موقع القدس


الصفحة الرئيسية لموقع القدس
تاريخ القدس القديم |  قبل الإسلام |  الرومان والقدس |  منذ الفتح الإسلامي |  عهد الأمويين |  عهد الفاطميين |  الإحتلال الصليبي
عهد الأيوبيين |  عهد المماليك |  عهد العثمانيين |  العهد العباسي |  عهد الطولونيين |  الإحتلال البريطاني |  الإحتلال الصهيوني
الصحابة |  علماء وزهاد |  مؤرخون ورحالة |  نساء |  أدباء |  شخصيات فلسطينية وعربية
القدس في التاريخ |  مكانة القدس |  الموقع الفلكي |  كنيسة القيامة |  موقف العرب |  المقاومة |  برنامج القدس
دعم أمريكا لإسرائيل |  القضية الفلسطينية في قرنين |  إحصائيات عن اليهود |  الصهيونية
العهدة العمرية واللورد بالمرستون ونابليون والبيع لليهود ورد الشريف حسن ووعد برلفور
صور القدس 1 |  صور القدس 2 |  صور القدس 3 |  صور القدس 4 |  صور القدس 5 |  مواقع

 

المقاومـــــة

مقال 1

 1999 عـامـا للـقـدس

الأهرام في 26/9/1999

بقلم : أحمد الملا

القنصل العام السابق بالقدس

في اجتماع مجلس وزراء الإعلام العرب، الذي انعقد بالقاهرة يومي 28 و29 يونية من العام الماضي، أصدر المجلس عدة قرارات مهمة من بينها جعل يوم 26 سبتمبر يوما للقدس في الإعلام العربي، يتم فيه التركيز على المخاطر التي تحدث بالمدينة المقدسة ويدخل في إطار هذه الحملة الإعلامية إعداد كتاب حول انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان في القدس والأراضي العربية المحتلة يكون مرجعا موثقا لما ارتكبته إسرائيل من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تمهيدا للمطالبة بتقديم مرتكبي هذه الجرائم إلى العدالة وإلى المحاكمة الدولية كي ينالوا جزاءهم على ما قدمت أيديهم علما بأن هذه الجرائم لا تسقط بمضي المدة.

لقد مضى يوم 26 سبتمبر سنة 97 دون أن نقرأ أو نسمع شيئا في وسائل الإعلام عن قضية القدس، كما لم نعلم عما إذا كان كتاب جرائم إسرائيل قد تم إعداده!! وهذا الكتاب عند إنجازه سيكون في غاية الأهمية لفضح جرائم إسرائيل أمام العالم ولمطاردة مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين عاثوا فسادا في الأراضي المحتلة وانتهكوا حرمة المقدسات الإسلامية والمسيحية وقتلوا الأسرى.

ومنذ سنوات صدر قرار من مؤتمر القمة الإسلامية الثالث بجعل يوم 18 مايو سنة 1984 يوما للقدس تحشد فيه طاقات الأمة الإسلامية وإمكاناتها دفاعا عن المقدسات ومواجهة الإرهاب الصهيوني ضدها. فماذا فعل المسلمون لتنفيذ هذا القرار الصادر منذ أكثر من أربعة عشر عاما؟ وهل نجحنا في وقف ـ ولا أقول دحر ـ العدوان الإسرائيلي على المقدسات والتراث العربي والإسلامي في القدس؟!

ومنذ أسابيع قلائل تم عقد الاجتماع الأخير للجنة القدس بالدار البيضاء برئاسة الملك الحسن الثاني ملك المغرب وبحضور وزراء خارجية 16 دولة من بينها مصر يوم 29 يوليو الماضي. ودارت المناقشات في اللجنة حول الإجراءات التي يجب اتخاذها لمواجهة الأوضاع الخطيرة التي تمر بها مدينة القدس بعد القرار الإسرائيلي بتوسيع حدود بلديتها لتشمل أجزاء من الضفة الغربية، وقد أكدت مصر على لسان وزير خارجيتها السيد عمرو موسى.. أنها مع استمساكها بالسلام كخيار استراتيجي إلا أنه خيار قائم على ما هو قانوني ومعقول، ولا يعني أبدا التهاون أو السكوت إلى ما لا نهاية على الاتجاه الإسرائيلي نحو اللامعقول واللامقبول! وأضاف الوزير أننا ننتظر موقفا موحدا وحاسما تجاه الإجراءات الإسرائيلية في القدس والاتفاق على إجراءات مقابلة.

إن جرائم إسرائيل التي ترتكبها في القدس مازالت مستمرة فهي تعمل على تغيير معالم القدس العربية وتهويدها وهدم مساكن أهلها العرب وبناء مستعمرات يهودية كان آخرها ما أعلنته من اعتزامها بناء 132 وحدة سكنية في حي رأس العمود.

إن مخطط تهويد القدس وتدمير المؤسسات العربية وأماكن العبادة الإسلامية بدأ منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي للقدس يوم 7 يونية 67 حيث شرعت إسرائيل في تغيير الطابع العمراني للقدس وتكوينها الديموجرافي ومركزها القانوني ولم تبال بقرارات الإدانة الصادرة من الأمم المتحدة ولا بصيحات الاستنكار العربية والدولية.

لقد طرح العرب على مر السنوات الثلاثين الماضية قضية القدس في مؤتمرات القمة العربية والقمة الإسلامية ولجنة القدس وصدر عن هذه المؤتمرات بعض القرارات الإيجابية، ولكن لم يتم إنشاء آلية عربية وإسلامية لمتابعة هذه القرارات ووضعها موضع التنفيذ وبصفة خاصة قرارات المقاطعة التامة لإسرائيل ووقف تطبيع العلاقات معها، وإغلاق مكاتب التمثيل السياسي والتجاري التي سبق أن أقيمت بين بعض الدول العربية وإسرائيل، وإنشاء بيت مال القدس لدعم مؤسساته العربية ومساعدة أهله على الصمود.

فقد حذر عالم الآثار الفلسطيني الدكتور إبراهيم الغني ـ في مؤتمر صحفي عقده أخيرا ـ من أن إسرائيل قد أعدت مشروعا لنقل الصخرة المشرفة إلى باب الخليل ـ وهذه الصخرة هي التي بني فوقها مسجد قبة الصخرة في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ـ وقد بهر رونق المسجد وبهاؤه علماء الآثار والزائرين على مر العصور حتى ان عالما الآثار هايتر لويس وجوستاف لوبون وصفا المسجد بأنه أجمل بناء فوق سطح الأرض.

وقد ذكر الدكتور إبراهيم أن الشروع في بناء مستعمرة راس العمود ستكون إشارة إلى بدء تنفيذ الهيكل وان إسرائيل كانت تنوي تنفيذ مشروع بناء الهيكل عام 2025 ولكنها قررت الإسراع بتنفيذه عام 2008 ، كما عرض الدكتور إبراهيم خرائط وفيلم وثائقي ومعلومات توضح طبيعة الإنفاق والحفريات التي قامت بها إسرائيل تحت المسجد الأقصى مما يهدده بالانهيار.

لقد أوقف نيتانياهو مسيرة السلام منذ توليه الحكم منذ أكثر من عامين ولم تستطع الولايات المتحدة أن تزحزحه عن مطامعه في ابتلاع القدس وإحكام سيطرته عليها، فإلى متي يظل العرب واقفين متفرجين؟! لابد من حشد قوي الأمة العربية والإسلامية لمواجهة التحدي الإسرائيلي الذي يوشك على إتمام تهويد القدس ثم إزالة المقدسات الإسلامية تمهيدا لإقامة الهيكل.

لنجعل عام 1999 عاما للقدس وقد أصبح انعقاد قمة عربية ضرورة لا غنى عنها لاتخاذ الإجراءات الحاسمة لردع إسرائيل عن المضي في تهويد القدس ولاتخاذ القرارات اللازمة لدعم قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف والتي من المقرر إعلان قيامها في مايو عام 1999.

وليكن القدس أنشودة على كل لسان حتى يظل كامنا في وجدان كل عربي ومسلم فمهما طال الليل فلابد أن ينقضي الظلام ويشرق نور الحق ويسود السلام العادل في أرض السلام.

 

 

مقال 2 المقاومة الفلسطينية خلال نصف قرن

مدخل للتقييم

1948-1998م

(1/2)

مجلة البيان - العدد 132

د. محسن محمد صالح

شهد عام 1948م إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين؛ حيث تمكن من الاستيلاء على 78% من هذه الأرض المباركة، وتشريد معظم أبنائها، وقد أخذ هذا الكيان يرسخ أقدامه في المنطقة، ويستقدم اليهود من شتى أنحاء العالم، كما استطاع أن يشكل خطراً كبيراً على المنطقة العربية والإسلامية وأمنها واستقرارها، وأن يسهم في إضعافها وتمزيقها، مستفيداً من دعم الدول الكبرى  غير المحدود  وخصوصاً الولايات المتحدة. ولم تنجح الجيوش العربية سنة 1948م في مواجهة هذا الخطر، كما هزمت مرة ثانية سنة 1967م وضاع ما تبقى من فلسطين فضلاً عن أراض عربية أخرى. غير أن المقاومة الفلسطينية للكيان الصهيوني استمرت بأشكال مختلفة ودرجات متفاوتة طوال الفترة الماضية.

وفي هذا المقال نحاول تسليط الضوء على تجربة المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني خلال الخمسين سنة الماضية، وسنقسم هذا الموضوع إلى قسمين:

الأول: نستعرض فيه مراحل المقاومة التي خاضها الفلسطينيون خلال تلك الفترة.

والثاني: نحاول فيه تقديم تقييم أولي لهذه التجربة.

أولاً: مراحل المقاومة:

المرحلة الأولى: 1948  1967م:

منذ البداية وجد ثلثا شعب فلسطين أنفسهم مشردين لاجئين (أكثر من 800 ألف)(1) بعد أن وضع الكيان الصهيوني يده على أربعة أخماس فلسطين، وتم تغييب دور القيادة الفلسطينية الوطنية الممثلة يومذاك بالحاج أمين الحسيني ورفاقه الذين شكلوا حكومة عموم فلسطين التي حرِمت ممن ممارسة صلاحياتها على الأرض، وضَمّت الأردنّ الضفةَ الغربيةَ فيما وضعت مصر قطاعَ غزة تحت إدارتها.

وفي هذه المرحلة علّق الفلسطينيون آمالهم على (قومية المعركة) وعلى الأنظمة العربية وخصوصاً مصر بزعامة عبد الناصر، وكان شعار: (الوحدة طريق التحرير) هو الشعار البراق لتلك المرحلة. غير أن الأنظمة العربية اتخذت صبغات علمانية ذات مضامين اشتراكية أو غربية أو محافظة، وشهدت فترة الخمسينيات والستينيات مداً قومياً ويسارياً جارفاً، وانحساراً مؤلماً للتيار الإسلامي، ورغم حالة العداء والحروب مع الكيان الصهيوني، إلا أن الخط البياني للأنظمة العربية كان يسير باتجاه (التسوية) وليس باتجاه (التحرير) وتم تبني المقاومة الفلسطينية لأسباب تكتيكية مرحلية وليس لأسباب استراتيجية شاملة. وسارت سياسات دول المواجهة مع المقاومة الفلسطينية ضمن خطين:

الأول: ضمان أمن النظام وبقائه، وعدم تعريضه لمخاطر الانتقام الصهيوني، ومن ثم ضبط العمل الفدائي، ووضعه تحت السيطرة ما أمكن، ومنعه من استخدام الحدود للقيام بعمليات مسلحة.

والخط الثاني: السماح المرحلي التكتيكي بوجود المقاومة وعملها، تحقيقاً لمكاسب سياسية وشعبية أو تجنباً لاضطرابات داخلية، وتنفيساً عن غضب الجماهير، ولذلك بقيت حدود دول المواجهة مع العدو مغلقة محرمة على العمل الفدائي الفلسطيني طوال الخمسين عاماً الماضية، مع استثناءات لفترات محدودة فرضتها ظروف معينة، وكان أهم هذه الاستثناءات جنوب لبنان، الذي تشكلت فيه قاعدة مقاومة قوية بعد 1967م، ليس بسبب رغبة النظم الحاكمة هناك، وإنما بسبب ضعفه وقوة الثورة وقاعدة تأييدها الواسعة.

وفي هذه المرحلة، اتخذت المقاومة الفلسطينية أشكالاً بسيطة محدودة التأثير، بانتظار دور عربي حاسم، فكثرت عمليات اختراق الحدود الفردية لاسترجاع ممتلكات للعائلات أو للانتقام من الغاصبين. ونشط الإخوان المسلمون في قطاع غزة في تشجيع وتجنيد الشباب للقيام بالعمليات الفدائية، وساعدهم في ذلك ضباط إسلاميون مصريون من أمثال عبد المنعم عبد الرؤوف، وقام الإخوان في النصف الأول من الخمسينيات بزرع الألغام، ونسف المنشآت، وتخريب خطوط المياه والكهرباء مما أدى إلى ردود فعل صهيونية متغطرسة، وإثر مذبحة غزة التي قامت بها القوات الصهيونية في 28 شباط / فبراير 1955م، وإثر انتفاضة غزة في الأول من آذار/ مارس 1955م وافقت القيادة المصرية على العمل الفدائي الفلسطيني، ووضعته تحت إشراف الضابط المصري مصطفى حافظ الذي قام بواجبه خير قيام. وتدفق الآلاف للتطوع؛ غير أنه تم انتقاء العناصر ذات الخبرات القتالية وذات المعرفة بالأرض، وزاد عدد الفدائيين العاملين عن الألف، وكثير منهم من أبناء الحركة الإسلامية ومؤيديها، وقاموا بعمليات يومية خاطفة، وأحياناً بعمليات كبيرة واسعة شارك في إحداها 300 فدائي في نيسان / إبريل 1956م توغلوا لمسافات كبيرة ونجحوا في مهامهم(2).

وحتى بعد حظر نشاط الإخوان المسلمين في القطاع، وتعرضهم للمطاردة فقد استمروا في عملهم الجهادي السري، وشكلوا مجموعات جهادية مسلحة مثل (شباب الثأر) و (كتيبة الحق) وكان لهم دورهم المشهود في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للقطاع تشرين الثاني/ نوفمبر 56 آذار/ مارس 1957م إثر العدوان الثلاثي على مصر. وبرز من الإخوان خليل الوزير (أبو جهاد) الذي كان أحد أنشط عناصرهم العسكرية. غير أن ظروف محاربة النظام الحاكم في مصر للإخوان، وإفساح المجال للتيارات القومية واليسارية، فضلاً عن هجرة العديد من الكفاءات ورموز الإخوان إلى الخارج وخصوصاً دول الخليج، كل ذلك أضعف من قوة حركة الإخوان في القطاع وهمّش دورها منذ أواخر الخمسينيات وحتى عام 1967م(3).

ومنذ تلك الفترة استمر سلوك الحركة الإسلامية العام بالمحافظة على النفس والتركيز على الجوانب الإيمانية والتربوية؛ غير أن هذا لم يمنع من ظهور تساؤلات وسط الصف الشبابي (الإخواني) عن وسائل العمل الممكنة لقضية فلسطين، فأخذ يظهر توجه للقيام بعمل منظم مسلح لا يتخذ أشكالاً إسلامية ظاهرة، وإنما يتبنى أطراً وطنية عامة تمكن من تجنيد قطاع واسع من الشباب، ولا تصطدم بعداء وملاحقة الأنظمة، وقدم خليل الوزير مشروعاً بذلك إلى قيادة الإخوان في غزة، لكنه لم يحصل على ما يرجوه. وفي المقابل شكلت تجربة الثورة الجزائرية المظفرة بارقة أمل، ودفعة معنوية كبيرة للقيام بعمل وطني. وقد كانت هذه هي البذور الأولى لنشأة حركة فتح التي خرجت أساساً من أحضان الإخوان المسلمين، وبالذات أبناء قطاع غزة  ورغم عدم استجابة المسؤولين من الإخوان إلا أن عدداً من ذوي المكانة والاحترام بين القواعد  ممن اقتنعوا بهذا التصور  قاموا بدعوة إخوانهم الآخرين للانضمام لهذه الحركة، وكان منهم سعيد المزين (أبو هشام) وغالب الوزير، وانضم إليهم عدد من الإخوان المرموقين في ذلك الوقت مثل: سليم الزعنون (أبو الأديب) وصلاح خلف (أبو إياد) وأسعد الصفطاوي، ومحمد يوسف النجار، وكمال عدوان، ورفيق النتشة، وتمكنت فتح من تجنيد أفراد كثيرين ممتازين من الإخوان، وكان الإخوان يعتبرون هذه الحركة منهم أو رصيداً لهم، وقد نشأت فتح في الكويت في أواخر 1957م؛ وتشير إحدى المصادر الإخوانية أن قيادتها الأولى كانت من خمسة أعضاء أربعةٌ منهم من الإخوان أو ذوو جذور إخوانية هم: أبو جهاد، ويوسف عميرة، وعبد الفتاح حمود، وسليمان حمد، والخامس (أبو عمار) ياسر عرفات الذي كان قريباً من الإخوان. لكن على ما يبدو فإن قيادة الإخوان في غزة أصرت إما على الإشراف الكامل على الحركة بوجود ثلاثة أعضاء تعينهم بنفسها أو بالانفصال عن الحركة، ولما لم تستجب فتح لذلك فقد أمر الإخوان قواعدهم بالانفصال وخيّروهم بين إحدى الجهتين وذلك في عام 1963م، وهكذا خسر الطرفان بعضهما بعضاً وتوسعت فتح في تجنيد العناصر من تيارات مختلفة(4).

استطاعت حركة فتح تشكيل جناح عسكري (العاصفة) وقامت بأول عملياتها العسكرية في مطلع 1965م وتمكنت من شن حوالي 200 عملية منذ ذلك الوقت وحتى حرب حزيران/ يونيو 1967م وقد اتهمتها الأنظمة العربية بالرجعية والعمالة، ومحاولة جرها للحرب مع العدو قبل الأوان، وقامت بملاحقة أفرادها وسجنهم، ومنعهم من التحرك والعمل، لكن هزيمة الأنظمة في 1967م فتحت أمامها آفاقاً جديدة(5).

ومن جهة أخرى دعمت الأنظمة العربية منظمة التحرير الفلسطينية في حزيران/ يوليو 1964م بزعامة أحمد الشقيري، ورغم أن هدف بعض هذه الأنظمة كان وضع المقاومة الفلسطينية تحت الإشراف والسيطرة بعد شعورهم بما كانت تموج به الساحة من حركات سرية وأنشطة بعيدة عن التحكم الرسمي، ورغم ذلك فإن (م. ت. ف.) لقيت تأييداً شعبياً باعتبارها ممثلاً للكيان الفلسطيني والهوية الوطنية التي جرى تغييبها، هذا مع تحفظ عدد من الجهات ومنها فتح على خلفيات إنشائها، وعدم قدرة (م. ت. ف.) على القيام بواجباتها، وقد تم تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني الذي أقر إنشاء (م. ت. ف.) وميثاقها، كما تقرر تشكيل جيش التحرير الفلسطيني ليتبع (م. ت. ف.) وتم القيام بعدد من الجهود التعبوية والإعلامية(6).

المرحلة الثانية، 1967م  1987م:

كشفت حرب حزيران/ يونيو عام 1967م مدى الضعف الذي كانت تعاني منه الأنظمة العربية، ووضعت حداً للآمال التي كانت معلقة عليها، وشعر الفلسطينيون أكثر من أي وقت مضى بضرورة أخذ زمام المبادرة بأيديهم، واضطرت الأنظمة تفادياً لموجات الغضب الشعبي أن تفسح المجال للعمل الفدائي، الذي استطاع أن يبني قواعد قوية وواسعة في الأردن ولبنان، واستطاعت التنظيمات الفدائية بزعامة فتح أن تصل إلى قيادة (م. ت. ف.) التي أصبحت برئاسة (أبو عمار) منذ شباط / فبراير 1969م، وبرز خط الكفاح الشعبي المسلح وحرب العصابات، واكتسبت الشخصية الوطنية الفلسطينية زخماً كبيراً، وتمكنت (م. ت. ف) في مؤتمر الرباط في تشرين الأول/ أكتوبر 1974م من الحصول من الأنظمة العربية على الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني، وفي الشهر التالي حققت انتصاراً سياسياً عندما ألقى أبو عمار خطابه في الأمم المتحدة (دون أن يتنازل عن أي من حقوق الفلسطينيين، وتم قبول (م. ت. ف) عضواً مراقباً، وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في منتصف السبعينيات قرارات تؤيد حق شعب فلسطين في تقرير مصيره، بل وفي الكفاح المسلح لنيل حقوقه.

كانت الفترة بين 1967م  1970م هي الفترة الذهبية للعمل الفدائي الفلسطيني، وكانت معركة الكرامة في 21 آذار / مارس 1968م إنجازاً معنوياً ومادياً كبيراً لحركة فتح، بعد أن تم تكبيد العدو الصهيوني خسائر كبيرة، فاندفع الآلاف للتطوع وتسجيل أنفسهم، وخلال 48 ساعة كان حوالي خمسة آلاف قد طلبوا الانضمام لفتح فقبلت منهم 900 فقط حسب إمكاناتها ومعاييرها. وتطورت العمليات الفدائية من 12 عملية شهرياً 1967م إلى 52 شهرياً سنة 1968م ثم إلى 199 عملية شهرياً سنة 1969م وإلى 279 عملية شهرياً في الأشهر الأولى من سنة 1970م(7).

ومن جهة أخرى فإن الكيان الصهيوني ظل يقوم بحملات متواصلة ضد قواعد الفدائيين في لبنان، بل وضد المدنيين وقراهم ومحاصيلهم ليمنع أي دعم محتمل من السكان لإخوانهم، فكان من ذلك هجماتهم على العرقوب بين 1970  1972م، واغتيال ثلاثة من قيادة المنظمة في بيروت في نيسان/إبريل 1973م (محمد يوسف النجار، كمال عدوان، كمال ناصر) وقاموا بحملة اجتياح واسعة للجنوب اللبناني في مارس 1978م، نجحوا على إثرها في إنشاء حزام أمني بقيادة سعد حداد، وفي معركة الشقيف في 19 آب / أغسطس 1980م حققت المقاومة الفلسطينية نجاحاً كبيراً ضد الهجوم الصهيوني. وكان اجتياح الجيش الصهيوني للبنان في صيف 1982م هو الأضخم والأعنف، وقد تمكنت من اجتياح الجنوب بسهولة وسرعة نسبية، غير أنه توقف عند أسوار بيروت حوالي ثمانين يوماً، وُوجِه خلالها بمقاومة عنيفة. لكن الهجوم نجح على أي حال في تدمير معظم البنية التحتية للعمل الفدائي في لبنان، وفي إخراج آلاف المقاتلين الفلسطينيين إلى معسكرات بعيدة في اليمن وتونس والجزائر والسودان، وهكذا ضُيّق الخناق على أي مقاومة فلسطينية محتملة من خارج فلسطين.

وبالتأكيد فإن معدل العمليات الفدائية ضد الكيان الصهيوني قد انخفض في السبعينيات، وتراجع إلى حدود متواضعة جداً في الثمانينيات، غير أن هناك عدداً من العمليات النوعية التي تجدر الإشارة إليها مثل عملية سافوي التي قامت بها فتح في تل أبيب في 6 آذار / مارس 1975م وأدت إلى مقتل وجرح خمسين جندياً وخمسين مدنياً(8)، وعملية كمال عدوان بقيادة دلال المغربي في آذار / مارس 1978م مما أدى على الأقل لمقتل 37 وجرح 82 من الصهاينة(9).

وقامت منظمات فدائية أخرى بعمليات مثل اختطاف الطائرات، والتي برزت فيها الجبهة الشعبية خصوصاً في 1970م، والهجوم على مطار اللد في 30/5/1972م مما أدى إلى مقتل 31 وجرح 80 آخرين(10)، وعملية (الخالصة) التي نفذتها الجبهة الشعبية  القيادة العامة في 11 نيسان / إبريل 1974م(11)، وعملية الطائرة الشراعية التي نفذتها الجبهة نفسها في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987م، وغيرها.

وهكذا، فمنذ عام 1982م أدى الإنهاك العسكري إلى استضعاف سياسي، وكسب أنصار تيار (الواقعية) في (م. ت. ف.) دفعات جديدة باتجاه تبني حلول سلمية. والحقيقة أن (م. ت. ف.) بدأت تغيّر خطابها السياسي منذ فترة مبكرة، خصوصاً منذ تبنيها برنامج النقاط العشر سنة 1974م، وكثرة الحديث عن الحلول المرحلية إلخ.. وكانت موافقة (م. ت. ف.) على مشروع فاس 1983م علامة فارقة لما يتضمنه من اعتراف بحق دول المنطقة في العيش بسلام (بما فيها الكيان الصهيوني)(12).

وواجهت قيادة (م. ت. ف.) سنوات عجافاً خلال 1983م  1987م انعكست على شكل تراجع في الأداء النضالي المسلح، وانتكاسات على المستوى السياسي.

أما من جهة التيار الإسلامي فإن مرحلة 1967م  1987م كانت مرحلة تصاعد تدريجي في الشعبية، ومع نهاية السبعينيات بدأ الاتجاه الإسلامي الفلسطيني يحقق نجاحات واسعة في الداخل والخارج، فعلى الصعيد الطلابي أخذ يسيطر على عدد من الاتحادات الطلابية، وتوسعت دائرة نفوذه في النقابات المهنية، وأخذ الرصيد الشعبي العام في الاتساع على حساب الاتجاهات الأخرى، ولكن هذا التوسع كان في الميدان الشعبي والاجتماعي والخيري والتربوي، بينما بقي العمل الجهادي والسياسي منعدماً أو منحسراً حتى أواخر السبعينيات، ويبدو أن قيادات التيار الإسلامي عملت على بناء قاعدة صلبة لعمل طويل المدى، وعدم الاستعجال في حرق المراحل، وخشيت من تكرار تجارب غير ناضجة لتنظيمات مسلحة ما لبثت أن تحولت إلى (دكاكين) ومكاتب إعلام تخدم أطرافاً عربية معينة لها مصالحها وحساباتها الخاصة، ورأت أن مثل ذلك يلطخ الصورة التي يريدون تقديمها ويورث الإحباط.

وعلى أي حال، فقد كانت هناك مشاركة محدودة للإخوان المسلمين في (معسكرات الشيوخ) في الأردن 1968م  1970م حيث تم تدريب حوالي (300) رجل توزعوا على سبع قواعد فدائية، وعملوا تحت مظلة فتح؛ وعلى محدودية إمكاناتهم، فقد قدموا نماذج مشرفة، فخاضوا عمليات قوية ناجحة مثل الحزام الأخضر 31 آب / أغسطس 1969م ودير ياسين 14 أيلول / سبتمبر 1969م وسيد قطب 28 آب / أغسطس 1970 واستشهد منهم حوالي 13 رجلاً(13).

وفي أواخر السبعينيات، كانت الظاهرة الإسلامية قد قويت في الأرض التي احتُلت سنة 1948م، وكُشف في 1980م تنظيم (أسرة الجهاد) بقيادة فريد أبو مخ وعبد الله نمر درويش، واعتُقل حوالي ستين عضواً، وكان قد قام بعشرات العمليات في الأرض المحتلة(14). وفي قطاع غزة، برز دور المجمع الإسلامي بقيادة الشيخ أحمد ياسين، وفي سنة 1983م قبض على الشيخ أحمد ياسين وعدد من رفاقه، بعد اكتشاف مخزن أسلحة في أحد المساجد، بتهمة إنشاء تنظيم معاد للكيان الصهيوني(15). أما حركة الجهاد الإسلامي فكان أبناؤها المؤسسون أعضاء في (الإخوان) حيث تكونت نواتهم الأساسية من الطلبة الفلسطينيين الدارسين في مصر في أواخر السبعينيات برئاسة د. فتحي الشقاقي، وبدأوا تشكيلاتهم في فلسطين منذ 1980م، ودعوا إلى (الإسلام منطلقاً، والجهاد وسيلةً، وفلسطين هدفاً للتحرير) وكان من أبرز عملياتهم عملية باب المغاربة التي أدت إلى إيقاع حوالي ثمانين إصابة في جنود العدو الصهيوني في 16 تشرين الأول/ أكتوبر 1986م(16).

المرحلة الثالثة: 1987-1998:

بقدر ما تجلت قدرات شعب فلسطين في هذه المرحلة على التضحية والعطاء من خلال الانتفاضة المباركة، بقدر ما كانت الحصيلة مخيبة للآمال  لقد كانت الانتفاضة التي اندلعت في 9 كانون الأول ديسمبر 1987م من أروع وأنبل ما شهده تاريخ فلسطين المعاصر عندما واجه الشعب الأعزل بأطفاله ونسائه وشيوخه الجيش الصهيوني المدجج بالسلاح، و(تحدّت العين المخرز) وواجه الحجر الرصاصة والدبابة. في هذه الانتفاضة شارك الشعب تحت الاحتلال في الضفة والقطاع بكل فئاته واتجاهاته وقطاعاته، وتميزت هذه الانتفاضة بأمرين جديدين: الأول: أن (الداخل) المحتل أخذ زمام المبادرة النضالية، بعد أن كانت بيد العمل من (الخارج). والثاني: (أن التيار الإسلامي شارك بقوة وعنف وفاعلية، وبرز لأول مرة على ساحة المواجهة بحجم منظم مؤثر. لقد أكدت هذه الانتفاضة رفض أبناء فلسطين للاحتلال وإصرارهم على المقاومة، وراقب العالم في ذهول أطفال فلسطين وهم يفضحون آلة القمع الصهيونية، ويكشفون وجهها القبيح، وبدأ العالم يستذكر أن هناك شعباً مقهوراً مستعمَراً اغتُصبت أرضه.

وتميزت المرحلة الأولى من الانتفاضة المباركة بالمواجهة الشعبية الواسعة، والإضرابات، والمظاهرات، ومقاطعة الإدارة المدنية الصهيونية، وتنظيف المجتمع من العملاء ومروجي الفساد والمخدرات، أما المرحلة الثانية: فقد شهدت تنامي العمليات المسلحة ضد الصهانية مع تراجع الأنشطة الجماهيرية خصوصاً منذ أوائل 1992م وحسب مصادر (م. ت. ف.) فإنه خلال الفترة من كانون الأول / ديسمبر 1987م إلى كانون الأول / ديسمبر 1993م، كان قد استشهد 1540 فلسطيني وجرح 130 ألفاً واعتقل 116ألفاً(17).

وقد تلازم إنشاء حركة المقاومة الإسلامية (حماس) مع بداية الانتفاضة، واعتبرت من أكثر الأطراف فاعلية، إن لم تكن أبرزها جميعاً. وقد عرّفت حماس نفسها بأنها جناح للإخوان المسلمين وامتداد لهم، وذكرت في ميثاقها أنها (تعتبر الإسلام منهجها، منه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها، وإليه تحتكم، ومنه تسترشد خطاها). وهدفت إلى تحرير فلسطين، وإقامة دولة الإسلام على أرضها، ودعت إلى تربية متكاملة للأجيال لتحقيق الغايات المرجوة(18). وقد استطاعت حماس أن تحقق شعبية واسعة فكان مؤيدوها يحصلون على ثلث الأصوات وأحياناً نصفها عادة في انتخابات الطلاب والنقابات المهنية. وفي مقابلة صحفية للدكتور هشام شرابي المعروف بميوله العلمانية قال: إن حماس هي الشكل الجديد للمقاومة وأنها (نجحت حتى الآن فيما عجزت عنه (م. ت. ف.) وفصائلها خلال أكثر من ربع قرن في استنباط أشكال جديدة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من الصراع العسكري الفعال باستقلال عن كل عون خارجي)(19)، وقد تطور عمل وأنشطة حماس من المظاهرات والمواجهات الشعبية إلى قذف القنابل الحارقة والطعن بالسكاكين وتصفية العملاء، إلى العمليات الجهادية المسلحة ونصب الكمائن، إلى العمليات الاستشهادية، غير أن أطراف (م. ت. ف.) سعت لاستثمار سياسي سريع للانتفاضة بدخول مؤتمر مدريد 1991م، ثم توقيع اتفاقية أوسلو 1993م وبدء مشروع الحكم الذاتي 1994م، وقد زاد هذا من صعوبة عمليات حماس، وأصبحت تتعرض لضغط فلسطيني وصهيوني مشترك؛ ورغم ذلك فقد شهدت الفترة من 1994م  1997م عدداً من العمليات النوعية القوية ومن ذلك ردها على مذبحة المسجد الإبراهيمي بخمسة عمليات عنيفة، وردها على مقتل المجاهد يحيى عياش (الذي كان مهندساً لعمليات أدت لقتل حوالي سبعين إسرائيلياً وجرح 340 آخرين) بعدة عمليات في شباط / فبراير، وآذار / مارس 1996م هزت الكيان الصهيوني واستدعت عقد مؤتمر (شرم الشيخ) الدولي بحضور الدول الكبرى لمكافحة (الإرهاب)(20).

وحسب إبراهيم غوشة الناطق الرسمي باسم حماس فإن الحركة قدمت منذ الانتفاضة حوالي سبعمائة شهيد(21)، ولا تزال حماس تتعرض للملاحقة والمطاردة والاجتثاث، من قِبَل سلطات الحكم الذاتي ومن قِبَل الكيان الصهيوني.

ومن جهة أخرى فقد قامت حركة الجهاد الإسلامي بعدد من العمليات النوعية والاستشهادية مثل عملية نتساريم في تشرين الثاني/ نوفمبر 1994م وعملية (بيت ليد) في 22 كانون الثاني/ يناير 1995م وعملية (تل أبيب) في 4 آذار/ مارس 1996م كما قتل قائد الحركة د. فتحي الشقاقي  ونحسبه من الشهداء  في عملية اغتيال نفذها الموساد الصهيوني في 26تشرين الأول/ أكتوبر 1995م(22).

وبلا شك فإن الاتجاه الإسلامي الفلسطيني يعمل الآن في ظروف غير مواتية، ولكنها ظروف تمكنه من التمايز، ومعرفة العدو من الصديق.

ومن جهة أخرى فقد عدّت قيادة (م. ت. ف.) الانتفاضة رافعة سياسية لها، فحاولت استثمارها بشكل مبكر؛ وقامت بتشكيل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة لتتولى توجيه فعالياتها، وشاركت الفصائل الفلسطينية  وخصوصاً فتح  بفعالية في المرحلة الأولى من الانتفاضة، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 1998م طرحت (م. ت. ف.) مبادرتها السلمية واعترفت لأول مرة بقرار الأمم المتحدة رقم 242 وهو ما كانت ترفضته طوال 21عاماً، وأسهم سقوط الاتحاد السوفييتي وانحلاله، والهجرة اليهودية الواسعة إلى فلسطين المحتلة منه ومن أوروبا الشرقية (حوالي 700 ألف) وكذلك الاحتلال العراقي للكويت، وما رافقه من نتائج سلبية أضعفت البلاد العربية والإسلامية، كل ذلك أعطى فرصة ذهبية للضغط على الفلسطينيين للذهاب إلى مؤتمر مدريد في تشرين الأول (أكتوبر) 1991م وفق شروط مجحفة، ثم التوصل إلى اتفاقية أوسلو في أيلول/ سبتمبر 1993م ضمن شروط أكثر إجحافاً.

ونتج عن ذلك قيام حكم ذاتي فلسطيني محدود على أجزاء من الضفة والقطاع (لم تتعد إلى الآن 30% من قطاع غزة و6% من الضفة الغربية) وذلك دون أن تحل قضايا الاستيطان الصهيوني وقضية القدس وعودة اللاجئين ودون أن يعطى الفلسطينيون حق تقرير مصيرهم. وقد أمل الكثير من الفلسطينيين أن يكون اتفاق أوسلو أساساً تبنى عليه مطالب جديدة، ولكنه  كما يبدو الآن  فإن الآمال تسعى إلى الوصول إلى سقف أوسلو، بعدما أبدى الصهاينة من مماطلات وشروط تعجيزية إلخ(23).

والآن فإن مناضلي الأمس الذين قاتلوا لتحرير أرض 1948م قبل سقوط الضفة، والقطاع، يجدون أنفسهم في مواجهة مجاهدي اليوم، وها هم يتهمون مجاهدي اليوم بما اتّهموا هم به عندما بدأوا نضالهم قبل أكثر من 30 عاماً من قِبَل معارضيهم! فلمن تكون العاقبة؟ لا شك في أن (العاقبة للمتقين).

الهوامش :

(1) انظر الموسوعة الفلسطينية، إعداد إبراهيم المرعشلي وآخرين، ط 1 (دمشق، هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1984م)، ج 4، ص 579

(2) انظر: المرجع نفسه، ج 3، ص 393  396، وعبد الله أبو عزة، مع الحركة الإسلامية في الدول العربية (الكويت، دار القلم 1986م) ص 26  53.

(3) أنظر عبد الله أبو عزة، مرجع سابق، ص 26  53.

(4) المرجع السابق، ص 71، 96.

(5) سليمان حمد، رسالة الكويت، 17 يوليو 1994م

(6) انظر صلاح خلف (أبو إياد) فلسطيني بلا هوية، ط 2 (عمان: دار الجليل للنشر 1996)، ص 75  83.

(7) حول (م. ت. ف.) ونشأتها انظر: أسعد عبد الرحمن، منظمة التحرير الفلسطينية، والموسوعة الفلسطينية، ج 4، ص 313  325.

(8) صلاح خلف، مرجع سابق، ص 96  98.

(9) الموسوعة الفلسطينية، ج 2 ص 567.

(10) المرجع السابق، ج 3، ص 661  662.

(11) المرجع السابق، ج 4، ص 42.

(12) المرجع السابق، ج 2، 313  314.

(13) انظر: منير الهور وطارق العيسى، مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية 1947م  1985م، ط 2، (عمان: دار الجليل، 1986م) ص 220  221.

(14) حول معسكرات؛ الشيوخ انظر: محسن صالح، الطريق إلى القدس، ط 2 (لندن: فلسطين المسلمة 1998م)، ص 996.

(15) انظر: زياد محمود غنيمة، عداء اليهود للحركة الإسلامية (عمان: دار الفرقان: 1982م) ص 100  102.

(16) ربعي المدهون (الحركة الإسلامية في فلسطين 19281987) مجلة شؤون فلسطينية، عدد 187، أكتوبر 1988م، 20  23.

(17) انظر: مقابلة للدكتور فتحي الشقاقي مع مجلة الوسط، لندن 6 نوفمبر 1995م.

(18) جريدة صوت الشعب (الأردن) 8 ديسمبر 1993م.

(19) انظر ميثاق الحركة الإسلامية حماس (نشر في 19 أغسطس 1988).

(20) جريدة الحياة، لندن، 5 مارس 1995م.

(21) انظر حول تفصيلات عمليات حماس: غسان دوعر، مرعد مع الشاباك (لندن: فلسطين المسلمة، 1995م) وغسان دوعر، المهندس (لندن: فلسطين المسلمة، 1997م).

(22) جريدة الأردن، عمان (الأردن، 17 أغسطس 1996م).

(23) انظر: مجلة فلسطين المسلمة، ديسمبر 1994، وجريدة الرأي، عمان (الأردن، 23  25 يناير 1995م وجريدة الحياة 30 اكتوبر 1995م.

(24) حول التسوية السلمية وانعكاساتها انظر مثلاً: جواد الحمد، عملية السلام في الشرق الأوسط وتطبيقاتها على المسارين الفلسطيني والأردني (عمان: مركز دراسات الشرق الأوسط، 1996م)، وعماد يوسف وآخرون، الانعكاسات السياسية لاتفاق الحكم الذاتي الفلسطيني (غزة  أريحا أولاً) (عمان: مركز دراسات الشرق الأوسط، 1994م).

 

 

مقال 3 المقاومة الفلسطينية خلال نصف قرن

1948-1998م

مدخل للتقييم

(2/2)

مجلة البيان - العدد 133

د. محسن محمد صالح

في الحلقة الماضية استُعرضت تجارب المقاومة الفلسطينية عبر مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى (1948  1967): حيث برزت المقاومة الفلسطينية وظهرت حركة فتح و(م. ت. ف.).

المرحلة الثانية (1967  1978): تصاعُد دور فتح العسكري وتوالي عملياتها الفدائية ضد العدو، ثم ردود الفعل الصهيونية التي توالت حتى احتلال جنوب لبنان، وإضعاف المقاومة، وبروز تيار (السلم)، وتنامي التيار الإسلامي.

المرحلة الثالثة: (1987  1998): قيام الانتفاضة الشعبية في الداخل التي شارك فيها الإسلاميون بقوة، وظهور (حركة حماس) التي قادت الجهاد المسلح. ثم مسارعة (م. ت. ف.) إلى مدريد، ثم اتفاق أوسلو و(الحكم الذاتي)، ومجابهة السلطة الفلسطينية والعدو الصهيوني معاً للتيار الإسلامي، ومحاولة تحجيمه بالاتفاقات الاستسلامية.. ويواصل الكاتب بقية الموضوع... البيان

ثانياً: تقويم التجربة

لو حاولنا تقييم تجربة المقاومة الفلسطينية خلال الخمسين سنة الماضية  بناءً على النتائج والأحوال التي وصلنا إليها الآن  لوجدنا أن الأمر يدعو إلى القلق والأسى؛ فقد تجذر المشروع الصهيوني في المنطقة، وتمكن من التوسع واحتلال أراضٍ جديدة سنة 1967م، وكسر شوكة المقاومة الرسمية العربية والفلسطينية. ونجح في ضمان دعم الدول الكبرى بدرجات متفاوتة أقلها الاعتراف بشرعية وجوده واحتلاله لمعظم أرض فلسطين (فلسطين المحتلة سنة 1948)،وحظي بالرعاية والحماية الأمريكية، وتمتع بالتحالف الاستراتيجي معها، وقفز عدد اليهود من 650 ألفاً سنة 1948م إلى حوالي أربعة ملايين و700 ألف في 1997م يمثلون 36% من يهود العالم. وتمكن الصهاينة من صناعة القنبلة النووية، وتجهيز حوالي مائتي قنبلة تشكل خطراً كبيراً على العالم الإسلامي أجمع. كما استطاعوا تحييد دول عربية، وإبعادها عن دائرة الصراع بإقامة معاهدات سلام معها (مصر والأردن) وحققوا معاهدة سلام مع (م. ت. ف.) وفق شروطهم، وهي معاهدة تسهم في حل مشاكلهم أكثر مما تسهم في الاستجابة لمطالب الفلسطينيين. ووجد الفلسطينيون أنفسهم يقطفون ثماراً ضئيلة فجة قياساً إلى حقوقهم وآمالهم.

ورغم أن ميزان النتائج والمنجزات يميل بشكل صارخ إلى الجانب الصهيوني الإسرائيلي، فإن هناك بعضاً من المنجزات التي تحسب للجانب الفلسطيني، أهمها:

* المحافظة على جذوة المقاومة والعداء ضد المشروع الصهيوني طوال الفترة الماضية.

* الاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني، وأنه ذو حقوق مشروعة، بعد أن كادت القضية أن تمحى، وتعالج على أساس أنها مشكلة لاجئين.

* تحقيق تعاطف دولي كبير، ودعم لقضية فلسطين، وعزل الكيان الإسرائيلي سياسياً خاصة في السبعينيات (ما لبث الكيان الإسرائيلي أن حقق مكاسب سياسية كبيرة خاصة بعد معاهدات السلام).

* إخفاق الكيان الإسرائيلي في تحقيق أي اختراق تطبيعي شعبي في البلدان التي أقام علاقات سياسية معها، واستمرت مشاعر العداء الشعبي العربي والإسلامي ضده.

* بداية بروز المشروع الإسلامي لتحرير فلسطين، والذي يبشر بنتائج طيبة على المستوى الاستراتيجي البعيد.

لكن تقويم التجربة يجب أن يتعدى دائرة النتائج لنفهم الأسباب والخلفيات التي أدت إليها، وفيما يلي نقدم مجملاً مختصراً لذلك:

أولاً: إشكالية المنهج:

تميز الخط الأيديولوجي الفلسطيني العربي بأنه خط علماني، راوح بين دائرتي الوطنية والقومية، كما كان هناك قطاع فلسطيني لا يُنكر حجمه  خصوصاً في الستينيات والسبعينيات  تبنى أيديولوجيات يسارية اشتراكية ماركسية (الجبهتان الشعبية والديمقراطية مثلاً).

وكان الهدف  في البداية  الوصول إلى تحرير كامل أرض فلسطين. غير أن عدم وجود منهج ثابت مبني على مبادئ محددة لا يمكن تجاوزها حتى ولو بحجة المصلحة، يقدم رؤية سليمة لطبيعة الصراع ضد المشروع الصهيوني، ويستطيع استنهاض طاقات الأمة وتجنيدها في المعركة؛ قد أدى غياب هذا المنهج إلى ضبابية الرؤية، والنزوع للاستجابة الدائمة للضغوط و (متطلبات المرحلة) والسعي للبقاء في الساحة ودائرة الضوء مهما كانت التنازلات.

وقد أثر هذا بشكل كبير على الأهداف التي جرى تقزيمها مع مرور الأيام، فمن تحرير فلسطين وإخراج الغاصبين، إلى القبول بالدولة الديمقراطية التي تشمل الجميع بمن فيهم كل اليهود الغاصبين، إلى إقامة الدولة على أي جزء يتم تحريره، إلى إقامة الدولة على أي جزء ينسحب منه العدو، إلى الاعتراف بالقرار الظالم (242) الذي يتعامل مع قضية فلسطين باعتبارها مشكلة لاجئين، إلى التفاوض على الضفة الغربية وقطاع غزة  فقط (22%) من فلسطين  إلى الوصول إلى إقامة حكم ذاتي ضعيف يفتقد شروط السيادة على أجزاء ضئيلة من الضفة والقطاع.

لقد كان المنهج الذي تم تبنيه بعيداً عن عقيدة الأمة وتراثها الحضاري؛ حيث جرى استبعاد المنهج الإسلامي الذي يملك استنهاض طاقات الأمة وتعبئتها، ويعد الجهاد لتحرير فلسطين عبادة وتقرباً إلى الله، ولا مجال فيه للتنازل عن حقوق المسلمين في الأرض المباركة مهما طال الزمن وكثرت التضحيات، وهو المنهج الذي جُرّب تاريخياً فكان فتح فلسطين على يد عمر بن الخطاب، وكان استردادها على يد صلاح الدين في حروبه مع الصليبيين، وعلى يد قطز في حروبه مع التتار، وكلهم كان لهم الإسلام هادياً ومناراً، وإذا كان المسلمون يؤمنون بأن النصر من عند الله  سبحانه  فإن الأوْلى بهم السير على منهجه لينالوا مدده وتوفيقه.

ثانياً: إشكالية القيادة:

من المؤسف أن القيادة السياسية الفلسطينية خلال الثلاثين سنة الماضية افتقدت التجانس، وعانت من تباين أهداف الأطراف المشاركة في قيادة (م. ت. ف.)، وسعت بعض القيادات إلى مراعاة مصالح أطراف عربية معينة تتلقى منها الدعم على حساب أولويات العمل للقضية، كما راعت قيادات أخرى رؤية مصالح روسيا (الاتحاد السوفييتي سابقاً) باعتبارها طرفاً اشتراكياً ماركسياً.

ولم تحترم القيادة العمل المؤسسي، وتمكن الرجل الأول من جمع كل الصلاحيات الممكنة بيده، وأمسك تماماً بعصب القرار السياسي وبعصب الإنفاق المالي، وبعصب الأجهزة الأمنية والعسكرية. وأصبح العديد من القضايا الحساسة المهمة تخضع لمبادرة وقرار (الزعيم) وهذا أعطى فرصة كبيرة لنمو الخلالات(*) والمحسوبيات، وأسهم في تفكك البناء الداخلي للثورة الفلسطينية بقيادة (م. ت. ف.) وإضعاف أجهزتها، وخروج وتحييد الكثير من الكفاءات والطاقات، وقد كشفت تحقيقات عديدة عن فساد إداري ومالي كبير، كان أبرزها مؤخراً ما كُشف عن تورط العديد من قيادات سلطة الحكم الذاتي في الضفة والقطاع في ذلك(1).

ويمكن ضرب مثال على المبادرات الفردية بمفاوضات أوسلو السرية التي لم تكن معظم القيادة الفلسطينية تعلم عنها شيئاً، كما لم يكن يعلم عنها الوفد الفلسطيني الرسمي المفاوض الذي تشكل إثر مؤتمر مدريد سنة 1991م.

كما لم تنجح القيادة الفلسطينية في التفاهم والتعاون مع التيار الإسلامي المتنامي في المنطقة، وسعت إلى تحييده وعزله فضلاً عن محاولات ضربه وتصفيته.

وهكذا، فإن القيادة خسرت مع مرور الزمن الكثير من قواعدها وجماهيرها، وأصبحت أضعف قدرة في مجالات التعبئة والتأثير، وصار الارتباط بالمنصب ودوائر الأضواء أهم لدى البعض من استمرار التضحية والكفاح.

ثالثا: إشكالية المؤسسات:

يوفر العمل المؤسسي المبرمج إمكانيات أفضل لاستغلال الطاقات، وتوفير الجهود وترسيخ العمل واستمراره دون الارتباط بالأشخاص، كما توفر المؤسسات السياسية البرلمانية إمكانات أفضل للمراقبة والمحاسبة وضبط المسيرة.

غير أن ما حدث في العمل الفلسطيني خلال الفترة الماضية يثير الحزن، فمنذ الستينيات تشكلت مؤسسات مهمة مثل المجلس الوطني الفلسطيني، والصندوق القومي، ومركز الأبحاث، ومؤسسات رعاية أسر الشهداء، ودائرة التخطيط، وغيرها؛ غير أن هذه المؤسسات لم تتمكن من تنمية دورها؛ بل على العكس فإن الخط البياني لأنشطتها وتأثيرها شهد هبوطاً كبيراً خصوصاً خلال العشرين سنة الماضية.

وقد أُفرغ المجلس الوطني الفلسطيني من محتواه بتجاوز الكثير من قراراته، وعدم دعوته للانعقاد إلا في فترات متباعدة، وبإدخال عناصر كثيرة بقرارات القيادة السياسية بحيث مالت الكفة إلى الاتجاهات التي تريدها القيادة، فضلاً عن أن هذا المجلس هو مجلس غير منتخب، وبالإضافة إلى ذلك لم يشارك الإسلاميون في هذا المجلس، وهم يمثلون بالتأكيد قطاعاً عريضاً من الشعب، ومع تجمع الصلاحيات في يد الرئيس فقد تم تهميش أدوار الصندوق القومي والتخطيط وغيرها.

إن إضعاف العمل المؤسسي أسهم كثيراً في حصر دائرة العمل الفلسطيني في يد حفنة من الناس جعلوا لأنفسهم حق تقرير مصير قضية هي أخطر قضية تواجه العالم الإسلامي في الواقع المعاصر.

رابعاً: إشكالية تضييق دوائر الصراع:

إن طبيعة التحدي المتمثلة في المشروع الصهيوني المدعوم عالمياً تقتضي مواجهة تستجيب لمستوى التحدي وتتمكن من تجنيد كافة القوى الممكنة، وإذا كان المشروع الصهيوني لا يستهدف الفلسطينيين وحدهم، وإنما إضعاف وتمزيق العالم الإسلامي، فإن البديل المقابل هو تعبئة كافة طاقات العالم الإسلامي لمواجهة التحدي.

لقد جرى مع الزمن تقزيم قضية فلسطين وتضييق دائرة الصراع مع العدو، فبعد أن كانت قضية تعني كل المسلمين  أي أكثر من ألف ومائة مليون  تم حصرها في الدائرة القومية العربية في خمسينيات وستينيات هذا القرن؛ بحيث أصبحت تعني 260 مليون عربي (حسب عددهم الآن)، ثم تم حصرها أكثر فأكثر لتصبح قضية للفلسطينيين وحدهم؛ أي حوالي سبعة أو ثمانية ملايين فقط، وكانت الحجة أن (أهل مكة أدرى بشعابها) وأن للفلسطينيين أن يقرروا في شؤونهم ما أرادوا! غير أن هذا الطرح الذي حمل ظاهراً بريئاً لدى البعض أراد أن يغسل من يده مسؤولية العرب تجاه قضيتهم الأولى، وإلقاء العبء على الضحايا الحاليين للمشروع الصهيوني، دون توفير أدنى الشروط اللازمة للنجاح.

إن أرض فلسطين أرض إسلامية وهي أرض مقدسة ومباركة بنص القرآن الكريم، وإليها أسري برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفيها قبلة المسلمين الأولى (المسجد الأقصى) وهي الآن أرض محتلة مغتصبة، وحكمها في الإسلام: أن كافة المسلمين مطالبون بالجهاد للدفاع عنها، ومسؤولون أمام الله  سبحانه وتعالى  عن القيام بواجب تحريرها.

إن تضييق دائرة الصراع واكتفاء الآخرين بالتمنيات والدعاء لا يمكن أن يحل القضية، وسيبقى الخطر جاثماً متصاعداً ما لم يتم رد هذه القضية إلى الدائرة الإسلامية الأوسع.

خامساً: إشكالية الدور العربي والإسلامي:

كما أشرنا سابقاً فإن الخط البياني للأنظمة العربية وخصوصاً دول المواجهة كان يسير باتجاه التسوية وليس باتجاه (التحرير)، وأن الأنظمة سعت بشكل أساسي لضمان أمنها وبقائها وعدم تعريضها لمخاطر الانتقام الصهيوني، كما سمحت بالعمل الفدائي للحركة لأسباب تكتيكية مرحلية. ولم تتبن هذه الأنظمة أية استراتيجيات ومناهج جادة دؤوبة للتعبئة الشعبية وتجهيز الجيوش، وتبني اقتصاد الحرب، بل أغلقت حدودها معظم الفترة الماضية منعاً لأي عمل فدائي جهادي محتمل.

وقد انتهت حرب 1948م التي شاركت فيها الجيوش العربية بكارثة ضياع معظم فلسطين، كما انتهت حرب 1967م بكارثة ضياع ما تبقى من فلسطين، أما حرب 1973م فقد فتحت المجال للتحرك نحو التسوية خصوصاً مع مصر، وليس باتجاه التحرير.

وهكذا فمنذ حوالي 25 عاماً لم تشكل الأنظمة العربية أي مخاطر محتملة على الكيان الصهيوني. بل تركت (م. ت. ف.) تواجه وحدها الاجتياح (الإسرائيلي) على لبنان سنة 1982م مما أدى إلى تدمير معظم البنية التحتية للمقاومة الفلسطينية هناك.

ولقد أخفقت معظم مساعي الوحدة السياسية بين البلاد العربية، كما أخفقت الجامعة العربية في تحقيق أهدافها، وأصبح الهم القُطري المحلي يتجاوز الهموم الأخرى، وأخذت قضية فلسطين تتهمش في واقع الاهتمام الرسمي العربي. كما فتحت الخلافات العربية  العربية الباب واسعاً لإضعاف الجبهة العربية ودورها في محاربة الصهيونية، ومن ذلك: النزاع حول الصحراء الغربية في المغرب العربي، واحتلال العراق للكويت، والحرب اليمنية، والنزاعات المزمنة بين سوريا والعراق، وبين مصر والسودان.. وغيرها.

وإذا كان قد تم تهميش الدور العربي، فمن باب أوْلى أنه قد سبقه تهميش الدور الإسلامي منذ مراحل مبكرة؛ حيث أصبح العالم الإسلامي في موقع المتفرج الذي فقد فاعليته لأداء أي دور إيجابي حقيقي في قضية فلسطين؛ فالأنظمة في العالم الإسلامي لا تختلف كثيراً عن الأنظمة العربية؛ إذ إن معظمها يلتزم التوجهات العلمانية، ومشغول بهمومه المحلية، ومشاكله الاقتصادية.

وقد كان إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1969م إثر حادثة إحراق المسجد الأقصى بادرة أمل بتوحيد جهود المسلمين لدعم قضية فلسطين وقضايا المسلمين، وقد قامت هذه المنظمة بعقد الكثير من الاجتماعات، وأصدرت عشرات القرارات بدعم قضية فلسطين سياسياً ومالياً وعسكرياً وإعلان الجهاد، وغير ذلك، غير أن كل قراراتها بقيت حبراً على ورق؛ لأنها تفتقر إلى أي آلية حقيقية ملزمة لتنفيذ القرارات(2). بل إن بعض البلاد الإسلامية بقي على علاقة قوية (بإسرائيل) مثل تركيا. كما أن النزاعات بين المسلمين أنفسهم أثرت سلباً على دور العالم الإسلامي؛ ومثال ذلك الحرب العراقية  الإيرانية التي استنزفت طاقات وثروات البلدين خلال ثماني سنوات من الحرب 1980م  1988م.

وفوق ذلك كله فإن كثيراً من الأنظمة العربية والإسلامية تفتقر إلى الاستقرار السياسي، وتعاني من أزمات داخلية، ويعاني الكثير من شعوبها من قمع للحريات وكبح للطاقات، كما تعاني التيارات الإسلامية في كثير من هذه البلدان من المنع والملاحقة.

وهكذا، ففي مثل هذه الأوضاع، من الصعب أن تقوم الدول العربية والإسلامية بدورها المأمول.

سادساً: إشكالية التحدي الصهيوني:

يمثل التحدي الصهيوني حالة فريدة وسط التحديات التي تواجه العالم الإسلامي، فقد وجد هذا المشروع أساساً في قلب العالم الإسلامي، وفي المنطقة التي تفصل شطره الآسيوي عن شطره الإفريقي؛ بحيث تبقيه ممزقاً ضعيفاً، وتمنع أي وحدة محتملة له أو ظهور أي قوى إسلامية كبرى في المنطقة بعد سقوط الخلافة العثمانية. لقد كان هذا المعنى واضحاً في توصيات مؤتمر لندن 1905  1907م التي رُفعت إلى رئيس الوزراء آنذاك (كاميل بنزمان)، وكان قد ناقش سيلاً من تحقيق المصالح الغربية والهيمنة على المنطقة الإسلامية. ومما جاء في توصياته أن إقامة حاجز بشري قوي وغريب في المنطقة شرقي البحر المتوسط وعلى مقربة من قناة السويس، قوة عدوة لشعوب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية، هو التنفيذ العملي العاجل للوسائل والسبل المقترحة(3).

إن طبيعة المشروع الصهيوني لا تستهدف استعماراً (كلاسيكياً) للمنطقة، وإنما الاستيلاء على الأرض المباركة وفق ادعاءات دينية وتاريخية، وطرد السكان الأصليين وإحلال اليهود مكانهم، ثم التوسع والتمدد في المنطقة.

غير أن هذا المشروع يكتسب خطورة خاصة عند إدراك دعم وتحالف القوى الكبرى معه، والتي لا يعنيها الفلسطينيون بشكل خاص، وإنما إبقاء المنطقة الإسلامية كلها في دائرة الضعف والتبعية. وبذلك، تصبح (إسرائيل) شرطي المنطقة والعصا التي يتم (تأديب) الآخرين بها.

لكن الكيان الصهيوني لم يعد مجرد (أداة) بيد الآخرين (كما أنه لم يكن بالضبط كذلك في الفترة الماضية) إذ إن دوائر التأثير والمصلحة هي دوائر متبادلة بين الطرفين. كما مكّن الكيان الصهيوني لنفسه عبر وجود (لوبيات) قوية له في أمريكا وأوربا تؤثر في صنع القرار السياسي هناك، فضلاً عن قوتها الاقتصادية والإعلامية. وقد نجح الكيان الصهيوني في تكوين جيش حديث مسلح بكافة الأسلحة، حتى النووية منها والكيماوية والجرثومية؛ بحيث يمكنه نظرياً هزيمة جميع الجيوش العربية مجتمعة.

إن قصف الطيران الصهيوني للمفاعل النووي العراقي وتدميره سنة 1981م، وتدريب ومساعدة الانفصاليين في جنوب السودان على الثورة، ومشاريع السيطرة على منابع النيل في هضبة الحبشة، ومحاولة تدمير المفاعل النووي الباكستاني، كل ذلك يشير إلى حقيقة الدور (الإسرائيلي) في المنطقة وخطورته على العالم الإسلامي.

إن الكثير من المسلمين لم يفهموا طبيعة هذا التحدي، ولم يدركوا مخاطره، ولم يقوموا بأعمال مكافئة لمواجهته، وستبقى أعمال المسلمين هامشية محدودة ما لم يرتفعوا إلى مستوى الصراع.

سابعاً: إشكالية الأداء الدولي المتحيز:

رغم كل ما تشير إليه المواثيق الدولية من حقوق الإنسان وحقوق تقرير المصير للشعوب، ورغم ما تدعيه الدول الكبرى من حماية للحقوق والديمقراطيات إلخ، إلا أنها أسهمت بنفسها في تكريس الظلم في الأرض المقدسة، فتولت بريطانيا التي استعمرت فلسطين (1917  1948م)  رعاية إنشاء الكيان الصهيوني حتى أقيمت (إسرائيل) رسمياً في مايو 1948م، وتبنت القوى الكبرى بما فيها الاتحاد السوفييتي مشروع تقسيم فلسطين في نوفمبر 1947م، وأصبحت الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي الأول للكيان الصهيوني بعد ذلك، وحتى الآن ما تزال توفر له الدعم المالي والعسكري والسياسي والغطاء الدولي لكل ظلم وعدوان يمارسه في فلسطين وغيرها، وتسارع إلى استخدام حق النقض (الفيتو) ضد أي قرار لا يصب في مصلحة الكيان الصهيوني. ولم يمارس المجتمع الدولي أي ضغوط حقيقية لإجبار الكيان الصهيوني على الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة وهضبة الجولان وجنوب لبنان رغم أنه  من الناحية القانونية الدولية  احتلال لأراضي البلاد المجاورة بالقوة، وهو عمل غير مشروع وفق الأنظمة الدولية وأنظمة الأمم المتحدة؛ بينما سارعت الولايات المتحدة وحلفاؤها سنة 1990م  1991م لإجبار العراق على الانسحاب من الكويت حماية لمصالحها في المنطقة.

وهكذا فإن فهم الإشكاليات السابقة يعين في فهم خلفية النتائج والأحوال التي وصلت إليها قضية فلسطين في واقعنا المعاصر وهي نتائج مؤلمة ومؤسفة.

وأخيراً:

إن دراسة تجربة المقاومة خلال الخمسين عاماً تشير إلى بقاء جذوة المقاومة في نفوس المسلمين وعدم الرضا بالظلم والاستسلام، وإن دراسة عوامل الضعف والقصور ووضع اليد على الجروح يفيد في معرفة الطريق الأفضل للمقاومة وتحرير الأرض المباركة.

وإن ظهور التيار الإسلامي بقوة في فلسطين وفي العالم الإسلامي يعطي بشائر مبكرة باتجاه إحداث تحولات إيجابية في سلوك الطريق الصحيح لاسترجاع أرض الإسراء والمعراج.. أرض فلسطين، وما ذلك على الله بعزيز.

الهوامش :

(*) جمع خِلالة بمعنى الصداقة، وهي ما يدعى خطأ ب (الشلل) أو (الشلليات): وهي تعني المجموعات المتفقة على هدف معين.

(1) وجّهت انتقادات حادة لأداء القيادة الفلسطينية (م. ت. ف.)، انظر مثلاً ما كتبه أنيس صايغ مدير مركز الأبحاث الفلسطيني السابق في كتابه، 13 أيلول، ط 1، (بيروت: مكتبة بيسان، 1994)، ص 117  129.

(2) انظر حول منظمة المؤتمر الإسلامي:

Abdullah al-Ahsan , O.I.C. (The Organization of the Islamic Conference) (U.S.A.:IIIT , 1988).

(3) انظر ملف وثائق فلسطين، إعداد وزارة الدفاع القومي، الهيئة العامة للاستعلامات (القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، 1969)، ج 1، ص 131.

 

 

 

مقال 4 حقيقة العلاقة بين هتلر ومفتي فلسطين

مجلة الدوحة العدد: 105

الدكتور السيد فهمي الشناوي

وإذا قيل المفتي فهو مفتي القدس ومفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني. لا مفتي غيره. ومع ذلك فما أقل ما كتب عن هذا الرجل المجاهد.

لا أعرف كتابا واحدا كتب عن حياة الحاج أمين الحسيني في الوقت الذي  كتبت فيه عشرات الكتب بالعربية عن كل فنان أو نطرب أو أراجوز تتوالى طبعاتها حتى اليوم وتدر عائدا على مؤلفها وناشرها معا. بل لقد انتحر من انتحر عند وفاة هذا أو هذه ممن يقال عنهم أنهم فنانون. وأنشئت لكثير منهم تماثيل بيعت في حياتهم ومشاريع خيرية أيضا، وعجت الصحف بالكتابة عن حياتهم ولهوهم وأتفه تصرفاتهم.

وحتى منظمة التحرير الفلسطينية لم تصدر عن المفتي كتابا واحدا رغم سيل المطبوعات التي صدرت وتصدر عنها.

بل إن الزعيم والقائد ياسر عرفات ينتمي إلى عائلة الحسيني واسمه الكامل ياسر عرفات الحسيني، ولمنه يتنازل عن لقب الحسيني هذا .. وإن كان كتاب الغرب الذين يؤرخون للكفاح الفلسطيني لا يتنازلون.

وحتى المؤرخون الغربيون لم يكتبوا عن أمين الحسيني ما يستحقه. لقد ظهر أول مطبوع عنه عام 1942 في لندن بعنوان "مفتي على الشرق الأوسط"، وكان أقرب إلى نشرة سياسية في 36 صفحة صغيرة بقلم مؤلف يدعى وترز. ثم في عام 1947، عام تقسيم فلسطين، ظهر كتيب بعنوان "مفتي القدس" في لندن أيضا. فكان في 91 صفحة ولكنه أيضا كان دعاية سياسية صغيرة، ترويجا لفكرة التقسيم.

ثم قامت إسرائيل عام 48 ونسي أمين الحسيني تماما حتى عشية حرب يونيو التي استعدت لها اليهودية العالمية عام 1965، ففي هذا العام الأخير أصدر اليهودي العالمي يوسف شختمان كتابه عن أمين الحسيني في 320 صفحة، ليصور ويلون أسطورة هذا المجاهد بصورة أبدية تاريخية من المفهوم الصهيوني.

لقد اكتفى أنصار وتلاميذ المفتي أمثال أميل الغوري في مذكراته عن فلسطين عبر 60 عاما وموسى العلمي في "وطني" وأمثالهم بمجرد الإشادة بالرجل وكفاحه في غمار عرضهم لتاريخ الحركة دون نشر تاريخ كامل للرجل يعطيه حقه التاريخي خصوصا في مواجهة الخصوم.

ولعل من أوضح الأمور ما استقر في أذهان الجماهير العربية من أن مين الحسيني عاش في المنفى في أوروبا في كنف هتلر حتى أن إنجلترا كانت تريد محاكمته كمجرم حرب نازي بعد الحرب في محكمة نورمبرج الشهيرة.

والواقع أن هذا أبعد الأمور عن الحقيقة. نعم، لقد عاش في منفاه الاختياري مع قطبي المحور هتلر وموسوليني، ولكن أبدا لم يكن هناك تفاهم واتفاق رأي بينه وبين هتلر كما سنرى. ولقد كان موقفه معه مثل موقف ستالين مع تشرشل وروزفلت، موقف أراد منه خدمة قضيته الوطنية المقدسة، لا الذوبان في حليفه أو اعتناق مذهبه. وبقد أقر الفكر الأوروبي موقف تشرشل وستالين في الوقت الذي ظلم فيه غاية الظلم موقف المفتي مع هتلر. أما عقل الجماهير العربية في الشرق الوسط فقد قبل الطعم الذي صاغه له الغرب دون أدنى مناقشة.

ما يهمني – إنصافا وبحثا عن الحقيقة الخالصة- هو أن المفتي كان الشهيد الحي في سبيل فكرته عن تخليص فلسطين وما حولها من الصهيونية، وأنه في سبيل ذلك فقط على استعداد لمحالفة الشيطان نفسه، لقد كان طراز البيوريتانية الوحيد في السياسة العربية المعاصرة.. وراح ضحية هذه البيوريتانية. ولكنه لم يندم.

أمين الحسيني محورا للأحداث في الشرق العربي:

حكمت بريطانيا فلسطين ما بين عامي 1920، و1948 كدولة انتداب، يقول جون مارلو مؤرخ الشرق الأوسط أن هذا الحكم خلال هذه الفترة كان مقصودا به أن تسلم بريطانيا فلسطين إلى اليهود.

هذه الحقيقة كانت تعلمها بريطانيا وكان يعلمها ساسة العالم كله إلا العرب. وكانت بريطانيا تخفي هذه الحقيقة بقدر الإمكان عن أصدقائها العرب.

ولم يكن يعلم هذه الحقيقة ويعلمها بأبعادها الكاملة إلا مفتي القدس، ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى فيها، ومن ثم أصبح هو بشخصه وحده محور القضية كلها ومحور الأحداث في المنطقة والشخص الذي تطلب رقبته بريطانيا خفية، والصهيونية علنا، ولقد كان هو من النشاط والديناميكية والبيوريتانية السياسية بحيث وهب الفكرة كل حياته، فهي زوجته وهي أولاد. وكأنما تشربت روحه بكل الروحانية القديمة المعروفة في هذه المنطقة من العالم. لقد هرب المفتي من فلسطين في أكتوبر عام 1937 ومع ذلك ظل هو محو القضية. واشتد نفوذه على فلسطين وهو خارجها عما كان وهو داخلها.. كانت هجرة لا هروبا، ثم عاش في لبنان لاجئا سياسيا سنتين حتى أكتوبر 1939 اختفى بعدها فجأة ليظهر في بغداد من أكتوبر 39 حتى مايو 1941. هناك كان هو الدينامو الحقيقي لثورة رشيد عالي الكيلاني وكان هو الرئيس الفعلي للمربع الذهبي (4 ضباط عراقيين سيطروا على الجيش العراقي بقيادة صلاح الدين الصباغ وهو ضابط من أصل مصري دمياطي).

وخلال وجوده في العراق في هذه الفترة ألف حكومة في ظل عربية تمثل كل أقطار العروبة وسبق بهذا فكرة الجامعة العربية وفكرة الوحدة العربية سواء اندماجية أو كونفدرالية، وظل متمسكا بهذا الوضع الوحدوي وهو في منفاه في أوروبا. وأعتقد أن تأليفه لحكومة وحدة عربية في الظل كان هو السبب الحقيقي والخفي الذي دعا أيدن إلى إطلاق فكرته عما أصبح بعد ذلك الجامعة العربية مؤملا -أي إيدن- أن يشكل مجموعة من عرائس المسرح السياسي يحركها هو وبريطانيا بخيوط تنتهي في لندن.

عندما فشلت ثورة رشيد عالي أفلت الحاج أمين مرة ثالثة من أصابع بريطانيا التي تريد الإطباق على عنقه، رغم كل الجواسيس الذين يرصدونه استطاع أن يهرب أو يهاجر بدعوته من بغداد إلى طهران، وهنا أطبقت جيوش الحلفاء على إيران: روسيا من الشمال وبريطانيا من الجنوب، ومرة رابعة يفلت أيضا بأعجوبة. وانتقل من طهران إلى روما ثم إلى برلين حيث مكث ثلاث سنوات ونصف (من أكتوبر 41 إلى مايو 45). هذه الفترة هي التي تهمنا هنا، لأن الإمبريالية والصهيونية صورتها على أنها انضمام إلى المحور، كأنه في خدمة المحور. خدم المحور –هكذا قالوا- بالدعاية والإذاعة وتكوني فرق حربية إسلامية حاربت في صفوف المحور وبالتجسس لصالح المحور: وقد سممت هذه الصورة عقول الكثيرين منا أو على الأقل كانت هي الصورة الوحيدة المتاحة عنه. وهي من ضمن الإسرائيليات الكبرى التي تسربت إلى المعتقدات العربية قديما وحديثا، ومهمة هذه المقالة هي دحض هذه المقولة الإسرائيلية.

عندما أوشك المحور على الانهزام حملته طائرة مدنية ألمانية إلى حدود سويسرا المحايدة بناء على طلبه طبعا. رفضت سويسرا إدخاله، فعاش في باريس نحو عام كامل، ثم هرب إلى القاهرة في عام 46 حيث بقي إلى أن لقي ربه.

قبل أن يصل إلى القاهرة كان هو دائما محور الأحداث وكان دائما يفلت من أصابع تتلمظ شوقا إلى رقبته. منذ أن عاش بين قومه العرب بعد لجوئه إلى القاهرة انطفأ بريق الرجل . لم يشارك في الأحداث. وجرت الأحداث القاسية فوقه. قسمت فلسطين 47 ثم قامت إسرائيل عام 48 ثم عاش ليراها تتربع وتهيمن.

عاش الرجل على مسرح الأحداث 40 سنة (أي أربعة أحقاب) لا يكف لحظة عن حلمه باستقلال فلسطين العربية. لم يترك شيئا أبدا للصدفة . ولم يعترف أبدا بقدرة قوة كبرى على مساعدته في قضيته. ولم يعترف أبدا بالهزيمة ولا اعتبرها آخر المطاف.

اختار منفاه في القاهرة بينما اختار الكيلاني منفاه في مكة.. لأن المفتي كان مصمما على الكفاح السياسي لا الاعتكاف. كانت الأحداث كافية لتحطيم أي زعيم سياسي دولي، ولكن تصميم المفتي كان لدرجة لا تصدق.

لقد ظل إلى آخر نفس في حياته لا ينثني عن مراده، ولكنه كان يعمل بدون حزب وبدون جماعية وكان جهده كله يمثل إرادة فرد ونشاط فرد ومقدرة فرد.

الفوهرر والمفتي وجها لوجه:

عندما هرب المفتي من طهران ذهب إلى أفغانستان أو تركيا حيث ربت له بعض معارفه رحلة إلى روما، وصل روما في 27 أكتوبر 1941 ورغم أن الدوتشي رحب به في عاصمته الروحية إلا أن المفتي أدرك أن الكلمة العليا وزمام قادة المحور هي في يد هتلر. إضافة إلى ذلك أدرك أن هتلر يكن كرها مباشرا لبريطانيا ولليهود يفتقدهما موسوليني، ففي 20 نوفمبر حط رحاله في برلين حيث استقبله ريبنتروب شخصيا وحدد له موعدا مع هتلر.

كان المفتي لا يعرف الألمانية وكانت محادثاته في أوروبا بالفرنسية، فكان لا بد إذن من حضور مترجم، ورغم أن هتلر كان له مترجم عربي هو الدكتور شميث إلا أنهم أحضروا مترجما آخر هو جون أبلر أو حسين جعفر، هذا الأخير ولد في الإسكندرية لأب وأم ألمانيين.

ثم توفي والده الألماني وتزوجت أمه من محام مصري فسمي أبنه حسينا وصحبه إلى الحج عام 1935 فكان إذن يعرف كل عادات وطبائع وتقاليد العرب والمسلمين. وفي عام 38 عندما كان في روما اكتشف جعفر حقيقة أصله، فانضم إلى جيش ألمانيا كجندي مخابرات، ولعب دورا هاما في مصر حيث تقابل مع الضباط الشبان أنور السادات جمال عبد الناصر.

حكى جون أبلر قصة أول لقاء بين المفتي والفوهرر إلى المؤلف المعروف ليونارد موزلي كالآتي:

دخل المفتي مادا يده إلى هتلر للمصافحة وكان هتلر لا يصافح أحدا، فلما لم يجد المفتي يدا ممدودة ضم المفتي يده إلى صدره كما يفعل أثناء الصلاة، ثم أخذ مقعدا وجلس عليه وهتلر واقف، أسرع هتلر إلى المترجم أبلر طالبا منه أن يقول للمفتي أنه يرحب به كرمز للرجال الأحرار الذين يدركون أن ألمانيا تقاتل من أجل الحرية. والآن سوف أقول له رأيي في الوحدة العربية، بدل أن يترجم أبلر هذه الجملة أسرع يقول لهتلر: يا سيدي الفوهرر لقد نسيت أن تطلب له فنجانا من القهوة. هذا مفتي فلسطين، وأي شخص عربي أقل قدرا منه يجب أن يحيى بفنجان من القهوة قبل بدء المحادثات.

فرد هتلر في برود: أنني لا أشرب القهوة، ثم هاج هتلر واندفع نحو باب مكتبه صائحا هنا مقر رياسة الرايخ، ولن أسمح لمخلوق أن يشرب فيه فنجان قهوة، هل تسمع؟ ثم خرج هتلر وهو يكرر صراخه وظل المفتي جالسا هادئا.

وبعد خمس دقائق انفتح الباب ودخل هتلر هادئا وخلفه أحد رجال العاصفة يحمل كوبين من عصير الليمون. سحب هتلر كرسيا وجلس بجوار المفتي ومد إليه يده بكوب منهما.

بدأ المفتي حديثه طالبا الاعتراف باستقلال الدول العربية في إعلان تصدره ألمانيا.

رد هتلر بأنه لا يستطيع أن يصدر قرارات قبل موعدها. وأن موعد هذا الإعلان هو عند الوصول إلى حدود الدول العربية لا قبل ذلك.

يذكر المؤرخ مجيد خدوري نقلا عن مذكرات أمين الحسيني أنه نقل إلى هتلر استياءه من هذا الوضع وإن كان أكد له أنه سيتعاون معه رغم ذلك.

هذا إذن هو اللقاء الأول مع هتلر. وفي كتاب الأستاذ شختمان عن المفتي وهو أكبر كتاب سجل كل حركات ولقاءات وخطب ومقابلات المفتي لم يذكر إلا هذا اللقاء الوحيد، ولكن هناك لقاء آخر ذكره أميل الغوري في مذكراته فلسطين عبر 60 عاما ربما أخفاه شختمان لصهيونيته.

كان اللقاء الثاني والأخير مع هتلر هو قبيل نزول الحلفاء في شمال أفريقيا حيث عرض المفتي على هتلر أن يقوم بتجنيد جيش من متطوعي العرب في الشمال الأفريقي يشعلون ثورة وطنية تمنع هبوط الحفاء. وعرض هذا الاقتراح في حد ذاته يقطع بصدق الإحساس السياسي للمفتي ويقدم دليلا إلى جانب أدلة أخرى سنذكرها حالا بأن المفتي كان يباشر حركة مقاومة دولية واسعة النطاق تمتد عبر كل أوروبا والشمال الأفريقي وآسيا حتى اليابان مؤملا في استقلال وطني لفلسطين لا أكثر.

كان رد هتلر عجيبا ومثيرا ويلفت النظر إلى حل ديني لا حل وطني للمشكلة الفلسطينية. قال هتلر لأمين الحسيني ردا على اقتراحه السابق: لا، إنني لا أخشى الشيوعية الدولية، ولا أخشى الإمبريالية الأمريكية البريطانية الصهيونية، ولكني أخشى أكثر من كل ذلك الإسلام السياسي الدولي.

كان هذا رفضا قاطعا من هتلر أظهر أبعادا لم تكن إطلاقا على بال أمين الحسيني.. ويؤكد خلو المفتي ذهنيا من هذا الحل الديني أن ذكره أميل الغوري بينما أهمله شختمان.

هذا وقد سمعت هذه الرواية شخصيا من الشيخ أسعد التميمي إمام المسجد الأقصى السابق حيث قال لي أن المفتي أمين الحسيني كرر له قولة هتلر هذه في أكثر من مناسبة.

هاتان إذن هما المقابلتان الوحيدتان اللتان تمتا بين المفتي والفوهرر، وهما توضحان أن المفتي لم يكن أبدا يسير على هوى هتلر. وأن الذي جمع المفتي على الفوهرر هو نفس الذي جمع ستالين على روزفلت أو تشرشل: الدافع الوطني الصرف.

وإذ كانت بريطانيا وفرنسا وأمريكا بعد انتهاء الحرب، ورغم وجود المفتي في باريس نفسها، قد ترفعوا عن اتهام المفتي أو تقديمه أمام محكمة نورمبرج التي حاكمت النازي وأعوانه، واتخذت هذه الدول الثلاث هذا الموقف رغم ضغط الصهيونية في أمريكا ورغم 12 سؤالا واستجوابا قدمت إلى مجلس العموم البريطاني فإنما فعلوا تقديرا لجهاد هذا الرجل. وكان تيتو هو الوحيد الذي طالب بمحاكمته أمام محكمة نورمبرج ثم عدل بضغط من عبد الرحمن عزام والجامعة العربية.

وخلال إقامة المفتي في باريس كانت الصهونية المتطرفة تفكر في اغتياله ولكن حسب رواية الأستاذ شختمان في كتابه عن المفتي تبين أن المفتي كان قد جهز فريقا لاغتيال ثلاثة ردا على اغتياله.. الثلاثة كانوا وايزمان وبن جوريون وبيجن!!

ومن هنا كان تسهيل فرنسا له بالخروج من باريس إلى القاهرة، ويقول شختمان أن الذي سهل له ذلك هو جوردج بومبيدو الذي كان وقتها في الخارجية الفرنسية وأنه وقت يوم تهريبه في نفس اليوم وبمجرد الانتهاء من توقيع اتفاقية مالية مع أمريكا لتعمير الاقتصاد الفرنسي أثر الحرب لأنه كان يخشى تهريبه قبل ذلك فيضغط اللوبي اليهودي الأمريكي وتمنع أمريكا من تعمير آثار الحرب في فرنسا.

كفاح المفتي في المنفى:

إذا كانت لقاءات المفتي بالفوهرر قاطعة بنوعية العلاقة بين الاثنين، وإذا كان إحجام الحلفاء جميعا – بريطانيا وفرنسا وأمريكا – عن تقديمه إلى محكمة نورمبرج فإن كفاح المفتي وهو في المنفى أ:ثر قطعا ودلاله في هذا الصدد وطبيعي أن نوجز إيجازا شديدا في هذا النشاط الكفاحي المتدفق:

لم يكن المفتي يقضي عطلة في أوروبا على حساب هتلر. لم يكن مع المفتي زوجة ولا أولاد ولا معارف ولا أي وسيلة للتسلية أو اللهو.

أنشأ المفتي إدارة سميت (مكتب المفتي) كلن لها نشاطات في العالم كله تقريبا في مجالات أربعة هي: الإذاعة بالراديو، عمليات فدائية في الشرق الأوسط، تجنيد مسلمي أوروبا وجنوب روسيا في وحدات حربية مسلحة، تكوين فرقة عربية مسلحة.

أما إذاعات الراديو فكان له محطات إذاعة أنشأها بنفسه في برلين وزيسين وباري وروما وطوكيو وأثينا.

وكانت الأفكار التي يدور حولها في خطبه ومنشوراته وإذاعاته هي:

لو انتصرت اليهودية العالمية الثانية فسوف تصبح سيفا مسلطا على رقاب العالم كله وأولها أمريكا وبريطانيا.

أن دول الشمال الأفريقي، خاصة مصر ومراكش قد تصبح موضع قدم أثناء قفز اليهودية العالمية من أمريكا إلى فلسطين.

أن ثورة رشيد علا لم تفشل بسبب تقصير ولا خطأ من جانب الثوار العراقيين، ولكن لأن هناك خطة وضعها ويفل من أول سنة في الحرب لجعل العراق قاعدة عسكرية بريطانية وحتمية اجتياح العراق في سبيل الوصول إلى إيران، وأن العراق ممر حربي لأي جيوش تريد التمركز حول آبار البترول.

إن ألمانيا هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي لم يسبق لها استعمار شعوب إسلامية ولا التصادم معها وبالتالي فهي أقربهم إلى التفاهم وإن كانت لا تتقنه.

أما العمليات الفدائية: فقد أنشأ له مكتبا فرعيا في جنيف بسويسرا أشرف عيه الأمير شكيب أرسلان للاتصال بأنصار المحور في مصر وتركيا، وأنشأ مكتبا آخر في إسطنبول لذات الغرض، ومكاتب جمع أخبار الحلفاء في أضنة والإسكندرونة وديار بكر ومرسيه، وكان يجمع كل الأخبار الحربية لتحركات جيوش الحلفاء في الشرق الأوسط وكان يرسل أنصاره إلى مناطق الشرق الأوسط وأحيانا يسقطهم بالباراشوت، وقد قبض في أكتوبر 44 في مدينة الخليل على رجال أسقطهم بالبراشوت، وكذلك بعد شهر واحد أسقط أربعة آخرين بالباراشوت في الموصل. ووردت بيانات حربية من الحفاء بهذه الوقائع وثبت من التحقيق مع هؤلاء المظليين أن المفتي كان يرتب الأمور لعودته من ألمانيا إلى الشرق الأوسط.

ووثائق الحرب تقول إن بريطانيا أنشأت مكتبا في القاهرة في 1/12/1941 بقيادة قائد الجناح دومفيل لتتبع رجال المفتي في مصر، ومكتبا في بغداد بقيادة ركس ماريوت وقائد الجناح شبرد في 9/12/1942 لذات الغرض، وأن هناك خطوط تليفونات قطعت وأنابيب بترول عطلت وخطوط سكة حديد نسفت بفعل رجال أرسلهم المفتي.

ومن الوثائق التي أذيعت في ألمانيا بعد الحرب أن أمين الحسين كان له دور رئيسي في الاتصالات التي تمت بين الألمان والملك فاروق، وأن المفتي أنشأ مدرسة للباراشوت يدرب عليها رجاله في أثينا وأن له مكتبا في  أركان الحرب كاناريس لذات الغرض.

وأهم ما ورد أيضا أن خلافا شديدا ورد بين المفتي وبين رئاسة أركان الحرب الألمانية بقيادة كاناريس حيث كان المفتي يستحث الألمان في ضرورة شن غارات حربية على تل أبيب لتفجير ثورة عربية ضد الحلفاء، وضرورة إصدار ألمانيا تصريحا قاطعا باستقلال كل الدول العربية قبل الهجوم على مصر عام 41 وضرورة تجنيد جيش عربي في شمال أفريقيا يمنع نزول الحلفاء، ورغم تعالي العسكرية الألمانية على هذه الآراء جميعا إلا أن الحرب أثبتت عمليا أنها كانت فعلا آراء عسكرية صائبة بل كان المفتي يذهب بعيدا لأكثر من هذا.. حيث كان يرى أن يكون الجيش الألماني بقيادة روميل به فرقة رئيسية من العرب المجندين من أوروبا ومن أسرى الحرب العرب. وأثبتت الوثائق أن المفتي عين الدكتور مصطفى الوكيل (دكتوراه علوم ومن قيادات مصر الفتاة) سكرتيرا خاصا له في موضوع الاتصالات الألمانية بفاروق.

كان الألمان قد خصصوا السفير ايتل لموضوع اتصالاتهم بفاروق، وكان ايتل قد حدد أن أسهل طرق الاتصال بفاروق هو عن طريق والد الملكة فريدة، ذو الفقار باشا سفير مصر في إيران، وقد أمر المفتي على أن يكون مصطفى الوكيل هو حلقة الوصل بين ذي الفقار ومصر، وأرسل خطابا شخصيا إلى ذي الفقار بهذا الخصوص. وتمت الاتصالات فعلا بفاروق وقابل ممثل المفتي فاروق وقابل ممثل المفتي فاروق شخصيا مدتين طويلتين. ولكن في القاهرة اكتشفت المخابرات البريطانية خيوط هذه الاتصالات واستشهد بعدها مصطفى الوكيل.

المفتي والشرق الأقصى:

اتصل المفتي في أوائل عام 42 بالإمبراطور هيروهيتو برسالة دعاه فيها إلى أن يحرر شعوب آسيا من سيطرة (الرأسمالية اليهودية) والبلشفية الروسية. وفي 29/12/41 أذاع راديو برلين بالأسبانية حديثا لوكالة دومي اليابانية قال فيه المفتي إن عرب آسيا سوف يضربون ضربتهم عندما تبدأ الإمبراطورية البريطانية في التضعضع، وأن مساعي المفتي في إعطاء وعد ياباني باستقلال مسلمي جاوة وسومطرة سوف تتحقق كما تحقق استقلال ألبانيا بتصريح من هتلر بناء على توصية المفتي.

الفرق العربية:

أنشأ المفتي فرقة مسلحة بنفس الزي والسلاح النازي ولكنها تلبس الطربوش جند لها الطلبة العرب في أوروبا وأسرى الحرب العرب لدى جيوش النازي. وقد عهد النازي إلى هذه الفرقة بحماية خطوط مواصلاته في يوغسلافيا والبلقان، ومنع نزول الباراشوت الإنجليزي عند تيتو، وقد جند فيها المفتي أيضا كل العرب الذين كانوا في الفرقة الأجنبية الفرنسية الشهيرة. وقد أذاع المفتي أكثر من مرة أنه ينشئ هذه الفرقة ردا على إنشاء بريطانيا الفرق اليهودية وتسليحها والتي وصلت فعلا إلى حوالي 140 ألفا من الرجال والنساء.

وقد ضاع الألمان ذرعا للأسف بإصرار المفتي على أن تحارب هذه الفرقة في الشرق الأوسط وأن تكون حربها حربا صريحة ضد الصهيونية فأرسلوا هذه الفرقة إلى جبهة روسيا حيث أبيدت.

الفرق الإسلامية:

أنشأ المفتي فرقا من مسلمي البلقان وجنوب روسيا وخاصة من ألبانيا ويوغسلافيا وكان يذكر مسلمي كرواتيا بأنهم مضطهدون مثل مسلمي فلسطين، وكان يمضي هو أياما متتالية في معسكرات هذه الفرق يعظهم دينيا وسياسيا، وقد تكون له تلاميذ سياسيون في البلقان وصفهم الحلفاء بأنهم كويسلنجيون نسبة إلى كويسلنج عميل ألمانيا الشهير، من هؤلاء الكويسلنجيين البروفسور فون دي مند الذي أسس مدرسة (للإسلام السياسي) لتخريج أئمة دين مسلمين عندهم وعي سياسي. ومنهم أيضا انتبفليك الذي قال إن الصهيونية أنجبت توأمين هما الشيوعية والرأسمالية.

وكان من هذه الفرق الإسلامية فرقة في شمال القوقاز بقيادة علي خان، وفرقة في أذربيجان بقيادة الميجور داود جنسكي، وفرقة في بولندا بقيادة سموكوكز. وكان لهذه الفرق شاعر إسلامي هو محمد الغزاني، وكان لها واعظ ديني هو سعيد حامل الذي كان في نفس الوقت ضابط اتصال مع قبائل التركستان والذي حث قبائل كثيرة على الانسحاب إلى أوروبا مع الألمان عند تراجع الجيوش الألمانية.

خلافات المفتي مع الألبان:

اختلف المفتي مع الألمان عندما طالب ألمانيا بإعلان استقلال جميع الدول العربية، ثم عندما طالب بأن تشترك الفرق العربية والإسلامية التي كونها في غزو الشرق الأوسط ثم عندما طالب ألمانيا بأن تضرب تل أبيب لتفجر صراعا عربيا ضد الحلفاء والصهيونية ثم كان هناك خلاف واسع ومتكرر وعلني عندما طالب الألمان بعدم السماح لليهود بالهجرة حتى لا يصلوا إلى فلسطين، واقترح تهجيرهم إلى بولندا بديلا عن فلسطين، وقد سجل ذلك في خطابات رسمية اعترف بها الألمان والحلفاء والصهاينة. وأخيرا كان الاختلاف الأكبر عندما اقترح على هتلر إنشاء جيش إسلامي في شمال إفريقيا ورفض هتلر ذلك معلنا تخوفه من قيام دولة إسلامية.

لم يكن لمفتي حياة خاصة على الإطلاق في منفاه. لم يكن معه زوجة ولا ولد ولا قريب، لم يذهب إلى سينما أو مسرح أو ملعب. لم يكن يقابل صديقا إلا إذا كان له دور في عمل سياسي أو دعائي أو حربي.

وقد كان معه في منفاه فوزي القاوقجي والأمير المصري منصور داود وكامل مروة وكان يتصل به من وقت لآخر حوالي 150 طالبا عربيا في أوروبا. وكان معه في المنفى رشيد عالي الكيلاني الذي انصرف إلى العزلة الكاملة والتصوف. وكانت المصاريف التي تصفه من الخزينة الألمانية حسب الوثائق التي أذيعت هي 66 ألف مارك (بينما الكيلاني 86 ألف مارك) وكان القاوقجي يعطى 600 مارك فقط. ولكن المفتي كان يصرف معظمها على الطلبة المتصلين به وعلى نشاطاته السياسية. أما لأمير منصور داود فهو ابن عم للملك فاروق وصل ألمانيا في عام 1943 مع زوجته وطفليه والتحق بالمفتي وعاش معه ولكن بعد ذلك التحق بالجيش الألماني كجندي عادي بفرقة العاصفة.

دراسات وتأملات عن المفتي:

اشتهرت المخابرات البريطانية بأن أعضاءها مستشرقون وعلماء أجناس ومنظرون.

وقد قدمت هذه المخابرات آراءها للساسة وتتلخص في الآتي:

أن أي محاولة لاغتيال المفتي سوف تقابل باغتيال زعماء إسرائيل وهم ويزمان / بن جوريون/ بيجن. وإذا كان العرب يستطيعون تعويض المفتي إلا أن اليهودية العالمية لا تستطيع أن تضحي بأي واحد من هؤلاء الثلاثة.

أن أي محاولة لمحاكمة المفتي سوف تعطي العرب درسا هم في أشد الحاجة ويجب حرمانهم منه، هذا هو درس الكفاح والاستشهاد والتصميم، وسوف تؤدي هذه المحاكمة إلى إظهار بطولة المفتي وسوف يصبح مثالا يحلم الشباب باحتذائه.

أهم ما وصلت إليه المخابرات البريطانية من رأي هو أن شيخ الأزهر لو كان بالانتخاب لانتخب الشيخ أمين الحسيني شيخا للأزهر، ومفتيا لمصر وربما شيخا للإسلام في العالم كله. وبدأ التركيز على أهمية إبعاد الأزهر عن السياسة وقدمت المخابرات حول هذا الموضوع دراسات خطيرة.

هناك تعليق له مغزى: عندما سيطر أمين الحسيني على الأذهان قابل مراسل أجنبي شيخا للأزهر وسأله عن تقييمه للمفتي أمين الحسيني، قال شيخ الأزهر. مفتي! من قال إنه مفتي؟ إنه لم يحصل حتى على شهادة دراسية من الأزهر. إنه ليس رجل دين، هو مجرد سياسي!!

 

 

مقال 5 مولد المقاومة الفلسطينية

الأهرام في 15/10/1999

بقلم : د. يونان لبيب رزق

بينما كانت تتسارع الأحداث على الأراضي الفلسطينية بعد صدور تصريح بلفور في 2 نوفمبر عام 1917 كان يتفجر الموقف على الأراضي المصرية فيما بدأ في أواخر 1918 باللقاء المشهور بين المندوب السامي وسعد زغلول وزميليه وتحول إلى ثورة شاملة في أوائل مارس عام 1919.لم يكن محل غرابة مع ذلك أن نصادف تلك الفجوة في اهتمامات الأهرام في القضية الفلسطينية والتي بدأت بعد عام صدور التصريح وحتى إبريل عام 1920 حين شدت الأحداث التي جرت في ذلك الشهر اهتمامات الأهرام وغيرها من الصحف المصرية نتيجة لما جرى وقتئذ من صدامات بين العرب واليهود في القدس، بيد أنه كان محدودا بحكم أنها لم تستغرق وقتا يذكر حتى أن الأهرام أسمتها بالاضطرابات.

غير أن ما جرى بعد ذلك بعام في يافا (مايو 1921) جاء مختلفا، حتى أن الأهرام ظلت تتابعها بتفصيل شديد لنحو خمسة أسابيع، مما يشكل قصة هامة في تاريخ الجريدة، وقبلها التاريخ العربي، وقبلهما تاريخ المقاومة الفلسطينية، وهي قصة تستحق أن تروى!

آخر اهتمامات الأهرام بالقضية الفلسطينية قبل الثورة المصرية كان فيما نشرته في عددها الصادر يوم 4 أغسطس عام 1918 والذي جاء تحت عنوان الجامعة العبرانية في جبل الزيتون تصف فيه احتفال الإسرائيليين بوضع حجر الأساس في هذه الجامعة والذي حضره الجنرال أللنبي وكبار ضباط الجيش ورجال الحكومة وألوف لا تحصى من الإسرائيليين.

وقد حضر الاحتفال أيضا عدد من كبار اليهود في مصر؛ حاخام باشي الإسكندرية، البارون منسي، موسي قطاوي باشا، المحامي ألكسندر وغيرهم، ونتوقف هنا لنسجل ملاحظة عنيت بها الأهرام وهي تزايد النشاط الصهيوني بين اليهود المصريين في تلك الفترة، وأن ما قيل عن أنهم لم يكونوا جزءا من الحركة الصهيونية لا يستند إلى أساس..

لفت نظر جريدتنا في نفس الفترة أن اليهود المصريين أرسلوا وفدا يمثلهم إلى المؤتمر الصهيوني الذي انعقد في لندن في مارس عام 1918، فقد رأس قطاوي باشا اجتماعا لهم في القاهرة، ورأس المسيو ليون نحمياس اجتماعا في الإسكندرية لهذا الغرض وكان الاجتماعان كثيري الزحام، وفاز بالانتخاب في جميع أنحاء القطر المصري صاموزئل وابوبورت سكرتير جمعية زيري صهيون في الإسكندرية، ويعقوب كالف الذي كان ناظرا لمدرسة الطائفة الإسرائيلية في القاهرة. ومهمة هذين المندوبين أن يؤيدا في المؤتمر الصهيوني الذي يعقد في لندن أماني الإسرائيليين في القطر المصري المتعلقة بفلسطين لتبلغ إلى مؤتمر الصلح.

لفت النظر أخيرا أن اليهود المصريين كانوا قد أصدروا مجلة أسبوعية قبل ذلك بشهرين تقع في أربع صفحات وناطقة بالفرنسية، وهي المجلة التي كشفت في أعدادها الأولى عن كثير من نوايا الصهيونيين التي تحولت إلى حقائق بعدئذ هدف الوطن القومي، أن يعود اليهود إلى التكلم بلغتهم وبعث تقاليدهم، تجديد عظمة الأرض المقدسة، التنبيه إلى أهمية القطر المصري لأن في مصر أناسا عظماء ومن الممكن أن يدرس هنا غرضهم وأمانيهم وأن تحكم الصلات والعلائق مع زعمائهم، سنجق القدس هو الشطر الخامس من الأشطر الخمسة التي كانت تتألف منها المملكة اليهودية!

وتكشف لنا الكتابات العلمية بأن المسئولين البريطانيين قد شجعوا اليهود على إقامة الاحتفالات بالوعد في بعض المدن المصرية مثل الإسكندرية حيث عقدوا مهرجانا حافلا في حديقة رشيد، وطنطا التي اختاروا مسرح البلدية فيها لإقامة احتفال بالمناسبة، وتوقف اهتمام الأهرام بعد ذلك، غير أن ما كان يجري على الأراضي الفلسطينية لم يتوقف..

أكثر من ملاحظة هامة تكشف عنها قراءة الأهرام والأعمال العلمية الجادة، خاصة العمل الذي أصدره الدكتور عادل حسن غنيم قبل ربع قرن تحت عنوان الحركة الوطنية الفلسطينية من 1917 إلى 1936..

أن تلك الحركة قد ولدت في أحضان الحركة العربية العامة التي تفجرت في الشام مع قيام ثورة الشريف حسين في الحجاز ومع تقدم قوات أللنبي لإنهاء الحكم التركي في المناطق السورية، وكان الفلسطينيون ينظرون لبلادهم وقتئذ باعتبارها القسم الجنوبي من سوريا الكبرى.

لعل ذلك ما دفع أبناء فلسطين إلى الالتفاف حول الحكومة العربية المستقلة التي نشأت في دمشق بقيادة الأمير فيصل، وإلي اعتبار بلادهم جزءا من الدولة العربية في الشام، وإلي تجاهل الحواجز السياسية التي أقيمت بينهم وبين بقية المناطق السورية، وأخيرا إلى إرسال مندوبين عنهم إلى المؤتمر الوطني والمجلس التأسيسي الذي أعلن إنشاء الدولة العربية.

غير أنه كثيرا ما تأتي الرياح بما لا يشتهي الفلسطينيون(!)، فقد أدي الوضع الخاص لبلادهم الذي فرضه الحلفاء بعد الحرب إلى حالة من الفرز لحركتهم الوطنية عن الجسد الرئيسي لتلك الحركة في سوريا الكبرى.. الإدارة العسكرية البريطانية، اتجاه النية إلى إسناد إدارة البلاد لحكومة لندن على اعتبار أنها صاحبة تصريح بلفور، وأنه كان عليها العمل للوفاء بما جاء في هذا التصريح، اتساع نطاق الهجرة اليهودية على نحو لم تعرفه بقية الأنحاء السورية، وهي في مجملها أمور تميزت بسببها فلسطين عن بقية أجزاء سورية الكبىى.

وبدت عملية الفرز تلك واضحة في المناقشات التي دارت حول طبيعة الاجتماعات التي عرفت باسم المؤتمرات الفلسطينية.. وبدءا من المؤتمر الثاني على وجه التحديد. فقد رصد الدكتور عادل غنيم الاختلافات حول ماهية ما عرف باسم المؤتمر الفلسطيني الثاني الذي انعقد في شهر فبراير عام 1920 البعض الذين انطلقوا من فكرة استمرار اعتبار فلسطين القسم الجنوبي من سوريا اعتبروه المؤتمر الذي عقد في دمشق في 27 من ذلك الشهر، آخرون ممن استجابوا لفكرة التمييز خطّأوا ذلك واعتبروا المؤتمر الذي كان مزمعا أن يعقد في يافا، لولا اعتراض السلطة العسكرية البريطانية، هو المؤتمر الفلسطيني، وقد خلصوا إلى ذلك من أن المقصود بالمؤتمرات الفلسطينية تلك المؤتمرات التي عقدت في نطاق المدن الفلسطينية وبدعوة من الزعماء الفلسطينيين أنفسهم، وهو المفهوم الذي ساد بعدئذ في سائر المؤتمرات الفلسطينية بدءا من المؤتمر الثالث.

الملاحظة الثالثة أنه بعد انسلاخ الحركة الوطنية الفلسطينية عن الحركة العربية العامة فقد اتخذت نهجا مختلفا يتواءم مع طبيعة المخاطر التي كان يواجهها الفلسطينيون، فقد تنبه هؤلاء منذ وقت مبكر إلى أن الوجود العسكري البريطاني ليس الخطر الأصيل الذي يتهددهم، وإنما الهجرة اليهودية والخطر الصهيوني.

ولأن هذا الخطر كان ذا طبيعة دينية فقد جاء مفهوما الأسباب التي دعت الحركة الوطنية الفلسطينية أن تكتسي بنفس الطابع.. أن يتحد العرب من أبناء الديانتين الأخريين في مواجهة الخطر اليهودي، من ثم لم يكن غريبا ما لاحظه المراقبون من انتشار الجمعيات الإسلامية-المسيحية على نطاق واسع في البلاد في أعقاب انتهاء الحرب، والتي يصفها الباحثون بأنها كانت أول حركة وطنية منظمة.

كانت جمعية القدس أولي تلك الجمعيات، وقد تشكلت بعد فترة قصيرة من سقوط المدينة في أيدي قوات أللنبي، ومارست أول نشاطاتها في سبتمبر عام 1918 حين وزعت منشورا يتضمن أغراض الجمعية ومقاصدها وأسماء أعضائها، وقد حذت بقية المدن الفلسطينية حذو أبناء المدينة المقدسة وتشكلت الجمعيات الإسلامية- المسيحية واحدة تلو الأخرى، أما المدن التي لم يكن بها مسيحيون فقد تكونت فيها جمعيات إسلامية فقط.

كان المسرح مهيأ بذلك لتخرج الحركة الوطنية الفلسطينية من شرنقتها، خاصة بعد التحركات الصهيونية التي لعبت دورا في هذا الخروج، وممالئة السلطة العسكرية البريطانية لتلك التحركات.. الأمر الذي يمكن أن نتبينه من الأهرام خلال ربيع عام 1920

فمن جانب بدأت الصحيفة منذ يوم 21 مارس تخصص عمودا ثابتا في الصفحة الأولى تحت عنوان أخبار فلسطين، ومن جانب آخر كانت تنقل نبض الشارع الفلسطيني عندما تعيد نشر بعض الأخبار التي سبق لبعض الصحف الفلسطينية الصغيرة نشرها، منها ما نقلته عن جريدة الكرمل التي كانت تصدر في حيفا عن أخبار مأدبة أقامها بعض أعيان المدينة للمدير العام لبلاد العدو المحتلة الجنوبية حاول الرجل خلالها أن يروج للهجرة اليهودية بقوله بأنه يعترف بأن اليهودي محب لذاته وقادر على المضاربة غير أنكم سوف ترون أن اليهود الذين سيأتون إلى هذه البلاد هم خير من اليهود الذين بينكم في فلسطين، وهم متعلمون ينفعون البلاد ويرقونها، مما لم يكن مدعاة لاطمئنان الحاضرين، وهو ما عبر عنه صاحب الكرمل ونقلته الأهرام.

وكان من المنطقي أن تظهر تباشير الحركة الوطنية في مدينة القدس سواء بحكم الحساسية الدينية البالغة التي تحظى بها أو من جراء أنها كانت هدفا مباشرا من أهداف الحركة الصهيونية التي تبدت في أنها نالت النصيب الأكبر من الهجرة اليهودية، أو لسعي تلك الحركة لإضفاء الطابع المؤسسي التاريخي لوجودها في المدينة المقدسة مما بدا في اختيار جبل سكوبس، بكل الذكريات التاريخية التي أحاطت به، لإقامة الجامعة العبرية في صيف عام 1918، ثم أن كل ذلك جعل المدينة أول المواقع التي بدأ فيها التنظيم الوطني الفلسطيني ممثلا في قيام الفرع الأول من فروع الجمعية الإسلامية- المسيحية.

كان من الطبيعي أن تتفجر تلك الحركة خلال الربيع، ففي شهر إبريل تتعاظم أسباب الاحتكاك العربي- الصهيوني ففي 4 من ذلك الشهر يهرع أهل القدس كعادتهم لاستقبال أهل الخليل الذين يؤمون المدينة قاصدين زيارة مقام النبي موسى، وهو من أعظم المواسم عند الفلسطينيين، وكان يزامنه عيد الفصح عند اليهود وعيد القيامة عند المسيحيين.

المهم أنه في ذلك اليوم – 4 إبريل عام 1920 - تجمع أبناء القدس وقراها، وأبناء نابلس، والطوائف المسيحية المختلفة، ينادون بالوحدة العربية والاستقلال ورفض الهجرة اليهودية والدعاء للملك فيصل، والتهبت المشاعر، ولم يكن ينقص برميل البارود سوي عود الكبريت.

اشتعل ذلك العود عندما قام صيدلي يهودي بإهانة المتظاهرين فطاردوه، وتدخل البعض من زملائه وعدد من الجنود البريطانيين فانفجر الموقف، وتحول إلى قتال دام في اليوم التالي بين العرب واليهود بعد أن أطلق الأخيرون النار على الوطنيين أثناء مرورهم بحي الواد مما دعا الحكومة إلى أن تعلن الأحكام العرفية في اليوم التالي، ومنعت التجول بعد السادسة مساء، وعطلت جميع الصحف، وأضربت المدينة كلها وأغلقت الأبواب، وبلغ ضحايا الاصطدامات تسعة من القتلى، خمسة يهود وأربعة عرب، فضلا عن إصابة 22 إصابات خطيرة ونحو مائتين إصابات خفيفة، وقد لوحظ أن الخسائر اليهودية كانت أكبر من الخسائر العربية، وأن الطرفين استخدما كل ما كان متاحا لهما من أسلحة نارية أو بيضاء.

في يوم 7 إبريل بعث مندوب الأهرام في القدس بتقرير إلى جريدته بأن الآلاي الثامن مشاة أصبح يسيطر على المدينة وأنه صرح للعرب بدخولها ولكن تحت رقابة مشددة من الجنود.

بعد أيام قليلة كان المدير العام لبلاد العدو المحتلة الجنوبية، الجنرال بولز، يجتمع مع الزعماء العرب واليهود، حيث اعترف بأن الحوادث المكدرة قد تركت في القلوب آثارا مرة وأن الطوائف كلها لم تتصرف في القضية كما تقتضيه الإنسانية ويشير إليه العقل، ثم أنهي حديثه بما يشبه الإنذار فيما جاء في قوله:

سرت إلى اليوم معكم بلطف وتؤدة لعلمي أني أشتغل بين قوم لا يعلمون ماذا كانوا يفعلون. فأود أن يقف القوم الآن على الأخطار التي تتهددهم إذا هم يعكرون الأمن.

بيد أن هذا التهديد لم يثمر طويلا، فقبل مرور عام واحد، كانت الهبة المحدودة في القدس قد تحولت إلى حركة مقاومة واسعة في يافا..

حجم الأحداث التي جرت في الميناء العربي الشهير والمساحة الزمنية التي استغرقتها خلال النصف الأول من شهر مايو عام 1921 هي التي دعت إلى اعتبارها الميلاد الحقيقي لحركة المقاومة الفلسطينية، وكانت يافا تتشكل آنئذ من مجموعة من الإحياء.. الحي القديم والذي يتكون من مجموعة من الشوارع الضيقة والمباني المتلاصقة ويقطنه العرب المسلمون، محلة العجمي على شاطئ البحر للجنوب ويسكنه العرب المسلمون والمسيحيون، محلة المنشية إلى الشمال يسكنه خليط من العرب المسلمين واليهود، وبينما كان العرب يشكلون ثلاثة أرباع السكان، النصف من المسلمين والربع من المسيحيين، كان الربع الباقي أو ما يزيد قليلا من اليهود.

ولأن أغلب يهود المدينة كانوا من الطبقات الفقيرة القادمة من وسط وشرق أوربا، فقد بدت الحركات العمالية بينهم أقوي ما يكون، وقد انخرطوا في مجموعتين رئيسيتين الموبسي، أو حزب العمال الاشتراكيين اليهود الذين اعتنقوا البلشفية، وأحدوت أعفودا أو اتحاد العمل الأكثر اعتدالا، وكانت مساعي الموبسي أولا متجهة إلى محاولة جذب بقية العمال اليهود إلى الشيوعية، ولما لم يحرزوا نجاحا في هذا الاتجاه حاولوا مع العرب، غير أنهم لم يوفقوا أيضا، إلا أن ذلك ملأ نفوس الأخيرين بالهواجس..

بدأت الأحداث صباح يوم الأحد أول مايو.. وتقول الأهرام أنه كان لها مراسل خصوصي في يافا بعث لها بتقرير تفصيلي عن الأيام الخمسة العصيبة التي شهدتها المدينة، وعلى كثرة ما كتب عن تلك الأحداث، إلا أن جريدتنا تتفرد بتقديم رؤية شاهد عيان..

بدأ صاحبنا تقريره بالحديث عن فرع الجمعية السوفيتية الموجودة في المدينة، وكيف أنها دأبت على إهاجة الخواطر ونشر المنشورات الثورية بين الأهالي باللغات العربية والعبرانية وما فتئت تقوي وتشتد ويدخل فيها المؤازرون الكثيرون من اليهود والعمال إلى أن صار عددهم كبيرا جدا وصار وجودها مهددا للأمن العام.

وتشير كتابات الأهرام السابقة على هذا التقرير أنها وقفت في صف العداء لجماعة الموبسي، فقد كتبت من قبل تحت عنوان الشيوعيون في فلسطين تحذر من دخول هؤلاء في بلادنا الشرقية الهادئة العاملة ليؤلفوا منهم أمة لا ندري ما تكون، وما أصل وأساس هذه المذاهب الشيوعية، حتى اضطر أهالي البلاد إلى الدفاع عن حقوقهم وملك آبائهم وأجدادهم ضد هذا التيار!

نعود إلى تقرير مراسل الأهرام الخصوصي حيث ذكر أن تلك الجماعة أخذت في توزيع المنشورات التي تحرض اليهود والعرب على الاشتراك في مظاهرة أول مايو العظمى، وكان مما جاء فيها: إن اليهود جنود الثورة جاءوا ليساعدوكم أيها الزملاء العرب وأيها الفلاحون ويرفعون عن أعناقكم نير سلطة الأفندية- التوقيع: اللجنة التنفيذية للحزب الشيوعي في فلسطين المحتلة!

عشية اليوم الموعود وفد إلى يافا عدد كبير من الشيوعيين آتين من المستعمرات المجاورة وبدءوا في التظاهر في شوارع محلة تل أبيب منذ الساعة السابعة صباحا، ثم اجتمعوا في محلة المنشية بأعداد كبيرة تتقدمهم الأعلام الحمراء فقابلتهم من الناحية الأخرى مجموعات أخرى من اليهود المعارضين يرفعون العلم الصهيوني فاشتبك الطرفان، وحتى هذه اللحظة لم يكن العرب طرفا فيما يحدث حتى جرهم الموبسي إليه.

فقد تطاول بعض من هؤلاء على العمال العرب لأنهم لم يلبوا دعوتهم بالانضمام إليهم فما كان من سكان المحلة الوطنيين إلا أن اعترضوهم مدافعين عن أنفسهم فوقع الهرج والمرج وجرد اليهود أسلحتهم ومسدساتهم وأعملوها بالوطنيين فأخذت الحماسة هؤلاء فكروا عليهم بالعصي ودام الالتحام ساعات عديدة هدرت أثنائها الدماء وأطلق الرصاص وألقيت القنابل اليدوية، ولم يستطع البوليس تلافي الأمر لحرج الموقف وتحولت المظاهرة إلى معركة حقيقية بين الطرفين.

تصاعدت حدة الاشتباكات عندما بدأ بعض المهاجرين من اليهود البولنديين في إلقاء القنابل من شرفات منازلهم على المارة، فاجتمع فريق من الوطنيين وهاجموا تلك المنازل ودامت الاشتباكات حتى الرابعة مساء عندما وصلت قوة بريطانية مدعومة بالطائرات غير أن الخواطر بقيت هائجة ولجأ الوطنيون واليهود إلى بيوتهم وهم ناقمون، ويقدر عدد القتلى من العرب ب12 شخصا ومن اليهود ب30 شخصا أما الجرحى من العرب فسبعة وخمسون ومن اليهود150.

وفي ظل التوتر الشديد هجم أحد أفراد اليهود في اليوم التالي على عربي وقتله، وتبع الحادث أن تجمع الفريقان.. الوطنيون في ساحة البوابة واليهود في شارع بسترس وشبت ثورة عمياء وكثر القتلى والجرحى وغصت المستشفيات وأضرمت النيران في مركب لليهود على الساحل.

يوم الثلاثاء 3 مايو، وكما توقع مراسل الأهرام الخصوصي هو وآخرون من أبناء المدينة، أن الأحوال ستهدأ والأمن سيستتب، وحضر مندوب من بابا روما لتهدئة السكان العرب، غير أن هؤلاء ظلوا يقاطعون كلمته بقولهم: امنع مهاجرة الصهيونيين، وفي الصباح حضر إلى دار الحكومة قناصل فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، وقبل أن تأتي نهاية اليوم أوى الأهلون إلى بيوتهم من الساعة السابعة مساء وكل من وجد معه سلاح أو قنابل أو خناجر يجازى أشد الجزاء، وأحصيت الخسائر فكان عدد القتلى عشرة من الوطنيين وعشرين من اليهود، ووصل عدد الجرحى إلى 37 من الأولين و142 من الأخيرين..

أخذت الأزمة في الانفراج يومي الأربعاء والخميس فخرج اليهود من بيوتهم وعاد الوطنيون إلى حي المنشية بعد أن كان قد خرج أغلبهم منه، وبدأ فتح المحال وصدرت أوامر السلطات للمزارعين من ملاك الأراضي المجاورة لمستعمرات اليهود ألا يتجاوزوا بعضهم حدود البعض وأن يظل كلاهما على بعد مائة متر من حدود بعضهما البعض.

ولو أن القضية انتهت عند هذا الحد لأصبحت مجرد اضطراب وقع بين الوطنيين من أبناء البلاد والمهاجرين اليهود، غير أن ما أعطاها بعدها كعلامة الميلاد للحركة الوطنية الفلسطينية كان فيما تبعها من ردود أفعال..

بدا أول ردود الأفعال عند بقية العرب الفلسطينيين، فكما تقول الأهرام في يوم10 مايو أن أهالي جبل نابلس تجمهروا في طولكرم وهاجموا الخضيرة، فوقع بينهم وبين اليهود ما يؤسف له، وهاجم أهالي قلقيله وجلجولية وكفر سابا مستعمرة ملبس المعروفة عند اليهود باسم مدينة الأمل، وكان اليهود هم البادئون، ولكنهم دحروا، وهجم بعض الفلاحين على مستعمرة ديران المعروفة عند اليهود باسم Rokholaz وعلي عيون قارة المعروفة باسم Rizhon Lezion . ولم تأت تفصيلات ما وقع هناك بعد، وجرى بعض الهياج في جهات حيفا وطبريا وأنحاء الجليل، وقد بلغ هياج الأعصاب أشده في مدينة نابلس فجاءت الحكومة بعمر أفندي البيطار رئيس الجمعية الإسلامية- المسيحية بيافا لتهدئة خواطر الناس.

ويعود مراسل الأهرام الخصوصي في يافا ليقدم صورة عما وصل إليه الطرفان من شكوك، ففي يوم 12 مايو كان أحد الفلاحين الوطنيين يحمل بيضا فعرض عليه بعض اليهود شراءه فأبى لانتشار فكرة المقاطعة بين الفلاحين، وكاد أن يقع الصدام وفي أقل من لمح البصر كانت المدينة مقفلة جميعها وشاع لدى الوطنيين أن اليهود يتأهبون للهجوم عليهم في بيوتهم فأخذوا الحيطة لأنفسهم، وتوهم اليهود أن الوطنيين سيهجمون على تل أبيب فتجمهروا في شوارعها غير أن الأحوال هدأت بعد أن انجلت الحقيقة.

أخيرا فقد كان لمولد الحركة الوطنية الفلسطينية بعد أحداث يافا ردود فعله في البلاد العربية المحيطة، الأمر الذي نتبينه من ذلك الإعلان الذي نشرته الأهرام يوم الثلاثاء 31 مايو تحت عنوان لإعانة منكوبي يافا، والذي نتبين منه أنه قد تشكل ما عرف باسم اللجنة الفلسطينية في مصر، سكرتيرها محمد على طاهر، والذي أعلن أن اللجنة قد شرعت في جمع التبرعات لمنكوبي يافا، وسجل بعض أسماء المتبرعين، وكان هذا الاهتمام المبكر بالحركة الوطنية الفلسطينية في مصر، مجرد بداية لطريق طويل استمر حتى يومنا هذا!.