موقع القدس


الصفحة الرئيسية لموقع القدس
تاريخ القدس القديم |  قبل الإسلام |  الرومان والقدس |  منذ الفتح الإسلامي |  عهد الأمويين |  عهد الفاطميين |  الإحتلال الصليبي
عهد الأيوبيين |  عهد المماليك |  عهد العثمانيين |  العهد العباسي |  عهد الطولونيين |  الإحتلال البريطاني |  الإحتلال الصهيوني
الصحابة |  علماء وزهاد |  مؤرخون ورحالة |  نساء |  أدباء |  شخصيات فلسطينية وعربية
القدس في التاريخ |  مكانة القدس |  الموقع الفلكي |  كنيسة القيامة |  موقف العرب |  المقاومة |  برنامج القدس
دعم أمريكا لإسرائيل |  القضية الفلسطينية في قرنين |  إحصائيات عن اليهود |  الصهيونية
العهدة العمرية واللورد بالمرستون ونابليون والبيع لليهود ورد الشريف حسن ووعد برلفور
صور القدس 1 |  صور القدس 2 |  صور القدس 3 |  صور القدس 4 |  صور القدس 5 |  مواقع

 

3)- القدس منذ الفتح الأسلامي

1- في أيام النبي والراشدين

    1- القدس في صدر الإسلام:

ما من صفحات في تاريخ القدس الشريف أنصع ولا أبهى من تلك التي كانت في عهد الرسالة المحمدية؛ إذْ جاء الارتباط فيها بين خاتم رسل الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبين واحدة من البقاع الطاهرة التي باركها الله وبارك ما حولها..

وأُولى الصفحات المحمدية للقدس تمثلت في معجزة الإسراء والمعراج، والثانية في توجهه ومن معه من المسلمين في صلاتهم إلى بيت المقدس..

ومنذ البدء لم يكن المسلمون يبحثون عن حرب تراق فيها الدماء، بل كانوا يفتشون عن قلوب تستجيب للنداء الرفيق الرحيم الذي يقودها إلى الله، لذا حزن المؤمنون في مكة لِمَا أصاب الروم من هزيمة مؤلمة أمام الفرس، ضاع فيها بيت المقدس من يد الروم وسقط في يد المجوس، وتفاعل أتباع النبي الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع القرآن وهو يبشر بانتصار الروم من جديد، مما يعني استرجاع الرومان بيت المقدس..

وتطلع رسول الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن تصير القدس وغيرها في حوزة أهل الإيمان، مهما تكن جنسيتهم وألوانهم، فكتب إلى هرقل "عظيم الروم" يدعوه وقومه إلى الإسلام، لا لينزع منهم ملكهم، ولكن ليدلهم على ما يجمع لهم خير الدنيا والآخرة..

وشاءت المقادير الإلهية أن تكون الحماقة سببا لإثارة الحرب بين المسلمين والروم، فقد قتل أتباع أمير غسان المُوَالي للروم حاملَ كتاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه، فوقعت الحرب في مؤتة وتبوك حيث بشر النبي بفتح بيت المقدس. وفي آخر عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالدنيا أمر بتجهيز جيش كبير جعل القيادة فيه لأسامة بن زيد ليغزو أطراف الشام، وحين دنا الرحيل النبويّ عن الدنيا لم يكن الجيش قد خرج لمهمته، فأوصى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإنفاذ بعث أسامة.

وكان أول أعمال الصديق أبي بكر في خلافته إنفاذ هذا البعث، على الرغم من فتنة المرتدّين الخطيرة التي هددت المدينةَ نفسَها، بل هددت كيان الإسلام كلَّه.

وبعد إخماد نار الردة تفرغ المسلمون للفتح، وإفساح الطريق أمام الإسلام ومبادئه، لتسمع الدنيا صوته، وليعرف الخلق سموه وعلوّه، فأرسل أبو بكر جيوش الفتح والغزو..

ولم يكن المسلمون أبدا بادئين بالاعتداء، بل سبقهم الفرس إلى ذلك بتأييد حركات الردة والتمرد في جزيرة العرب، وسبقهم الروم حينما قتلوا السفير الذي بعثه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى حاكم بُصرى التابع لهم.. ودخل المسلمون في جولات حربية حاسمة مع الفرس والروم، على رأسها اليرموك وأجْنَادِين والقادسية ونهاوند..

واختُصَّت أجنادين كفاتح للطريق إلى بيت المقدس، حيث انهارت الدفاعات الرومانية أمام بسالة المسلمين، وصارت لآلئ فلسطين في أيديهم، وتيسَّر حصار الروم في إيلياء أو بيت المقدس، وتلا ذلك الصلح التاريخي الذي أجراه عمر بن الخطاب مع سكان المدينة سنة ست عشرة من الهجرة، وجاءت الوثيقة العُمَريّة لأهل بيت المقدس مجسِّدةً لمبدأ الرحمة والوفاء، ومُقِرَّة بمبدأ حرية الاعتقاد.

وكان الفاروق عمر، وهو يسير نحو بيت المقدس ويتسلم مفاتيحها، كعادته نموذجًا للزهد والتواضع والسماحة والرحمة..

 

الإسراء والمعراج:

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1).

(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى). (النجم: 1 ـ 18).

النبي يبشر بفتح بيت المقدس:

روى أحمد في مسنده عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأشْجَعِيِّ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: عَوْفٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: ادْخُلْ، قَالَ قُلْتُ: كُلِّي أَوْ بَعْضِي؟ قَالَ: بَلْ كُلُّكَ. قَالَ: يَا عَوْفُ اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: أَوَّلُهُنَّ مَوْتِي ـ قَالَ فَاسْتَبْكَيْتُ حَتَّى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُسْكِتُنِي. قَالَ: قُلْتُ إِحْدَى، وَالثَّانِيَةُ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قُلْتُ اثْنَيْنِ، وَالثَّالِثَةُ مُوتَان (= موت كثير)ٌ يَكُونُ فِي أُمَّتِي يَأْخُذُهُمْ مِثْلَ قُعَاصِ (= مرض يميت الدواب فجأة) الْغَنَمِ، قَالَ ثلاثا، وَالرَّابِعَةُ فِتْنَةٌ تكون فِي أُمَّتِي وَعَظَّمَهَا، قُلْ أَرْبَعًا، وَالْخَامِسَةُ يَفِيضُ الْمَالُ فِيكُمْ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْطَى الْمِائَةَ دِينَارٍ فَيَتَسَخَّطُهَا (= يستقلها ولا يرضى بها)، قُلْ خَمْسًا، وَالسَّادِسَةُ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأصْفَرِ فَيَسِيرُونَ إِلَيْكُمْ عَلَى ثَمَانِينَ غَايَةً، قُلْتُ: وَمَا الْغَايَةُ؟ قَالَ: الرَّايَةُ، تَحْتَ كُلِّ رَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، فُسْطَاطُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فِي أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا الْغُوطَةُ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ".

وروى أحمد في مسنده عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ قَالَ وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ لا تَأْخُذُ (= لا تؤثر) فِيهَا الْمَعَاوِلُ (= آلة للتكسير مفردها مِعوَل) قَالَ فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ عَوْفٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَضَعَ ثَوْبَهُ ـ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ (= عاصمة الفرس) وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا".

 

2-الإسراء والارتباط ببيت المقدس:

بينما تُظِلُّ الناسَ السنةُ العاشرة لبعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي رحلة ليلية غيرِ متقيدة بقوانين الزمان والمكان، أسرى الله سبحانه بخاتم رسله، من البقاع الطاهرة إلى الأرض المباركة، من مكة إلى بيت المقدس، لتتحدد هُويّة هذا الدين بصورة كاملة قبل أن تصبح للإسلام دولة، وليتحدد أيضا نوع الارتباط بين المسلمين وبين بيت المقدس:

أما هوية هذا الدين، فقد تحددت أهم ملامحها وأعمها حين وقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منذ أيام دعوته الأولى، يدعو إلى ملة إبراهيم حنيفا، ويتمسك باحترام البيت الحرام وإجلاله، وإبراهيمية الرسالة المحمدية دعوة إلى التجمع حول الراية التي رفعها الخليل إبراهيم قبل الميلاد بحوالي ألفي سنة، وتابعه عليها الأنبياء من بعده، خاصة موسى وعيسى ومحمدا ـ عليهم الصلاة والسلام.

واكتمل تحديد هذه الهُوِيَّة بصورة عملية في رحلة الإسراء والمعراج، حين ظهر الولاء بين الأنبياء، وتصديق كلٍّ بصدق الآخر، وتسليمهم بتقديم خاتم الرسل على أنفسهم، وأنه مواصل لطريق الدعوة الذي سلكوه. لقد أعلنت الرحلة أنه مسلم وأنهم مسلمون، لتُجسِّد ذلك المعنى القرآني العام، الذي يؤكد أن الرسول محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلة لمن سبقه من الأنبياء، وشبيه بهم فيما يعتقد ويؤمن به، وإن كان لا نبي بعده.

وأما نوع الارتباط بين المسلمين وبين القدس، فقد حددت الرحلة أنه ارتباط عقيدة، إذ جمع الواحد الأحد بين الصفوة المختارة من الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ليُصَلُّوا خلف خاتمهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يعني وراثته لعقيدة التوحيد السماوية، مرتبطة بالموطن الذي شهد أكبر حشد من رسل الله السابقين عليه.

وأعلنت هذه الوراثة المباركة عن إحدى خصائص الرسالة المحمدية، وهو شمولها للزمان كله، وعمومها للأمم كلها، فكل الرسل صلوا خلفه، إعلانا منهم عن إيمانهم برسالته وصدق نبوّته، وأن أتباعهم تشملهم رسالته إلى يوم الدين، كما شملت الأنبياء صلاته وإمامته.

الإسراء والمعراج:

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1).

(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى). (النجم: 1 ـ 18).

 

الإسراء والمعراج:

روى أحمد في مسنده عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلا (= أظهر) اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ.

وروى أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ (= أطراف أقدامه) عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ (= بصره)، فَرَكِبْتُهُ فَسَارَ بِي حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُ الدَّابَّةَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ قَالَ جِبْرِيلُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ .." الحديث.

وروى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ بِأَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ. فَقَعَدَ مُعْتَزِلا حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ. قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا. قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ. قَالُوا إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا، لِلْكَذِبِ زَعَمَ، قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ. قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ. قَالَ وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ. قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ!!

وروى البخاري في صحيحه قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ، قَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ".

وروى مسلم في صحيحه قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ.

وروى البخاري في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ـ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. (ورواه أحمد والترمذي، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).

وروى البخاري في صحيحه عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ـ رَضِي اللَّه عَنْه ـ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ." زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ: لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ نَحْوَهُ.

وصف رحلة الإسراء:

هبط جبريل عليه السلام مع بعض الملائكة البررة الأطهار على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة غراء واحتملوه حتى أتوا به حجر إسماعيل بالمسجد الحرام، فشق صدره الشريف وغسل قلبه الطاهر بماء زمزم المبارك، ثم أفرغ فيه ينابيع الإيمان والحكمة استعدادًا وتأهيلاً لما سوف يشاهده أثناء تلك الرحلة المبارك من آيات الله العظمى والكبرى، واللقاء العظيم والمثول أمام نور الحضرة الإلهية، حيث هو بالأفق الأعلى، عند سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى .. جيء مع جبريل بالبراق وهو خلق من مخلوقات الله ذو سرعة فائقة حتى إنه ليضع قدميه عند منتهى مد بصره، فركبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسار البراق مزهوًا بهذا الشرف العظيم الرفيع وجبريل الأمين آخذ بركابه، وفي الطريق مرّ بأرض ذات نخل نزل للصلاة فيها وأخبره جبريل أنها طيبة التي إليها المهاجر، ثم سار ونزل مرة ثانية فصلي بطور سيناء حيث كلّم الله موسى تكليمًا، ثم سار حتى نزل ليصلي في بيت لحم حيث ولد المسيح عيسى ابن مريم ـ عليه السلام ـ وانطلق البراق يطوي الأرض بسرعة فائقة، حتى أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بيت المقدس، فربط البراق في الحلقة التي كان يربط بها الأنبياء من قبله، ثم دخل المسجد الأقصى فوجد الأنبياء في استقباله ترحيبًا بقدومه الكريم حيث التقى النبي الخاتم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إسماعيل وإسحاق وأباهما إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى ـ عليهم السلام ـ أولئك الرواد الكرام من النبيين الذين سبقوا على طريق الدعوة إلى الله وصبروا على التكذيب والإيذاء حتى حقق الله لهم وعده "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون" [الصافات: 171-173] فكان هذا الشرف العظيم أن يجمع الله سبحانه أنبياءه ورسله للقاء حبيبه ـ صلى الله عليه وسلم .. وفي هذا المقام الكريم واللقاء العظيم أثنى كل منهم على ربه بمحامد هو أحق بها وأهلها .. وقام خاتمهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأثنى على ربه قائلاً: "كلكم أثنى على ربه وأنا مثنٍ على ربي: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين كافة للناس بشيرًا ونذيرًا، وأنزل عليّ الفرقان فيه بيان لكل شيء، وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس، وجعل أمتي وسطًا، وجعل أمتي هم الأولون وهم الآخرون، وشرح لي صدري ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحًا وخاتمًا".

ثم أقيمت الصلاة، فأخذ جبريل بيد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقدمه إمامًا، فصلى بهم، وفي هذا دلالة على شرف الأمانة التي يحملها محمد وأمته من بعده، وأن التفاضل يكون بإمامة الصلاة.

وكان من مشاهد الرحلة أن قدم إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر من إناء للشرب، فاختار اللبن فقال جبريل اخترت الفطرة، ولو اخترت الخمر لغوت أمتك.. وهكذا إلى أن رأى المشاهد والآيات الكبرى.

 

 

 

3- القدس والمعراج:

رحلة المعراج كانت سفرا إلى عوالم تَلْبس الطُّهْرَ، وترتدي أثواب القداسة، وجرت فيها لقاءات للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالملائكة والأنبياء، بل كلم النبيُّ الكريم ربَّه، وتلقَّى منه فرض الصلاة مباشرة، وانتهى المقام برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند سدرة المنتهى، وهو موضع أرفع من السماء السابعة...

ورحلة بهذا المقام لابد أن تكون البدايةُ الأرضية لها كريمة شريفة، وقد شاء الله ـ تعالى ـ أن تكون مدينة بيت المقدس هي موضع هذه البداية، حيث عُرج برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من فوق صخرة المعراج إلى السموات العلا..

إن الفترة التي يقضيها الإنسان فوق هذه الأرض، أشبه ما تكون برحلة الإسراء في اشتمالها على عمل واختيار بين اللبن والخمر؛ (أو الهداية والضلالة). وأما المعراج، فقد مثل بيانا للطريقة التي بها تكون المسيرة الفردية والجماعية صحيحة، وهي الارتفاع فوق طين الأرض، والترفُّع عن المعصية، وعدم الانقطاع عن هَدْي السماء.

وعلاقة بيت المقدس بذلك، أن أهل المسجد الحرام أتباعَ نبي الإسراء، هم أيضا أهل المسجد الأقصى وبيت المقدس، وسبيلهم إلى الفلاح في دار الدنيا ودار الآخرة، هو ألا ينقطعوا عن هَدْي السماء الذي أرسل الله به رسوله.

الإسراء والمعراج:

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1).

(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى. ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى. فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى. مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى. أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى. مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى). (النجم: 1 ـ 18).

الإسراء والمعراج:

روى أحمد في مسنده عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلا (= أظهر) اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ.

وروى أحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ (= أطراف أقدامه) عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ (= بصره)، فَرَكِبْتُهُ فَسَارَ بِي حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُ الدَّابَّةَ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ قَالَ جِبْرِيلُ: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ .." الحديث.

وروى أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ فَظِعْتُ بِأَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ. فَقَعَدَ مُعْتَزِلا حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ كَالْمُسْتَهْزِئِ: هَلْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، قَالَ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ. قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟! قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِذَا دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ. فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ. قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا. قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ. قَالُوا إِلَى أَيْنَ؟ قُلْتُ: إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا، لِلْكَذِبِ زَعَمَ، قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ. قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ. قَالَ وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ. قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ!!

وروى البخاري في صحيحه قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ، قَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ".

وروى مسلم في صحيحه قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا فَأَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ.

وروى البخاري في صحيحه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللَّه عَنْهمَا ـ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) قَالَ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) قَالَ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. (ورواه أحمد والترمذي، وقال: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ).

وروى البخاري في صحيحه عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ـ رَضِي اللَّه عَنْه ـ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ." زَادَ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ: لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ نَحْوَهُ.

 

معاني الرحلة:

"كأن الله سبحانه قد أراد برحلة الإسراء والمعراج إعلان وراثة النبي الخاتم لجميع مقدسات الرسل من قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات، وارتباط رسالته بها جميعا. ومن ذلك يتضح أن هذه الرحلة ترمز إلى معان عظيمة تعلو على الزمان والمكان".

(الأستاذ سيد قطب، في ظلال القرآن 4/ 2212).

 

 

 

4- كتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى  هرقل:

من خصائص دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أُرسل إلى الناس كافة، وقد مثلت الكتب التي بعث بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك والقادة في عصره، تجليا واضحا لهذه الخصيصة؛ فقد تخطى الجغرافيا بكل أنواعها، وكتب إلى كسرى وقيصر وملوك اليمن وعمان ومصر وغيرها، يدعوهم إلى الإسلام..

وقد أقبل دِحْيةُ بنُ خليفةَ من المدينة نحو الشام، يحمل كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل قيصر الروم، في وقت كان فيه الرومان في قمة النشوة لانتصارهم الكبير على الفرس، واستعادتهم الممتلكات الاستعماريةَ التي سلبها منهم عدوهم المجوسي، وعلى رأسها بيت المقدس، الذي نذر هرقل أن يسير إليه من حمص سيرا على قدميه، حيث أقام احتفالاتٍ صاخبةً بالنصر الكبير.

وشق الصحراءَ نفسَها الحارث بن عمير الأزْدِيّ، يحمل كتاب الدعوة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير بُصْرَى ؛ حليف الروم وخادمهم.

أما هرقل، فمع تأثره بالكتاب، فإنه كان يجيد أعمال السياسة، فرد على كتاب رسول الله ردًا ليّنا، في حين غَلبت الجلافة الآخرين، فقَتل أعرابيٌّ من غَسَّانَ رسولَ المسلمين إلى أمير بُصْرَى، قتله باسم هرقلَ.

وارتفعت دماء الحماقة إلى رأس أمير بُصْرَى، فبعث إلى هرقلَ يستأذنه في غَزْوِ المدينة المنوَّرة، إلا أن هرقلَ رغب في ألا يعكِّر كؤوس احتفاله بالانتصار على الفرس أيُّ شيء، وفضَّل أن يكون أمير بصرى من الخدم الحاضرين معه احتفالَ الروم في بيت المقدس باسترجاع الصليب الأكبر من الفرس.

دعوة للتوحيد:

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64).

مراسلة هرقل:

روى البخاري في صحيحه عن أنس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قال: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".

وروى البخاري في صحيحه أيضا عن عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ (يقصد الحديبية)، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ! ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ! قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ. وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ. وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَة (بن خليفة) إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيه:ِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ: أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ، وَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا. فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ ـ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ ـ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلا الْيَهُودُ فَلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ. وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ ـ وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ ـ وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ (أي لم يتركها) حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ.

 

 

 

5- استبشار المسلمين بانتصار الروم على الفرس

كان الصراع الدموي بين الفرس والروم أهم معلم دُوَليٍّ يميز دنيا الناس إبان البعثة النبوية الشريفة، فقد نشأ بينهما صراعٌ مميتٌ وتنافسٌ مهلكٌ، كانت الضحايا فيه تُعَدُّ بمئات الآلاف من البشر لا بعشرات الآلاف، هذا غير المدن التي خُرِّبَتْ والقصور والقلاع والحصون التي هُدِّمَتْ..

وقد علت يد الفرس على الروم في بدايات بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحققوا انتصارات متتالية عليهم: عند أَنْطَاكية سنة ستمائة وثلاث عشرة من الميلاد، وسيطروا على فِلَسْطِين، وبيت المقدس سنة ستمائة وست عشرة من الميلاد، وامتد جبروتهم حتى  خضعت لهم الإسكندرية سنة ستمائة وسبع عشرة من الميلاد. وتجاوب مشركو مكة مع الأحداث، وفرحوا لانتصار الوثنية على أهل الكتاب، ورأوا في ذلك صورة مبكرةً للصراع بينهم وبين الإسلام، وأن النهاية في الحالين ستكون واحدة: انتصار الوثنية وارتفاع شأن الأصنام، وخمود صوتِ الرسل...!

وخرج هرقلُ القيصرُ الرومي الجديدُ ليكافح في سبيل إعادة المجد البيزنطب من جديد، فظل ينظِّم دولته ويقوي جيشه المنهار، ويكافح الفرس حتى  ألحق بهم هزيمة ساحقة قرب نينوى سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فقصم ظهورَهم، واسترد منهم أرض الدولة البيزنطية في أرْمينِيَّة والشام وفلسطين ومصر، واستعاد منهم بيت المقدس سنة ثلاثين وستمائة من الميلاد. وقد فرح المسلمون لهذا النصر الذي وافق انتصارهم على كفار قريش يوم بدر.

وكان ذلك تحقيقا لما نزل به القرآن، قبل أن يتحقق بسبع سنين، في قول الله ـ تعالى: (الم. غُلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).

هزيمة الروم وانتصارهم:

(الم. غُلِبَتْ الرُّومُ. فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ. فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ). (الروم: 1 ـ 5).

 

انتصار الروم على الفرس:

روى أحمد عن ابن عباس قال: كان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم؛ لأنهم أهل أوثان، فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر، فذكر أبو بكر ذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "أما إنهم سيهزمون"، فذكر ذلك أبو بكر لهم، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا، فإن ظهروا كان لك كذا وكذا، وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، فجعل بينهم أجلا خمس سنين، فلم يظهروا. فذكر ذلك أبو بكر للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "ألا جعلته ـ أراه قال دون العشر". قال وقال سعيد: البضع ما دون العشر. قال: فظهرت الروم بعد ذلك، فذلك قوله تعالى: "الم غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون في بضع سنين). قال: فغلبت الروم بعد ثم غلبت بعد، قال: (لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله).

وروى الترمذي في سننه عن عروة بن الزبير عن نيار بن مكرم الأسلمي قال: لما نزلت: (الم غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم؛ لأنهم وإياهم أهل كتاب، وفي ذلك قول الله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم)، وكانت قريش تحب ظهور فارس؛ لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله تعالى هذه الآية خرج أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ يصيح في نواحي مكة: (الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين)، قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم، زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ قال: بلى ـ وذلك قبل تحريم الرهان ـ فارتهن أبو بكر والمشركون وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين، فسم بيننا وبينك وسطا تنتهي إليه، قال: فسموا بينهم ست سنين، قال: فمضت الست سنين قبل أن يظهروا، فأخذ المشركون رهن أبي بكر. فلما دخلت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس، فعاب المسلمون على أبي بكر تسمية ست سنين؛ لأن الله تعالى قال: (في بضع سنين). وأسلم عند ذلك ناس كثير". قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح حسن غريب من حديث نيار بن مكرم لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد.

انتصار الروم على الفرس:

يقال عن انتصار فارس على الروم: إنه آخر فتوح كسرى أبرويز فتح فيه القسطنطينية حتى بنى فيها بيت النار، فأُخبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فساءه ذلك، فأنزل الله تعالى قوله: (الم. غُلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون). وحكى النقاش وغيره: أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لما أراد الهجرة مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (وكان أبو بكر قد راهن الكفار على انتصار الروم على الفرس بعد أن هزمتهم فارس) ـ تعلق به أبيّ بن خلف، وقال له: أعطني كفيلا بالخطر إن غلبت، فكفل به ابنه عبد الرحمن، فلما أراد أبيّ الخروج إلى أُحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا، ثم مات أبي بمكة من جـرح جرحه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية على رأس تسع سنين من مناحبتهم (أي مراهنتهم).

وقال الشعبي: لم تمض تلك المدة حتى غلبت الروم فارس، وربطوا خيلهم بالمدائن، وبنوا رومية، فقمر أبو بكر أبيا وأخذ مال الخطر من ورثته، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "تصدق به"، فتصدق به.

وقال المفسرون: إن سبب غلبة الرومِ فارسَ امرأة كانت في فارس لا تلد إلا الملوك والأبطال، فقال لها كسرى: أريد أن أستعمل أحد بنيك على جيش أجهزه إلى الروم، فقالت: هذا هرمز أروغ من ثعلب وأحذر من صقر، وهذا فرّخان أحدّ من سنان وأنفذ من نبل، وهذا شهر بزان أحلم من كذا، فاختر. قال: فاختار الحليم وولاه، فسار إلى الروم بأهل فارس، فظهر على الروم.

قال عكرمة وغيره: إن شهر بزان لما غلب الروم خرّب ديارها حتى بلغ الخليج، فقال أخوه فرخان: لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى، فكتب كسرى إلى شهر بزان: أرسل إلي برأس فرخان فلم يفعل، فكتب كسرى إلى فارس: إني قد استعملت عليكم فرخان وعزلت شهر بزان، وكتب إلى فرخان: إذا ولي أن يقتل شهر بزان، فأراد فرَّخان قتل شهر بزان فأخرج له شهر بزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل فرخان، فقال شهر بزان لفرخان: إن كسرى كتب إلي أن أقتلك ثلاث صحائف وراجعته أبدا في أمرك، أفتقتلني أنت بكتاب واحد؟ فرد المُلك إلى أخيه. وكتب شهر بزان إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى، فغلبت الروم فارس ومات كسرى.

وجاء الخبر إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الحديبية ففرح من معه من المسلمين، فذلك قوله تعالى: "الم. غلبت الروم. في أدنى الأرض" يعني أرض الشام. قال عكرمة: بأذرعات، وهي ما بين بلاد العرب والشام.

وقيل: إن قيصر كان بعث رجـلا يدعى يحنس، وبعث كسرى شهر بزان، فالتقيا بأذرعات وبُصـرى وهي أدنى بلاد الشام إلى أرض العرب والعجم. وقال مجاهد: بالجزيرة، وهو موضع بين العراق والشام. مقاتل: بالأردن وفلسطين. و "أدنى" معناه أقرب. قال ابن عطية: فإن كانت الواقعة بأذرعات فهي من أدنى الأرض بالقياس إلى مكة، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله:

   تنورتها من أذرعات وأهلها      بيثرب أدنى دارها نظر عال   

وإن كانت الواقعة بالجزيرة فهي أدنى بالقياس إلى أرض كسرى، وإن كانت بالأردن فهي أدنى إلى أرض الروم. فلما طرأ ذلك وغُلبت الروم سر الكفار فبشر الله عباده بأن الروم سيغلبون وتكون الدولة لهم في الحرب.

وروي أن إيقاع الروم بالفرس كان يوم بدر، كما في حديث أبي سعيد الخدري حديث الترمذي، وروي أن ذلك كان يوم الحديبية، وأن الخبر وصل يوم بيعة الرضوان ـ قاله عكرمة وقتادة. قال ابن عطية: وفي كلا اليومين كان نصر من الله للمؤمنين.

وقد ذكر الناس أن سبب سرور المسلمين بغلبة الروم وهمهم أن تُغلب إنما هو أن الروم أهل كتاب كالمسلمين، وفارس من أهل الأوثان. قال النحاس: وقول آخر ـ وهو أولى ـ أن فرحهم إنما كان لإنجاز وعد الله تعالى؛ إذ كان فيه دليل على النبوة لأنه أخبر تبارك وتعالى بما يكون في بضع سنين فكان فيه.

قال ابن عطية: ويشبه أن يعلل ذلك بما يقتضيه النظر من محبة أن يغلب العدو الأصغر لأنه أيسر مؤونة، ومتى غلب الأكبر كثر الخوف منه، فتأمل هذا المعنى ـ مع ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ترجاه من ظهور دينه وشرع الله الذي بعثه به وغلبته على الأمم، وإرادة كفار مكة أن يرميه الله بمَلِك يستأصله ويريحهم منه. وقيل: سرورهم إنما كان بنصر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المشركين؛ لأن جبريل أخبر بذلك النبي ـ عليه السلام ـ يوم بدر ـ حكاه القشيري.

ويحتمل أن يكون سرورهم بالمجموع من ذلك، فسروا بظهورهم على عدوهم وبظهور الروم أيضا وبإنجاز وعد الله.

 

 

 

6- غزوة مؤتة:

تقع مؤتة الآن داخل حدود المملكة الأردنية الهاشمية، مما يعني أن الغزوة التي دارت فيها بين المسلمين وبين الروم وحلفائهم من القبائل العربية، كانت على مقربة من بيت المقدس.

‏اتجهت جموع جيش المسلمين في غزوة مؤتة إلى الجزء الملاصق للجزيرة العربية من أرض الشام، أي إلى الطريق الممتد إلى فلسطين التي فيها بيت المقدس. وتعداد المسلمين المتجهزين للقتال يومئذ ثلاثة آلاف، يقودهم زيد بن حارثة، وخليفته إن قتل جعفر بن أبي طالب، فإن قُتل تلى على المسلمين عبد الله بن رواحة، فإن قُتل عبد الله اختار المسلمون قائدا منهم.

‏وكانت دماء زيد بن حارثة حِبِّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعفر بن أبي طالب ابن عمه، وعبد الله بن رواحة أحد شعرائه وأنصاره ـ كانت أولَ دماء طاهرة روت الأرض في الطريق إلى القدس، في مواجهة مع الروم غير متكافئة في العدد ولا العُدة، إذ حشدوا من مقاتليهمعشرات الآلاف من الجنود والمرتزقة العرب في مواجهة ثلاثة آلاف من المسلمين.

ثم أخذ الراية سيف الله خالد بن الوليد، الذي سيواصل فيما بعد المشاركة الإيجابية في سبيل بسط سلطان الإسلام على الشام والقدس.. ظهرت مهارة خالد في مؤتة في المناورة وحسن تحريك الجيش وتحويل الدفّة؛ فقد أحدث ضجيجًا وصخبًا وهو يحرك قطع جيشه، ويبادل بين مواضعها، فتوهم الروم أن إمدادات كبيرة قد جاءت أرض المعركة، فراحوا يعيدون توزيع جيشهم. وبينما هم مشغولون في ذلك رجع خالد بجيشه إلى المدينة..

ومع أن المسلمين في المدينة صاحوا في وجه خالد وجنوده: يا فُرّار .. فررتم من أعداء الله. إلا أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفى عنهم التهمة، وطيب خاطرهم وقال: "ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار بإذن الله" ـ أي أنهم عائدون إلى الجهاد من جديد.

وهي كلمة تُنْبِئ عن أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيستأنف الجهاد في هذه النواحي عما قليل.

مراسلة هرقل:

روى البخاري في صحيحه عن أنس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قال: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِهِ، وَنَقَشَ فِيهِ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ".

وروى البخاري في صحيحه أيضا عن عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ (يقصد الحديبية)، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَوَاللَّهِ لَوْلا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ! ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ! قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ. وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا فَقُلْتُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءهُمْ اتَّبَعُوهُ وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ: أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لا وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ. وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ. ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَة (بن خليفة) إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيه:ِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ: أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ، وَ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءةِ الْكِتَابِ كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتْ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا. فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ ـ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ ـ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ. قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلا الْيَهُودُ فَلا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ. وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ ـ وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ ـ وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ (أي لم يتركها) حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلاحِ وَالرُّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ وَأَيِسَ مِنْ الإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ.

 

 

7- غزوة تبوك:

في العام التاسع للهجرة سعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى إعداد جيش يتجه به إلى الشام، وندب المسلمين للمشاركة فيه بالنفس والمال، فتطوع عدد كبير منهم، خاصة أنه أعلن أنه سيخرج بنفسه. وكان تعدادهم ثلاثين ألفا، أي عشرة أضعاف من حاربوا في مؤتة.

كان ذلك يعني للمسلمين سفرا بعيدا، في ظروف الحر الشديد، ووقت انتظار الثمار، وفي مواجهة عدو ذي بأس شديد.

وبعد وصولهم إلى تبوك عسكر المسلمون هناك عشرين يومًا، لم يخرج خلالها جيش الروم لمواجهتهم أو صدهم، ويبدو أنهم أرادوا استدراجهم إلى الداخل.. غير أن المسلمين لم يتوغلوا إلى الداخل، وتركوا الروم يحسبون حساباتهم الخاطئة. واستشعرت القبائل العربية المحالفة للروم أنها تقف في المواجهة بمفردها، فأسرع يوحنة بن رؤبة أمير أيلة، فوفد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصالحه وأعطى الجزية للمسلمين، وكتب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتاب أمان له ولقومه. وكذلك فعل أهل جرباء وأهل أذرح، وانتظر أكيدر دُومة الجندل حتى جاء به خالد بن الوليد أسيرا بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحقن دمه وصالحه.

وأهم ما تبينه المسلمون في هذه الغزوة هو أن بلاد الشام ينبغي ألا تغيب عن أنظارهم، كما تبينوا أن نصارى الشام من العرب في حاجة إلى من يخلصهم من حكم الرومان، وأن المسلمين لو جاءوا يومًا يفتحون الشام فسيجدون ترحيبًا من أهلها، وهذا ما بدا واضحًا بصورة جلية عند الفتح العمري للقدس في غضون سنوات معدودة، وهو الفتح الذي بشر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الغزوة المباركة.

بشارة في تبوك:

روى البخاري في صحيحه عن عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَقَال: اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ مُوْتَانٌ (= موت كثير) يَأْخُذُ فِيكُمْ كَقُعَاص (= مرض يميت الدواب فجأة) الْغَنَمِ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ حَتَّى يُعْطَى الرَّجُلُ مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطًا (= غير راضٍ)، ثُمَّ فِتْنَةٌ لا يَبْقَى بَيْتٌ مِنَ الْعَرَبِ إلا دَخَلَتْهُ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً (= راية) تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا".

 

 

 

8- إنفاذُ بعثِ أسامةَ بنِ زيدٍ:

‏ رأى رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زيد بنِ حارثةَ وابنِه أسامةَ إيمانا وفروسية وحبا لله ورسوله، يجعلهما جديرَيْنِ بالقيادة، ولو كان أسامةُ شابا صغيرا لم يجاوز سبع عشرة سنة، وفي جيشه مَنْ هو أسَنُّ منه.. وقد نال زيد الشهادة عند مواجهة الروم في مُؤْتَةَ، وها هو ابنه أسامة يواصل مسيرة والده، في غير جبن ولا تردد، ويستعد ليواجه الروم وحلفاءهم من جديد على أعتاب السنة الحادية عشرة للهجرة.

أراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتجهيز جيش أسامة أن يؤمّن المسلمين من أي عدوان يأتيهم من الشمال، وأن يُلْقِي الهيبة منه ومن المسلمين في قلوب القبائل العربية المتاخمة لحدود الدولة الرومانية.

لكن المرض أصاب الجسد النبوي الطاهر، وراح يشتد به، فتوقف الجيش المجاهد خارج المدينة انتظارا للإذن بالانطلاق، إلا أن مشيئة الله أرادت غير ذلك، فصَعِدَتْ روح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بارئها في ربيع الأول من العام الهجري الحادي عشر، لكن بقيت وصيته لمَن بعده أن يُنْفِذ جيش أسامة.

وكان تنفيذ هذه الوصية أول ما شغل أبا بكر بعد توليه الخلافة، بالرغم من الأخطار الهائلة التي واجهها بسبب الردة.

خرج الخليفة أبو بكر يودع القائد الشاب أسامة بن زيد وجندَه، وزوَّده بوصاياه، وأمره بأن ينفّذ أوامر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلا له: "ابدأ ببلاد قضاعة، ثم ائت آبل، ولا تقصّر في شيء من أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا تعجلن…".

فسار الجيش متجهًا إلى المنطقة التي حددها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشرين يومًا، يقطع الصحراء الملتهبة بحرارة الشمس في يونيو، حتى بلغوا مؤتة حيث استشهد زيد بن حارثة وأصحابه.. وهناك صلى أسامة، ثم دعا لوالده الشهيد ومن استشهد معه، ثم بث خيوله في صفوفٍ مُواجِهةٍ للأعداء، ومضى هو وجنده إلى الأمام حتى بلغوا الهدف الذي حدده لهم الرسول  صلى الله عليه وسلم، وأكده لهم خليفتُه، فوطئت خيولهم البلقاء والداروم، فلما تمَّ له ما أراد لم يتجاوز الهدف المحدد، ولم يفتنه الغرور أو يستدرجه إلى ملاقاة جيش الروم، وإنما عاد بجيشه سالمًا مظفرًا إلى المدينة المنورة حيث تلقاه الخليفة بالتحية والإكبار.

وكانت هذه ثالث حملة بعد مؤتة وتبوك في الطريق إلى القدس الشريف، فعَرف المسلمون الطريق جيدًا، وعَرفوا مَنْ فيه من الأعداء ومدى قوتِهم.. وهكذا وصل الإسلام قريبًا من فلسطين دينًا حيويًا في زهرة حماسه الأول. وفي المقابل كان الإمبراطور البيزنطي هرقل قد تسبب في اغتراب كثير من رعاياه في فلسطين، وكان مكتئبًا يعاني أزمةً روحية، ومن ثم فقد خَشِيَ أن يكون الفتحُ الإسلامي علامةً على غضب الله عليه!!

الطائفة المنصورة:

روى أحمد في مسنده عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ (= فريق أو مجموعة) مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إلا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لأْوَاءَ (= شدة وضيق معيشة) حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: "بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَكْنَافِ (= جوانب) بَيْتِ الْمَقْدِسِ".

وروى الترمذي في سننه عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا فَسَدَ أَهْلُ الشَّامِ فَلا خَيْرَ فِيكُمْ، لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ". وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وعن بَهْز بْن حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: هَا هُنَا، وَنَحَا بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ. قَالَ أَبو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وروى أحمد في مسنده عَنْ ذِي الأصَابِعِ قَال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِ ابْتُلِينَا بَعْدَكَ بِالْبَقَاءِ أَيْنَ تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: عَلَيْكَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَنْشَأَ لَكَ ذُرِّيَّةٌ يَغْدُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَيَرُوحُونَ".

وروى أحمد في مسنده أيضا أن عُمَيْرَ بْنَ هَانِئٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: "لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ ـ عَزَّ وَجَلّ ـ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ." فَقَامَ مَالِكُ بْنُ يَخَامِر السَّكْسَكِيُّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، سَمِعْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ: وَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَرَفَعَ صَوْتَهُ: هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذًا يَقُولُ: وَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ.

وفي مسند أبي يعلى الموصلي: عن أبي هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "لا تزال عصابة (أي جماعة) من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم خذلان مَن خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة".

 

بعض فتوح الشام:

والت الجيوش العربية تقدمها في فلسطين، وفي 20/8/636م هزم المسلمون قوات قيصر في موقعة اليرموك، وحدث إبّان المعركة أن تخلي الغساسنة عن الرومان وانضوا إلى العرب المسلمين، وفق بعض الأقوال ..

كان المسلمون جيوشًا كل أمير على جيشه والرومان أمامهم وبين الفريقين خندق فيقاتل الروم باختيارهم وإن شاءوا واحتجزوا بخنادقهم .. وأقام الفريقان على ذلك صفرًا والربيعين 13هـ فأرسل الأمراء إلى أبي بكر يستمدونه، فكتب إلى خالد بن الوليد أن يأخذ نصف جند العراق ويتوجه إلى الشام مددًا لأمرائه، فسار ينسف الأرض نسفًا وصادف وصوله مجئ ماهان بجيش مددًا للروم فتولى خالد قتاله وقاتل كل أمير من بإزائه ورأى خالد أن القتال هكذا لا يجدي نفعًا فجمع الأمراء وقال "إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه البغي ولا الفخور، اخلصوا جهادكم وارضوا الله بعملكم، فإن هذا اليوم له ما بعده ولا تقاتلوا قومًا على نظام وتعبيه وأنتم متساندون، فإن هذا لا يحل ولا ينبغي، وإن من ورائكم من لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا بما لم تؤمروا فيه" فأشار بأن يؤمر على الجيش كله أمير واحد ويتناوبون الإمارة، فقبلوا مشورته وأمروه، فخرجوا في تعبيه لم تعبها العرب من قبل، وليس بتعبية أكثر من رأي العين من الكراديس (الفرق) فجعل القلب كراديس وأقام فيه أبا عبيدة، وعلى كراديس الميمنة أقام عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وفي كردايس الميسرة يريد بن أبي سفيان وجعل على كل كردوس رجلاً من الشجعان ثم أمر القعقاع بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل أن ينشبا القتال فأنشباه، وألتحم الناس وتطارد الفرسان وأظهر خالد عجائب الشجاعة والحمية الإسلامية .. ثم إن الروم حملوا حملة أزالوا بها المسلمين عن موافقهم، فنهض خالد بالقلب حتى مال بين خيل العدو ورجلهم فانهزم الفرسان وتركوا الرجالة، فأخرج لهم المسلمون واشتدوا على الرجالة فهزموهم، وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا لا سيما من قد اقترنوا منهم بالسلاسل لئلا يفروا وانتهت المعركة بهزيمة الروم شر هزيمة وفي أثنائها جاء بريد المدينة بموت الصديق وخلافة عمر الذي عزل خالدًا وولى أبا عبيدة بن الجراح وقبل الخروج من خلافة أبي بكر إلى ما كان من أحداث مهدت لفتح بيت المقدس في خلافة الفاروق تعرض لما كان بين بعث أسامة واليرموك .. كان الصديق قد عقد لواء وجهه إلى مشارف الشام يقوده خالد بن سعيد بن العاص ثم أمره أن يكون ردءًا للمسلمين بتيماء لا يفارقها إلا بأمره، ولا يقاتل إلا من قاتله، فبلغ خبره هرقل فجهز إليه جيشا من بهراء وسليح وكلب ولخم وجذام وعشان وهم العرب التابعون لقيصر الروم فسار إليهم فلقيهم على منازلهم فافترقوا وأرسل إلى الخليفة فكتب إليه يأمره بالإقدام فتقدم ولقي بطريق رومي اسمه ماهان فهزمه خالد. وكتب إلى أبي بكر طالبًا المدد، وكان قد جاءه أوائل مستنفري اليمن وقدم عكرمة بن أبي جهل فيمن معه من تهامة والبحرين وأرسل إلى عمرو بن العاص تقدم إليه عن اختياره وعقد إلى لواء خالد بن سعيد لواء يتوجه به عمرو بن العاص إلى فلسطين، ولواء يقدمه شرحبيل بن حسنة إلى الأردن، ولواء يزيد بن أبي سفيان يتوجه به إلى البلقاء تبعه أخوه معاوية، وآخرهم لواء الأمين أبي عبيدة عامر بن الجراح يتوجه إلى حمص ولم نزل الجيوش سائرة حتى وصلت الشام، فلما بلغ ذلك هرقل قال لقومه: "أرى أن تصالحوا المسلمين، فوالله لأن تصالحوهم على نصف ما يحصل من الشام ويبقى لكم نصفه مع بلاد الروم أحب إليكم من أن يغلبوكم على بلاد الشام ونصف بلاد الروم" وإذا ضمننا إلى هذا الموقف نهيه عامله على العرب الحارث بن أبي شمر العشاني ملك غسان بالبلقاء عن غزو كان قد اعتزمه الحارث حين وصله كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدعوه فيه إلى الإسلام مع حديثه مع أبي سفيان ورده على كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترى فيه إلا رجلاً أريبا عنده من علم الكتاب ينظر إلى المستقبل بما أوتيه من علم غير أنه لا يصر على مواقفه عندما يواجهه قومه بالرفض وينزل على رأيهم كما هو الحال بعد وصول ألوية المسلمين الأربعة التي جاءت بعد استمرار خالد بن سعيد الخليفة وقد نزل حمص، وأمر بجيوش يواجه كل منها لواء من الألوية الإسلامية لكن عمرو بن العاص أشار على الأمراء بالاجتماع، فأرسلوا إلى أبي بكر في ذلك فوافقهم وقال : "إن مثلكم لا يؤتي من قلة وإنما يؤتون من الذنوب فاحترسوا منها".

ثم صاروا بعد اجتماعهم تحت أمير واحد في اليرموك كان قد أدار المعركة إلى أن انتصر المسلمون هو خالد بن الوليد ثم نسبت إلى الأمير الذي عينه الخليفة الثاني أثناء المعركة لكنه أخفى الكتاب الذي يحمل هذا مع خبر وفاة الخليفة الأول ليبقى المسلمون على مضاء العزم .. وبلغ أبا عبيدة بعدها أن فِلَّ الروم لحقوا بفحل، وأن مددًا عظيمًا لهم أتى دمشق، فكتب يستشير أمير المؤمنين فأمره أن يسير فرقة إلى فل المهزمومين في اليرموك ثم التوجه إلى دمشق حصن الشام وبيت ملكه ففعل وسير فرقة أخرى بين حمص ودمشق لتمنع عنها الأسداد، وفرقة إلى ما بين دمشق وفلسطين، واستخلف على فلسطين والأردن عمرو بن العاص .. ومضى مع خالد بن الوليد على المقدمة لجيشه إلى دمشق التي تحصن أهلها فحصرهم سبعين ليلة هو على جهة وخالد من الأخرى وذات ليلة يسمع خالد جلبة وكان  يتجسس أحوال عدوه فلا يخفي عليه من أسرها شيء فعلم أنه ولد لبطريق "دمشق" ولد فصنع وليمة سكر فيها الجند، فانقض عليهم خالد ا لذي تسلق جبالاً على هيئة السلالم وأوهاقًا مع بعض أرباب النجدة ومنهم القعقاع، فلما صاروا فوق السور قصدوا الباب ففتحوه وكبروا فدخل الجيش مكبرًا فما أزعج السكارى حتى أفاقوا من سكرهم .. فذهب وفد منهم إلى أبي عبيدة يطلبون الأمان فأمنهم ودخل معهم المدينة ليؤمن الناس، فالتقى بخالد وأخبره بالصلح وأمره بالكف، وأمروا ما فتح عنوة مجرى الصلح، وبعث إلى عمر بالفتح، ثم استخلف يزيد بن أبي سفيان ففتح سواحلها رصيدا وعرقة وجبيل وبيروت، وسير معاوية لفتح قيسارية ففتحها، وسار هو إلى فحل على مقدمته خالد وعلى المجنبتين عمرو بن العاص وأبو عبيدة، وعلى الخيل ضرار بن الأزور وعلى الرجالة عياض بن غنم، وعلى الناس شرحبيل بن حسنة ، فنزل شرحبيل بالناس فحلاً وحاصرها .. وفي ليلة خروج الروم يريدون بيات المسلمين، لكن شرحبيل كان حذرًا لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبية لكثرة ما كان يحذرهم أمير المؤمنين البيات فقاتلهم قتالاً شديدًا تلك الليلة كلها ويومها كله، فلما أمسى المساء خمدت همة الروم فانهزموا وحيل بينهم وبين المدينة بمياه كانوا فجروها ووحلوا بها الأرض لتكون كالخندق حول المدينة فأخذهم المسلمون من كل جهة واستولوا على فحل، فأرسل الأمير بالفتح والخمس إلى عمر ثم فصل فرقتين من جيشه على أحداهما شرحبيل ووجه إلى بيسان ووجه الأخرى إلى طبرية ففتح كل منها على مثل صلح دمشق، أما أبو عبيدة فسار ومعه خالد إلى حمص وعند مرج الروم التقى بجيشين لهرقل على أحدهما بطريق يدعى توذر وعلى الثاني شغس الورومي فأوقف أمام الأول خالد وواجه أبو عبيدة الآخر وهزمه بينما لاحق خالد البطريق الذي لم يجد له خالد أثر وأعلم به يزيد بن أبي سفيان أمير دمشق فانحصر بين الجيشين فأخذ هو وجنده ولم يفلت منهم إلا القليل، ورجع خالد إلى أبي عبيدة ليجده قد انهى مهمته مع شغش وليقصدا حمصًا التي خرج بطريقها بأمر ملك الروم الذي سار إلى الرها أما المسلمون فمروا بعلبك وفتحوها، ولما وصلوا إلى حمص حاصروها فتحصن أهلها في انتظار مدد هرقل، ولكن لما طال عليهم الأمر صالحوا أبا عبيدة على مثل ما صالحت عليه دمشق ثم سار نحو شيزر (قريبًا من حماة) ففتحها صلحًا وكذلك المعرة (بين حماة وحلب) ثم اللاذقية ومن أعمال حلب فملكها عنوة وهرب سكانها ثم طلبوا الأمان على أن يرجعوا فقوطعوا على خارج يؤذونه، وبنى المسلمون فيها مسجدًا .. ثم أرسل خالدًا لفتح قنسرين فلما بلغ الحاضر قابله ميناس بجيش عظيم فقاتلهم خالد حتى هزمهم، وقصد قنسرين فتحصن أهلها منه فقال لهم: "لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا" فنظروا في أمرهم وما لقيه أهل البلدان الأخرى فطلبوا الأمان على مثل صلح دمشق فلم يرض إلا على تخريب المدينة فخربت حصونها .. ثم أدرب خالد وراء هرقل وأدرب وراءه عياض بن غنم، فترك ملك الروم الشام وودعها الوداع الأخير وسار إلى القسطنطينية، ولما بلغ عمر فعل خالد قال: "أمر خالد نفسه ، يرحم الله أبا بكر كان أعلم بالرجال مني" .

إن فتح بيت المقدس لهو فتح الفتوح لأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجيوش الحق من جند الإسلام، كان الهدف البعيد لكل ما سبقه في نفس الاتجاه منذ الإسراء والمعراج. وما كان المسلمون ليقفوا على أعتابه إلا بعد لأي وجهد جهيد كان مع فتح دمشق وحمص وما دونها من الفتوح، حتى حلب التي فتحها أبو عبيدة صلحًا بأمان لأهلها على أنفسهم وأولادهم وأموالهم وكنائسهم وحصنهم فاجيبوا، واستثنى عليهم موضع المسجد وصولح أهل "أنطاكية" على الجلاء لمن أراد والجزية على من قام، وكانت من أعظم ثغور الروم، فأرسل عمر إلى أبي عبيدة أن يرتب لها جماعة من المسلمين يرابطون بها ثم صار إلى معرة مصرين ففتحها صلحًا ، وبث السرايا لما جاورها ففتحت لهم وفتح أبو عبيدة ـ لاسراياه ـ "قورس" (كوره بنواحي حلب) و"تل عزاز"، وصالح أهل منتح على الفرات على مثل صلح "حمص" واشترط عليهم أن يخبروا المسلمين بأخبار الروم مع تولية عامل على كل كوره فتحها، وشحن الثغور المخوفة بالمرابطين، وسار إلى "بالس" الفرات، وبعث سرية مع حبيب بن مسلمة إلى "قاصرين" فصالح أهلها كل ذلك في أعالي الشام.

ثم عاد أبو عبيدة إلى فلسطين، وسير جيشا مع ميسرة بن مسروق العبسي وأمده بمالك بن الحارث الأشتر، فسلكوا درب "بغراس" بلحف جبل للكام وهل يسامت حماة، فلقوا هناك جمعًا من الروم معهم عرب من غسان وتنوخ وإياد يريدون اللحاق بهرقل فأوقعوا بهم، .. وسير أبو عبيدة جيشًا آخر إلى مرعش (قرب أنطاكية) بقيادة خالد بن الوليد ففتحها على إجلاء أهلها بالأمان.

 

 

 

9- جيش أبي بكر لفتح فلسطين:

لما أقبلت العرب على أبي بكر من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ تريد الخروج للجهاد في الشام، جمعهم تحت قيادة ذوي الدين والكفاية، ووزعهم على أربعة جيوش، على كل واحد منها أميرٌ قوي أمينٌ، فأبو عبيدةَ أمينُ الأمةِ على جيش، وعمرو بن العاص القائدُ العبقري على جيش، وشُرَحْبِيلُ بن حَسَنةَ الأميرُ التَّقِي على جيش، ويزيدُ بنُ أبي سفيانَ القائدُ الصُّلْبُ على جيش...

وأراد أبو بكر بهذا التقسيم أن ينفرد كل واحد من هؤلاء الأمراء بفتح ناحية من نواحي الشام، فكان فتح فلسطين والقدس من نصيب عمرو بن العاص وجيشه..

وزود الخليفةُ عَمْرًا بوصاياه، قال له: "إذا سرت بجيشك فلا تسر في الطريق التي سار فيها يزيد وشرحبيل، بل اسلك طريق إيلياء (القدس)، حتى تنتهي إلى أرض فلسطين، وابعث عيونك يأتونك بأخبار أبي عبيدة، فإن كان ظافرا بعدوه فكن أنت لقتال مَن في فلسطين، وإن كان يريد عسكرا فأنفذ إليه جيشا في أثر جيش..".

ولأداء هذا المهمة الصعبة، خرج عمرو من المدينة ومعه ثلاثة آلاف جندي، فيهم كثير من المهاجرين والأنصار، وظل أبو بكر يُتْبِعُه بالأمداد حتى بلغوا سبعة آلاف وخَمْسَمائة جندي. كما أمَّره الخليفة على من يتطوع معه من قبائل بَلِيّ وعُذرة وسائر قُضاعةَ وما جاورها. وسلك عمرو بجيشه طريق الساحل، مارا على أيْلةَ (أو العقبة)، فالبحر الميت.

والحقيقة أن استراتيجية القتال في الشام فرضت على المسلمين أن يجتمعوا لعدوهم عند حاجتهم إلى الاجتماع، كما جرى في اليرموك وفِحل وفتح دمشق، وانفرد كل قائد بالمهمة الخاصة به حين استغنى عن قوات زائدة على ما معه.

 

 

 

10- معركة اليرموك:

رتبت الأقدار موعدَها، واختارت ساحتَها، وموقعَها، تلك المعركة الأم في صراع المسلمين مع الروم، وحقا لم تكن صراعا على مدينة عتيقة كدمشقَ أو بيت المقدس، إلا أنها شهدت حشودا عظيمة من الفريقين، والمنتصر اليوم سيكون الأقربَ للاستيلاء على  مدن الشام ووديانها وحواضرها.

اجتمع الرومان ونزلوا الواقوصة على ضفاف نهر اليرموك، وعسكر المسلمون بمحاذاتهم في انتظار قواتِ خالد بن الوليد القادمة من العراق، وبوصولها بدأ خالد ينظم جيشه، ويوزع الأدوار على رجاله، ولم يستعجل الاصطدام بالعدو عند بدء رؤيتهم في ساحة القتال، بل راح يعدِّل في خطته لتتواءم مع ما رأى من قوات العدو، فوزع خيلَه فرقتين لتأخذَ الرومَ من ظهورها إن اشتد ضغطُها على المسلمين... وفي وسط هذا الزحام واللقاء المرتقب لم ينس المسلمون التوجُّهَ إلى الروم بدعوتهم إلى دين الله، وتركِ ما هم عليه من الضلال، لكن القلوب كانت في أغلفة من الغفلة والغرور.

وراح عكرمةُ بن أبي جهل والقَعْقَاعُ بن عمرو يشعلان فتيلَ الحرب، فاشتد القتال، وارتفع لهيب الصراع، ما بين تقدمٍ وتراجعٍ، حتى نجحت خيل خالد بن الوليد في تمزيق شمل الروم والدخول بين صفوفهم..

واستمرت الحرب حتى أعطت السيوف والجنود كل ما لديهم، وتحقق للمسلمين نصر مبين، وذلك في جمادى الآخرة من السنة الثالثة عشرة للهجرة النبوية.

والمعنى المباشر لهذا النصر، هو أن جزءا كبيرا من قوة الروم قد انهدم، مما يقرب أكثر من تحقيق البشارة، ودخول المسلمين بيتَ المقدس المبارك.

لماذا كانت اليرموك حاسمة؟

يقول رجاء جارودي بعد أن تحدث عن اضطهاد الرومان الديني لأهل البلاد: "لماذا سُحق الجيش البيزنطي (في اليرموك) ؟ لقد انفجر قبل المعركة تمرد بين النصارى الأرمنيين والجيش البيزنطي، وفي غمرة القتال انسحب النصارى العرب السوريون من الجيش البيزنطي، وحينئذ وجد المحتل الإغريقي نفسه وحيدًا، وقد انفض عنه الشعب كله، فانسحق، ووصلت الجيوش الإسلامية إلى دمشق دون قتال".

(فلسطين أرض الرسالات الإلهية: رجاء جارودي صـ 189، ترجمة : د. عبد الصبور شاهين).

 

 

 

11- فتح فِلَسْطِين:

معركة " أَجْنادِين" من الجولات الحربية الكبرى للمسلمين في الشام، إذ آذنت بغروب شمس الروم عن البلاد، وإشراق شمس المسلمين فوق رُبَاهَا وفى مدنها وعلى شواطئها وبَوادِيهَا، وهي من معارك الفتح في فلسطين، الذي كان مهمة عمرو بن العاص وجيشه.

وقد كانت الذاكرة الإسلامية عند التحرك جهة فلسطين وقلبها القدس، تحمل الميراث القرآني العظيم عن هذه المنطقة، التي باركها الله، وجعلها مقصدا للأنبياء، وآخي في القداسة بينها وبين المسجد الحرام، وجعلها الموقع المختار الذي انتهت عنده رحلة الإسراء وابتدأت منه رحلة المعراج.. ولا شك أن نفس المسلم حين تُقْبل على الفتح بهذه الروح ستكون الهيبة ثيابا تزينها، ولن يكون دخول المدينة قتلا ولا نهبا، ولا إفسادا في أرض الله، كما فعلت أمم شتى قبل ذلك وبعده.

وقد جرت معارك الفتح في فِلَسْطِين صراعا بين رأسَيْن كبيريْن في عالم الدهاء، هما عمرو بن العاص والأمير الروماني الأَرْطِبون، وانتهت وقائعه بانتصار عمرو بن العاص وجنوده.

كما كانت هذه المعارك صراعا على بلاد امتلأت بالقداسة، وزاحم هواءَها عبيرُ النبوة التي عاشت هنا من قبل..

خاض عمرو بن العاص ضد الروم معركة أَجْنَادِين الشرسة، وفتح النصرُ فيها الطريق أمامه إلى بيت المقدس، فبدأ أولا بما حولها من المدن ليمنع عنها المددَ والمساعدة. وبعد حصار طويل انسحب الرومان من القدس، وسلَّم أهلُ المدينة، وطلبوا الصلحَ على أن يأتي أمير المؤمنين عمر بنفسه ليتسلم مفاتيحَها. وفي الجابيةِ التقى عمر بن الخطاب مع قادته في الشام، فتلقَّوْه بالاحترام والإجلال، ثم تسلم مفاتيح بيت المقدس من الأساقفة، وقام ومعه المسلمون بتنظيف الحرم الشريف، وأقام هناك مسجدًا.

وكلف أمير المؤمنين القائدَ معاويةَ بن أبي سفيان بفتح قَيْسَارِيَّةَ وعَسْقَلانَ، ليكتمل فتح فلسطين حتى الشواطئ الغربية المالحة.

 

12- معركة أَجْنَادِين:

وصل عمرو بن العاص بجيشه إلى أجنادين، فوجد القائد الرومي أَرْطِبونَ مرابطا بقواته هناك قد قسَّم جندَه ونظم عساكره، ووضع جندا كثيفا لحماية القدس، وآخر لحماية الرملة، فقطع عمرو طرق المساعدة الرومانية عن الأرطبون، وأرسل قوة لمشاغلة حامية الروم في الرملة، وقوة أخرى لمشاغلة حاميتهم في القدس، وأقام المسلمون في أَجْنَادِين يأتيهم المددُ، ولا يأتي عدوهم.

لكن عَمْرًا لم يجد لخَصْمِه ثغرة، ولم يعرف له خطة، فبعث بالرسل بينه وبينهم لعلهم يكشفون من الروم عن شيء مفيد، أو يطَّلِعون على خططِهم وترتيباتهم للحرب.

لقد أدرك عمرو جيدا أن معرفة العدو شيء ضروري للانتصار عليه، لكن الرسل الذين بعث بهم إلى قائد الروم لم يسعفوه بشيء، فقرر أن يخوض المغامرة بنفسه، وذهب إلى أَرْطِبُون في عرينه متخفيا في صورة رسول من المسلمين، ودخل عليه وكلَّمه، وعرف مداخلَه ومخارجَه، وأوقع قائدَ الروم في حبائل دهائه الرهيبة، إذ حاول القائد أن يقتله لِمَا رأى من ذكائه، وشكَّ في أنه قد يكون عمرا نفسه، وأدرك القائد المسلم ما يدبر له فوعد أرطبون بأن يزوره مرة أخرى ومعه أمثاله من أبناء عمومته من العرب، فطمع قائد الروم في غنيمة أكبر..

لكن عودة عمرو لم تكن سارة للقائد الرومي، إذ أقبل بجيشه وقواته، مما كان إيذانا ببدء قتال حام في أَجْنَادِين، كان الناس وقودا سهلا له، ولكن دون أن تميل الكِفَّة إلى أي من الجانبين..

ويمر الوقت ويدُ كلِّ فريق بين أسنان الآخر، فكان المسلمون أكثرَ صبرا، كما قوَّت انتصارات إخوانهم في مدن سوريا من عزائمهم ومعنوياتهم...

وقلَّب أَرْطِبُونُ بصره في الصفوف فوجد رجاله قد سيطر عليهم إعياء شديد، واضطربت صفوفهم، وأن المسلمين يحصدونهم بسيوفهم حصدا، ففضل أن ينسحب بجيشه إلى موقع يستطيع فيه المقاومة أكثر، فانسحب بهزيمة ثقيلة إلى بيت المقدس الحصينة محتميا بها، وذلك في النصف الثاني  من سنة خمس عشرة للهجرة.

 

13- معاويةُ يفتح قَيْسَارِيَّةَ وعَسْقَلانَ:

طار كتابٌ من أمير المؤمنين عمر إلى الأمير الموهوب معاويةَ بن أبي سفيان بأن يفتح للمسلمين قَيْسَارِيَّةَ، فسار إليها بروحِه الوثَّابةِ، وحاصرها، فكانوا يزحفون إليه ويزحف إليهم مرات دون أن يفتحها أو يرجعَ عنها، وثبت المسلمون في مواضعهم، فإذا بالقدَر الإلهي يمهد لفتح المدينة من باب لطفٍ إلهي خفي، لقد جاء يهودي إلى المسلمين ليلا، وأرشدهم إلى طريقٍ يدخلون منه المدينة، على أن يؤمِّنوه وأهلَه، فدخل المسلمون قَيْسَارِيَّة ليلا وكبّروا فيها، فتزلزلت الأرض بالروم، وظنوا أن المسلمين قد جاءوهم من كل ناحية، ففروا لا يفكرون في شيء إلا النجاة بأنفسهم، فوقع قتال شديد انجلى عن نصر باهر للمسلمين، ثم كتب عمر إلى معاويةَ بفتح ما بقي من فِلَسْطِين بعد أن فتح بيت المقدس والرَّمْلة، فمال معاوية بجنده إلى عَسْقَلانَ، ففتحها صلحا.

 

حفظ العهد:

روى الترمذي في سننه عن سُلَيْم بْن عَامِرٍ قال: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ أَهْلِ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ فِي بِلادِهِمْ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لا غَدْرٌ، وَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَسَأَلَهُ مُعَاوِيَةُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلا يَحُلَّنَّ عَهْدًا، وَلا يَشُدَّنَّهُ حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهُ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ". قَالَ: فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

 

14-البشارة النبوية بفتح بيت المقدس:

روى البخاري في صحيحه عن عَوْف بْن مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ: اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ـ حتى أحصى ستة أشياء.

هكذا أتت البشارة النبوية بفتح بيت المقدس واضحة صريحة، وحددت بدقة أن الفتح لن يكون في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل بعد لحاقه بالرفيق الأعلى..

لقد كانت الذاكرة النبوية وهو في تبوك، على مقربة من بيت المقدس، تستحضر وضع المدينة المباركة، والأَسْر الطويل الذي وقعت فيه، فلا زالت القوى الغريبة عنها تسيطر عليها..

جاءت البشارة في زمن كان الروم فيه يسيطرون بقوة على المدينة المباركة، حتى إن الناظر إلى حالها يتيقن تماما أنهم لن يخرجوا منها، وظن الروم أن المدينة التي استرجعوها من بين أنياب الفرس لن تخرج من أيديهم مرة أخرى أبدا..

لقد خرجت البشرى من رحم الواقع الصعب، لكنها إلهية المصدر، وليست اجتهادا من النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم، ولأنها إلهية فإن كثرة المعوقات، وصعوبة الطريق لن تحول بينها وبين التحقق.. (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا..).

 

تحويل القبلة:

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ). (البقرة: 144).

(وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). (البقرة: 149 ـ 150).

 

النبي يبشر بفتح بيت المقدس:

روى أحمد في مسنده عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأشْجَعِيِّ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: عَوْفٌ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: ادْخُلْ، قَالَ قُلْتُ: كُلِّي أَوْ بَعْضِي؟ قَالَ: بَلْ كُلُّكَ. قَالَ: يَا عَوْفُ اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: أَوَّلُهُنَّ مَوْتِي ـ قَالَ فَاسْتَبْكَيْتُ حَتَّى جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُسْكِتُنِي. قَالَ: قُلْتُ إِحْدَى، وَالثَّانِيَةُ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قُلْتُ اثْنَيْنِ، وَالثَّالِثَةُ مُوتَان (= موت كثير)ٌ يَكُونُ فِي أُمَّتِي يَأْخُذُهُمْ مِثْلَ قُعَاصِ (= مرض يميت الدواب فجأة) الْغَنَمِ، قَالَ ثلاثا، وَالرَّابِعَةُ فِتْنَةٌ تكون فِي أُمَّتِي وَعَظَّمَهَا، قُلْ أَرْبَعًا، وَالْخَامِسَةُ يَفِيضُ الْمَالُ فِيكُمْ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيُعْطَى الْمِائَةَ دِينَارٍ فَيَتَسَخَّطُهَا (= يستقلها ولا يرضى بها)، قُلْ خَمْسًا، وَالسَّادِسَةُ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأصْفَرِ فَيَسِيرُونَ إِلَيْكُمْ عَلَى ثَمَانِينَ غَايَةً، قُلْتُ: وَمَا الْغَايَةُ؟ قَالَ: الرَّايَةُ، تَحْتَ كُلِّ رَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا، فُسْطَاطُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ فِي أَرْضٍ يُقَالُ لَهَا الْغُوطَةُ فِي مَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا دِمَشْقُ".

وروى أحمد في مسنده عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ قَالَ وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ لا تَأْخُذُ (= لا تؤثر) فِيهَا الْمَعَاوِلُ (= آلة للتكسير مفردها مِعوَل) قَالَ فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ عَوْفٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَضَعَ ثَوْبَهُ ـ ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ (= عاصمة الفرس) وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا".

 

15- فتح بيت المقدس:

عقب معركة أجنادين تمهَّد الطريق أمام المسلمين نحو القدس، وأسرعت خُطى التاريخ، واقترب اليوم الخالد، يوم الفتح الذي يُذَكِّر بفتح مكة، فالمسلمون يحاصرون بيت المقدس، بل قل إنهم يعانقون هذه المدينة ومسجدَها المباركَ، تلك التي لازمتْها القداسة حتى في اسمها.. يسترجعون من المدينة ذكريات أنبيائها وصالحيها، فهذا الخليل وابنه إسحاق، ويعقوب وبنوه، وهذا داود وابنه سليمان، وهذه مريم وابنها، وزكريا ويحيى، وكثير وكثير ممن ملأوا هذه الأرض بنور السجود وضياء التسبيح والركوع..

حرص عمرو بن العاص قبل أن يأتي بجنوده إلى القدس والرَّمْلة على أن يفتح ما حولهما من المدن، ليمنع عن الروم أي مدد، فحرر رَفَحَ وغَزَّةَ وسَبَسْطِيةَ ونابْلُس ولُدَّ وتُبنى وعَمَوَاسَ وبيتَ جَبْرِين ويافا ومَرْجَ عُيون.. فكان بذلك يحفظ قداسة بيت المقدس أن يسفك فيها دم، أو تتلطخ بقتال ينتهك حرمتها.

وبدا الروم لدى مقدم عمرو بجيشه محبوسين بين جدران المدينة التي صبغوها بمذهبهم في المسيح، وأرادوا أن يفرضوه على العرب والقبط في الشام ومصر وغيرهما..

ولم تكن بيت المقدس في ذلك الحين سوى مدينة رومانية في اسمها (إيلياء)، ورومانيةٍ في طراز أغلب مبانيها، يتجول في شوارعها جنود الإمبراطورية، وتتحرك في أنحائها وجوه من عناصر شتى، غير أن سمت أهلها من العرب لا تخطئه عين الناظرين.

كانت المدينة قد ضاقت بالاحتلال، وسمعت عن عدل الفاتحين الجدد الذين يقولون إنهم يهتدون بخُطى الأنبياء، ويضعون "إيلياء" موضع الإجلال والتقديس، ويشاركون أهل المدينة في عروبة أصولهم.

وبدأ عمرو فضرب الحصار حول المدينة أربعة أشهر، حتى ضاق صدر الروم من بأس المسلمين وصبرهم، بالرغم من الشتاء القارس والعوامل الجوية الصعبة، فانسحب أتباع قيصر والأرطبون من بيت المقدس، وودّعوها في حسرة قاتلة.

وطلب أهل المدينة الصلح، على أن يأتي أمير المؤمنين عمر بنفسه ليتسلم مفاتيح القدس، فاستجاب لهم المسلمون، وأقبل عمر، في حادث من أكبر الأحداث في تاريخ المدينة المباركة، وتسلم المدينة من بِطْرِيكها صفرنيوس.

 

فتح أم تحرير؟

يقول رجاء جارودي عن الفتح العمري للقدس : "الواقع أن ذلك لم يكن فتحًا، ولا انتصارًا حربيًا، بل كان تحريرًا، ذلك أنه في عام 638م لم يكن الذين وصلوا إلى فلسطين هم العرب، ولكنه الإسلام، فقد كان العرب فيها منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، منذ الهجرة السامية الأولى، القادمة من الجزيرة العربية، والتي كانت تعيش مبتدية (أي عيشة البدو) على طول "الهلال الخصيب"، يصدق ذلك على الأموريين، والكنعانيين، والعبرانيين الذين كان لهم نفس الأصل العرقي، وهم ينتمون إلى نفس المجموعة اللغوية".

(فلسطين أرض الرسالات الإلهية: رجاء جارودي صـ 187، ترجمة د. عبد الصبور شاهين).

 

16- حصار المسلمين بيت المقدس:

اعتاد من يسيطر على القدس منذ القِدَم أن يلفها بالأسوار، ويقيم حولها الحصون، حماية للمدينة الغالية من الغزاة والمغامرين. وقد عُثر في الأردن على خريطة ثمينة من القرن السادس الميلادي، تشرح وضع القدس في هذا الزمن، حيث بدت محاطة بسور فيه عدة أبراج ومجموعة أبواب، وفي الداخل تبدو المباني الفخمة، وأهمها الكنائس.

وحينما قَدِمَ عمرو بقواته سنة 637م وجد المدينة حصينة منيعة، قد احتمى بها الرومان، وليس من اليسير اقتحامها عليهم، فضرب الحصار حولها، وراح يبحث عن فرصة أو فرجة للدخول، ولكن مرت ثلاثة أيام دون أن يجد شيئا من ذلك، فاستجمع قوته وتقدم نحو الأسوار، فأمطرهم الروم بالنبال، والمسلمون يصدونها بتروسهم.

وقدمت إلى عمرو معونات من القادة الآخرين بالشام، فلم يمر يوم إلا وقع فيه قتال، حتى مرت أربعة أشهر، لم يزل المسلمون فيها على القتال والحصار وأهلُ بيت المقدس لا يظهرون من قلوبهم همًا ولا جزعًا .. ليس غير المنجنيقات الضخمة ترمي بالحجارة فوق القوى المحاصِرة من المسلمين، ويحتمون داخل أسوارهم معهم السيوف والدروع ..

إلا أن طول الفترة، وصبر المسلمين العجيبَ بالرغم من البرد الشديد ـ كانت كفيلة بأن تحبط الروح المعنوية للروم، فتراجع أرطبونُ بقواته إلى مصر. ودعا أهلُ القدس إلى طلب المصالحة، فسار إليهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وصالحهم.

 

 

أغلبية عربية عند الفتح:

"تدل المخطوطات الإغريقية التي عثر عليها في الأردن أن أغلبية السكان في زمن الرومان كانوا عربًا، وأن مهاجرين آخرين قدموا، كسائر الموجات السابقة منذ ثلاثة آلاف عام، من الجزيرة العربية، وقد أنشأوا في القرن الرابع بعد ميلاد المسيح مملكة الأنباط في جنوب فلسطين.

 

(فلسطين أرض الرسالات الإلهية: رجاء جارودي صـ 187، ترجمة د. عبد الصبور شاهين).

17- الفاروق عمر يسير إلى القدس:

جاء إلى عمر بن الخطاب في المدينة كتاب من أمير الفتوح في فلسطين عمرو بن العاص، يبشره بنعمة الله، وانهزام بقايا الروم في الشام، وأن أهل إيلياء (القدس) اشترطوا أن يسلّموا المدينة إلى أمير المؤمنين نفسه، فراح عمر يعد للسفر عدته، من الرفيق والزاد والراحلة، وسافر السفر الطويل، يقطع المراحل والأميال.. وعلى أبواب الشام لقي قواده في الجابية، واطمأن على حال المسلمين في بلاد الشام.

وبينما عمر في الجابية إذا بجماعة من الروم بأيديهم سيوف مسلولة، فسار إليهم المسلمون بالسلاح، فقال عمر: إن هؤلاء قوم يستأمنون، فساروا نحوهم، فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه، فأجابهم ـ رضي الله عنه ـ إلى ما سألوا، ثم واصل مسيره في جماعة من الصحابة ووجوه المسلمين نحو بيت المقدس.

وجاء وقت الصلاة، فتوجه أمير المؤمنين وصحبه إلى القبلة، وهم يقفون على قمة جبل يشرف على القدس، وعلا صوت عمر بن الخطاب بالتكبير، ومنذ ذلك اليوم سمى الجبل بجبل المكبِّر.

 

كلمات جوامع أثناء رحلة عمر:

كان عمر في رحلته إذا نزل منزلاً لا يبرح حتى يعلو الصبح ثم يذكّر الناس بمثل قوله: "الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وأكرمنا بالإيمان، وخصنا بنبيه عليه الصلاة والسلام وهدانا من الضلالة، وجمعنا بعد الشتات على كلمة التقوى وألف بين قلوبنا ونصرنا على عدونا ومكن لنا في بلاده، وجعلنا إخوانا متحابين، فاحمدوا الله عباد الله على هذه النعمة السابغة والمنن الطاهرة؛ فإن الله يزيد المستزيد الراغبين فيما لديه، ويتم نعمته على الشاكرين".

 

 

18- حال عمر عند سيره إلى بيت المقدس:

كان في ذاكرة عمر، وهو مرتحل من المدينة إلى بيت المقدس، أنه مسافر من مدينة النبي إلى مدينة الأنبياء، وهو حال يستوجب التواضع والهيبة، فظهرت على أمير المؤمنين في هذه الرحلة علامات عبقرية الأمير، الذي يزداد بتواضعه رفعة وسموّا:

كان هو وخادمه يتناوبان ركوب دابة واحدة في طريقهما التاريخي من المدينة إلى بيت المقدس، حتى إذا أتعب السير أحدهما ترجَّل له صاحبه عن بعيره ليركبه، وعلى مشارف القدس كان رفيق عمر هو صاحب الدَّوْر في امتطاء البعير، فأبى أمير المؤمنين إلا أن يركب صاحب الدور، وإلى جانبه سار الخليفة الفاتح على قدميه..

وقدم عمر الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق، وتظهر رأس الأمير للشمس ليس عليه قلنصوة ولا عمامة، تهتز رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب، معه كساء صوف يتخذه سرجا إذا ركب وفراشا إذا نزل، ومعه شملة محشوةٌ ليفا يتخذها حقيبة إذا ركب ووسادة إذا نزل، وعليه مرقعة من الصوف فيها بضع عشرة رقعة بعضها من جلد.

وعندما جاء ميعاد زيارة بيت المقدس وهمَّ الخليفة بالركوب بهيئته الزاهدة قال المسلمون: يا أمير المؤمنين، لو ركبت غير بعيرك جوادًا، ولبست ثيابًا لكان ذلك أعظم لهيبتك في قلوب القوم، فقال: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلاً". لكنهم أقبلوا يسألونه ويطوفون به إلى أن أجابهم إلى ما يريدون، ونزع مرقعته، ولبس ثيابًا بيضاء وطرح على كتفه منديلاً من الكتان ليس جديدًا ولا بالخَلِق، دفعه إليه أبو عبيدة وقدّم له بِرْذَوْنًا أشهب (وهو نوع من الحمير الكبيرة) من براذين الروم، فلما صار عمر فوقه جعل البرذون يَحْجِل، فنزل عنه مسرعًا، ثم صاح: أقيلوني أقال الله عثرتكم يوم القيامة، لقد كاد أميركم يهلك مما داخله من الكبر، وإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر".. فأُتى بجمله فركبه.

وحين قدم عمر الشام عرضت له مخاضة ماء، فنزل عن بعيره ونزع موقيه (وهو ما يلبس فوق الخفين)، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه البعير، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنيعا عظيمًا عند أهل الأرض، فضرب عمر صدره برفق، وقال: "أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة! إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزَّكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله".

صورتان متناقضتان!!

يصف رابو بورت المؤرخ الغربي مقدم عمر إلى القدس قائلاً: "أما سكان أورشليم الذين اعتادوا أن يروا الأباطرة البيزنطيين في أبهتهم وأرديتهم المطرزة بالذهب ـ فقد كان مرآهم للخليفة ـ مشهدًا رائعًا، ذلك أن خليفة النبي كان يرتدي بردة رثة من وبر الإبل، وقد اخترق أورشليم على بعير يحمل كل أمتعته، وما يكفيه من تمر ليوم واحد، فكان هذا التناقض بين بساطة المنتصر وتقشفه،  وبين الهوس الباذخ الذي تعود على الظهور به، ليس الأباطرة البيزنطيون وحسب، بل ممثلوهم من ولاة الأقاليم ـ كان هذا التناقض مذهلاً، لم يلبث أن أحدث تأثيره العميق في شعب حانق على حكومة كانت في نظره استبدادية بشعة".

(فلسطين أرض الرسالات الإلهية : رجاء جارودي صـ 190، ترجمة: د.عبد الصبور شاهين".

 

19- عمر يتسلم مفاتيح بيت المقدس:

قبل أن يغادر عمر الجابيةَ في لقائه مع قواده بالشام أتاه وفد من أهل بيت المقدس يلتمسون عنده الصلح، فبذله لهم، وكتب لهم بذلك كتابا، فرجعوا وقد علموا أن هذا الكتاب وهذا الصلح نصر تحقق لهم، فقد جاءهم أمير عادل وقوم منصفون، وذهب عنهم بطش الرومان وظلمُهم واضطهادُهم.

ومضى أمير المؤمنين إلى بيت المقدس، والتواضعُ لله وحدَه يكسو عمر وأصحابَه هيبةً ووقارًا.

إنها بشارة من بشارات الصادق المصدوق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووعد من موعودات الله لخلقه المؤمنين يتحقق أمام عيون الركب المبارك، وشريط الذكريات لا زال يعيد نفسه يوم كان النبي يلقي ببشرى فتح بيت المقدس في تبوك..

ولما أشرف بطريرك بيت المقدس من السور، ورأى جمع المسلمين يتقدمهم أمير المؤمنين، صاح بأعلى صوته "هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا، ومن يكون فتح بلادنا على يديه بلا محالة". وكان ذلك بقية صادقة مما في كتب أهل الكتاب عن الصالحين من أسلافهم..

ثم قال البطريرك لأهل بيت المقدس: "يا ويحكم انزلوا إليه واعقدوا معه الأمان والذمة"، فنزلوا مسرعين، وكان الحصار الشديد قد أضناهم وشق عليهم، ففتحوا الباب وخرجوا إلى عمر يسألونه العهد والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية، فخر عمر ساجدًا لله على بعيره..

وكان ذلك شاهدًا قويًّا على أن أهالي القدس وجدوا في الدولة الإسلامية الفتية ينبوع أمن وأمان لهم ولمدينتهم، يصون لهم خصوصياتهم، ويمنحهم حرية العقيدة بلا إكراه ولا مضايقة، كما كان دليلاً واضحًا على أن انسحاب الروم من بيت المقدس كان أمرًا حتميًّا تفرضه الرغبة الشعبية في هذه المدينة ضد المستعمرين من الروم..

وكان أهم مطلب ركز عليه الوفد الشعبي لبيت المقدس الذي لقي عمر في الجابية، وطلب منه الصلح ـ هو ألا يساكنهم في المدينة أحد من اليهود. وقد أصر البطريق صفرنيوس حين عرض تسليم المدينة المقدسة للخليفة عمر بن الخطاب شخصيًا على نفس المطلب الشعبي، فوافق أمير المؤمنين على ذلك، وسجله في وثيقة محددة البنود، أضاف فيها شروطًا تنص على احترام مقدسات هذه المدينة، وما يكفل لها السلامة أيضا من بقايا الروم وعملائهم.

ودخل الفاروق المسجد الأقصى من الباب الذي دخله منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الإسراء، ونظف بنفسه الصخرة المباركة، وتسلم مفاتيح المدينة الطاهرة في لحظةٍ تاريخيةٍ من أعز لحظات الزمن. وقضى الخليفة في القدس خمسة أيام ثم رجع إلى المدينة.

لقد كان فتحًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها الطويل، والمأساوي في غالب الأحوال، فبعد أن استسلم أهل المدينة لم يَحْدُثْ قتل أو تدمير للممتلكات، أو إحراق للرموز الدينية المنافسة، وأيضا لم يكن هناك طرد للسكان، أو نزع للملكية، أو محاولة لإجبار السكان على اعتناق الإسلام ..

وعاشت القدس منذ هذه اللحظة في رحاب الإسلام: بدءا من خلافة الراشدين، فالدولة الأموية، فالحكم العباسي، وما تفرع عنه من الطولونيين والإخشيديين، ثم جاء الحكم الفاطمي، ثم احتلها الصليبيون في ذيل القرن الخامس الهجري، حتى استردتها جيوش صلاح الدين بعد اثنين وتسعين عاما من الاحتلال.

سعادة أهل القدس بجلاء الرومان:

عبر أحدهم عن سعادته بجلاء الرومان عن القدس فقال: "لقد أرسل رب الثأر العرب ليخلصونا من الرومان، لم تعد إلينا كنائسنا؛ لأن كل واحد أمسك ما كان يملكه، ولكنا كنا على الأقل قد تخلصنا من وحشية الإغريق، ومن بغضهم لنا".

(فلسطين أرض الرسالات الإلهية: رجاء جارودي صـ 189، ترجمة د. عبد الصبور شاهين).

 

20- الوثيقة العمرية لأهل بيت المقدس:

"بسم الله الرحمن الرحيم:

ـ هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان:

ـ أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها.

ـ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكْرَهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم.

ـ ولا يَسْكن بإيلياء معهم من اليهود.

ـ وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما تعطي أهل المدائن (أي المدن الأخرى من بلاد الشام).

ـ وعليهم أن يُخْرجوا منها الروم واللصوت (أي اللصوص).

ـ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية.

ـ ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعَهم وصُلُبهم فإنهم آمنون على أنفسهم، وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.

ـ ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثلُ ما على أهل إيلياء من الجزية.

ـ ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يُحْصَد حصادهم.

ـ وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أَعْطَوا الذي عليهم من الجزية.

ـ وشهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان.

ـ وكُتِب وحُضر سنة خمس عشرة ..

(وفي تاريخ الفتح خلاف، وإن كان الراجح هو أنه في سنة ست عشرة).

وثيقة تتنفس عدالة وتسامحًا:

قال أحد المؤرخين الغربيين عن كتاب عمر لأهل القدس: "يجب أن نعترف بأن إعلانًا كهذا في بداية القرن الوسيط (وقد التزمت به كل الجيوش الإسلامية بعامة) هو إعلان حافل بالإنصاف، فهو يتنفس عدالة وتسامحًا. وما استطاع أباطرة بيزنطة ولا أساقفة الكنيسة أن يعبروا مطلقًا عن مشاعر من هذا القبيل باسم ذلك الذي دعاهم إلى دين الحب (أي المسيح)".

(فلسطين أرض الرسالات الإلهية: رجاء جارودي صـ 191، ترجمة د. عبد الصبور شاهين).

كتاب أهل القدس لأمير المؤمنين عمر:

كتب أهل القدس كتابًا للمسلمين يتعهدون فيه بأشياء معينة ونص الكتاب ما يلي:

"هذا كتاب لعبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين من نصارى مدينة إيلياء .. إنكم لما قدمتم علينا سألناكم  الأمان لأنفسنا وذارارينا وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم أن لا نحدث فى مدينتنا ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية (مسكن الأسقف) ولا صومعة راهب.

ولا نجس منها ما كان في خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار . وأن توسع أبوابها للمارة وابن السبيل . وأن ننزل من مر من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم ولا نواري فى كنائسنا ولا في منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا نظهر مشركا ولا ندعو إليه أحدًا، ولا نمنع أحدًات من ذوى قرابتنا الدخول في الإسلام إن أراده وأن نوقر المسلمين ، ونقوم لهم من مجالسنا ولا نتشبه في شيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر.. ولا نتكلم بكلامهم ولا نتكنى بكنانهم ، ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله معنا، ولا ننقش على خواتمنا بالعربية. ولا نبيع الخمور. وأن نجز مقادم رؤوسنا ، وأن نلزم زينا حيثما كنا . وأن نشد زنانير على أوساطنا ولا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظر صلباننا ولا كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم، ولا نضرب نواقيسنا فى كنائسنا إلا ضربًا خفيفًا.

ولا نرفع أصواتنا مع موتانا.. ولا نتخذ من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين. ولا نطلع عليهم فى منازلهم".

(تاريخ القدس : عارف باشا العارف صـ 47 ـ 48 دار المعارف ـ القاهرة ،  الطبعة الثانية)

 

 

21- أيام عمر في بيت المقدس:

جاء دخول أمير المؤمنين القدس يوم الإثنين ملبيًا، وأقام بها حتى يوم الجمعة، فاستقبله زعماء المدينة وعلى رأسهم البَطريرك صفرنيوس الذي تولى شرح تاريخ المشاهد الدينية بالمدينة للخليفة عمر الذي طلب مشاهدة الأماكن المقدسة .. كان ذلك وسط مشاهد الاندهاش من سكان المدينة، وفي حضور قادة الجند المسلمين ووجوه الناس...

كان عمر حريصا في تلك الزيارة على مشاهدة معالم المدينة التي كان يحمل لها صورة أخذها عن الرسول الكريم الذي وصف المدينة للناس عقب معجزة الإسراء.. وتكرر وقوف الركب في عدة أماكن التبس على البطريق نفسه أنها المسجد الأقصى، خاصة أن موقع المسجد الأقصى والصخرة المقدسة قد تعرض للعبث والإهمال أثناء الاحتلال الروماني للقدس، وغدا بقعة تغطيها القمامة، انتقاما من اليهود الذين أهانوا كنيسة القيامة عند احتلال الفرس للقدس..

وحين اقترب الركب من هذا المكان بدأ الخليفة فحص معالمه، وتأكد أنه المكان المبارك .. عندها راح الخليفة العظيم في تواضع يجمع القمامة، ويذهب ليلقيها في وادي قدرون الواقع في شرق المكان، فاقتدى به المسلمون، حتى طَهُر المكان وتطهر واتضحت معالمه، كما ظهرت الصخرة المباركة.

وحين بدا محراب داود صلى عمر ـ رضي الله عنه ـ بالمسلمين صلاة الصبح، فقرأ في الركعة الأولى سورة [ص] وسجد فيها والمسلمون معه، كما سجد داود من قبل، وفي الركعة الثانية قرأ سورة الإسراء..

وبنى عمر المسجد العمري الذي كان يؤمه المسلمون من أهل المدينة المقدسة، والقادمين إليها للزيارة عبر الزمان، حتى جدده الأمويون في عهد عبد الملك بن مروان..

 وكان عمر قد رفض الصلاة في موضع بكنيسة القيامة، حين عرضها عليه البطريق صفرنيوس، صيانة لخصوصيات أصحاب الكنيسة، حتى لا يبني المسلمون مكانها مسجدًا، مدعين أنه مكان صلى فيه أمير المؤمنين ..

الحروب مع الروم:

لما فرغ عمر من خطبته بالجابية بعد صلاة الفجر، جلس مع أبي عبيدة يحدثه بما لقي من الروم في حروبه معهم، وعمر باهت داهش، فتارة يبكي وتارة يهدأ فلم يزل كذلك إلى أن حضرت صلاة الظهر فقال الناس: يا أمير المؤمنين اسأل بلالاً أن يؤذن لنا، وكان بلال مقيمًا بإحدى مدن الشام، فلما بلغه أن عمر وصل إليها حضر وسار مع أبي عبيدة حتى سلم على عمر فعظم قدره، فلما حضرت صلاة الظهر وسأل المسلمون ذلك قال: يا بلال إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونك أن تؤذن لهم وتذكرهم أوقات نبيهم صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم .. فلما قال الله أكبر خشعت قلوبهم واقشعرت جلودهم واهتزت أبدانهم فلما وصل إلى أن قال: أشهد أن محمدًا رسول الله بكى الناس بكاء شديدا حتى كادت قلوبهم أن تتصدع عند ذكر الله ورسول الله، فلما فرغ من أذانه وجلس، قال بلال: يا أمير المؤمنين؛ إن أمراء المسلمين وأجناد الشام يأكلون لحوم الطير والخبز النقي، وما يلحق ضعفاء الناس وما لا تناله أيديهم، وإن الكل يفني ومآله إلى التراب ومصيرنا إليه فقال يزيد بن أبي سفيان : إن سلعة بلادنا هذه رخيص، وإنا لنصيب ما قاله بلال هاهنا مثل ما كنا نقوت به أنفسنا مدة من الزمان في الحجاز، فقال عمر : إن الأمر كما ذكرت، فكلوا هنيئا مريئًا، ولست أبرح من مكاني حتى تجمعوا إليَّ من في المنازل وأن تكتبوا إلى فقراء المسلمين ممن في المدن والقرى فأفرض لأهل كل بيت ما يجزيهم من البُرّ والشعير والعسل والزيت، وما يحتاجون إليه، ولابد لهم منهم .. ثم قال: هذا لكم من أمرائكم غير ما يأتيكم من بيت مال المسلمين، فإن قطعت عنكم أمراؤكم فأمروني حتى اعزلهم عنكم ثم أمرهم بالرحيل.

 

 

 

 

22- بيت المقدس من الفتح العمري إلى نهاية عهد الخلفاء الراشدين:

قبل أن ينصرف عمر بن الخطاب عن الشام، بعد أن تسلم مفاتيح بيت المقدس ـ راح ينظم البلاد إداريا، ويوزع السلطات بين أمراء المسلمين، فجعل الإمارة العامة في الشام في يد أبي عبيدة بن الجراح، ووقعت القدس ضمن إمارة يزيد بن أبي سفيان، الذي أمره الخليفة بالرجوع في أموره إلى قائده العام أبي عبيدة..

ولكن ما لبث طاعون عمواس أن اجتاح فلسطين وما جاورها عام السابع عشر من الهجرة، حيث مات عدد كبير من عامة المسلمين ووجهائهم وقادتهم، كأبي عبيدة ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان..

وبوفاة يزيد نقل عمر ما تحت يديه من السلطة إلى أخيه معاوية، وصارت القدس بذلك تحت سلطة أمير جديد من بني أمية..

وجاء أمير المؤمنين الثالث عثمان بن عفان من البيت الأموي أيضا، مؤكدا أن الإسلام يصطفي الرجال على اختلاف مشاربهم ومواهبهم، فأقرّ عثمانُ معاويةَ على الشام، اقتداء بعمر الذي أدرك موهبة الفتى الهمام مبكرا.

وإذا كان عثمان قد عُرف بالكرم والجود، حتى اشترى للمسلمين بالمدينة المنورة بئر رُومة من طيب ماله، وبثمن كبير ـ فإن القدس وأهلها أيضا قد نالتهم نفحة من جود عثمان، حيث وقف على ضعفاء أهل المدينة المقدسة عين ماء تسمى "عين سلوان"، وهي عين غزيرة تسقي الكثير من الجنان، وقيل إن عثمان وقف الحدائق التي تسقيها هذه العين على نفع المسلمين أيضا.

وبعد عثمان ـ رضي الله عنه ـ بقيت السلطة على بيت المقدس، وعلى الشام كله، في يد معاوية بن أبي سفيان. وحتى حين تولّى علي بن أبي طالب إمارة المؤمنين، ودخل في نزاع شديد مع والي الشام معاوية، فإن أمير المؤمنين لم يستطع السيطرة على بيت المقدس، وظلت في يد معاوية إلى أن قامت الدولة الأموية، وبويع معاوية بالخلافة في القدس عام أربعين من الهجرة.

 

صحابة في بيت المقدس:

روى أحمد في مسنده عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: دَخَلْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَوَجَدْتُ فِيهِ رَجُلا يُكْثِرُ السُّجُودَ، فَوَجَدْتُ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: أَتَدْرِي عَلَى شَفْعٍ انْصَرَفْتَ أَمْ عَلَى وِتْرٍ؟ قَالَ: إِنْ أَكُ لا أَدْرِي فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَدْرِي. ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي حِبِّي أَبُو الْقَاسِمِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ بَكَى ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي حِبِّي أَبُو الْقَاسِمِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ثُمَّ بَكَى ثُمَّ قَالَ: أَخْبَرَنِي حِبِّي أَبُو الْقَاسِمِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً، وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً. قَالَ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي مَنْ أَنْتَ ـ يَرْحَمُكَ اللَّهُ؟ قَالَ: أَنَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَتَقَاصَرَتْ إِلَيَّ نَفْسِي.