موقع القدس


الصفحة الرئيسية لموقع القدس
تاريخ القدس القديم |  قبل الإسلام |  الرومان والقدس |  منذ الفتح الإسلامي |  عهد الأمويين |  عهد الفاطميين |  الإحتلال الصليبي
عهد الأيوبيين |  عهد المماليك |  عهد العثمانيين |  العهد العباسي |  عهد الطولونيين |  الإحتلال البريطاني |  الإحتلال الصهيوني
الصحابة |  علماء وزهاد |  مؤرخون ورحالة |  نساء |  أدباء |  شخصيات فلسطينية وعربية
القدس في التاريخ |  مكانة القدس |  الموقع الفلكي |  كنيسة القيامة |  موقف العرب |  المقاومة |  برنامج القدس
دعم أمريكا لإسرائيل |  القضية الفلسطينية في قرنين |  إحصائيات عن اليهود |  الصهيونية
العهدة العمرية واللورد بالمرستون ونابليون والبيع لليهود ورد الشريف حسن ووعد برلفور
صور القدس 1 |  صور القدس 2 |  صور القدس 3 |  صور القدس 4 |  صور القدس 5 |  مواقع

 

      8- القدس في عهد العثمانيين

1- العثمانيون والقدس:

"سحْق الأتراك أولا ثم احتلال القدس"! تحت هذا الشعار تكونت حملة صليبية كبيرة، سنة 798هـ، يقودها سيجموند ملك المجر، ضد الدولة العثمانية، حيث كان الصاعقة بايزيد الأول هو سلطان الدولة وأميرها.

والدولة العثمانية بدأت خطواتها الأولى في الأناضول (جنوب شرق تركيا الحالية) في النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وراح العثمانيون يوسعون حدودهم غربا، ففتحوا نيقية وأدرنة والكثير من أرض الدولة البيزنطية، حتى صارت القسطنطينية عاصمة البيزنطيين محاصرة بالأرض العثمانية. واستشعر سلاطين أوروبا في بيزنطة والمجر وسائر شرق أوروبا الخطرَ الزاحف عليهم، فقاد ملك المجر حملته الصليبية الكبيرة لسحق العثمانيين، والوصول إلى القدس!!

في هذا الوقت لم تكن أوروبا بشرقها وغربها قد نسيت القدس بعد، بل أدركت أن الطريق إلى القدس لا يتمهد أبدا إلا بإضعاف الأجزاء القوية في الجسد الإسلامي الكبير، وكان العثمانيون حينئذ أقوى قوة في العالم الإسلامي.

وقد استنجد ملك المجر في حملته بالبابا الكاثوليكي وبملوك أوروبا، لإنقاذ المجر والدولة البيزنطية من العثمانيين، فأتته قوات من فرنسا وألمانيا وهولنده وإنجلترا وإسبانيا وإيطاليا، وبلغ تعداد جيشه مائة وثلاثين ألف مقاتل، عبر بهم نهر الدانوب، وكله ثقة من سحق العثمانيين، وراح يرسم فوق فرسه خريطة لأحلامه ودولته الواسعة التي سيحكمها، ممتدة من شرق أوروبا، ومخترقة الأناضول إلى سواحل البحر المتوسط الشرقية ومدينة بيت المقدس.

عبرت القوات الأوروبية نهر الدانوب، والقرن الثامن الهجرى يوشك على الانتهاء، فلقيهم بايزيد في تسعين ألف مقاتل فى معركة "نيكوبولى"، فتحولت أحلام سيجموند وجيشه إلى سراب خادع، وهزموا، وأسر كثير من أشرافهم وأمرائهم.

وكان هذا من العثمانيين دفاعا عن القدس وسائر العالم الإسلامي عن بُعد، حتى قبل أن يضعوا أقدامهم في بيت المقدس، ويضموها إلى الإمبراطورية العثمانية الكبيرة سنة تسعمائة وثلاث وعشرين للهجرة، أيام السلطان سَليم الأول.

وفي دولة السلطان سليمان القانوني نالت القدس اهتمامًا كبيرا منه، لم يتيسر لها مثله مع بقية سلاطين الدولة العثمانية.

وكان السلطان عبد الحميد الثاني واحدا من أهم سلاطين آل عثمان الذين سجلوا مواقف مجيدة لصيانة القدس وفلسطين.

وفي العهد العثماني الطويل مرت القدس بعدة أزمات، إما بسبب سوء النظام الإداري، وإما لسوء أحوال الدولة عمومًا، خاصة في أواخر عهد الدولة العثمانية، ومع زيادة ربط القدس بالعالم الخارجي.

وقد خرجت القدس عن التاج العثماني خروجا قصيرًا في القرن التاسع عشر، ثم عادت إليه عام 1841م، حتى زالت السلطة الإسلامية على القدس بالاحتلال البريطاني لفلسطين سنة 1917م.

 

2- سيطرة العثمانيين على القدس:

انشغل العثمانيون زمنا طويلا بالفتوح في أوروبا، غير أن السلطان سليم الأول نظر خلفه إلى العالم الإسلامي في العراق والشام، فوجد أن نفوذ الدولة الصفوية الشيعية قد طغى وزاد، كما أن المماليك في مصر والشام لم تعد قدرتهم كافية لرد الأذى عن المسلمين، خاصة بعد الهزيمة المؤلمة التي لقيها المماليك في معركة ديو البحرية أمام البرتغاليين، وبعد أن اكتشف سليم الأول أن المماليك على صلة بالصفويين الذين دخل معهم في حروب طاحنة، وكذلك بعد أن رفض السلطان الغوري معاونة العثمانيين على الصفويين، مع أن العثمانيين لم يبلخوا عن المماليك بالمساعدة حين دخلوا في معاركهم ضد البرتغال.

كان هذا كافيا ليشن العثمانيون حربا ضد المماليك، الذين كادوا في هذا الزمن، يفقدون أهليتهم في قيادة العالم الإسلامي فزحف سليم الأول بقواته حتى قارب حلب، وهناك في مرج دابق التقى بقوات المماليك، في ساحة حرب تفاوتت فيها قوى الطرفين، فكأنها حرب بين شاب فتى وبين شيخ قد وهنت قوته، فالعثمانيون أحدث أسلحة، وأكثر مهارة في التخطيط للحرب، وانكشف الميدان بعد معركة حامية عن هزيمة المماليك ومصرع السلطان قانصوه الغوري، وذلك سنة 923هـ.

وسار سليم الأول حتى دخل حلب ودمشق، ثم دخل القدس، وزار قبور الأنبياء بها، وشاهد آثار الملوك والخلفاء من قبله، وسمح للنصارى بالحج إلى الأماكن التي يقدسونها، وجلس مع أهل القدس، الذين استبشروا بالعثمانيين، ليتناول معهم الطعام في الفناء الواسع حول الصخرة، وعزم على تجديد سور المدينة المقدسة، لكنه توفي قبل تنفيذ هذا العمل، الذي قام به فيما بعد ابنه السلطان سليمان القانوني، وأتمه سنة 946هـ.

وبهذا دخلت القدس عهدا جديدا من عهودها، استمر حتى القرن الرابع عشر الهجري، العشرين الميلادي.

 

3- السلطان سليمان القانوني والقدس:

بالرغم من الفتوح الكثيرة والتوسعات الهائلة التي حققها السلطان الكبير سليمان القانوني في أوروبا، حتى خاضت قواته معارك على أبواب فيينا ـ فإن القدس البعيدة عن عيني السلطان لم تكن بعيدة عن اهتمامه، شأنها شأن الحرمين الشريفين في مكة والمدينة.

فالسلطان القانوني ـ كما يقول عارف باشا العارف ـ جدد عمارة سور القدس.. "وجدد البرج الكائن على يمين الداخل من باب الخليل سنة 946 هـ (1538م) وعمر بركة السلطان على طريق المحطة، والسبيل الواقع قبالة البركة المذكورة والسبل الكائنة بباب السلسلة أمام المدرسة التنكزية، وفي طريق الواد، وفي ساحة الحرم إلى الشمال من باب شرف الأنبياء، وفي طريق باب الناظر، وبالقرب من باب الأسباط ـ سنة 944 هـ (1536م) وقد عمر قبة الصخرة سنة 950 هـ (1542م) وأعاد تبليطها.

وعمر جدران الحرم وأبوابه. وسد الباب الذهبي من أبواب الحرم، وفتح الباب المعروف بباب (ستنا مريم) . وجدد القاشاني الكائن في قبة السلسلة (1561م). وعلى عهده أنشئت التكية المعروفة بتكية خاصكي سلطان في عقبة المفتي، أنشأتها زوجته الروسية روكسيلانة (1552م) والمدرسة الرصاصية بحارة الواد (1540م) أنشأها الأمير بايرام الذي كان ناظرًا لعمارة السور.

وأنشئ مسجد الطور (1537م) في المكان الذي تقوم عليه (الآن) كنيسة الصعود.

وهو الذي عهد بحراسة الدرب السلطاني بين القدس ويافا إلى آل أبي غوش، وأجازهم أن يحصّلوا من السياح بعض العوائد (1520م)".

 

4- مشكلات القدس في العهد العثماني:

مرت القدس تحت سلطة العثمانيين بأحوال متباينة، ما بين الاستقرار والاهتزاز، تبعا لقوة الدولة وحيويتها، ومن الأزمات التي مرت بها أن السلطان مرادًا الرابع في القرن الحادي عشر الهجري حرم على الناس شرب القهوة وتدخين التبغ، فاختل الأمن في القدس، وقطعت الطرق، وخرب الأشقياء ينابيع المياه، فأقام السلطان "قلعة مراد" على طريق الخليل لضبط الأمور.

وفي أوائل القرن الثاني عشر الهجري ثار نقيب أشراف القدس ضد السلطان أحمد الثالث، لكن ثورته أُخمدت.

وحين هاجم نابليون عكا في حملته الفرنسية على مصر والشام نهاية القرن الثامن عشر الميلادي كانت القدس تابعة لولاية عكا، وخاضعة لحاكمها، وقد ابتليت عكا في هذا الزمن بوالٍ تملأ القسوة ما بين جنبيه، هو أحمد باشا الجزار، الذي لم يفرق في ظلمه للعباد بين مسلم وذمي، ولا بين خامل وشريف.

وقد مر نابليون بقواته على مقربة من بيت المقدس دون أن يدخلها، وصوب بصره إلى عكا وركز اهتمامه عليها، فالقدس ليست لها أهمية تجارية ولا عسكرية كبيرة كتلك التي حظيت بها عكا، كما أن احتلال القدس سيثير مشاعر المسلمين ضد الحملة أكثر مما هو قائم. وحين فشل نابليون في حملته، ولم ينجح في اقتحام عكا، كان ذلك إعلانا بتراجع حملة فرنسية جديدة للاستيلاء على المنطقة.

وفي عهد السلطان محمود الثاني، حاولت الدولة القيام بإصلاحات في الجيش، منها إلغاء نظام الإنكشارية، وهي القوات الخاصة التي اعتمدت عليها الدولة في أيامها المجيدة، لكنها صارت سببا للكثير من المشكلات والأزمات في البلاد، فقد حاصر رجال الإنكشارية مصطفى آغا متسلم القدس، وحرضهم النصارى الأرمن ضد النصارى الروم، فطالبت الإنكشارية بمنع الروم من عمارة كنيستهم التي أحرقها لهم الأرمن، فطلب منهم مصطفى آغا مهلة، فراحوا يخربون وينهبون كنيسة الروم، فجاء الجنود من متولي الشام، حتى دخلوا المدينة، وقبضوا على الثائرين.

وفي عهد السلطان محمود أيضًا وقعت فتنة بين المسلمين والروم الأرثوذكس في القدس والشام، وشارك فيها متسلم القدس وقائد حاميتها، لولا تدخل والي الشام الذي حد من الفتنة الثائرة.

وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي جاء على الشام وال جديد، فرض على الناس ضرائب أثقلت كواهلهم، وعجزت عنها أرزاقهم، فثاروا ضده سنة 1824م، فأقبل الوالي بقوات كبيرة، ليحصل الضرائب من الناس بالقوة، فهرب أهل القدس منها، ولم يتركوا وراءهم شيئا، يُنتفع به، ولما جلت قوات الوالي رجع أهل القدس إلى مدينتهم، وأشعلوا الثورة من جديد، فعاد الوالي بقواته فاستسلموا له على شرط تخفيف الضرائب عنهم، فوافقهم على ذلك.

وكان يهود القدس في العهد العثماني سلعة رائجة، فتذرعت روسيا بحمايتهم، بينما تقوم بإبادة يهود روسيا نفسها، وتذرعت إنجلترا أيضا بحمايتهم لتسهل عملية الاستيطان الصهيوني التسللي، ولكي يحصل اليهود على مجمل الامتيازات الأجنبية سعت قنصليتا إنجلترا وفرنسا إلى تغريب اليهود المحليين، وتسلُّل اليهود الأجانب، وهو ما ساعد على تقوية النفوذ الغربي على يهود فلسطين، وبذلك تحول ولاء اليهود في الدولة العثمانية والعالم الإسلامي كله إلى دول أجنبية، تدين لها بالولاء، وتتمتع بحمايتها.

وقد أدرك السلطان عبد الحميد الثاني مساعي اليهود للاستيطان في فلسطين، واتخاذها وطنا تجتمع فيه طوائفهم من أنحاء العالم، فرفض مطالب الزعيم الصهيوني هرتزل بفتح باب الهجرة إلى فلسطين.

 

5- القدس تحت سيطرة محمد علي الكبير:

رسم محمد علي لنفسه أحلامًا كبيرة في تكوين دولة قوية واسعة السلطان، وبدأت أحلامه من مصر حيث شارك المصريين في مقاومة الحملة الفرنسية، وحملة فريزر الإنجليزية سنة 1801م، كما انضم إليهم عند مقاومتهم لفساد الولاة، فولاه علماء مصر السلطة على البلاد عام 1220هـ = 1803م، بعد أن اشترطوا عليه "أن يحكم بالعدل، ويقيم الأحكام والشرائع الإسلامية، وألا يفرض على الشعب ضرائب جديدة دون أن يرجع إلى زعمائه وعلمائه".

وركَّز محمد علي أنظاره منذ البدء على بلاد الشام القريبة منه، فوجّه إليها ابنه إبراهيم باشا في جيش قوي حتى سيطر عليها واحتل القدس سنة 1831م، فأصبحت جزءًا من دولة محمد علي الكبير.

ولم تكن هذه نهاية الأحلام التي سعى محمد علي إلى تحقيقها، فاحتاج إلى أعداد مضاعفة من الجنود، ولم تكن مصر تفي بحاجة قواته في الشام، ففرض إبراهيم باشا التجنيد الإجباري هناك، وحاول تجريد الناس من أسلحتهم.

ونتج عن ذلك أن هبت الثورة في القدس والخليل وغزة ويافا بتشجيع الأتراك العثمانيين، وانعدم الأمن، وسادت الفوضى في القدس، ومال أهل الذمة إلى الباشا الغازي.

ودخل الثوار في صراع طويل مع إبراهيم باشا وقواته، وعجز عن ضبط البلاد، بالرغم من إمداد أبيه له بالقوات، حتى تدخلت البلاد الغربية لتقف في وجه أحلام محمد علي، فحطموا جيش إبراهيم باشا في الشام، واضطروه إلى الانسحاب بفلول جيشه، تاركا خلفه القدس والشام بعد عشر سنوات فقط من دخولها.

ولم تكن هذه الثورات والاضطرابات لتخفيَ أعمالا مهمة لأسرة محمد علي في القدس، مثل إدخال أول طاحونة للقمح إلى القدس (سنة 1839م)، وبناء الزاوية الإبراهيمية على جبل صهيون إلى الشمال من ضريح النبي داود، وإنشاء سلسلة من القلاع لحراسة الطريق بين القدس ويافا.

كذلك اهتم إبراهيم باشا بتحسين المواصلات في المدينة، وقاوم الرشوة والفساد الإداري، وألغى الضريبة التي كان حراس الكنيسة يجبونها من الحجاج المسيحيين منذ زمن صلاح الدين الأيوبي، وأدخل في القدس أنواعا جديدة من المزروعات.

وقد ظن اليهود أن دخول إبراهيم باشا إلى القدس فرصة سانحة لهم للتسلل إلى المدينة، فحاولوا سنة 1837م شراء أرض زراعية وممارسة أعمال الزراعة بها، لكن أعضاء مجلس القدس الشريف اعترضوا على ذلك ورفضوه، ورُفع الأمر إلى محمد علي باشا نفسه، فوافق على رأي المجلس بعد أن استشار ابنه إبراهيم باشا.

الحملة العلوية على الشام:

اعتمدت جهود محمد علي الكبير في السيطرة على الشام ـ على ابنه إبراهيم باشا، الذي هاجم المنطقة عام 1831م، فاستولى على غزة ويافا والقدس، وقاومته عكا بقوة، لكنه استولى عليها في مايو 1833م، كما دخل دمشق وحلب، وصعّد بقواته شمالا حتى هزم العثمانيين في "قونيه" من هضبة الأناضول، وهدد الآستانة عاصمة العثمانيين، فاستنجد السلطان محمود بالإنجليز لكنهم تلكأوا عن نصرته، فاستنجد بالقيصر الروسي، وانتهى الأمر بالاتفاق على انسحاب قوات محمد علي من الشام، في مقابل أن تسحب روسيا قواتها (ستة آلاف جندي) التي أرسلتها لمساعدة السلطان. وشعرت القوى الأوروبية الصاعدة بالخطر الشديد الذي يمثله محمد علي لها، فاتفقت إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا (نواة ألمانيا الكبرى) على وأد أحلامه، فعرضوا عليه سنة 1840 الانسحاب من الشام في مقابل أن تبقى عكا ومصر تحت يده، وتستمرّا وراثة في ذريته، لكنه تباطأ عن الانسحاب، فعاجله الأسطولان الإنجليزي والنمساوي بضرب عكا حتى دُمّرت، ووقعت اشتباكات مع قوات إبراهيم باشا، حتى تحطم جيشه تماما، وانسحب نحو مصر محطما. وجدير بالإشارة هنا أن هذه الأحداث قد عجّلت تفتيت الدولة العثمانية، والتآمر عليها في شرق أوروبا وشمال إفريقيا وغرب آسيا.

 

 

 

 

6- موقف غير المسلمين في القدس من حكم إبراهيم باشا:

كان الهدف الذي سعى إليه محمد علي وأبناؤه هو تكوين إمبراطورية كبيرة يجلسون على عروشها، ويصنعون لأنفسهم بها مجدًا ضخمًا، فخاض إبراهيم باشا ـ أكبر شخصية في بيت محمد علي بعد أبيه الباشا الكبير ـ خاض حروبًا طاحنة في الحجاز سنة 1814م، والسودان سنة 1820م، والشام سنة 1831م، وزحف بقواته من الشام نحو آسيا الصغرى حتى قارب أبواب الآستانة 1840م، وكادت تسقط دولة بني عثمان في يديه..

وكان هذا المجهود الحربي الهائل في حاجة إلى قُوَىً بشرية ضخمة، فلجأ محمد علي إلى التجنيد الإجباري في عموم ما يخضع له من البلاد، وحاول إبراهيم باشا تطبيق ذلك أثناء تواجده في الشام، ففرض التجنيد الإجباري على المسلمين وحدهم من أهل هذه البلاد، وأصبح مطلوبًا من أهل مدينة القدس أن يقدموا مائتي مجند، وتقدم أقضية القدس ونابلس والجليل ثلاثة آلاف رجل مجند.

وكان من أثر ذلك أن اندلعت الثورة ضده، وكانت أشد ما تكون في القدس، التي أشعل أهلها نيران الثورة منذ البدء في أبريل من سنة 1834؛ لأنهم الأكثر تضررًا من إجراءات إبراهيم باشا.

وبلغت الأنباء إبراهيم باشا وهو في يافا، فرجع بسرعة إلى القدس على رأس قوة قوامها تسعة آلاف مقاتل، وما إن دخلها حتى هب اللاتين والأرمن واليهود وفريق من الأرثوذكس لاستقباله، ولم يقابله أحد من المسلمين فبدا الانسجام بين هذه الطوائف وبين إبراهيم باشا واضحًا، بينما عمَّ النفور بينه وبين المسلمين وزعمائهم، الذين حاول الباشا ضرب سلطانهم الشعبي، وجمع السلاح من الأهالي، فازدادت الثورة ضده اشتعالاً.

كان هذا الوضع كافياً ليضع في القدس حاجزًا نفسيًّا بين المسلمين وبين الطوائف الأخرى، خاصة بعد أن عمد إبراهيم باشا إلى التخفيف عن طوائف اليهود والنصارى في المدينة ورفع بعض الضرائب والرسوم عنهم وجعل منهم ممثلين لطوائفهم في المجلس الإداري للقدس، وفتح لهم باب الترخيص لبناء مساكن للإقامة وأماكن للعبادة الخاصة بهم خارج أسوار القدس المباركة، فكان ليّنًا معهم في مقابل شدته مع المسلمين، وكانت الطوائف غير المسلمة تتقرب منه، بينما المسلمون لا يجدون مسوغًا للتقرب منه!

وكان هذا المناخ كفيلاً بأن تستمر معه الاضطرابات في القدس طوال تواجد إبراهيم باشا وقواته هناك، حتى جلا عن المنطقة سنة 1841م، بعد أن أحدث عهده مجموعة من التغيرات السكانية الخطيرة.

 

7- عودة القدس إلى العثمانيين:

في عام 1841م عادت القدس إلى العثمانيين، بعد سيطرة إبراهيم باشا عليها عشر سنوات، وحينها لم تكن النزاعات القومية المتطرفة قد أخرجت رأسها في بلاد الشام بعد، ففرح المقدسيون بانتهاء عشر سنوات من المتاعب والثورات ضد إبراهيم باشا وقواته، وبعودتهم إلى الدولة العثمانية الأم.

كان هذا في عهد السلطان عبد المجيد بن محمود الثاني، حيث تبعت القدس صيدا، ومثلت بيروت مقرًا عاما للإدارة ترجع إليه صيدا وغيرها.. وبلغ سكان القدس حينها عشرين ألفًا، منهم ألف من المسيحيين.

وفي عهد السلطان عبد المجيد نشبت حرب القِرْم سنة 1856م بين روسيا والدولة العثمانية التي دب الضعف والوهن في أوصالها، وذلك بسبب الإشراف على الأرض المقدسة، وانتصرت تركيا في الحرب، لكنها كافأت إنجلترا وفرنسا اللتين وقفتا إلى جانبها في الحرب مع الروس، برفع أعلامهما على دور القناصل في القدس، مما أثار أهالي المدينة ضد متصرِّفها كامل باشا.

وتولى السلطنة على الدولة العثمانية السلطان عبد العزيز سنة 1860م، وكانت القدس حينئذ تابعة لولاية سوريا، ثم صارت متصرفية مستقلة سنة 1871م، "تفاوض الباب العالي رأسًا".

وقد جرت في القدس على عهد السلطان عبد العزيز الكثير من الإصلاحات وأعمال الإعمار، فرصفت شوارع القدس وأسواقها بالبلاط سنة 1863م، وأنشئ الطريق الذي يربط يافا بالقدس سنة 1867م، وبعدها بثلاث سنوات أنشئ طريق آخر يربط نابلس بالقدس. وأنفق على عمارة الحرم (القدسي) وزخرفته ثلاثون ألف ليرة تركية. وبنى المسجد العمري من جديد على مقربة من كنيسة القيامة".

وقد ازداد عدد السكان في بيت المقدس في هذا العهد كثيرا عما كان عليه في عهد السلطان عبد المجيد، فبلغ ثمانية وستين ألف نسمة.

 

8- القدس في عهد السلطان عبد الحميد الثاني:

كثيرًا ما تكون الشخصية عظيمة ولكن الواقع يبدو أكثر تعقيدًا، فتعجز العظمة عن سد كل الثقوب التي في السفينة، فتبدو من صاحبها أفعال تحتاج إلى تفسير، إلا أنها في حقيقة أمرها ضغط من ضغوط الواقع المعقَّد الذي لا تجد فيه عظمة هذا الرجل سندًا قويًّا ممن حولها للتغلب على هذا التعقيد!

ربما كان هذا هو حال الكثير من السلاطين والخلفاء والأمراء الذين تختم بهم كثير من الدول، وعبد الحميد الثاني ـ آخر الخلفاء الحقيقيين للدولة العثمانية ـ أحد هؤلاء.

في عهد عبد الحميد وضع الدستور، وانتخب البرلمان أو "مجلس المبعوثان"، ومثَّل القدس فيه أحد رجالاتها الكبار، وهو يوسف ضيا باشا الخالدي، وأَعلن الدستور أن دين الدولة هو الإسلام، وأنه لا يفرق بين أهل دين وأهل دين آخر.

وحرم عبد الحميد هجرة اليهود إلى فلسطين وشراء أرض لهم فيها، ثم سمح لهم بدخولها بقصد العبادة فقط، على ألا يبقوا فيها أكثر من ثلاثة أشهر.

وفي أيام عبد الحميد "أنشئت السكة الحديدية بين يافا والقدس (1892م) وأنشئ المستشفى البلدي الكائن غربي المدينة عند الشيخ بدر (1891م) وأنشئ برج عال على السور فوق باب الخليل (1909م). وسبيل على مقربة من الباب المذكور (1907م). وجددت سنة 1882 عمارة السبيل المعروف بسبيل قايتباي الكائن في ساحة الحرم على مقربة من باب القطانين. ومنع إدخال التليفون (1905م) واستعمل اللاسلكي.

واستغل الأوربيون الضعف الذي تعاني منه تركيا العثمانية، فتنافسوا على فتح قنصليات لهم في القدس، وزار جليوم إمبراطور ألمانيا المدينة المقدسة سنة 1898م، وفتحوا له ثغرة في سور القدس العتيد بجانب باب الخليل سميت الباب الجديد، وراح يزور الأماكن المقدسة في دينه، ويراجع في ذاكرته هذا الصراع الطويل الذي دار حول هذه البقاع وتلك المدينة.

وقامت جمعية الاتحاد والترقي التركية بانقلاب عام 1908م ضد السلطان عبد الحميد، وأُعلن الدستور، وانعقد البرلمان، ومثَّل القدس فيه سعيد بك الحسيني وروحي بك الخالدي، وأُزيح السلطان عبد الحميد في نفس السنة، ووضع مكانه أخوه محمد رشاد الخامس، واجتمع البرلمان من جديد سنة 1914م، ومثل القدس فيه روحي الخالدي، وعثمان النشاشيبي وأحمد عارف الحسيني.

وعلى عهد محمد رشاد الخامس خرجت القدس من جديد عن السيادة الإسلامية، حيث دخلها إدموند اللِّنْبِي بالجيش الإنجليزي في التاسع من ديسمبر سنة 1917م، في نهايات الحرب العالمية الأولى.

ما نقله نيولنسكي إلى هرتزل حول رأي السلطان عبد الحميد في بيع فلسطين لليهود (19 / 6 / 1896):

قال السلطان لي: إذا كان هرتزل صديقك بقدر ما أنت صديقي فانصحه ألا يسير أبدًا في هذا الأمر. لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدة من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي. لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا. لقد حاربت كتيبتنا في سورية وفي فلسطين، وقتل رجالنا الواحد بعد الآخر في بلفنة لأن أحدًا منهم لم يرض بالتسليم، وفضلوا أن يموتوا في ساحة القتال. الإمبراطورية التركية ليست لي وإنما للشعب التركي، لا أستطيع أبدًا أن أعطيَ أحدًا أي جزء منها. ليحتفظ اليهود ببلايينهم. فإذا قُسِّمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون مقابل. إنما لن تقسم إلا جثثنا ولن أقبل بتشريحنا لأي غرض كان.

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، الجزء الأول صـ 66).

ـ رسالة هرتزل إلى السلطان عبد الحميد (25 / 8 / 1896):

ترغب جماعتنا في عرض قرض متدرج من عشرين مليون جنيه استرليني يقوم على الضريبة التي يدفعها اليهود المستعمرون في فلسطين إلى جلالته، تبلغ هذه الضريبة التي تضمنها جماعتنا مائة ألف جنيه استرليني في السنة الأولى وتزداد إلى مليون جنيه استرليني سنويًّا. ويتعلق هذا النمو التدريجي في الضريبة على هجرة اليهود التدريجية إلى فلسطين. أما سير العمل المفصل فيتم وضعه في اجتماعات شخصية تعقد في القسطنطينية.

مقابل ذلك يهب جلالته الإمتيازات التالية: الهجرة اليهودية إلى فلسطين التي ليس فقط تكون غير محدودة بل أيضًا تشجعها الحكومة السلطانية بكل وسيلة ممكنة. ويُعطى المهاجرون اليهود الاستقلال الذاتي. المضمون في القانون الدولي: في الدستور والحكومة وإدارة العدل في الأرض التي تقرر لهم. (فلسطين كدولة شبه مستقلة).

ويجب أن يقرر، في مفاوضات القسطنطينية، الشكل المفصل الذي ستمارس به حماية السلطان في فلسطين اليهودية وكيف سيحفظ اليهود أنفسهم النظام والقانون بوساطة قوات الأمن الخاصة بهم.

قد يأخذ الاتفاق الشكل التالي: يصدر جلالته دعوة كريمة إلى اليهود للعودة إلى أرض أبائهم. سيكون لهذه الدعوة قوة القانون وتبلغ الدول بها مسبقًا.

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، الجزء الأول صـ 69).

 

 

 

9- النظام الإداري في القدس في العهد العثماني:

تنقلت القدس في العهد العثماني من وضع إداري إلى آخر، فكانت أحيانًا تتبع إيالة أو إدارة صيدا وعكا، وأحيانًا تتبع صيدا التي تتبع بدورها بيروت، وفي أحيان أخرى استقلت القدس بإدارة وحدها، يعيِّن الباب العالي في الأستانة واليها مباشرة، ويمثلها أعضاء في البرلمان، أو "مجلس المبعوثان".

وقد كان هذا هو الحال أواخر الدولة العثمانية، حيث كانت القدس مركزًا لسنجق أو قطاع القدس، ويتبعه: قضاء القدس، وقضاء يافا، وقضاء الخليل، وقضاء غزة، وقضاء بئر السبع، وتتبع كل قضاء مجموعة من النواحي أو ما يشبه المراكز، وتختص بالقدس منها مباشرة نواحي: بيت لحم ورام الله وصفا وعبوين وأريحا، وتتبع هذا السنجق ثلاثمائة وتسع وسبعون قرية، منها مائة وعشرون تابعةٌ للقدس مباشرة.

وسُمِّي القائمُ على السنجق كلِّه باسم "المتصرف"، كما أُطلق على أمير القضاء وصف "قائمقام".

وأما وظيفة قاضي القدس، فقد كانت منصبًا كبيرًا، يُلتزم فيه المذهب الحنفي، وتشمل سلطات القاضي أمور الوقف والمساجد والتكايا والمقابر والزوايا، ومسائلَ التجارة وتسجيلَ الوكالات والكفالات والشركات ومراقبةَ المكاييل والموازين والمقاييس، وكانت تُوكَل إلى القاضي مسألة تحديد الأسعار.

"وكان معظم الموظفين من (العرب) أبناءِ البلاد، ماعدا الحاكمَ الأكبر ورؤساءَ بعض المصالح العمومية، فقد كانوا من الأتراك. والنفوذُ كله كان بيد الزعماء والأفندية وذوي الإقطاع من مشايخ البلاد".

وقد كان للقدس مجلس شورى في سنة 1840م، يتألف من بعض وجهاء المدينة وشاغلي الوظائف المختلفة فيها. ومُثِّل لواء القدس في "مجلس المبعوثان" أو البرلمان العثماني بثلاثة نواب.

وكان للقدس شرطةٌ تحفظ الأمن الداخلي للمدينة، وبلغ عددهم سنة 1876م اثنين وعشرين شرطيًّا.. "وكان اقتناء السلاح مباحًا لجميع السكان".

 

10- وضع القدس في أواخر الحكم العثماني:

كانت القسوة التي عامل بها إبراهيم باشا مسلمي القدس، والرفقُ الذي تعامل به مع الطوائف الأخرى ـ نذيرين بتغيرات كبيرة تشهدها المدينة، وتستمر فيها فيما بعد. فقد شجعت إجراءات إبراهيم باشا النصارى واليهود على التدفق بأعداد كبيرة على المدينة المقدسة للاستيطان فيها، ونشطت الحركة التجارية والعمرانية هناك، وأباح إبراهيم باشا للأجانب الدخول إلى القدس للتجارة فيها، بعد أن كان ذلك مقصورًا على الثغور والمواني الساحلية.

كان هذا الحال نذيرًا بتغيرات كبيرة ومخاض صعب تمر به القدس وفلسطين، خاصة مع سماح إبراهيم باشا لليهود والنصارى بإقامة مساكنَ ودورِ عبادة لهم في القدس خارج السور.

وبعد رحيل إبراهيم باشا لم يتراجع الخط البياني للطوائف غير المسلمة في القدس، بل ازداد ارتفاعًا، فقد دخلت الدولة العثمانية القدس ثانية بمساعدةٍ كبيرة من دول أوروبا القوية، ولم يكن في استطاعتها الضغطُ على الطوائف غير المسلمة الخاضعة لسلطتها، فراح اليهود يخططون بدقة لترسيخ تواجدهم في القدس وحولها حتى أصبحت لهم عند نهايات القرن التاسع عشر الميلادي ستَّ عشرةَ مستعمرة "طوقت القدس من الغرب والشمال ومن الشمال الشرقي.

وفي صمتٍ بعيدٍ عن الضجيج العالي في الساحة الدُّوَلية عند نهايات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ـ راح الزحف اليهودي نحو القدس يتزايد، حتى بلغ عددهم ثلاثين ألفًا عام 1896م، وارتفع عام 1912م إلى تسعين ألفًا ثم عاد إلى الانخفاض مع الشدائد التي شهدها العالم أثناء الحرب العالمية الأولى، فوصل عدد اليهود في القدس إلى خمسين ألفًا، ثم عادوا إلى الزيادة من جديد فيما بعد.

وازداد وضع المدينة تغيرًا في أواخر الحكم العثماني بسبب التطور الكبير الذي طرأ عليها، حتى صارت على صلة قوية بالعالم من حولها.

 

زيادة ربط القدس بالعالم أواخر العهد العثماني:

ظلت القدس طوال تاريخها مدينةً محاطة بالأسوار، يهتم الخلق بها دون أن تهتم هي كثيرًا بما يجرى في العالم من حولها، ومع أن الإسلام لا يجعل الدين بعيدًا عن مناشط الحياة السياسية والاقتصادية وغيرها، إلا أن الطابع الديني للقدس جعلها بعيدة بصورة شبه تامة عن ضجيج الحياة في غيرها.

ومع مطالع القرون الحديثة، بدأت تطرأ على القدس تغيراتٌ ضخمة، بحيث صار اتصالها بالعالم من حولها يقرِّبها من العواصم الكبرى في العالم، ويجعلها شبيهة بها، ففي سنة 1838م أُنشئت القنصلية الإنجليزية في القدس، وبعد أن استعاد العثمانيون المدينة من إبراهيم باشا أُنشئت قنصليات أجنبية أخرى في المدينة، وهي قنصليات فرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا وإسبانيا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرِها، وكانت هذه المواقع نوافذَ وعيونًا للقدس على الدنيا، أتاحت لأهل المدينة من النصارى واليهود الاتصالَ بقوةٍ بأبناءِ دينهم في الخارج، وعقدَ صِلاتٍ ثقافية وتجارية ودينية معهم.

ومع زحف الحضارة الحديثة ومنتجاتها على المنطقة، دخل التلغراف إلى القدس لأول مرة سنة 1865م، فربطها بالعالم الخارجي مباشرة، ثم رُبطت المدينة بالثغر البحري الفلسطيني يافا عن طريق خطوط السكك الحديدية سنة 1892م، ودخلت الخدمة البريدية المتقدمة إلى المدينة بعد ذلك بقليل.

وفي موجة هذا الارتباط القوي بالعالم من حولها، صارت القدس مقصدًا مباشرًا للهجرة اليهودية، خاصة مع وجود القناصل الأجانب، فازداد الحضور اليهودي في المدينة قوة، وتغلغلوا في البلاد تحت ستار التنقيبات الأثرية.

وصارت هناك مساحة أوسع من الحرية لتشييد دور العبادة للطوائف الدينية المختلفة، فارتفعت في قلب المدينة وضواحيها بنايات الكاتدرائياتِ والكنائسِ ودورِ العبادة اليهودية، والصروحُ البطريركيةُ والأديرة، وكذلك المدارسُ والمستشفيات والمستوصفات والمؤسسات الخيرية الأخرى.

"وفضَّل المسلمون الاستقرار جنوبًا على جبل الطور، وخصوصًا في وادي الجوز، وعلى التلال المجاورة شمال المدينة، وتجمع الأرثوذكس خصوصًا في حي قطمون قرب سان سيمون، وأما اليهود فأنشأوا ستين تجمعا سكنيًا قرب المدينة".

 

الدعم الخارجي لليهود:

بعد أن تحدث د. لورتيه عميد طب جامعة ليون بفرنسا عن حارة اليهود في القدس في أواخر القرن التاسع عشر، وأنها تضم يهودا من بلاد كثيرة جدًا من العالم قال: "الأحياء والبيوت التي يعيش فيها اليهود تدل على فقرهم، وعلى ظروفهم الاجتماعية السيئة. لذلك ومنذ سنوات تُبذل جهود كبيرة لتحسين هذه الأوضاع، وذلك عبر تخصيص مبالغ كبيرة تصرفها شركات مالية قائمة في باريس ولندن وفيينا لتمويل مشاريع مختلفة منها إقامة مستوطنات جديدة لليهود، لاسيما في المناطق التي لا يسكنها سوى البدو الرحّل. والسلطات العثمانية ستكسب بضعة ملايين لقاء التعاون والتغاضي".

(أرض الذكريات: رحلة الدكتور لورتيه ص 143 شركة المطبوعات للتوزيع والنشر بيروت، ط. الأولى: 1993).

 

 

 

11- نهاية ارتباط فلسطين بالدولة العثمانية:

جاءت فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين (إحدى وثلاثون سنة) لتصنع تحولات خطيرة وعميقة في تاريخ القدس وفلسطين، ليس فقط لأن البريطانيين مهدوا الطريق لقيام الدولة الصهيونية، ولكن ـ أيضا ـ لأنهم أنهوا تماما علاقة فلسطين بالدولة العثمانية.

كان البريطانيون منذ أصبحت لهم شوكة في العالم، مع الثورة الصناعية، واتساع قواعدهم الاستعمارية ـ يسعون نحو تفتيت الدولة العثمانية، التي تَجْمَعُ تحت سلطانها رقعة كبيرة من العالم الإسلامي. لكن السياسة البريطانية كانت تسعى نحو هدفها هذا بدهاءٍ شديد، مخافةَ قيام بديلٍ أقوى لو سقطت الدولة العثمانية، ولذلك وقفوا بقوة في وجه مطامع محمد علي التوسعية، وأجبروه على توقيع معاهدة لندن في نوفمبر سنة 1840، بعد أن أوقعوا بجيوشه هزيمة منكرة، وقضت المعاهدة ببقاء مصر وحدها تحت سلطة محمد علي وأبنائه من بعده، بعد أن كان قد وصل بقواته قرب الآستانة. وشاركت هذه المعاهدة في إضعاف الجانب العثماني، الذي استعان بالإنجليز وغيرهم من القوى الطامعة في القضاء على محمد علي.

لكن العثمانيين فيما بعد وجدوا في الألمان حليفا قويًّا لمواجهة بريطانيا، فتوثقت علاقات الآستانة بألمانيا، حتى زار الإمبراطور الألماني فلهلم القدس والآستانة سنة 1898.

واستشعر الإنجليز قلقا عميقا لهذا التحالف، فسعوا نحو التفتيت الفعلي التام للقوة العثمانية، فتحالفوا مع الاتجاهات القومية العربية ممثلة في الشريف حسين، واسترضوا فرنسا باتفاق سايكوس ـ بيكو، القاضي بتقسيم المنطقة العربية بين الدولتين الاستعماريتين : بريطانيا وفرنسا.

واشتعلت الساحة العالمية في سنة 1914 بالحرب العالمية الأولى التي شارك فيها الأتراك العثمانيون إلى جانب ألمانيا ضد بريطانيا وفرنسا وحلفائهما، واستسلمت تركيا للهزيمة في نهاية أكتوبر من سنة 1918، وفي باريس فرض المنتصر وجهات نظره على المهزوم، فقرر المجلس الأعلى لمؤتمر الصلح في يناير من عام 1919 عدم إعادة المقاطعات العربية المحتلة ـ ومنها فلسطين ـ إلى الحكم العثماني ثانية، وفي أبريل من العام التالي قرر مجلس الحلفاء منح الانتداب على فلسطين لبريطانيا، وهو القرار الذي صادقت عليه عصبة الأمم في 24 يوليو عام 1922.

وجاءت الخطوة الأخيرة لفك الارتباط العثماني بفلسطين تماما في معاهدة سيفر التي وُقِّعَت بنودُها في العاشر من أغسطس عام 1920، وقضت بإنهاء السلطة الاسمية للدولة العثمانية على فلسطين.