيرة لغزو فلسطين وبناء الدولة اليهودية بالقوة، ويمثل حزب (حيروت) اليميني بقيادة بيغن وشارون التيار التنقيحي داخل إسرائيل(10).

ومن هذه التيارات: الصهيونية العملية التي كانت تطالب بالاعتماد على الجهود الذاتية اليهودية والمباشَرة ببناء الوطن القومي لليهود. وكان وايزمان وابن غوريون أهم دعاة هذا الأسلوب (11).

ومنها: الصهيونية العمومية التي تستند إلى المطالبة بالمصلحة القومية بصرف النظر عن الانتماء الطبقي، وقد نشط أصحاب هذا الاتجاه في تجميع المال لتثبيت جهود الاستيطان اليهودي في فلسطين (12).

ومنها كذلك: صهيونية الدياسبورا (الشتات) التي تتبنى الصهيونية الثقافية فيما يتعلق بالنظرة إلى إسرائيل على أساس أنها مركز اليهودية الثقافي أو الروحي (13).

ومن هذه المدارس أيضاً: الصهيونية العمالية، أو الاشتراكية، ولعل أهم تيارات هذه المدرسة هي مدرسة جوردون التي ركزت على فكرة اقتحام فلسطين، وركزت أيضاً على العمل باعتباره وسيلة من وسائل التخلص من عقد المنفى وصهر القومية اليهودية الجديدة (14).

وجدير بالإشارة إلى أن العقيدة الصهيونية وأبعادها الدينية والتاريخية تشكل الخلفية النظرية وقاعدة الارتكاز اليهودي في إسرائيل، بدءاً من الناحية التشريعية؛ كقانون العودة (1950م) الذي يقضي بحق كل يهودي في الجنسية الإسرائيلية، مروراً بالقول: إن فلسطين هي موطن يهود العالم باعتبار الأقدمية والاستمرارية التاريخية لمدة ألفي سنة، وإن يهود اليوم يشكلون على هذا النحو قومية تمتد إلى آلاف السنين من التاريخ.

يقول الزعيم الصهيوني ديفيد بن جوريون: إن إسرائيل قد تكون أحدث دول العالم، ولكن الشعب اليهودي له وجود عمره أربعة آلاف عام متتالية (15).

ومن هنا: فإن توسع الكيان الإسرائيلي يجد تبريره الجاهز في مفهوم إسرائيل الكبرى أو إسرائيل التاريخية في شعار من الفرات إلى النيل.

ومما لا شك فيه أن التيارات والمدارس الصهيونية المختلفة وإن تنوعت أساليبها واختلفت وسائلها فهي تتفق في الجوهر، وتتبنى كلها نسقاً أيديولوجياً واحداً، وتتحد حول الهدف المرسوم، ألا وهو: حل مشكلة اليهود عن طريق استيطان فلسطين بطريقة جماعية وإقامة دولة يهودية صهيونية.

فهذه المدارس كلها تبرر نقل اليهود إلى فلسطين بمعاذير مختلفة، لكنها تصبّ في اتجاه واحد هو: تهجير الفلسطينيين بالقوة وإبعادهم عن طريق طردهم ومصادرة أراضيهم، فنقل اليهود من المفهوم الماركسي يتم لأسباب أممية اشتراكية، وأما من المنظور الليبرالي فيتمّ لأسباب ديمقراطية وتاريخية، ولكن يظل الإجماع قائماً رغم اختلاف القناعات الفكرية حول الفكرة الصهيونية ذاتها.

إن علاقة الصهيونية باليهودية علاقة عضوية حيث لا تنفك إحداهما عن الأخرى، وبالتالي يمكن القول: إن الصهيونية واليهودية وجهان لعملة واحدة؛ وما الماركسية والليبرالية إلا قناعان يستعملهما اليهود لتمرير مخططاتهم وخدمة أهداف الصهيونية القريبة والبعيدة.

والدارس عبر التاريخ لليهود بوصفهم شعباً له صفاته وخصائصه المميزة يجده شعباً شريراً، خائناً، ملتوياً، خبيث الطوية، ماجن السلوك، عنصرياً، مغروراً، جشعاً، يستغل الآخرين، يثير الفتن، ويبيت المؤامرات ضد الأمم والشعوب الأخرى(16).

وهكذا: فالناظر في عقلية ونفسية القوم لا يجد على الإطلاق اختلافاً في الصفات والخصائص بين اليهودية والصهيونية بوصفهما توأمين يتفقان في الأسس والمبادئ والأهداف، وهي:

-المحافظة على تميز العنصر اليهودي.

-العمل من أجل العودة إلى أرض الميعاد.

-السيطرة على جميع شعوب الأرض وتسخيرها لخدمة الجنس اليهودي.

وعلى الرغم من الدعاية الواسعة التي نشرتها بعض الحركات الصهيونية في أوساط الرأي العام العالمي حول اشتراكيتها وماركسيتها، فالحقيقة تبقى أن الشيوعية بصفة عامة والمؤسسات الصهيونية العمالية أو الاشتراكية بصفة خاصة هي في جوهرها العملي أدوات ومؤسسات لخدمة مصالح إسرائيل قبل قيام الدولة وبعدها.

ولعل ما يعكس بوضوح هذه الرؤية تيار اليهودي الصهيوني بورخوف الذي حاول توظيف المنهج الماركسي في خدمة رؤيته الصهيونية، فأكّد الأساس الطبقي والاقتصادي للصهيونية، وخلُص من تحليله إلى حتمية الحل الصهيوني وسيلةً لتزويد كل الطبقات اليهودية الهامشية بقاعدة الإنتاج أو الأرض المقدسة في المصطلح التقليدي (17).

وليس البناء الاقتصادي في إسرائيل إلا نتاجاً لنشاطات الصهيونية العمالية الاشتراكية بالدرجة الأولى، فالهستدروت (اتحاد نقابات عمال إسرائيل) والكيبوتس (المزارع الجماعية) والهاجاناه والبالماخ (منظمات عسكرية صهيونية) هي الأدوات التي استخدمها الصهاينة الماركسيون في تحويل جزء من فلسطين إلى دولة صهيونية، وهذه المؤسسات أوجدتها الصهيونية العمالية المرشحة منذ البداية لهذا الدور، لأنها هي التي استقطبت يهود شرق أوروبا الذين تمّ تهجير بضعة آلاف منهم وزرعهم في فلسطين، الأمر الذي عجز عنه تماماً الصهاينة السياسيون والثقافيون والدينيون (18).

ومن الواضح جداً أن اليهودي سواء أكان ماركسياً أم رأسمالياً إنما يؤمن بفكرة رئيسة وهي العودة لأرض الميعاد لتأسيس دولة يهودية تعبّر عن الروح الخالدة للشعب اليهودي، وهذه هي نقطة البداية والنهاية بالنسبة لجميع اليهود بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو المذهبية التي ينبغي أن تكون في خدمة الأمة اليهودية أولاً وأخيراً.

وقد تنبه كثير من اليهود لهذا الجانب في الأيديولوجية الصهيونية؛ فالحاخام لانجلو يشير إلى أن البرنامج الصهيوني يدور حول فكرة واحدة، وكل القيم الأخرى إن هي إلا أداة في يد هذا المطلق (الأمة)(19).

ويقول موشي ليلينبلوم: إن الأمة كلها هي أعزّ علينا من كل التقسيمات المتصلة المتعلقة بالأمور الأرثوذكسية أو الليبرالية في الدين، فعندما يتعلق الأمر بالأمة يجب أن تختفي الطائفية.. فلا مؤمنون ولا كفار، بل الجميع أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب.. لأننا كلنا مقدسون، كل واحد منا، سواء أكنا غير مؤمنين أو أرثوذكسيين (20).

ولذلك فلا الماركسيون اليهود يصرون على ماركسيتهم؛ فحزب المابام اليسارى مثلاً أيّد التدخل الأمريكي في فيتنام، ولم يعارض الاستثمارات الأجنبية والخاصة في إسرائيل، ولا الليبراليون الرأسماليون يصرون على ليبراليتهم ورأسماليتهم؛ فحزب الماباي يدخل في تحالف مع الأحزاب الدينية مطلقاً يدها في كثير من جوانب الحياة في إسرائيل العلمانية!!، كما أن الأحزاب اليمينية لا ترفض التحالف مع الأحزاب اليسارية، وتقبل بعض السمات الاشتراكية أو الجماعية التي تتسم بها الحياة في إسرائيل، والجميع في حالة الحرب يقفون صفاً واحداً إذا كان الأمر يتعلق بإبادة الفلسطينيين(21) أو شن حرب ضد الإسلام والمسلمين.

كما أن التنسيق بين يهود الشتات يسير في الاتجاه نفسه نحو التكامل للسهر على مصالح الدولة العبرية، فنشاطهم يمارس من خلال المساعدات المالية الضخمة والأعداد البشرية الموجهة لدعم الدولة الصهيونية في إسرائيل؛ فوفق خطة محكمة يقدم يهود أوروبا الشرقية وروسيا الدعم البشري، ويقدم يهود أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأموال والضغط الدبلوماسي من أجل مصلحة إسرائيل.

إن الخلاف بين العلمانيين والمتدينين الصهاينة هو خلاف أسلوب لا مضمون، إذ لا يختلفون في الأسس والمبادئ، كما يتفقون حول الغايات والأهداف لخدمة إسرائيل وأمنها ومستقبلها.

ويمكن أن يتساءل المرء: لمن ولاء اليهود؟، إن الإجابة على هذا السؤال نجدها في ثنايا كتابات وتصريحات اليهود أنفسهم؛ يقول وايزمان: إن في أعماق كل يهودي صهيونياً كامناً(22)، ورسم ابن جوريون صورة للمحامي اليهودي الخالص الذي يلعب دوراً تخريبياً خارج وطنه القومي، ويعارض الدولة وقوانينها.. أما داخل الوطن القومي فإنه سيلزم نفسه بغرس غريزة توقير الدولة والقانون واحترامهما(23).

ويعتقد فيلسوف الصهيونية موشي هس أن اليهودي لا يمكن أن يفرّ من تميزه وانتمائه للشعب المختار والمضطهد بقوله: عبثاً يختبئ هؤلاء اليهود العصريون من مسرح جريمتهم وراء مواقعهم الجغرافية أو وراء آرائهم الفلسفية... قد تقنّع نفسك تحت ألف قناع، وقد تغير اسمك ودينك وطباعك، وقد تسافر حول العالم متخفياً كي لا يكتشف الناس أنك يهودي، لكن أي إهانة موجهة للاسم اليهودي ستؤلمك بحدة يفوق إيلامها ذلك الرجل المخلص ليهوديته المدافع عن شرف الاسم اليهودي!(24)، وهذه الرؤية للبعد الديني أو اليهودي في الصهيونية تنعكس في موقف مفكرين صهاينة آخرين مثل الأديب الإسرائيلي آهارون ميجد عضو حركة العمل الذي يعلق على هذه الظاهرة بقوله:... لقد ذهبت نظرية (دين العمل) إلى سبيلها، وجاء دين آبائنا ليملأ المكان الخالي، هل هذا سيء للغاية؟ هل هذا أسوأ من الفراغ المطلق؟ ففي ليلة عيد الغفران على الرغم من كل هذا ستكون الشوارع هادئة ونظيفة، والسيارات لن تصرخ، وتغلق المطاعم أبوابها، ولن يدوي التلفزيون من كل نافذة، وسيسود الإحساس بالعيد كل شيء، وبدلاً من أن تتجول العصابات في المدينة، فإنه سيكون من الأفضل لها أن تدخل إلى المعابد لتستمع إلى الصلاة(25).

ومن الملاحظ أن الرؤية الصهيونية للتاريخ تأثرت بالرؤية اليهودية القديمة تأثراً كبيراً، حتى إنهما يتشابهان في البنية، فبوبر يرى أن تاريخ اليهود هو تاريخ يتدخل فيه الرب، ويفرق بوبر بين التاريخ: التجربة التي تعيشها الأمم، والوحي: وهو التجارب المهمة الخالصة التي يعيشها الأفراد، ويرى أنه حينما يتحول الوحي إلى أفكار يفهمها جمهور الناس ويؤمنون بها، فإنها تصبح عقائد، هذا هو الوضع بالنسبة لسائر الأمم، أما بالنسبة لإسرائيل فالأمر جد مختلف؛ إذ إن ثمة تطابقاً كاملاً بين الوحي والعقيدة والتاريخ، إن إسرائيل تتلقى تجربتها الدينية الحاسمة كشعب؛ فليس النبي وحده هو الذي تشمله عملية الوحي، بل المجتمع كله على حد زعمه وإن مجتمع إسرائيل يعيش التاريخ والوحي ظاهرة واحدة التاريخ وحي والوحي تاريخ(26).

وهكذا يتحول اليهود في منظور الصهاينة كما هو الحال تماماً مع الرؤى الدينية الإسرائيلية القديمة إلى شعب من الأنبياء، ويتحول تاريخهم إلى وحي مستمر، ولذا: فاليهود بحسب تصور بوبر: أمة تحمل وحياً إلهياً عبر تاريخها المقدس (27).

ويقول نحمان سيركين الزعيم الصهيوني العمالي: إن الفيلسوف المتصوف والمفكر الاشتراكي يتفقان على خصوصية التاريخ اليهودي وقدسيته كما يتفقان على تداخل التاريخ المقدس والتاريخ الإنساني(28).

وكما كان اليهود القدامى يرون أن تاريخ الشعب اليهودي محطّ اهتمام الرب، وأنه مركز الحركة التاريخية، خلع الصهاينة المركزية والإطلاق نفسيهما على تاريخ الشعب اليهودي؛ فالتاريخ الإنساني كله يدورحول الأمة اليهودية التي تقف في وسطه لتجسد فكرة وجود الله التي تمثل حجر الزاوية في حركة التاريخ نحو الخلاص كما يقول بوبر (29).

وكما أن وجود الماشيح المنتظر أساسي لإضفاء معنى على التاريخ اليهودي: فوجود اليهود في التاريخ الإنساني أساسي لإضفاء معنى على هذا التاريخ في الرؤية الصهيونية؛ إن تأمين نظام العالم الذي يترنح بين عواصف الحروب الدموية يتطلب بناء الدولة اليهودية، وبناءُ كيان الشعب وإظهار روحه هما عملية واحدة لا يمكن الاستغناء عنها لإعادة بناء العالم المهتز الذي ينتظر القوة العليا الموحدة الموجودة في تجمع إسرائيل المقدس (30).

وهس العلماني له رأي مماثل شرحه في كتابه روما والقدس: إن تاريخ الإنسانية أصبح مقدساً من خلال اليهودية(31).

وخلاصة القول: إن الصهيونية واليهودية إنما تعبران عن فلسفة واحدة متكاملة، وهي تتخطى الخلافات السطحية بين اليهود لتصل إلى البنية الفكرية الكامنة وإلى النسق الأيديولوجي الواحد بغض النظر عن التنوع والاختلافات، وإن العلاقة بينهما مركبة إلى حد بعيد، إذ إن الأفكار الأساسية للأيديولوجية الصهيونية مستقاة من العقيدة اليهودية، وليس أدل على البعد اليهودي لدولة الصهاينة من اسم دولتهم، وشعار حكومتهم، وشكل علمهم ذي اللونين الأبيض والأزرق لون الطاليت (شال الصلاة اليهودي) تتوسطه نجمة داود، ويتحدث نشيده القومي عن عودة إلى وطنه تذكّر المرء بالعودة إلى العصر الماشيحاني، واسم الدولة (إسرائيل)، واسم البرلمان الذي يجتمع فيه ممثلو الشعب اليهودي (الكنيست) أي: المعبد، والدستور غير المدون عندهم الذي يعتبر التوراة هي الدستور الأعلى في إسرائيل، إضافة إلى عشرات الرموز والشعارات الدينية التي استقاها الإسرائيليون الصهاينة من تراثهم الديني في ميادين الحرب والسلام ومراحلها وأدواتها وعملياتها وآلياتها.

فإسرائيل بالمعنى الديني هي نفسها إسرائيل الشعب بالمعنى العرقي، وهي نفسها إسرائيل الدولة بالمعنى الصهيوني، وكلها تجليات للجوهر نفسه.

وهذه الفكرة جديرة بالإشارة إليها وبخاصة بالنسبة لأولئك الذين لا يدركون المقومات التي تربط بين هذه المفاهيم الثلاثة، فيظنون أن ليس ثمة علاقة عضوية بين الصهيونية واليهودية(32).

إن ممتلكات إسرائيل القومية العزيزة على قلوب اليهود وهي الأرض واللغة والتاريخ والعادات هي القاسم المشترك بين اليهودية والصهيونية، بصرف النظر عن انتماء اليهود الحزبي أو الطائفي أو الأيديولوجي؛ ولذلك: فإن محاولة الماركسيين العرب تجريد اليهود الماركسيين من خلفيتهم الصهيونية إنما هي محاولة لتزييف الحقيقة، والغرض منها إبعاد كل شبهة عن المذهب الماركسي الشيوعي!!.

الهوامش

(1) أحمد عطية: القاموس السياسي، ص 917.

(2) الموسوعة السياسية، بإشراف د. عبد الوهاب الكيالي، ص659.

(3) المرجع نفسه، ص660. وتاريخ الحركة الصهيونية الحديثة، (1897- 1918)، ص21.

(4) عبد الوهاب المسيري: الأيديولوجية الصهيونية ج1، ص207.

(5) الموسوعة السياسية، ص660.

(6) روجيه جارودي: ملف إسرائيل: دراسة الصهيونية السياسية، ص80.

(7) الموسوعة السياسية، ص660.

(8) عبد الوهاب المسيري: المرجع السابق، ج1، ص198، 199.

(9) الموسوعة السياسية، ص663.

(10) عبد الوهاب المسيري: المرجع السابق ج1، ص201، 202.

(11) الموسوعة السياسية، ص665.

(12) المرجع نفسه، ص665.

(13) المرجع نفسه، ص663.

(14) عبد الوهاب المسيري: المرجع السابق ج1، ص203، 204.

(15) David Ben Gurion: Rebirth and Density of Israel, p. 195.

)16( أنظر: عبد الرحمن حبنكة الميداني: مكايد يهودية عبر التاريخ، ص13- 20، ومحمد عزة دروزة: اليهود في القرآن الكريم، ص131، 132.

(17) د. المسيري: المرجع السابق، ج1، ص204.

(18) المرجع نفسه، ج1، ص 205.

(19) أرثر هرتزبرج: الفكرة الصهيونية: تحليل تاريخي ومختارات، (ترجمة لطفي العابد وموسى عنتر)، ص38.

(20) المرجع نفسه، ص71.

(21) المرجع نفسه، ج1، ص213.

(22) Richard Grossman: Aivation Reborn The Israel of Weizman, p.19.

)23( David Ben Gurion: Loc - Op - cit, p. 420-421

)24( آرثر هرتزبرج: المرجع السابق، ص25.

(25) د. رشاد عبد الله الشامي: القوى الدينية في إسرائيل، ص44، سلسلة عالم المعرفة، العدد 186 ذو الحجة، 1414ه/ يونيو 1994م. (مصدره: روبنشتاين إمنون: من هرتزل إلى جواش إيمونيم ذهاباً وعودة).

(26) آرثر هرتزبرج: المرجع السابق، ص331.

(27) المرجع نفسه: ص336.

(28) المسيري: المرجع السابق، ج1، ص238.

(29) آرثر هرتزبرج: المرجع السابق، ص333.

(30) المرجع نفسه، ص297.

(31) المرجع نفسه، ص310.

(32) انظر ريجينا الشريف في كتابها: الصهيونية غير اليهودية، من إصدارات سلسلة عالم المعرفة عدد رقم 96، الكويت.

 

 

 

مقال 2 بل هم عنصريون

أحمد عبد العزيز أبو عامر

رفض اليهود إدانة هيئة الأمم المتحدة لهم بكون الصهيونية شكلاً من أشكال التمييز العنصري واستمروا منذ صدور قرار هيئة الأمم المتحدة بهذا الصدد في 10/11/1975 يعملون بكل جهد بغاء القرار، حتى استغلوا الظروف الدولية التي تمخضت عما سمي بالنظام العالمي الجديد ومرحلة السلام التي طرحت وتداعى لها العرب كتداعي الذباب على الشراب، بينما تصلب (العدو الصهيوني)  ليفرض ما يريده من آراء وتوجهات منها (إلغاء القرار المذكور) وما زال يطالب بإلغاء (المقاطعة العربية) بل وإلغاء (الجهاد ضد الصهاينة) كما جاء في (خطاب شامير) في مؤتمر مدريد . وحصل إلغاء القرار بمساواة الصهيونية بالعنصرية بقرار من أمريكا كما هو معلوم، فما قصة القرارين ؟ وهل الصهاينة ليسوا عنصريين كما يزعمون أم أن الحق والواقع أنهم عنصريون بلسان حالهم ومقالهم ؟

قصة قرار مساواة الصهيونية بالعنصرية

لم يأت القرار رقم 3379 الذي قضى بأن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية من فراغ فقد قررت هيئة الأمم شجب التمييز العنصري فيما يسمى بحقوق الإنسان، وأكدت الهيئة ذلك حينما شجبت العنصرية القائمة على التمييز باللون والجنس والعرق.. في الدورة 22 حيث قررت الجمعية العمومية للأمم المتحدة اعتبار الفترة من 10/12/73 حتى 10/12/83 حقبة مكافحة التمييز العنصري حيث طلب من المجلس الاقتصادي والاجتماعي المنبثق عن الأمم المتحدة بأن يتولى مساعدة الأمين العام في مسؤولية تنسيق النشاطات والبرامج المضطلع بها خلال ذلك العقد على أن يقدم تقريراً سنوياً للجمعية العامة عن الحالة المختصة بهذا الشأن في نهاية كل دورة.

واستغلت الدول العربية هذا التوجه في مكافحة التمييز العنصري فاتفق على أن يتقدم مندوب الصومال بمشروع القرار (بمساواة الصهيونية بالعنصرية) . ولما شعر الصهاينة بالمشروع حرص مندوب أمريكا (دانيال مونيان)  ومندوب العدو الصهيوني (حاييم هيرتزوك)  على الاشتراك مع اللجنة مع مستشارين ورجال الإعلام وتمت محاولات لإفشال المشروع وإثارة الخلافات حول الجانب التنفيذي منه وصياغته إلا أنها لم تنجح . واستمرت المناقشات عدة أيام وسط جو محموم ومحاولات استقطاب واضحة إلا أن محاولاتهم باءت بالفشل وصدر القرار رقم 3379 في 10/11/1975 بتأييد 70 صوتاً مؤيداً و 29 صوتاً معارضاً و 27 صوتاً ممتنعاً وغياب 15 عضواً وكان يوماً مشهوداً في هيئة الأمم إذ ثارت ثائرة ممثل العدو الصهيوني وتصرف المندوب الأمريكي بصورة أكدت عمق الصدمة الأمريكية من نتيجة التصويت.. وقام مندوب أمريكا واحتضن مندوب إسرائيل مواسياً له أمام الوفود وأدلى بتصريحات غير دبلوماسية تصور عمق الصدمة(1) . وقد مارست أمريكا وإسرائيل طوال 16 عاماً ضغوطاً كثيراً لإلغاء القرار حتى تم لهم ما أرادوا على ضوء المستجدات الدولية فكان قرار الإلغاء الصادر في 10/6/1412 والذي أيده 111 دولة وعارضه 25 دولة وامتنع عن التصويت 13 ولم تشارك 17 دولة.

ومما يؤسف له أن بعض الدول العربية امتنعت عن التصويت وكأنهم لا يعرفون عنصرية إسرائيل وما يعانيه شعب عربي مسلم من مظالمها واضطهاداتها وبالفعل كان إلغاء القرار سابقة عجيبة في قرارات الأمم المتحدة وبخاصة وأن إلغاء القرار لهم يضع في اعتباره ما كان يجب على (إسرائيل)  أن تتخذه من إلغاء القوانين العنصرية التي ما زالت سارية المفعول وتطبق بكل صفاقة على الفلسطينيين(1) .

لماذا هم عنصريون فعلاً

إن الصهاينة عنصريون فعلاً فهم يستقون تاريخهم في الدرجة الأولى من التوراة وهو كتاب خالطه الكذب والزيف والتضليل وامتزجت فيه الحقيقة بالخرافة والخيال فلا يعتمد عليه المؤرخ النزيه مصدراً يستقي منه معلوماته . وهم منذ وجدوا يغلفون تاريخهم بالأسرار والألغاز ! إذ أن تاريخهم كله تاريخ صراع بينهم وبين الأمم الذين يعيشون بينهم كأقليات مستضعفة ذات نشاط أوسع من إمكاناتها وأطماع أوسع من أن تحتملها تلك الأمم فلجأوا إلى أسلوب الكذب والغش والعمل في الخفاء وعرفوا بعدة أسماء فهم تارة اليهود وتارة العبرانيون وتارة الموسويون وتارة بنو إسرائيل وتارة الساميون وحاولوا دائماً هدم التوازن بين تلك الأسماء ويفضلون بأن يُدْعَوْا بني إسرائيل ليدخلوا في روع الناس أنهم جميعاً من نسل ذلك النبي الكريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم ليصلوا من ذلك إلى أنهم الأشرف جنساً والآصل نسباً والأصدق ديناً، فهم في زعمهم (شعب الله المختار) وإن ما عداهم من (الجيوييم)  أي الأغيار ما خلقوا على هيئة البشر الا ليخدموهم ويعترفوا بفضلهم ولا تعليل لهذه التصورات القاصرة إلا لكونهم يشعرون بشعور الطفولة لأنهم على مر تاريخهم (2) ضعفاء مستضعفون لا وزن لهم إلا بضعف غيرهم . ويوم انقطع حبل الله عنهم بما كفروا بقي لهم حبل (الناس) المعروف . وواقعهم العنصري يعرفه كل مطلع على حياتهم الفعلية وأنا في هذا المقام لا أفتري عليهم بل أسوق الأدلة على ألسنة أشخاص معروفين منهم لهم وزنهم الأدبي والفكري على النحو التالي:

أولاً / الدكتور إسرائيل شاحاك

وهو يهودي بولوني قدم إلى فلسطين عام 1945 وشهد نشوء الكيان الصهيوني وأنهى دراسته الثانوية عام 1951 في هرزليا في تل أبيب وأكمل خدمته في الجيش الإسرائيلي إلى عام 1953 ودرس الكيمياء العضوية في جامعة القدس العبرية وحصل على شهادة الأستاذية عام 1963 وأكمل التخصص في جامعة (ستانفورد) بأمريكا وعاد مدرساً في جامعة القدس.

وقد شارك في لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن وساءه ما حصل من عدوان 1967 فانقلب على قومه الصهاينة وبدأ نضاله ضد كافة مظاهر الظلم والعنصرية لديهم . وألف كتابه (عنصرية إسرائيل : بالوثائق والأرقام والأسماء)(3) ويمكن إيجازه فيما يلي :

1- الكيان الصهيوني دولة يهودية وحسب واليهود وحدهم الشعب المختار.

2- اليهود في الحقوق المدنية أصحاب الحق ويخضع الفلسطينيون لنظام ظالم يستند إلى القوانين الاستثنائية التي سنها الانتداب الإنجليزي عام 1945.

3- الأسس الأيديولوجية والقانونية التي يقوم عليها الكيان الصهيوني تضعه حتماً في خط نازي لا يقل وحشية عن نازية هتلر .

4- تهويد الأرض والبشر شرط أساسي ونتيجة محتومة للتضييق على الناس وتهجيرهم ومصادرة كل ما لديهم باسم الأمن القومي والمصلحة العليا .

5- يتغنون بالسلام ابتزازاً وهم المتعلقون بالحروب استدراراً للأموال من الخارج وقد تطرق في الكتاب لجرائم الصهاينة ضد الفلسطينيين بالحقائق والأرقام وفضح أوضاع السجون ومعاناة مرتاديها وكذلك القرى المهدمة التي قامت بها إسرائيل وصوراً من المعاناة والاضطهاد والتمييز العنصري حتى من اليهود أنفسهم وخاصة السود منهم والقادمون من أوربا الشرقية والكتاب بالفعل يكشف وجه إسرائيل العنصري بكل بشاعاته.

ثانياً / جدعون جيلادي :

وهو يهودي شرقي عاش طفولته وشبابه في فلسطين وشهد مرحلة التقسيم وسيطرة اليهود الغربيين (الاشكناز) على الحكم وبعد تأسيس دولتهم كان شاهد عيان لما أقدم عليه الصهاينة من مذابح وطرد جماعي وقهر سياسي واستيلاء على الأراضي والممتلكات من الفلسطينيين وبعد مراحل متتالية من الدراسة والبحث وجمع الوثائق ألف كتابه (إسرائيل نحو الانفجار الداخلي)(4).

يقول في المقدمة: إن الكتاب دراسة تبرز اتجاه الحكومة الإسرائيلية نحو التمييز العنصري ويسوق على ذلك نموذج اليهود السوفييات الذين تدفقوا بالآلاف على الأرض المحتلة ووفرت لهم المساكن والوظائف وتفرد لهم مساحات من الرأي في الشؤون الثقافية بينما يتعاملون مع اليهود الشرقيين (السفارديم) من أرض علوية ويبقى حظهم من التعليم والتمثيل البرلماني والوظائف العليا والنقابات المهنية والمؤسسة العسكرية أدنى المعدلات التي يتمتع بها (الاشكناز).. وأن العالم لم ينتبه إلى سياسة التفرقة العنصرية التي تمارس ضد (السفارديم)  داخل إسرائيل للتعتيم حولها.

وهذه الدراسة مقسمة إلى عشرة فصول تطوف بالقارئ حول علاقة العرب والمسلمين باليهود منذ عهد النبوة باعتبارهم أهل ذمة لهم حقوقهم وأثر الحضارة الاسلامية على الدين اليهودي والأدب العبري وإنكار المزاعم باضطهاد اليهود في ظل الإسلام ويخصص المؤلف فصلاً لدراسة تهجير يهود اليمن إلى فلسطين واستغلالهم دعائياً والمعاملة المزرية التي لاقوها على أيدي اليهود (الاشكناز).. ثم يتحدث عن السجون هناك التي تشهد أبشع نماذج التعذيب والتنكيل والجدير بالذكر بأن هذا الكتاب نشر أولاً بالعربية في القاهرة وترجم إلى الإنجليزية.

ثالثاً / عوري دافيد

وكتابه (إسرائيل دولة عنصرية)(5) وهو كاتب يهودي، بين الكاتب بأن أحد المبادئ الأيديولوجية للحركة الصهيونية منذ تكوينها حتى الآن الفصل بين المجتمع اليهودي وغير اليهودي ولذلك تعاملت مع اعداء اليهود بهدف إجبارهم على اتباع سياساتها إذ أنهم يرون بأنهم شعب مكروه وإن الطريق الوحيد هو إقامة دولة لهم واستغلت الحالة الحسنة نسبياً لبعض اليهود في الدول العربية فبثت الرعب في قلوبهم عن طريق نسف محلاتهم لإجبارهم على الهجرة إلى الأرض المحتلة.

وانطلاقاً من مبدأ الصهيونية في العزلة باشروا بعد قيام دولتهم في تطبيق مبدئهم عن طريق تدبير المذابح الجماعية للشعب الفلسطيني وذلك لإخلاء فلسطين من سكانها وتهويدها كلياً وساق أمثلة من أقوال زعمائهم من استغلالهم الحروب لطرد المزيد من الفلسطينيين وتشجيعهم العنف ضدهم كوسيلة لطردهم للمحافظة على التفوق السكاني لصالحهم وكيف أن (كاهانا) أكثر القادة الصهاينة صراحة في التعبير عن آرائه.

وذكر المؤلف أن الكنيست الاسرائيلي وافق على قانونين يحددان المستقبل السكاني لهم وهو قانون (العودة 1950) الذي ما زال ساري المفعول والذي يسمح لأي يهودي في أي بقعة من بقاع العالم بالهجرة إلى (الأرض المحتلة) مع إعطائه جميع التسهيلات الممكنة .

الحق في الاستيلاء على أراض وأملاك الفلسطينيين الذين طردوا من مواطنهم بحجة أنهم غائبون عن أملاكهم وهذا القانون يجرد الفلسطينيين من أبسط الحقوق الطبيعية لأي إنسان وهو حق عيشه في أرضه ووطنه.

ثم ذكر المؤلف بأن من أهم النتائج السياسية للسيطرة الصهيونية هي فقدان الحرية السياسية للفلسطينيين مدللاً على ذلك بما أقرته الكنيست من قانون في سنة 1980 يحق بموجبه لوزير الداخلية أن ينتزع الجنسية عن أي شخص يقوم بعمل يهدد شرعية الدولة ومن ذلك تأييد منظمة التحرير بأي صورة وأن هذا القانون قد يؤدي  إلى طرد جميع الفلسطينيين لأن معظمهم ذوو ولاء لقومهم ووطنهم وقضيتهم.

وهكذا يتضح لكل ذي عينين بأن اليهود الصهاينة عنصريون فعلاً بمنطلقاتهم الدينية وايديولوجيتهم السياسية. ومن واقع قوانينهم الحاكمة التي ذكرها هؤلاء النفر منهم يتضح مدى الشكل العنصري الذي يؤمنون به ويطبقونه حتى على بعض بني عقيدتهم ممن يصنفون في فئة (السفارديم) أي اليهود الشرقيين الذين هم أقل مكانة من (الاشكناز) الغربيين.

إذاً لماذا تلغى وصمة العنصرية عنهم؟

لا شك أن إلغاءها لم يأت بمبرر معقول أو سبب وجيه لما سبق ذكره من أنهم لم يلغوا القوانين العنصرية التي يحكمون بها ولم ينصفوا حتى بني عقيدتهم الأقل شأناً وهم (السفارديم) والأعجب والأغرب أنهم في إبان مناقشة هذه الموضوع كانوا يسومون الفلسطينيين في المخيمات سوء العذاب بالطرد والإبعاد وهدم البيوت وإخلائها لصالح الوافدين الجدد وما طرد أهل (سلوان) عنا ببعيد.

إنها مقايضة سخيفة لتتكرم بالمشاركة في السلام المزعوم! بل ولتملي شروطها. والأدهى والأمر: (طلب إلغاء المقاطعة العربية) و (إلغاء الجهاد ضدها)!!

إن (العدو الصهيوني)  دولة عنصرية ليس من واقع معاملتها فحسب ؛ بل حتى كتب دينها المحرفة تؤكد هذا التوجه وتوضحه بما لا يدع مجالاً للشك، وإصحاحات أسفارهم الدينية المحرفة في التوراة والتلمود مملوءة بالشهادات على ذلك.

وهل إلغاء قرار وصمهم بها يمنع حقيقة عنصريتهم التي يحيونها وعلى ضوئها يعيشون.

فهم بالفعل عنصريون وإن رغمت أنوف.

فهل في وصفهم بالعنصرية تجنٍ عليهم؟! وهل إلغاء قرار الأمم المتحدة في ذلك يغير من الحقيقة شيئاً؟! لا، وألف لا.

الهوامش:

1- صحيفة المدينة المنورة العدد 8982 في 12/6/1412 هـ.

2- جذور الفكر اليهودي / داود سنقرط.

3- عنصرية إسرائيل / لإسرائيل شاحاك من مطبوعات دار طلاس – دمشق.

4- إسرائيل نحو الانفجار الداخلي لجدعون جيلادي انظر (الشرق الأوسط) العدد 4552.

5- إسرائيل دولة عنصرية لعوري دافيد انظر مجلة العربي 354.

 

 

مقال 3 حضارة القدس الإسلامية

في مواجهة الهجمة الصهيونية

أ.د عبد الحليم عويس

مستشار رابطة الجامعات الإسلامية

منذ خمسة آلاف سنة دخل العرب إلى فلسطين، فمنذ الهجرة السامية الأولى القادمة من الجزيرة العربية، والعرب يعيشون في فلسطين يتنقلون من طور حضاري إلى طور أخر ومن دولة إلى دولة أخرى، وفيهم عرب فينيقيون في الدولة الفينيقية، وهم عرب كنعانيون في الدولة الكنعانية، وتدل المخطوطات الإفريقية التي عثر عليها في الأردن أن أغلبية السكان في زمن الرومان كانوا عربا وقد أنشأوا في القرن الرابع الميلادي مملكة الأنباط في جنوب فلسطين.

أما الإسلام فهو الذي دخل فلسطين عام 636م تقريبا (15 هـ تحديدا) والإسلام عندما جاء لم يأت بناء جديدا يهدم الأبنية القديمة بالجملة، وإنما جاء إصلاحا وتكميلا وتصحيحا، حيث يعد الإسلام الأنبياء جميعا أصحاب رسالة واحدة قوامها توحيد الله وعبادته حق عبادته، وإقامة حياة الناس على الحق والعدل والخير وحيث يعد الإسلام نفسه أيضا دين كل الأنبياء فكل الأنبياء كانوا مسلمين ودعاة إسلام: ((مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً ولا نَصْرَانِيّاً ولَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ)) ((ووَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وإلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ إلَهاً واحِداً ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)).

ومن هنا جاء دخول الإسلام إلى بيت المقدس دخولا طبيعيا بالنسبة للوجود العربي الثابت في فلسطين ودخولا طبيعيا بالنسبة لمعنى الإسلام ورسالة الإسلام.

وفي ضوء هذه المعاني جاء عمر إلى بيت المقدس خاشعا متبتلا مستجيبا لرغبة المهزومين في القدس حين شرطوا أن يحضر الخليفة بنفسه ومعطيا لهم الوثيقة العمرية أو العهدة العمرية التي تعد بكل مفرداتها من أعظم وثائق الفتوحات في التاريخ كله.

إن المؤرخ (رابوبوت) يصف مقدم عمر إلى القدس وصفا رائعا يجسد لنا المعاني التي ألمحنا إليها... يقول:

"أما سكان أورشليم الذين اعتادوا أن يروا الأباطرة البيزنطيين في أبهتهم وأرديتهم المطرزة بالذهب فقد كان مرآهم للخليفة مشهدا رائعا ذلك أن خليفة النبي كان يرتدي بردة رثة من وبر الإبل وقد اخترق أورشليم على بعير يحمل كل أمتعته وما يكفيه من تمر ليوم واحد فكان هذا التناقض بين بساطة المنتصر وتقشفه وبين الهوس الباذخ الذي تعود على الظهور به ليس الأباطرة البيزنطيون وحسب بل ممثلوهم من ولاة الأقاليم كان هذا التناقض مذهلا لم يلبث أن أحدث تأثيره العميق في شعب  حانق على حكومة كانت في نظره استبدادية جشعة.

وبمقتضى الوثيقة العمرية أعلن السلم العام والأمن العام للأشخاص والأموال والعبادات وللعباد في أديرتهم وكنائسهم وهنا أيضا يشهد رابوبورت وهو يكتب في مؤلفه "تاريخ فلسطين" من وجهة النظر اليهودية: "يجب أن نعترف بأن إعلانا كهذا في بداية القرن الوسيط (قد التزمت به كل الجيوش الإسلامية بعامة) هو إعلان حافل بالإنصاف فهو يتنفس عدالة وتسامحا وما استطاع أباطرة بيزنطة ولا أساقفة الكنيسة أن يعبروا مطلقا عن مشاعر من هذا القبيل باسم ذلك الذي دعاهم إلى دين الحب.

ومنذ الفتح، وما تبعه من سلام وأمان وعدل وإنصاف ـ بدأت الخطوات الإسلامية العملية لتحضير القدس وفلسطين وتعميرها وإزالة آثار الظلم الروماني منهما وكان الخليفة عمر بن الخطاب أول من بدأ تحضير بيت المقدس ونشر الإسلام وتعليم العربية بها وقد أقام رضي الله عنه الدواوين وقام بتقسيم البلاد إداريا وترتيب البريد وإنشاء الحسبة وصك النقود النحاسية، على أحد وجهيها عبارة (محمد رسول الله) ورسم سيف وعلى وجهها الآخر (إيلياء) و(فلسطين) وحرف (ميم) والهلال.

وقد أقيمت في فلسطين الطرق الجديدة، مثل طريق القدس - إريحا وطريق القدس - الرملة وانتشرت المساجد والمدارس والتي كانت تعكس على مر العهود الإسلامية مدى الرعاية والعناية التي حظيت بها فلسطين.

ونحن نرى هذا الاهتمام بشكل واضح في تاريخ المساجد في القدس، حيث تقترن به أسماء الخلفاء والولاة والسلاطين عهدا بعد عهد من عبد الملك بن مروان وابنه الوليد إلى الخليفة المنصور العباسي إلى الملك الظاهر الفاطمي إلى صلاح الدين الأيوبي الذي طهر المسجد الأقصى بعد أن حلوه الصليبيون إلى كنيسة واسطبل وطهر مسجد الصخرة الذي جعلوه مذبحا لهيكل الرب المقدس ثم إلى السلطان قلاوون وقانصوة الغوري وسليمان القانوني، وعبد الحميد الثاني العثماني، حتى تصل القائمة التاريخية الإسلامية إلى الحاج محمد أمين الحسيني مفتى فلسطين.

وتتكرر هذه الصورة باستعراض تاريخ المدارس ودور تعليم القرآن والحديث.. حتى أنه كان في بيت المقدس وحدها قبل عدة قرون (240) مسجد، (10) دور لتعليم القرآن (7) لتعليم الحديث، (20) مدرسة، (70) زاوية للتعليم والعديد من الأسواق كما يروى الرحالة التركي "أوليا تشلبي".

وشهدت فلسطين في العهد العثماني عناية خاصة، بدأت بسليم الأول المتوفي (1520م - 926هـ) الذي أمر بتجديد بناء السور وسليمان القانوني المتوفي (1566م - 974هـ) الذي أقام الطريق وسك "الفضة العثمانية" وامتدت إلى السلطان مراد الذي عمل على استتباب الأمن، وحتى السلطان عبد الحميد الثاني جزاه الله خيرا (عزل عام 1327م هـ ـ 1909م) وما واجهه من جهود الدول الكبرى وجهود الصهيونية العالمية لفتح السبيل أمام اليهود للهجرة إلى فلسطين، وما كان من مواقف الرفض والإباء التي يعدها المؤرخين المنصفون من أكبر أسباب عزله. ومن الأسباب الفاعلة في سقوط الخلافة العثمانية.

الجغرافيا السكانية للقدس:

تعد الفئات الإسلامية والقبائل العربية التي استوطنت القدس بعد الفتح الإسلامي على الرغم من وجود العرب الكنعانيين بفلسطين من الألف الرابع قبل الميلاد، وقد أصبح العرب غالبية كبيرة بعد الفتح الإسلامي فزادت نسبتهم عن 90% من سكان القدس في كل عصور تاريخ الإسلام.

وقد ذكر (أبو العباس أحمد بن علي القلقشندي) أن أهم القبائل العربية المعروفة التي استوطنت بيت المقدس في العهد الإسلامي (إضافة لمن سكنوها من العرب قبل الإسلام) هي:

قبيلة بني عمر، ويقال لهم العمريون وهم بطن من بني عدي بن كعب عدنانية من قريش استوطنوا القدس.

بنو فيض، وهم بطن بني صقر من جذام الجنوبية الأصل، وهم قحطانيون استوطنوا القدس.

الجعافرة، وهم بطن من بني الحسين من بني هاشم من العدنانية وهم ينتسبون إلى جعفر الصادق بن محمد الباقر.. استوطنوا القدس.

أما عن الفئات الإسلامية الأخرى ـ غير العرب ـ فقد استوطن القدس:

1- المغاربة ولهم في القدس حارة تنسب إليهم ويسكنونها وقد وقفها عليهم ـ على اختلاف أجناسهم وذكورهم وإناثهم ـ الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن على بن السلطان صلاح الدين وكانت لهم زاوية تعرف باسمهم وشيخها يسمى بشيخ المغاربة في القدس.

2- الهنود وكانت لهم زاوية في القدس عرف بزاوية الهنود.

3- الأكراد وكانت لهم حارة تنسب إليهم.

4-اللاجئون سياسيا وهم كثير من الأعلام اللاجئين ـ وعائلاتهم ـ الذين كان السلاطين يبعدونهم عنهم وبعضهم اختار الإقامة فيها بعيدا عن مشكلات الحكم عن طيب خاطر.

على أنه من الجدير بالذكر هنا ـ أن هذه الطوائف كلها ـ قد ذابت في بوتقة العروبة ولم تكن أصولها الهندية والكردية والتركية أو غيرها حائلا بينها وبين الذوبان في العروة عن رضا واقتناع وذلك بتأثير الإسلام عليها فالعروبة عند المسلم الرشيد مرتبطة ارتباطا وثيقا بدنيه الإسلامي وهي عند (العرب يغير المسلم) حضارته وثقافته التي تشكل حياته الاجتماعية وعلاقته بالآخرين.. ومعروف أن المسيحيين هم الذين سلموا القدس للمسلمين، ومن هنا فقد بقيت دائما أقلية (عربية مسيحية) تعيش في القدس وتدافع عنها ضد التسلل اليهودي ولها ما للمسلمين وعليها ما عليهم.

بل أننا لنعتقد أن هذه الأقلية المسيحية كانت أكثر صلابة في وجه التسلل اليهودي إلى القدس لأنها عانت منهم الإسلام الكثير بدليل أنه كان من شروط تسليم القدس التي خضع لها المسلمون ألا يساكن اليهود فيها المسيحيين والمسلمين أنه شرط شرطه النصارى أنفسهم عند تسليم المدينة لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وللمسلمين ودلالة هذا الشرط قوية لا تحتاج إلى بيان.

التسامح الإسلامي في القدس:

وقد توالت عصور التاريخ الإسلامي والمسلمون يعاملون أبناء الأديان الأخرى في القدس وغيرها أفضل معاملة عرفت في التاريخ، لدرجة أن المؤرخ الإنجليزي الكبير "أرنولد توينبي" اعتبر ظاهرة التسامح الإسلامي ظاهرة فريدة وشاذة في تاريخ الديانات.

وكان أهل الذمة الأصليون يعاملون كاهل البلاد الأصليين دائما لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم في إطار ما نص عليه الإسلام..

وقد نص القرآن على معاملتهم بالحسنى ومجادلتهم بالتي إلا الذين ظلموا منهم كما أوصى الرسول بهم خيرا.

وقد كان الخليفة العباسي هارون الرشيد يعامل الزوار النصارى للقدس معاملة الإسلامية المعتمدة لأهل الكتاب وقد سمح الرشيد للإمبراطور "شارلمان" بترميم الكنائس ولا سيما كنيسة العذراء التي تقوم على مكانها كنيسة الدباغة وفي سنة 796م ـ أهدى هارون الرشيد (شارلمان) ساعة دقاقة وفيلا وأقمشة نفيسة وتعهد بحماية الحجاج النصارى عند زيارتهم للقدس ـ كذلك كان شارلمان يرسل كل سنة وفدا يحمل هدايا إلى الرشيد.

وقد زار القدس في القرن التاسع عشر "برنار الحكيم" وذكر أن المسلمين والمسيحيين (النصارى) في القدس على تفاهم وأن الأمر مستتب فيها أضاف قائلا:

"وإذا سافرت من بلد إلى بلد ومات جملي أو حماري وتركت أمتعتي مكانها وذهبت لاكتراء دابة من البلدة المجاورة سأجد كل شيء على حاله لم تمسه يد".

وتتوالى صفحات التاريخ في القدس فلا نكاد نجد فيها انقطاعا لفعالية الروح الإسلامية المتسامحة العادلة التي تقوم على حراساتها دروس المسجد الإبراهيمي والحلقات العلمية الإسلامية في المسجد الأقصى، ومسجد الصخرة، ولا تنطوي صفحة مضيئة من صفحات التاريخ إلا لتبدأ أخرى حتى نهاية العصر العثماني الذي يتحدث عنه مؤرخ مسيحي معاصر هو الأستاذ (هنري كنن) بقوله:

وفي سنة 1518م / 924هـ فتح العثمانيون فلسطين وظلوا بها إلى سنة 1917م / 1336هـ غير أن هذا الفتح لم ينطو على أي استعمار ولم ترتب عليه أي تغير كان في قوام الشعب إذ أن الفتح التركي لم يغيرا ويؤثر على أي نحو في الطابع العربي للبلاد..

وقد استمتع جميع المواطنين في الدولة العثمانية على اختلافهم من ترك وعرب ومسلمين وعرب مسيحيي ويونانيين وأرمن ويهود بحقوق مدنية متساوية دون نظر إلى جنس أو معتقد أو دين ثم جاء الدستور العثماني في 23 من كانون الأول (ديسمبر 1876 ـ 1293هـ) فأكد مرة أخرى مبدأ المساواة في الحقوق وهو المبدأ الذي كان مرعيا فيما سبق.

ولم يتعرض تاريخ القدس لأحداث دموية واضطهاد ديني منذ الفتح الإسلامي إلا في تلك الفترة التي استولى فيها الصليبيون على بيت المقدس (1099 – 1187م) (429 – 573هـ) وهي فترة شغلت من هذا التاريخ نحو تسعين سنة.

القدس تحت الحكم الصليبي:

وعلى نقيض التسامح الإسلامي الذي فرض السلام والأمن وحقق العدل والرعاية والحق لكل من وجدهم الإسلام في بيت المقدس.. أجل.. على النقيض من ذلك ما أن دخل الصليبيون بيت المقدس حتى عقدوا أو لاجتماع لـ (ديوان المشورة العسكرية) قرروا فيه قتل كل مسلم بقى حيا فيا ويستمر تنفيذ الإعدام الصليبي أسبوعا كاملا سجله المؤرخون النصارى بقولهم : "إن الدماء وصلت في رواق المسجد حتى الركب".

ويقول مؤرخ نصراني آخر: "لم يوفر الصليبيون أحدا من سيوفهم لا من الرجال ولا من النساء والعجزة ولا من الأطفال وظن المسلمون أن مسجد عمر يحميهم من الموت ولكن ظنهم خاب إذ أن الصليبيين لحقوا بهم خيالة ومشاة ودخلوا المسجد المذكور وأبادوا كل من وجده فيه بحد السيف.

 

ويقول كاتب نصراني آخر: "لم يميز النصارى في إبادتهم بين رجل وامرأة وبين صغير وكبير وراحوا يتباهون بأنهم قتلوا سبعين ألف من المسلمين وأنهم لم يغمدوا سيوفهم قبل أن خمدت نار الانتقام المتأججة في قلوبهم".

والغريب أنه لما شاء الله أن تقهر هذه الغارة البربرية الصليبية وظهر صلاح الدين الأيوبي. الذي أعاد القدس إلى الإسلام وكانت لديه الدوافع القوية للانتقام بكل معنى الكلمة نظرا لما ارتكبه النصارى من جرائم لا تحصى ولا تليق بإنسانية الإنسان طيلة الغزوة الصليبية.

الغريب أن صلاح الدين ـ باعتراف كل مؤرخي النصارى بلا استثناء ـ لم يحاول أن يتشفى أو ينتقم.. بل استولى على القدس دون أن ينتهك حرمة كنيسة واحدة ودون أن يقتل لاجئ واحد إلى أية كنيسة دون اعتداء على طفل أو شيخ عجوز.

والأغرب من ذلك ما فعله صلاح الدين ـ خضوعا للتسامح الإسلامي الرفيع ـ حين وقع الصليبيون بالقدس في يده أسرى.. ومع أن الذاكرة التاريخية لصلاح الدين تعي ما حدث لدماء سبعين ألفا من المسلمين تباهي الصليبيون بأنه أخمدوا بها نار الانتقام المتأججة في صدورهم ـ إلا أن صلاح الدين مع ذلك أبدى من ضروب التسامح الإسلامي ما أبقى ذكره خالدا في التاريخ الإنساني كله باعتراف النصارى قبل المسلمين.

يقول المؤرخ الصليبي "أرنولد" الذي كان حاضرا ذلك اليوم المشهود: "لقد تقدم العادل إلى أخيه صلاح الدين يستوهبه ألفا من هؤلاء الأرقاء بإجابة السلطان ثم استوهبه بليسان (الأمير) والبطريرك مثل العادل فأجابهم وهنا التفت صلاح الدين إلى الحاضرين وقال:

لقد أدى أخي صدقته وكذلك فعل الأمير والبطريرك والآن جاء دوري لتأدية صدقتي أنا.. فأمر رجالا من حرسه أن ينطلقوا وينادوا في شوارع القدس : أن كل عاجز عن دفع الفداء يستطيع أن يخرج وأنه حر لوجه الله.."

ويقول المؤرخ الإنجليزي "كوكس" لقد لاقى اللاتينيين من رحمة صلاح الدين وتلطفه وإنعامه فوق ما انتظروا ومن المؤكد أن مثل هذه المعاهدة لو عقدت في زمن "بطرس الناسك" و"جود فري" لخرقت ساعة النصر وأنصب الويل على المغلوب.

إن هذه هي الحقيقة التي يعترف بها الإنجليزي "كوكس " لكن الذي لم يدركه "كوكس" هو أن القضية ليست فرقا بين صلاح الدين وبطرس الناسك لكنها (الفرق الكبير) بين تاريخ المسلمين وتاريخ غيرهم وبين معاملة المسلمين لمخالفيهم ومعاملة غيرهم من الأمم ـ ولا سيما النصارى لمخالفيهم.

والحق أننا لا نقول شعارات متعصبة بل نقول حقائق تاريخية ثابتة فعبر أربعة عشر قرنا من الزمان هي عمر الإسلام على الأرض لم يجد المسلمون فيها صورة من صور التسامح من اليهود والنصارى عندما تتحقق لهم الفرصة التاريخية، إن بينهم من اللإحن والأحقاد الكثير الذي يختفي في مرحلتنا هذه تحت عباءة المصلحة الطارئة في هذا المنعطف التاريخي الكلوح الذي يتجرع كؤوس الذي فيه خلال أيامنا تلك.. لكنهم ـ مجتمعين أو منفردين ـ لم تسنح لهم فرصة لإبادة المسلمين إلا واهتبلوها.. هكذا فعلوا بالمسلمين في الأندلس وهكذا فعلوا بهم في جزر البحر الأبيض. وهكذا فعلوا بهم في الفلبين على يد الاستعماريين الأسبان والأمريكيين وهكذا يفعلون اليوم بالمسلمين في البوسنة والهرسك وفلسطين وأوربا الشرقية وأسيا الوسطى ويتعاونون حتى مع الوثنيين في العالم كله ضد الإسلام.. دين الحب والرحمة والتسامح.

أما تاريخ الإسلام مع غير المسلمين من أهل الكتاب فهو أشرف صفحة في تاريخ البشر لا يجادل فيها إلا كل موتور وجاهل أو مريض أو ظالم لا سبيل إلى أن يبصر الحق.

إن تاريخ المسلمين مع أنفسهم أو مع مخالفيهم ليس تاريخ ملائكة معصومين، لكنه ـ مع أنه تاريخ بشر يصيبون ويخطئون ـ هو أشرف وأزكى تاريخ عرفته البشرية في اعترافه بالآخرين وفي حواره الحضاري وفي تقديره النبيل لحقوق الإنسانية من زاوية إنسانيتها المجردة مهما كان عقيدتها أو لونها أو جنسها، فالناس سواسية كأسنان المشط وكلهم لآدام وآدام من تراب.

مكانة القدس في الإسلام:

هناك آيات قرآنية وأحاديث نبوية كثيرة تؤكد المكانة الدينية المقدسة للقدس: وحسبنا الإشارة إلى الآية التي استهلت بها سورة الإسراء والإشارة إلى حديث شد الرحال للمساجد الثلاثة: المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى.

ولهذه القداسة وبناء على هذه المكانة نظر المسلمون إلى بيت المقدس على أنه مزار شريف ومنزل مبارك وموضع مقدس كريم.. فشدوا إليه الرحال وأحرموا منه للحج والعمرة وزاره لذاته بغية الصلاة والثواب وأحاطوه برعايتهم الدينية الكريمة.

وقد احرم الخليفة عمر بن الخطاب نفسه للحج و العمرة من المسجد الأقصى كما أحرم منه سعيد بن العاص – أحد المبشرين بالجنة وقد وفد سعد بن أبى وقاص قائد جيش القادسية إلى المسجد الأقصى فأحرم منه بعمرة ولذلك فعل الصحابة عبد الله بن عمر وعبد الله بن العباس ومحمود بن الربيع ألا نصارى الخزرجى وأما الصحابة والفقهاء وأعلام الفكر الإسلامي الذين زاروا بيت المقدس وبعضهم أقام فيه فهم اكثر من أن يحصوا وحسبنا أن نذكر بعضهم لندل على المكانة الدينية التي احتلها بيت المقدس في ذكر المسلمين وحضارتهم.

فمن هؤلاء أبو عبيدة الجراح وصفية بنت حيي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ بن جبل وبلال بن رباح مؤذن الرسول الذى رفض الأذان بعد وفاة الرسول فلم يؤذن إلا بعد فتح بيت المقدس وعياض بن غنم وعبد الله بن عمر وخالد بن الوليد وأبو زر الغفاري وأبو الدرداء  وعبادة بن الصامت وسلمان الفارسي وأبو مسعود الأنصاري وتميم الداري وعمرو بن العاص وعبد الله بن سلام وسعيد بن زيد ومرة بن كعب وشداد بن أوس وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وعوف بن مالك وأبو جمعة الأنصاري كل هؤلاء من طبقة صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومن التابعين والفقهاء الأعلام: مالك بن دينار، وأويس القرني وكعب الأحبار ورابعة العدوية والإمام الأوزاعي وسفيان الثوري وإبراهيم بن أدهم ومقابل بن سليمان والليث بن سعد ووكيع بن الجراح والإمام الشافعي وأبو جعفر الجرشي وبشر الحافي وثوبان بن يمرد وذو النون المصري وسليم بن عامر والرسي السقطي وبكر بن سهيل الدمياطي وأبو العوام مؤذن بيت المقدس وسلامة المقدسي الضرير وأبو الفرج عبد الواحد الحنبلي والإمام الغزالي والإمام أبو بكر الطرطوشي والإمام أبو بكر العربي وأبو بكر الجرجاني وأبو الحسن الزهري ومئات غيرهم، ومن الخلفاء الذين زاروا بيت المقدس عمر بن الخطاب ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز والوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك الذي هم بالإقامة في بيت المقدس واتخاذها عاصمة لدولته بدلا من دمشق وأبو جعفر المنصور والخليفة المهدي بن المنصور وغيرهم من خلفاء الأيوبيين والمماليك والعثمانيين وقد درج بعض الخلفاء والملوك بداء من العصر المملوكي ـ على كنس الصخرة وغسلها بماء الورد بأيديهم ومن هؤلاء الظاهر بيبرس والمالك العادل زين الدين كتبغا المنصوري والملك الناصر محمد بن قلاوون وأخوه السلطان حسن والملك الظاهر برقوق والملك الأشرف قايتباي والسلطان سليمان القانوني والسلطان محمود الثاني والسلطان عبد الحميد والسلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحميد الثاني وغيرهم.

إننا كمسلمين ـ نؤمن عن يقين نابع من الإسلام أن بيت المقدس وما حوله إنما هو أرض مقدسة لا نستطيع أن نفرط فيها إلا إذا أفرطنا في تعاليم دينه وغنى التكيا ـ إننا ـ وحدنا في الأرض بالأمس واليوم ـ الذين نؤمن بكل الأنبياء ونكرمهم وننزههم عن كل نقص بدءا من آدم وإبراهيم ونوح.. وحتى موسى وعيسى ومحمد ـ عليهم جميعا السلام ـ وليس في ديننا نص واحدا لا في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الشريفة ينسب إلى نبي فاحشة أو جريمة أو كذبا.

ولا يقبل إيمان المسلم إلا إذا آمن بكل الأنبياء وأنزلهم جميعا منزلة كريمة: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ)) ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ ومَا أُنزِلَ إلَيْنَا ومَا أُنزِلَ إلَى إبْرَاهِيمَ وإسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ ويَعْقُوبَ والأَسْبَاطِ ومَا أُوتِيَ مُوسَى وعِيسَى ومَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)).

وفي القرآن الكريم عشرات الآيات التي تتناول كل نبي على حدة تثبت له كل كريم من الخلق وتنفي عنه كل ما حاول بعضهم إلصاقه به وتحكي للمسلم قصة جهاده في أداء رسالته وما لاقاه من الأذى المادي والمعنوي لتوحي إلى المسلم أن يحذو حذوه لأن رسالة الأنبياء منذ نوح وحتى محمد رسالة واحدة تنبع من مصدر واحد وتهدف إلى غايات واحدة ويكمل بعضها بعضا وبالتالي ـ انطلاقا من هذا الإيمان الكامل نقف نحن المسلمين حماة لكل التراث والمقدسات الدينية السماوية وذلك بأمر ديننا الذي مثل آخر حلقه في سلسلة الوحي السماوي والذي حمل اتباع ـ نتيجة هذا ـ مسئولية إنسانية عامة:

((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) ((وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ)).

واجب المسلمين نحو القدس:

يصف القانوني الأستاذ هنري كتن الملابسات التي أصدرت وعد بلفور في الثاني والعشرين من نوفمبر 1917 وهو الوعد الذي قطعته الحكومة البريطانية على نفسها بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ـ ثم ما لحق هذا التصريح من إصدار عصبة الأمم لصك انتداب بريطانيا على فلسطين في 24 يوليو 1922 حيث فوضت من قبل عصبة الأمم في تحقيق وعدها المشئوم.

يصف (هنري كتن) هذه الملابسات بقوله: "أن العرب قد خدعوا خدعة ترقى إلى مرتبة الخيانة وأنه لمن الامتهان للحضارة الإنسانية المعاصرة وللقانون الدولي أن تسيطر خدعة ترقى إلى مرتبة الخيانة حتى تؤتي ثمارها في شكل إبادة كاملة لحق شعب يربو عدده عن خمسة ملايين وعن ضياع شبه كامل لأرض هذا الشعب ولمدينة القدس التي تمثل بالنسبة له جزءا من دينه وتاريخه وحضارته ولقد وصف "القانونيون ورجال السياسة في العالم وعد بلفور"بأنه وثيقة بمقتضاها قطعت أمه وعدا رسميا لأمة أخرى بمنحها بلاد أمة ثالثة أنه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق".

وعند صدور وعد بلفور كان العرب يشكلون 90% من السكان ـ ومع ذلك فإن هذا الوعد الغريب يسميهم "الطوائف غير اليهودية" وكأنهم أقلية وينص على أنه يتعهد بأن يحمي حقوقهم المدينة والدينية وكأنهم أقلية.

ومع ذلك فإن أغلبية هؤلاء الـ 90% من التعساء يعيشون الآن لاجئين في الخيام وقد ضاعت كل حقوقهم الدينية التي نص عليها الوعد الظالم وضاعت مدينتهم المقدسة.

وفي تحليل سياسي للصحفي الإنجليزي "ميكل أدامز" نشرته الغارديان بتاريخ 3 نوفمبر سنة 1967 يتوجه فيه " أدامز إلى مواطنيه الإنجليز قائلا:

إن تصريح بلفور كان تصريحا ظاهرة البراءة وباطنه الخداع وهذا أمر ينبغي على كل إنجليزي أن يتذكره عندما يتأمل الموقف الحالي في الشرق الأوسط.

فإذا كان هذا هو نصيب الشرعية التي يحظى بها "الأساس" الذي بموجبه اغتصبت فلسطين والقدس ـ فإن ضمير العالم المتحضر ملزم ـ في ضوء فقهه المحايد لهذا الأساس ولما لحقته من تطورات خلال أكثر من ستين سنة بأن يعيد النظر في هذا الخطأ التاريخي والقانوني الكبير.

إن مبادئ الحق التي أزهقت وقواعد العدل التي هدمت توشك أن تمتد آثارها إلى العالم كله. وإنها قد امتدت الآن فأصبحت الشغل الشاغل لأكثر من عشرين دولة عربية ولأكثر من خمسين دولة إسلامية وللقوى الكبرى في هذا العالم.

وأن بقاءها دون أن يتحرك ضمير الإنسان كله معيدا للحق والعدل إلى ميزانها الدقيق ـ لكفيل بأن يصيب حضارة العصر بنزيف رهيب وأن يحدث خلخلة كبرى في مقاييس الوجود والتحضر.

أن المؤرخ الإنجليزي الموسوعي الأستاذ "أرنولد توينبي" صاحب أكبر دراسة للحضارات واحدث نظرية ظهرت في تفسير التاريخ قد تنبه إلى هذا الخطر الذي يتجاهله الكثيرون في العالم والذي يوشك أن يهز البناء الإنساني كله.

وقد وجه في سنة 1955 (عبر مجلة فرونت بيج) نداء إلى الشعب اليهودي في إسرائيل وإلى العالم كله يقول لهم "لا تقترفوا أخطاء الصليبيين" ويقول لهم فيه أيضا: "لقد كان التخلف والتفسخ والفوضى والفساد تجثم على صدور العرب فصال الصليبيون وجالوا وانتصروا في عشرات المعارك وهددوا واستفزوا ما شاء لهم زهوهم وخيلاؤهم" معتقدين أنهم قادرون على طرد العرب وطمس معالم العروبة (والإسلام) بحد السيف كما اعتقد حكام إسرائيل بعد كل جولة منذ عام 1948 غير أن انكسارات العرب المتتالية في عهد الصليبيين قد فتحت عيونهم على عيوبهم فعرفوا أن سر قوتهم في وحدتهم وتفانيهم وراء صلاح الدين ساروا فقطفوا ثمار النصر يوم 3 تموز 1187م في حطين. وفي النهاية يطالب "توينبي" الأقلية اليهودية أن تعيش كأقلية مع العرب والمسلمين في أمن وسلام.

وفي اعتقاد "توينبي"وهو اعتقاد تخالفه فيه بقوة ـ أن الطريق لا زال مفتوحا أمام أصحاب النفوس الكبيرة الرزينة في إسرائيل ـ للعمل بسرعة وتفان لتحقيق المطالب التالية:

- إجلاء القوات الإسرائيلية عن المناطق التي احتلتها.

- تعويض حكومة إسرائيل للبلدان العربية عن جميع الخسائر المادية التي تكبدتها.

- إعادة اللاجئين الفلسطينيين وفقا لقرارات الأمم المتحدة.

- التزام حكومة إسرائيل بحل القضية الفلسطينية.

والحق الذي يستأهل أن يضاف إلى ما ذكره توينبي ـ الذي سجل نداءه قبل أحداث 1967 ـ أن قمة المأساة في قضية فلسطين هي (مأساة القدس) فإن الأفراد والجماعات على السواء هي مخلوقات عابرة وذات أجل وتنتهي مآسيها بزوالها عن الحياة ولكن هذا الشيء لا ينطبق على المدن التاريخية والتي تشكل أبنيتها وحجارتها وأزقتها وأماكنها المقدسة وذكرياتها والارتباط بها رمزا تاريخيا وحضاريا ولا يمكن نسيانه.. إنها روح وجزء من دين وإنها حضارة وتاريخ ـ وهذا هو حال الفلسطينيين والعرب والمسلمين مع القدس..

وهذا ـ أيضا ـ حال القدس الطاهرة التي كتب عليها أن تقاسي الآلام العظيمة الموازية لمجدها العظيم إنها لمدينة جميلة حزينة وقورة ترك التاريخ معالم عبئه الثقيل عليها وعلى شعبها الفلسطيني والمتمثل في كوارث الحاضر الصهيوني والمجهول المرعب الذي ينتظر مستقبلها إذا لم يستيقظ ضمير الإنسانية المخدر بالأكاذيب الإعلامية الصهيونية.

لقد كانت القدس مركز الدائرة في حروب صليبية استمرت قرابة قرنين من الزمان وخلفت من الأحقاد والدماء بين الغرب والشرق ما لا يمكن علاجه في قرون طويلة.

وأن القدس في أيدي الصهيونية العالمية وبمساعدة أوروبا وأمريكا قد عادت فأصبحت محور الدائرة في صراع لا يدري أحد "كم سيظل قائما" وكيف سينتهي وماذا سيخلف من نتائج؟

إن الضمير والحديث والشرعية القانونية الدولية وما وصلت إليه الإنسانية من حضارة في المجالات الإنسانية والأخلاقية.. ومواثيق حقوق الإنسان.

إن كل ذلك يجعلنا نهيب بالضمير العالمي حفاظا على ما وصلت إليه الإنسانية المتحضرة ـ أن يعيد القدس إلى أصحابها الشرعيين لأنه لا سلام بدون القدس.

والمسلمون والعرب هم أول من ننبههم إلى واجبهم لأنهم أصحاب الحق ولأنهم المسئولون مسئولية دينية وتاريخية عن عودة القدس.

ولا يشفع للمسلمين في تقصيرهم ما أخذ يتسلل إلى أحاسيسهم إزاء غفلة الضمير العالمي والتواطؤ السياسي والعسكري مع الصهيونية من أن هناك اضطهادا عنصريا ودينيا عالميا موجها ضدهم فإن حركة التاريخ التي تخضع لسنن الله في الحق والعدل لن تظل سائرة في طريقها المنحرف ولابد أن عود إلى طريقها الذي ينسجم مع سنن الله ولسوف تنتهي هذه الفترة الاستثنائية الشاذة في التاريخ عندما يوجد المسلمون الواعون بارتباطها بالقدس ارتباط عقيدة وعبادة ارتباط إسراء ومعراج ارتباط قبلة أولى بأختها الثانية ، ارتباط المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال وتضاعف فيها الحسنات وتستحق أن نبذل من أجلها دماءنا وأموالنا أن هؤلاء المسلمين عندما يوجدون سوف تبدأ رحلة  عودة القدس وفلسطين.. وعودة الأمة الإسلامية إلى مكانتها الطبيعية.. خير أمة أخرجت ـ بالحق والخير.. للناس كل الناس.

(إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)

(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)

صدق الله العظيم