موقع القدس


الصفحة الرئيسية لموقع القدس
تاريخ القدس القديم |  قبل الإسلام |  الرومان والقدس |  منذ الفتح الإسلامي |  عهد الأمويين |  عهد الفاطميين |  الإحتلال الصليبي
عهد الأيوبيين |  عهد المماليك |  عهد العثمانيين |  العهد العباسي |  عهد الطولونيين |  الإحتلال البريطاني |  الإحتلال الصهيوني
الصحابة |  علماء وزهاد |  مؤرخون ورحالة |  نساء |  أدباء |  شخصيات فلسطينية وعربية
القدس في التاريخ |  مكانة القدس |  الموقع الفلكي |  كنيسة القيامة |  موقف العرب |  المقاومة |  برنامج القدس
دعم أمريكا لإسرائيل |  القضية الفلسطينية في قرنين |  إحصائيات عن اليهود |  الصهيونية
العهدة العمرية واللورد بالمرستون ونابليون والبيع لليهود ورد الشريف حسن ووعد برلفور
صور القدس 1 |  صور القدس 2 |  صور القدس 3 |  صور القدس 4 |  صور القدس 5 |  مواقع

 

4- التمهيد الفكري اليهودي لنشأة الدولة الصهيونية:

مع أن الفكر يبدأ عملَه في أعماق الكينونة البشرية، إلا أنه دائما يبحث لنفسه عن مساحة في الواقع لتنفيذ مطالبه، وربما سلك في الطريق إلى ذلك كل ما يمكنه من وسائل..

وقد تنبه الفكر اليهودي إلى حركة الإصلاح الديني المسيحية التي دعت، فيما دعت إليه، إلى عودة الشعب اليهودي إلى مهد "الإله" في فلسطين؛ لأن عودة المسيح ـ فيما يعتقدون ـ مرهونة بعودة هذا الشعب إلى فلسطين..

كان السائد بين اليهود أن عودتهم لن تكون بيدٍ بشرية، ولا بجهد إنساني، ولكن سيأتي الإله ليأخذهم وينقلهم إلى "أرض الميعاد" بطريقته هو ـ شاع ذلك في عامتهم وخاصتهم، وحتى في الأوساط المتدينة التوراتية والتلمودية.. ورسخ في الذهن اليهودي أنه يجب تجريد الكتاب المقدس من التفسيرات السياسية، فالعودة إلى "أرض الميعاد" لن تكون عملاً بشريًّا، بل ستتحقق عن طريق تدخل سماوي.

 ولكن صرخة مجددي المسيحية والثائرين على اللاهوت الكاثوليكي الصُّلب، دغدغت الحس اليهودي في أوروبا، وبعثت في نفسه آمال العودة إلى "أرض الأجداد" التي يعتقدها حقًا خالصًا له دون العالمين..

وجاءت الحركة الصهيونية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لتبلغ قمة التغيير في النظرة اليهودية، فهي تؤكد على وجوب السعي والعمل من أجل "العودة"، وركزت على أن استعادة الدولة اليهودية "فكرةٌ بالغة القدم". وحفزت اليهود على التقارب والتجمع وسط عالم "يعج بالصراخ ضد اليهود".

وكان هرتزل يركز في دعايته على أنه "لم يأت بجديد"؛ تأمينا لنفسه ضد رفض اليهود الذين يحملون النظرة التقليدية في"العودة". وحذر من النظر إلى أفكاره على أنها أفكار خيالية. وأشار إلى أن الدولة المقترحة ستقوم "بخلقها" "جمعية اليهود" التي ستقوم بدور ممثل الشعب اليهودي، في حين تتولى "الشركة اليهودية" تمويل هذه العملية الضخمة، أما تدخل السماء فلم يكن له مكان في فكر الساعين إلى إقامة الدولة الصهيونية على الإطلاق.

 

بعض أفكار كتاب "الدولة اليهودية" لتيودور هرتزل (سنة 1895):

جاء في مقدمته أن الفكرة التي عرضتُها في هذه النشرة فكرة بالغة القدم، وأنها استعادة الدولة اليهودية. إن العالم يعج بالصراخ ضد اليهود، وهذا الصراخ هو الذي أيقظ هذه الفكرة من سباتها. إن كتابي لا يضم شيئًا جديدًا لم يكن معروفًا من قبل.

وحذر النقادَ من اعتبار كتابه من كتب اليوتوبيا (الجمهوريات الخالية)، ثم قال إنه يؤمن بأن مشروعه الذي سيقدمه في هذا الكتاب مشروعٌ عملي ممكن التحقيق.

وفي الباب الأول من الكتاب الذي أطلق عليه "تقديم" قال إنه ليس في نيته أن يرفع عقيرته بالدفاع عن اليهود، فلا فائدة ترجى من ذلك، فقد قيل الكثير دفاعًا عن اليهود فإذا كان المستمع غير قادر على إدراك هذا الدفاع فإن دفاعي عندئذ سيكون كمن يعظ في الصحراء. أما إذا كان من يستمع إليّ واسع الأفق فإنه سيكون مقتنعًا مقدمًا بما سأقوله وإذن فلا داعي لترديده مرة أخرى.

إننا شعب ـ إننا شعب واحد. ولقد حاولنا بشرف وفي كل مكان أن نندمج في الجماعات التي نعيش فيها. إننا نعامل في الدول التي نعيش فيها على أننا غرباء.

ولكن الاضطهاد والظلم لن يقضيا علينا كشعب. فليس هناك أمة على سطح الأرض قد تعرضت لمثل ما تعرضنا له واستطاعت أن تتغلب على حركات الإبادة.

أما الباب الثاني فعنوانه "المسألة اليهودية" وتحدث في هذا الباب عن المشكلة اليهودية من حيث معاداة الشعوب للسامية.

ثم تناول هرتزل المحاولات السابقة لحل مشكلة اليهود ووصفَ هذه المحاولات بأنها محاولات مصطنعة. ثم انتقل إلى أسباب العداء للسامية فقال إنها أسباب سياسية واقتصادية، وطالب بعدم الخلط بين العداء للسامية الآن والعداء للسامية في العصور القديمة، وهو العداء القائم على أسباب ودوافع دينية. ثم قال جملته المشهورة: "إننا نحن اليهود عندما ننحدر نصبح من البرولوتاريا الثورية، ونصبح خدامًا للجماعات الثورية، لكن عندما ننهض ونرتفع ترتفع معنا قوة المال الرهيبة".

ونتيجة لهذا العداء للسامية، شعر اليهود المضطهدون بالكراهية للذين يضطهدونهم. وهذا بدوره يزيد من الاضطهاد لهم، وهكذا تدور المشكلة في حلقة مفرغة.

وتساءل هرتزل عن الحل. الحل هو ـ كما يقول ـ في أن يُمنح اليهود السيادة على جزء من الأراضي يُمَكِّن اليهود من أن يعيشوا حياتهم كأمة .. وما بعد ذلك يترك لليهود يتصرفون فيه بأنفسهم.

إن إقامة دولة جديدة ليس بالشيء المستحيل. وستكلف وكالتان متخصصتان القيام بهذا العمل هما "جمعية اليهود"، و "الشركة اليهودية"، وستخول الجمعية السلطات للتفاوض مع الحكومات بكونها ممثلة الشعب اليهودي، وسيكون هدفها خلق الدولة اليهودية. أما الشركة فهي لتمويل هذه العمليات.

وأثار هرتزل التساؤل التالي: هل ستكون الدولة في فلسطين أم في الأرجنتين؟. وقال: إن الجمعية هي التي ستحدد. ثم قال: إن الأرجنتين من أخصب بقاع العالم ومساحتها كبيرة وتعداد سكانها ضئيل وجوها معتدل. ولا شك أن جمهورية الأرجنتين ستجني مكاسب هائلة من وراء إعطائنا قطعة من الأرض. أما فلسطين فلها ذكريات تاريخية، وإن مجرد ذكر اسم فلسطين يثير شعبنا ويحفزه، وإذا ما وافق السلطان على إعطائنا فلسطين فإننا في مقابل ذلك سنتعهد بتنظيم الأحوال المالية لتركيا.

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، الجزء الأول صـ 52 ـ 55).

 

 

 

 

5- التمهيد الفكري المسيحي لنشأة الدولة الصهيونية:

ما كان الكاثوليك يعتقدون في فكرة الشعب اليهودي المختار، وما آمنوا بفكرة عودة اليهود إلى أورشليم كما وعدتهم التوراة، فقد غرق اليهود في الآثام والمعاصي، فطردهم الله إلى بابل، وأمكن منهم عدوهم الذي شتتهم وشردهم، ولبى الله لهم وعده ـ كما تعتقد الكاثوليكية ـ حين عادوا إلى أورشليم على يد الامبراطور الفارسي كورش. لكن وجود "الأمة اليهودية" انتهى إلى الأبد حين أنكروا المسيح (عليه السلام) ويمكنهم أن يتطهروا كأفراد، لينعموا بالخلاص بدخولهم في المسيحية. وميز التفكير الكاثوليكي بين الشعب العبراني القديم الذي يتحدث عنه الكتاب المقدس وبين اليهود المعاصرين، فالشعب القديم في نظرهم مثالي، وأما المعاصرون فينظر إليهم بازدراء واحتقار. أما الحركة البروتستانتية في القرن السادس عشر، فقد أعادت النظر في تفسير كلمات العهد القديم، وجعلت التفسير حقا فرديًا لا يقتصر على سلطة كنسية فحسب، ففتحت الباب لتأويلات حرفية للكتاب المقدس، تدعو إلى العودة اليهودية إلى الأرض المقدسة كتقدمه طبيعية لعودة المسيح المنتظر الذي سيقيم مملكة الله في الأرض لألف عام. وبهذا الشكل بدأت الصهيونية مسيحية بروتستانتية قبل أن تغدو يهودية بزمان.

مهدت هذه الأفكار إذًا لتقبل المؤمنين بها وعد بلفور، وعدم معارضتهم لسياسات كثيرة جعلت من الكيان الصهيوني واقعًا فوق الأرض.

 

6- أصول اليهود واليهودية في العالم العربي:

كانت خطواتهم ثقيلة متعبة.. وجوه أتعبها السفر والصحراء المترامية، نبي وزوجته وأحد عشر ابنًا يتجاوزون الحد الفاصل بين الجوع والشبع. كان ذلك حوالي القرن السابع عشر قبل الميلاد، حين هاجر سيدنا يعقوب ـ عليه السلام ـ وعائلته من كنعان حيث الأزمة الاقتصادية الخانقة، إلى مصر حيث يوسف يملك مفاتيح خزائن مصر، وانقسم بنو يعقوب إلى اثنتي عشرة قبيلة منهم قبيلة لاوي، التي كان منها موسى وهارون ومريم وعيسى ـ عليهم السلام ـ وكان المصريون يعاملون اليهود معاملة حسنة، فقد استقروا في وادي الطليمات ومديرية الشرقية، ولكنهم تعرضوا للانتقام الشديد من المصريين بسبب تعاونهم مع الهكسوس غزاة مصر، حتى خرج بهم نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ إلى الصحراء، فتعرضوا للتيه في سيناء بسبب عصيانهم ومخالفتهم لنبيهم، ثم استولوا في القرن الثالث عشر قبل الميلاد على بلاد كنعان، وبلغوا قمة تفوقهم في عهد داود وسليمان  عليهما السلام - ولكن بعد وفاتهما انقسمت المملكة شطرين هما: يهوذا وإسرائيل، ونشبت بينهما المعارك حتى احتلهما بختنصَّر، وهجّر أهلهما إلى بابل، ولكنهم عادوا بعد خمسين سنة حين أطلق كورش ملك الفرس سراحهم بعد أن سيطر على بيت المقدس، التي دمرها الرومان تمامًا إثر ثورة قام بها اليهود سنة 70م.

وقد كان من آثار نفي اليهود المتكرر، أنهم انتشروا في أماكن عديدة من العالم القديم، فظهرت منهم جماعات في الجزيرة العربية قبل الإسلام، واندمج كثير من الطوائف اليهودية في المجتمعات الإسلامية بمرور الزمان، حتى كان لهم تواجدهم الواضح في العالم الإسلامي المعاصر.

 

عدل المسلمين:

يقول الحاخام الإيطالي إبراهام الذي زار القدس في مارس سنة 1488، ثم استقر حتى صار رئيسًا للطائفة اليهودية في فلسطين ـ يقول: "اليهود ليسوا مضطهدين عند العرب، ولقد سافرت في جميع أنحاء فلسطين طولاً وعرضًا، لم يعترض طريقي أحد، ولم يمنعني أحد من التجول في أية بقعة أريدها؛ لأن الفلسطينيين لطفاء وكرماء مع الأغراب، وخصوصًا الذين لا يعرفون لغتهم. وإذا ما رأوا اليهود مجتمعين فإنهم لا يتأثرون لذلك ولا ينزعجون. حتى إنه لو قدر لأحد اليهود أن يبرز في العلوم، فمن السهل عليه أن يحتل مركزًا مرموقًا بين العرب، وقد يصبح رئيسًا لليهود والعرب في مجال العلوم".

(مجلة المتحف العربي الكويتية السنة الثانية، العدد الثالث جمادى الأولى 1407هـ،9 يناير 1987م).

 

 

 

7- جماعات اليهود في الجزيرة العربية:

فيما يبدو أنه كان فرارًا من الاضطهاد، انتقلت جماعات من اليهود إلى شبه الجزيرة العربية، وكان انتقالهم يشبه موجات مذعورة تبحث لنفسها عن شاطئ ومستقر، ولم تتم على دفعة واحدة، كما لم تستقر في مكان واحد، فهي أشبه بماء المطر المتباعد، وليست كالنهر المكتمل، وكان استيطانهم في تيماء وخيبر ووادي القرى ويثرب (المدينة) واليمن.

ويحتفظ التاريخ بأسماء بعض عشائر هؤلاء اليهود، كبني عكرمة وبني زعورا وبني زيد وبني تغلب وبني قريظة وبني النضير، وكانت يثرب تضم أكبر تجمعاتهم قاطبة، ومع ذلك ـ واستنادًا إلى الإحصاءات المتوافرة ـ فإن عدد اليهود في يثرب لم يكن كبيرًا.

وعلى بعد مائة ميل من يثرب كان لليهود تجمع آخر في خيبر التي كان يهودها يرتبطون بعلاقاتٍ وثيقةٍ ببني النضير في يثرب، وكانوا يعيشون على الزراعة، وإن اشتغلوا أيضاً بتربية بعض الحيوانات. وكان يهود خيبر يسكنون في جماعات متفرقة، لكل مجموعة حصن خاص بها.

أما المناطق الأخرى التي سكن فيها اليهود مثل فدك وتيماء ووادي القرى، فكانت واحات صغيرة تقطنها جماعات يهودية محدودة العدد، وبالرغم من قلة المعلومات عنهم فإن الدلائل تشير إلى التشابه الكبير بين طبيعة حياتهم وحياة يهود يثرب.

وقد كان يهود الجزيرة أشد الطوائف التي عادت المسلمين، ودبرت لهم المؤامرات، حتى نفاهم عمر بن الخطاب من الجزيرة أثناء خلافته.

 

8- اندماج اليهود الثقافي والاجتماعي في المجتمع العربي:

كضوء الشمس كانت الحضارة الإسلامية تضيء كل حيز طالما كانت النوافذ مفتوحة، وقد حرص اليهود من البداية على فتح نوافذهم أمام الحضارة الإسلامية، واندمجوا في المجتمع الإسلامي إلى حد كبير، فتبنوا لغته العربية، سواء في حديثهم اليومي أم في أدبياتهم الدينية والدنيوية، كما لم يختلف التركيب الطبقي لليهود عن تركيب المجتمع ككل. وقد تأثر التراث الديني اليهودي بالتراث الديني الإسلامي، إلى درجة أنه لا يمكن فهم التراث الديني اليهودي في هذه المرحلة إلا بالعودة إلى التراث الإسلامي الفلسفي والديني.

وقد ظهر عدد من المفكرين اليهود المتشبعين بالفكر الإسلامي، مثل موسى بن ميمون. ولكن وضع اليهود تدهور بتدهور العالم الإسلامي ككل، نتيجة لانقسامهم إلى دويلات وإمارات صغيرة، وتدهور الطبقة الوسطى في العالم الإسلامي بعد أن توقف النمو التجاري، وقد ازداد التراجع الإسلامي بعد الهجوم المسيحي المتمثل في الحروب الصليبية، ثم الهجوم على صقلية والأندلس، واستمر التدهور حتى الفتح العثماني.

 

عدل المسلمين:

يقول الحاخام الإيطالي إبراهام الذي زار القدس في مارس سنة 1488، ثم استقر حتى صار رئيسًا للطائفة اليهودية في فلسطين ـ يقول: "اليهود ليسوا مضطهدين عند العرب، ولقد سافرت في جميع أنحاء فلسطين طولاً وعرضًا، لم يعترض طريقي أحد، ولم يمنعني أحد من التجول في أية بقعة أريدها؛ لأن الفلسطينيين لطفاء وكرماء مع الأغراب، وخصوصًا الذين لا يعرفون لغتهم. وإذا ما رأوا اليهود مجتمعين فإنهم لا يتأثرون لذلك ولا ينزعجون. حتى إنه لو قدر لأحد اليهود أن يبرز في العلوم، فمن السهل عليه أن يحتل مركزًا مرموقًا بين العرب، وقد يصبح رئيسًا لليهود والعرب في مجال العلوم".

(مجلة المتحف العربي الكويتية السنة الثانية، العدد الثالث جمادى الأولى 1407هـ،9 يناير 1987م).

 

 

 

9- الجماعات اليهودية في العالم الإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر:

كقطعة ثلج في شمس حارقة، كانت أعداد يهود العالم الإسلامي تتناقص بشدة، فبعد أن كانوا يشكلون أكثر من نصف يهود العالم قبل ما يُسمى بالعصور الوسطى، لم تتجاوز نسبتهم عَشَرة في المائة مع إطلالة وجه القرن التاسع عشر.

ويمكن تعليل ذلك بتحول أعداد كبيرة من اليهود القرائين، ذوي الصبغة التوحيدية المشابهة للإسلام ـ إلى الإسلام. كذلك أدى تراجع العالم الإسلامي ككل إلى نزوح اليهود عنه. وذلك بالإضافة إلى تراجع معدلات الخصوبة بين يهود العالم الإسلامي، وقد قُدر عدد يهود العالم الإسلامي قبل سنة 1950م بين ثمانمائة ألف وستمائة ألف يهودي، وكان أغلبهم يعيشون في المدن بسبب اشتغالهم بالمهن، وتركُّزِهم في قطاعات اقتصادية بعينها.

وقد تجلَّى انقسام اليهود بشدة في الإطار التنظيمي؛ حيث لم يكن يتسم بأي مركزية أو وحدة، إلا إذا قامت الدولة بفرضه كما حدث في مصر. وكان أعضاء الجماعات اليهودية المستعربة مندمجين حضاريًا في المحيط الثقافي العربي الإسلامي لكل جماعة، ففي حالات كثيرة كان العامة من اليهود والمسلمين يتبركون بشخص واحد، ويقومون بزيارته على أنه ولي من أولياء الله !!

 

10- الوجود اليهودي في القدس حتى القرن التاسع عشر:

عند قدوم الصليبيين إلى العالم الإسلامي واحتلالهم للقدس سنة 492هـ، كانت المدينة تضم أقلية يهودية لا تجاوز المائة فرد، كان نصيبهم الإحراق في مكان واحد، بيد القوات الغازية، بصورة شديدة البشاعة..

ومع الفتح الإسلامي الجديد للقدس سنة 583هـ، سمح صلاح الدين لأقلية يهودية جديدة بالسكن فيها، وقد كان الطبيب اليهودي موسى بن ميمون قريبا من صلاح الدين في هذه الفترة، ولم تكن لليهود حينئذ أي أحلام بالعودة إلى أورشليم بالقوة.

وفي أوائل القرن العاشر الميلادي، مع قيام الدولة العثمانية، نزحت إلى القدس ثلاثمائة أسرة يهودية، لكن الأوضاع لم تتغير كثيرا، وظل اليهود أقلية ضئيلة بالنسبة إلى المسيحيين، فضلا عن المسلمين، فلم يتجاوز عددهم سنة 1793م بضع مئات من الأفراد. وبعد ذلك بحوالي نصف قرن بلغوا ستة آلاف وخمسمائة نسمة فقط.

وبعد عودة القدس إلى السيطرة العثمانية سنة 1840م وأخذها من يد إبراهيم باشا، تحسنت أوضاع الطائفة اليهودية في القدس، إذ أصبح لليهود الشرقيين (السفارد) حاخام خاص بهم، اتخذ من القدس مقرًا له، وأدار شؤون طائفته الدينية والدنيوية.

ومنذ هذا التاريخ شهدت القدس انقلابا في أوضاعها السكانية، فبدأ يتوجه نحو المدينة زحف يهودي منظم، خاصة مع الحماية التي كفلتها القنصليات الأجنبية في القدس للأقليات الدينية، فتحت رعاية بريطانيا والنمسا وهولندا وألمانيا والولايات المتحدة تضاعف الوجود اليهودي في القدس، حتى صار تسعة آلاف نسمة عام 1864م، وبعد ربع قرن أصبحت الجالية اليهودية في القدس عشرين ألف نسمة من أصل 45 ألف نسمة تضمهم المدينة المقدسة، ولم يغلق القرن التاسع عشر الميلادي أبوابه حتى بلغ تعداد اليهود في القدس حوالي ثلاثين ألفًا، بنسبة تزيد على 60% من سكان القدس.

 

وضع اليهود في القدس في النصف الثاني من القرن 19:

بعد أن زار القدس فيما بين عامي 1875 ـ 1880 كتب د. لورتيه عميد كلية الطب في ليون بفرنسا يقول: "حارة اليهود في القدس كثيفة السكان، يبلغ عدد سكانها عشرة آلاف نسمة تقريبًا، وهي تقع ما بين الحرم الشريف وجبل صهيون. هؤلاء اليهود مختلفو المذاهب والمشارب والعادات باختلاف البلدان التي جاءوا منها إلى فلسطين تدفعهم نزعة جامعة لممارسة الشعائر الدينية منهم من جاء من الغرب من ألمانيا وروسيا وبولونيا وإسبانيا، ومنهم من جاء من الشرف، من تركيا ومصر وشمال أفريقيا، وهم عموما يكرهون الأعمال اليدوية، ويعيشون دون ممارسة المهن المنتجة ..".

(أرض الذكريات: رحلة الدكتور لورتيه ص 143 شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بيروت، ط. الأولى: 1993).

 

 

 

11- الوجود اليهودي في القدس قبيل الاحتلال البريطاني:

حين بدأ القرن العشرون سنواته لم يكن قد بقي على البريطانيين ليحتلوا القدس سوى ستة عشر عاما وأشهر، وهي الفترة التي ملأها الصهاينة بالجهد المنظم لترسيخ تواجدهم في القدس وعموم فلسطين، وواصلوا سياستهم التي ركزوا عليها في نهايات القرن التاسع عشر بتكثيف تواجدهم في الأرض المباركة.

وجاءت دلالة المجهود الصهيوني جلية في ارتفاع عدد سكان القدس من اليهود عام 1904م إلى أربعين ألفًا، تبسط القنصليات الأجنبية في القدس يد الحماية على الكثير منهم.

وجاء عام 1908م ليحمل الكثير من المفاجآت؛ إذ تنبهت الدولة في الأستانة إلى خطر الزحف اليهودي على القدس وفلسطين، فوُضعت القيود على الهجرة اليهودية إلى هناك، لكن ذلك لم يمنع من تزايد عدد اليهود في القدس؛ فقد أزاح الانقلاب ضد السلطان عبد الحميد الثاني في هذا العام إحدى العقبات الكبرى ضد تكثيف التواجد اليهودي في الأرض المقدسة.

وقبل أن تصبِّح الحرب العالمية الأولى العالم بنيرانها عام 1914، كان عدد سكان القدس تسعين ألف نسمة، تميل الكِفَّة فيها إلى اليهود كأغلبية، لكن أهوال الحرب شاركت في هجرة الكثيرين من اليهود وغيرهم. ومع خفوت صوت الحرب ودخول البريطانيين إلى القدس سنة 1917م، بدأ المستعمر رعايته القوية للتواجد اليهودي في القدس.

 

من كتاب "نداء باسم الأمة اليهودية" فيما يتعلق بالسياسة البريطانية في الشرق الأدنى (بقلم: إدوارد لدويتش متفورد سنة 1845):

إن البلاد إذا ما قورنت بمساحتها تبدو ضئيلة السكان حاليًا، إلا أن الضغط الذي يولده إدخال هذا العدد الهائل من الغرباء وإقحامهم على السكان الفعليين قد تترتب عنه نتائج مؤذية، لذا يستحسن قبل القيام بمحاولة للاستيطان أن يتم إعداد البلاد لاستقبال القادمين، ويمكن تحقيق ذلك باستمالة الحكومة العثمانية نحو اعتماد خطة انحسار السكان المحمديين وتقهقرهم صوب تلك المناطق الشاسعة، والمرونة جزئيا في آسيا الصغرى حيث يتم تمليكهم لمساحات وقطعات من الأراضي تتمتع بالحسنات ذاتها. وتفوق قيمتها إلى حد بعيد قيمة تلك الأراضي التي تخلوا عنها وتركوها.

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، الجزء الأول صـ33).

ـ خطوط برنامج توطين اليهود في فلسطين طبقًا لآمال الحركة الصهيونية (قدمت إلى مارك سايكس، ووضعته اللجنة السياسية المنبثقة من المنظمة الصهيونية برئاسة وايزمان سنة 1916):

1 ـ الاعتراف رسميًا بالشعب اليهودي في فلسطين (ونقصد هنا بالشعب اليهودي: اليهود الموجودين حاليًا في فلسطين واليهود الذين سيهاجرون إليها مستقبلا) كنواة للوطن القومي اليهودي. وأن يتمتع هذا الشعب بجميع حقوقه المدنية والسياسية.

2 ـ أن تمنح الحكومة البريطانية لجميع اليهود في مختلف أنحاء العالم حق الهجرة إلى فلسطين. وأن تسهل لليهود في فلسطين وسائل الاستقرار وشراء الأراضي.

3 ـ أن تبارك الحكومة البريطانية تكوين جمعية يهودية هدفها استعمار فلسطين، وأن تكون هذه الجمعية تحت حماية الحكومة. وسيكون من أعمال هذه الجمعية مساعدة اليهود على الاستقرار في فلسطين بجميع الطرق الممكنة، وأن تساعد وتشجع على الهجرة بكافة الوسائل.

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، الجزء الأول صـ199).

 

 

 

12- الوجود اليهودي في القدس أثناء الاحتلال البريطاني:

مكث البريطانيون في القدس إحدى وعشرين سنة، بدأت سنة ألف وتسعمائة وسبع عشرة بخداع الثورة العربية، وإخلاف الوعود البريطانية للشريف حسين وأسرته بمعاونته على حكم البلاد العربية المستقلة في العراق والشام والحجاز، مقابل أن يثور العرب ضد الأتراك المحاربين مع ألمانيا ضد التحالف البريطاني الفرنسي.

وكانت فترة الاحتلال البريطاني للقدس وفلسطين هي فترة الإعداد الواقعي للدولة العبرية التي تتخذ من أورشليم القدس عاصمة لها، ففي عام 1917م أعطى البريطانيون للصهاينة وعدهم الرسمي بإقامة وطن قومي لليهود فوق التراب الفلسطيني، ورعوا الهجرة اليهودية المنظمة والكثيفة إلى القدس وفلسطين، حتى أصبح اليهود يمثلون 60% من سكان القدس.

وقبل أن يرحل البريطانيون عن القدس، كانت المستعمرات الصهيونية غربي السور قد نمت حتى أصبحت مدينة وحدها، وارتفع عدد سكان القدس الجديدة والقديمة إلى مائة وسبعين ألف نسمة، منهم تسعة وتسعون ألف يهودي، يتركز أكثرهم في القدس الغربية أو القدس الجديدة.

 

دعم الإنجليز للدولة الصهيونية:

من خطاب لورد جراى في مجلس اللوردات، مارس سنة 1923:

"إن قيام وطن صهيوني يعني حتمًا قيام حكومة صهيونية، في المناطق التي تشملها حدودها هذا الوطن، وإذا كان ثلاثة وتسعون في المائة من سكان فلسطين هم من العرب، فإنني لا أرى كيف يمكن إقامة شيء آخر، سوى حكومة عربية دون الإضرار بحقوق اليهود. ويخيل إلى أن وعد بلفور ينطوي ـ دون أية مبالغة ـ على صعوبة عظمى في تحقيقه".

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، جـ 1 ص 461).

 

 

   2- معارك العرب واليهود في عام 1948

شهد عام 1948 أحداثًا تحولية ضخمة في العالم الإسلامي، فللمرة الأولى منذ انسحاب الصليبيين من بلاد المسلمين نهائيا (سنة 690هـ) ـ قامت دولة أجنبية استيطانية في العالم الإسلامي، والفارق بين هذه الدولة وبين الاستعمار هو أن الأخير غرضه الاستغلال ومص دماء البلاد المستعمَرة، وأما الدولة الاستيطانية فتبني لنفسها بنِيّةِ البقاء والإقامة، تحت دعاوى مختلفة من وجود حق ديني أو قومي لها في هذه البقعة أو تلك.

وكانت هذه الدولة الاستيطانية هي إسرائيل، التي أعلن اليهود إحياءها وقيامها من بين الدول الميتة في مايو سنة 1948، وكان هذا الحدث قمة الغليان في فلسطين، سبقته أحداث دامية، ولحقته أحداث أخرى دامية، وكانت القدس دائما في قلب الأحداث.

منذ نهايات القرن التاسع عشر راقب العرب جِد اليهود المتصاعد وجهودهم الدءوب نحو إقامة الدولة الإسرائيلية، فسعى العرب إلى عرقلة هذه الجهود بما استطاعوا من وسائل، حماية لحقوقهم وأوطانهم، ووقعت بينهم وبين اليهود (يساندهم الإنجليز) اشتباكات عنيفة، وبلغ ذلك قمته في عام 1948، ففي شهر مارس من هذا العام عمل العرب على تعويق حركة وسائل النقل وخطوط المواصلات والتموين اليهودية، وسعوا إلى قطع المياه والمؤن عن اليهود في القدس، وسيطروا على مداخل المدينة من شرقها وشمالها، وسيطر اليهود في غربها وجنوبها.

استطاع المجاهدون العرب في هذه الأثناء نسف دار الوكالة اليهودية في القدس، وتفوقوا في معركة "شعفاط" وكفار عصيون الثانية لمنع قوافل إمداد المستعمرات اليهودية في القدس من العبور.

ودار الصراع حول طريق القدس ـ تل أبيب حاميا مع بداية شهر أبريل، واستمر إلى شهر مايو، وأثناء ذلك سقطت القسطل في يد اليهود في 9 أبريل بعد سجال دموي بينهم وبين العرب. وكانت أعمال اليهود القتالية تتصاعد مع الوقت، فحاولوا الاستيلاء على الطرق المؤدية إلى القدس، وربطها بتل أبيب، لكنهم فشلوا، وارتكبوا مجازر في العديد من القرى العربية، أشهرها دير ياسين في التاسع من أبريل.

واشتد الصراع في نفس هذا العام على مدينة القدس، فاحتل اليهود القدس الغربية، واحتفظ العرب بالقدس الشرقية.

 

 

           1- معارك العرب واليهود عقب إعلان قيام إسرائيل

كان الشعب الفلسطيني وهو يواجه الخطط اليهودية لصنع الدولة العبرية، ينقصه التنظيم والتدريب والسلاح، وكان يمكن للدول العربية أن تنسق فيما بينها للقيام بهذا الدور، وسد هذا النقص، لكنها فضلت في مايو من عام 1948 المشاركة المباشرة بقواتها التي بلغت عشرين ألفا فقط، فاستولى الجنود المصريون المكلفون بحماية القطاع الجنوبي لفلسطين على ثلاث مستعمرات يهودية، واقتربوا من تل أبيب حتى صار بينهم وبينها عشرون كيلو مترًا فحسب، واقتصر الأردنيون المكلفون بقطاع القدس على الدفاع عن الجزء المخصص للعرب في فلسطين حسب قرار التقسيم، وشاركت قوات من سوريا ولبنان والعراق.

ومع التفوق العربي الملحوظ جاء قرار مجلس الأمن في التاسع والعشرين من مايو ليفرض الهدنة الأولى على طرفي القتال، مما أتاح للإسرائيليين تعزيز قواتهم وعتادهم عن طريق الدول والتنظيمات الأجنبية، فحصلوا على طائرات حربية وأسلحة مدفعية وسيارات مصفحة ثقيلة، كما احتلوا ـ برغم الهدنة ـ أراضي جديدة كانت في يد العرب أثناء الهدنة.

وحين استؤنف القتال في التاسع من يوليو كانت أشياء كثيرة قد تبدلت، فقد ازدادت القوات العربية ضعفا، وقويت أوضاع اليهود وقدراتهم العسكرية، وأدى "جلوب" باشا ـ القائد البريطاني العام للقوات الأردنية ـ دورًا سلبيا في هذه المعارك، فكان ينسحب من بعض المواقع بغير داع، فتسبب في وضع القوات العربية الأخرى في أوضاع حرجة.

استطاع اليهود في هذه المراحل من القتال فتح طريق القدس، والسيطرة على الساحل والجليل الأعلى واللد والرملة وجزء كبير من وسط فلسطين.

وجاءت الهدنة الثانية في الثامن عشر من يوليو، لكن القوات الصهيونية استمرت في القتال، ودخلت بئر السبع وبيت جبرين وغيرهما، ودفعوا القوات المصرية إلى الانسحاب من النقب، وتوغلوا في أجزاء من سيناء، واستمروا في التوغل في فلسطين جنوبا حتى استولوا على ميناء أم الرشراش المصري على ساحل خليج العقبة، وأزالوا الميناء، وأقاموا مكانه منفذهم الوحيد على البحر الأحمر "إيلات"، وما زال في يدهم إلى اليوم.

وعُقدت الهدنة بين العرب وإسرائيل في عام 1949، وأقرت واقعا مأساويا، أصبحت معه دولةُ إسرائيل حقيقة قائمة على فلسطين كلِّها ما عدا الضفة الغربية (جنين، ونابلس، وطولكرم، وأريحا..) والقدس الشرقية وغزة ، وخان يونس ورفح.

 

         2- معركة طريق القدس تل أبيب

هي أشرس المعارك التي جرت في فلسطين عام 1948، فقد كانت تل أبيب تمثل نقطة تمركز رئيسية لليهود هناك، وتمثل القدس أملا ضروريًا لدولتهم، فحاولوا الاستيلاء على باب الواد، الذي يربط سهل فلسطين الغربي بجبال القدس، ويمثل مفتاحا مهما للمدينة المباركة.

بدأ العرب بتخريب الطريق الواصلة من القدس إلى تل أبيب، وهي الطريق الوحيدة الممهَّدة حينئذ للوصول إلى باب الواد، فخربوها قرب قرية دير أيوب وعند الرملة، وأتلفوا أنابيب المياه.

وفي العاشر من مايو بدأ القتال بوصول المجاهدين العرب من قوات جيش الإنقاذ وجيش الجهاد المقدس، وحاول اليهود تشتيت القوات العربية، وتخفيف الضغط على أتباعهم عند باب الواد، وحاولوا الاستعاضة عن الطريق المخربة بطرق أخرى، وشنوا هجمات على المرتفعات بين قرية النبي صموئيل ويدّو وبيت سوريك، لكنهم فشلوا في التقدم، وتراجعوا عن مواقعهم في التلال المطلة على باب الواد عند قرية بيت محسير.

وجاءت القوات الأردنية في الخامس عشر من مايو وتسلمت من المجاهدين مواقعهم، وتمركزت فوق المرتفعات بين اللطرون وباب الواد، لكنها التزمت وضع الدفاع، فكانت تكتفي بصد الهجمات اليهودية!

لقد كان هذا المشهد ضمن معارك القتال في عام 1948 أشدها شراسة وأقواها، واستطاع العرب فيه الاحتفاظ بالسيطرة على باب الواد، وخسر اليهود كثيرًا من قواتهم.

 

         3- معركة القسطل:

"القسطل مأخوذة من كلمة Castle الإفرنجية، ومعناها الحصن، وليس من السهل فتح الحصن بالبنادق الإيطالية والذخائر القليلة التي بين أيدينا، أعطني السلاح الذي طلبتُه منك وأنا أستردها.

ولقد كانت خطتي إلى الآن أن أحاصر القدس والمستعمرات اليهودية وباب الواد، وأن أمنع وصول النجدات والمؤن إلى اليهود، ونجحت هذه الخطة، حتى إن اليهود شرعوا يموِّنون رجالهم في المستعمرات بالطائرات، وأما الآن فقد تطورت الحال، وأصبح لدى اليهود مدافع وطائرات ورجال، وليس باستطاعتي أن أحتل القسطل إلا بالمدافع، أعطني ما طلبت وأنا كفيل بالنصر".

بهذا الوعي راح عبد القادر الحسيني المتخرج في الجامعة الأمريكية يتحدث إلى رئيس اللجنة العربية التي اجتمع بها في دمشق لإمداده بالسلاح، ففي هذه الأثناء في أبريل عام 1948م أتت إلى الحسيني الأخبار المؤلمة بسقوط قرية القسطل ـ ذات الموقع الاستراتيجي للقدس ـ في يد القوات الصهيونية في الثالث من أبريل، فتوجع لذلك وتألم قلبه، وراح يتحدث إلى المسئولين العرب في دمشق بجمله السابقة، ولولا رجولته لطفرت الدموع من عينيه تضع علامات الترقيم وسط عباراته القوية العاقلة..

كان عبد القادر يدرك أن القدس هي مضخة البركة والعظمة لبلاده، مثلما أن قلبه هو مضخة الدماء التي يعيش عليها جسده، وينبغي أن يحفظ الدُّور والأرض والعرض والوطن، فتوجه صوب القدس والقسطل لتوه، وهو يردد: "سأحتل القسطل، وسأموت أنا وجميع إخوتي المجاهدين". وهناك وقع القتال العنيف.

 

          4- القتال في القسطل:

راحت السيارة بهديرها العالي تقطع المسافة بين دمشق والقدس، تشق أرضًا خضراء وأرضًا صفراء، وفي ذهن عبد القادر الحسيني زحام رهيب من الأفكار، وخطط واضحة لمواجهة اليهود الذين احتلوا قرية القسطل، برغم قلة جنود الحسيني وعتاده، حتى وصل إلى القدس في صبيحة السابع من أبريل سنة 1948م، ولم يعط عبد القادر الحسيني لنفسه فرصة لراحة طويلة؛ فليس هناك وقت لهذا، بل استراح قليلاً، ثم اصطحب بعض خاصته من المجاهدين، مثل إبراهيم أبو دية وحافظ بركات في اتجاه ميدان القتال، وهناك راح يوزع قواته التي لم تزد على ثلاثمائة مجاهد، فوضع بعضهم في الجهة الجنوبية للقسطل تحت قيادة إبراهيم أبو دية، وقوات أخرى في الناحية الغربية عليهم إبراهيم حجازي، وفي الجهة الشرقية وضع بعض القوات تحت قيادة حافظ بركات.

وفي مساء السابع من أبريل/ نيسان هجمت قوات الشيخ عبد القادر على الصهاينة ـ في القسطل، وكادوا يدخلون القرية لولا نفاد الذخيرة من القوات المهاجمة من الجنوب وإصابة قائدهم إصابة شديدة، فغضب الحسيني وأصر على الهجوم بنفسه، وتقدم مع المجاهدين لنسف المتارس الأمامية، لكن اليهود اكتشفوا وجودهم، فدارت معركة حامية، أصيب فيها رفاق عبد القادر الثلاثة، وظل هو يقاوم بشدة، حتى لاح فجر الثامن من أبريل عام 1948م، فشاع الخبر بحصار اليهود للشيخ الحسيني، وأن محاولة تحرير القسطل تكاد تُمنَّى بالفشل، فتحرك المجاهدون من جيش الجهاد المقدس وجيش الإنقاذ ومن مدينة الخليل والقرى القريبة من القدس لإنقاذ الموقف، فنجحوا في تحرير قرية القسطل، ورفعوا عليها الراية العربية، إلا أنهم وجدوا الشيخ عبد القادر قد لقي ربه بعد أن تبادل إطلاق النار مع القوات الصهيونية فأصابوه بقنبلة.

هنا بدا أن الموقف قد ترجَّح لصالح العرب، فذهب فريق من المجاهدين لتشييع جنازة الحسيني في القدس، وغادر آخرون مواقعهم بسبب التعب الشديد الذي أصابهم، فسنحت الفرصة لليهود الزاحفين من المستعمرات المجاورة لإعادة احتلال القسطل في التاسع من نيسان عام 1948م.