موقع القدس


الصفحة الرئيسية لموقع القدس
تاريخ القدس القديم |  قبل الإسلام |  الرومان والقدس |  منذ الفتح الإسلامي |  عهد الأمويين |  عهد الفاطميين |  الإحتلال الصليبي
عهد الأيوبيين |  عهد المماليك |  عهد العثمانيين |  العهد العباسي |  عهد الطولونيين |  الإحتلال البريطاني |  الإحتلال الصهيوني
الصحابة |  علماء وزهاد |  مؤرخون ورحالة |  نساء |  أدباء |  شخصيات فلسطينية وعربية
القدس في التاريخ |  مكانة القدس |  الموقع الفلكي |  كنيسة القيامة |  موقف العرب |  المقاومة |  برنامج القدس
دعم أمريكا لإسرائيل |  القضية الفلسطينية في قرنين |  إحصائيات عن اليهود |  الصهيونية
العهدة العمرية واللورد بالمرستون ونابليون والبيع لليهود ورد الشريف حسن ووعد برلفور
صور القدس 1 |  صور القدس 2 |  صور القدس 3 |  صور القدس 4 |  صور القدس 5 |  مواقع
ـ فلسطين ـ بيت المقدس:

قدم رئيس هيئة أركان الحرب الإمبراطورية تقريرًا إلى وزارة الحرب عن برقية تلقاها من الجنرال اللِّنْبِي يسأل فيها عن الأعلام التي ترفع في حالة احتلال الحلفاء مدينة بيت المقدس.

وقررت وزارة الحرب:

أنه نظرًا للطابع الفريد للمدينة والمسائل الدبلوماسية والسياسية الصعبة العديدة التي أثيرت بصددها، فإنه يجب إبلاغ الجنرال اللِّنْبِي بوجوب عدم رفع أي علم في حالة احتلال قوات الحلفاء المدينة.

ـ فلسطين ـ سقوط بيت المقدس:

ذكر رئيس أركان حرب الإمبراطورية أن بيت المقدس قد عُزلت وسلمها عمدتها للقائد العام البريطاني الذي ذكر أنه لن يدخل المدينة رسميًا قبل يوم 11 ديسمبر.

وبعد أن درست وزارة الحرب مسألة نشر هذه المعلومات في ضوء المناقشات التي دارت من قبل اتخذت القرار التالي (وزارة الحرب 280 ـ المضبطة الخامسة):

تقدم هذه الأنباء بأقصى إيجاز ممكن إلى مجلس العموم بعد ظهر ذلك اليوم. وتولى رئيس أركان حرب الأمبراطورية مهمة إعداد بيان لنشره قبل اجتماع المجلس بعد ظهر ذلك اليوم.

وفد الفلسطينيين والسوريين العرب في انجلترا:

استقبلت وزارة الحرب وفدًا عربيًا يرأسه الكونت زغيد يمثل الفلسطينيين والسوريين العرب (مسلمين ومسيحيين) المقيمين في إنجلترا. وقد تلا الكونت زغيد رسالة تهنئة إلى حكومة صاحب الجلالة والقوات البريطانية بمناسبة الاستيلاء على بيت المقدس (ملحق 1).

وقد وافقت وزارة الحرب على إصدار إعلان للصحافة عن استقبالها للوفدين.

ـ ملحق:

صاحب السعادة، لقد طلب مندوبو أعضاء الجاليات السورية والفلسطينية العرب المقيمين في لندن ومانشستر زيارتكم اليوم لكي يعبروا لسعادتكم عن تهانيهم بمناسبة النصر والاستيلاء على بيت المقدس.

وهم يعلنون كذلك عن رغبتهم في أن تنقلوا إلى جلالة الملك وقواته تهانيهم القلبية المقرونة بالأمل والتأكيد بأن جيوش جلالته وكذلك الفصائل التابعة للوحدات الفرنسية والإيطالية ـ سوف تواصل انتصاراتها وتقدمها من أجل خلاص الشعوب التي تقوم بتحريرها من استبداد الحكم التركي.

ويرجو مندوبو أعضاء الجاليات السورية والفلسطينية العربية سعادتكم أن تنقلوا إلى الجنرال اللِّنْبِي والقوات الباسلة التي تحت قيادته امتنانهم الخالص للتضحيات التي يبذلونها لخدمة أهداف هذه الشعوب وآمالها من أجل استيطان دائم مفعم بالأمل بتوجيه محرريهم وتحت وصايتهم.

ـ فلسطين:

قال مدير المخابرات العسكرية: إن الجنرال اللِّنْبِي أخبره بأنه كان قد قدم مركزه الأيسر لمسافة ميل ونصف شمال شرقي الرملة. كما وردت أنباء بأن فرقة تركية أخرى مرت في العشرين من نوفمبر جنوب دمشق عائدة من القوقاز. ومن ثم فقد كان من الممكن أن يواجه الجنرال اللِّنْبِي فرقتين أخريين قرب نابلس، إحداهما قد تكون ألمانية، ويتراوح عدد جملة البنادق في الفرقة التركية بين 4500 و 5000 شخص. ويبدو أن السبب وراء عدم وصول الألمان إلى مسرح العمليات العسكرية لمنع الجنرال اللِّنْبِي من الاستيلاء على بيت المقدس ربما يرجع لأن هذه الفرق الألمانية بالذات تم تكوينها في ألمانيا خلال شهر سبتمبر، وأن وحداتها المتقدمة لم تغادر ألمانيا إلا في العشرين من أكتوبر، ووصلت القسطنطينية في السابع من نوفمبر.

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، الجزء الأول صـ212 ـ 241 ).

ـ من ملفات وزارة الحرب البريطانية:

سري ـ السكرتير العام ـ وزارة الحرب:

أرفق مع هذا بحثًا عن سياستنا العسكرية في المستقبل، وآخر عن مشروع احتلال خط حيفا ـ القدس.

لقد كنتُ أنوي تأجيل إرسال هذه البحوث حتى تصل آراء الجنرال اللِّنْبِي وكذلك المذكرة الخاصة بالموقف العسكري العام، والتي كان رئيس الوزراء قد طلب من السير دوجلاس هايج Sir Doglas Haig إعدادها. ولكن بما أن رئيس وزراء فرنسا قد حضر فجأة فأعتقد أنه من المستحب تقديمها فورًا. ومن المفهوم ضمنا أن الآراء التي ذكرت في البحث الخاص عن حيفا ـ القدس تعتبر رهن ما يقوله الجنرال اللِّنْبِي.

و . ر . روبرتسن

مكتب الحرب

8 / 10 / 1917

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، الجزء الأول صـ 250).

 

 

3- الهجوم البريطاني الثاني لاحتلال القدس:

كان المطر في شهر ديسمبر سنة 1917م غزيرًا، حتى أوحلت الأرض، بينما اللِّنْبِي قد عدل في قواته، وجدد بعض دمائها، وحدد موعد هجومه نحو المدينة السابعَ من ديسمبر، وكان الهجوم هذه المرة من الشمال إلى الجنوب، على محور النبي صموئيل ـ القدس، ومن الجنوب إلى الشمال على محور الخليل ـ بيت لحم ـ القدس، وعلى محور العنب ـ القدس كان الهجوم الثالث، وأخذ اللِّنْبِي في أثناء ذلك يؤمِّن تحرك قواته، ويحافظ على سلامة الاتصال فيما بينها، وقامت المِدْفعيةُ بمساندةٍ صاروخية للقوات المتحركة.

لكن الأوحال والأمطار الغزيرة أجهضت الزحف على محور الخليل ـ بيت لحم ـ القدس، في حين نجح المهاجمون على محور العنب القدس في الثامن من ديسمبر في الاستيلاء على التلال الواقعة جنوب عين كارم إلى الجنوب الغربي من القدس، وهاجمت قواتُ محورِ النبي صموئيل ـ القدس قواتِ العثمانيين، واستولت على التلال المتمركزة عليها شمال غربي القدس...

ثم تتابع التقدم البريطاني، فهاجموا دير ياسين، واستولوا على مواقع للعثمانيين شرق وادي الصرار، ووصلوا إلى بيت جالا إلى الشمال الغربي من بيت لحم، وبهذا طوَّق البريطانيون بيتَ المقدس المباركةَ من الشمال والشمال الغربي، والغربِ والجنوب الغربي، ومن الجنوب.

لم يعد هناك مجال للمقاومة أمام العثمانيين، خاصة بعد أن تساقطت القنابل بكثافة على المدينة المقدسة، فمالوا إلى التسليم، وانسحب الأتراك نهائيًا من القدس قبل فجر يوم الأحد التاسع من ديسمبر/ كانون الأول سنة 1917م، بعد بقائهم فيها أربعة قرون كاملة.

وفي الساعة التاسعة من صباح هذا اليوم، خرج رئيس بلدية القدس حسين بك الحسيني ووفد من المقدسيين للقاء الإنجليز، حيث سلموا لهم وثيقة الاستسلام، والمقدسيون يشعرون بغمّ قاتل أمام هذه اللحظة التاريخية الصعبة.

وفي العاشرة والنصف من صباح هذا اليوم، بينما الشمس مغرقة في الاختباء خلف الغيوم، من شهر ديسمبر سنة 1917م، دخلت القوات الإنجليزية القدس، وسيطرت عليها.

 

4- الاعتراض الفلسطيني على السياسة البريطانية:

لم يقصّر الشعب الفلسطيني في بذل أقصى ما أمكنه من الجهود في مقاومة السياسة الاستعمارية البريطانية التي كانت تكرس فصل فلسطين عن محيطها العربي والإسلامي، تمهيدًا لإقامة الدولة الصهيونية على ترابها.

احتج العرب في فلسطين على فرض الانتداب البريطاني على بلادهم، ومحاولات فصل فلسطين عن سوريا، واختيار الصهيوني هربرت صموئيل كأول مندوب سام لبريطانيا في فلسطين، فاجتاحت البلاد موجات من الاحتجاج والتظاهر ضد هذا كله.

وفي مارس من عام 1921 اجتمع وفد فلسطيني بالقدس مع وزير المستعمرات البريطاني ونستون تشرشل، الذي جاء إلى المنطقة موفدًا من قبل حكومته لمراجعة سياسة بريطانيا في المنطقة.

وقدَّم الوفد الفلسطيني للسياسي البريطاني مذكرة احتجاج على سياسات بلاده الساعية إلى إقامة وطن قومي لليهود، ودَعوه إلى إلغاء وعد بلفور، ووقْف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ووقف بيع الأرض الفلسطينية لليهود، والامتناع عن فصل فلسطين عن محيطها العربي الإسلامي، لكن الوزير البريطاني لم يُلقِ بالا لشيء من تلك البنود، فاشتدت المظاهرات والاحتجاجات العربية في فلسطين ضد بريطانيا، وهو الأمر الذي واجهه البريطانيون بقوة وعنف، حتى وجهوا رصاصهم إلى صدور المتظاهرين طلبا لحقوقهم، فسقط بعض الشهداء والجرحى من الفلسطينيين، مما زاد الاحتجاجات اشتعالا.

وكوَّن العرب الفلسطينيون في مؤتمرهم الرابع في القدس (مايو عام 1921) وفدًا لخدمة القضية، والحيلولة دون تنفيذ وعد بلفور، فطاف الوفد في العديد من البلدان، وذهب إلى لندن نفسها ، لكنها لم تعره اهتماما، بزعم أنه وفد غير رسمي، ورفض الإنجليز إعطاء العرب في فلسطين أي مؤسسة انتخابية لإقامة حكومة نيابية، كما رفضوا مذكرة الوفد المطالِبة بإلغاء فكرة إقامة الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين، وبوقف الهجرة اليهودية، والامتناع عن فصل فلسطين عن محيطها العربي. وظل التعنت عنوانا على السياسة البريطانية تجاه الفلسطينيين حتى النهاية.

 

5- التعنت البريطاني أمام المطالب الفلسطينية:

كانت هناك رؤية إستراتيجية تحدد الموقف البريطاني تجاه قضية فلسطين، وتفسر الانحياز الواضح إلى الجانب الصهيوني، وملخص هذه الرؤية هو: مقايضة الحلم اليهودي في تكوين الدولة القومية بما عسى أن تحققه هذه الدولة للتاج البريطاني من نفوذ عميق في المنطقة، مع بسط الحماية والرعاية البريطانية على الدولة الصهيونية المنتظرة.

وفي ضوء ذلك لم يكن مستغربا أن تتعنت بريطانيا في وجه المطالب العربية تعنتا غريبا؛ فقد كانت الرؤية الاستراتيجية السابقة موضوعة أمام نواظر الساسة البريطانيين دائما، خاصة مع وجود نفوذ واضح لليهود في الاقتصاد والسياسة داخل الجزر البريطانية نفسها.

ومن آيات هذا التعنت أن ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطانية أراد أن يفرض على الفلسطينيين مجلسا تشريعيًّا يضمن تفوق الجانب الصهيوني، ويرأسه المندوب السامي البريطاني، فرد عليه العرب في فبراير سنة 1922 بأن المفاوضة حول دستور للبلاد ينبغي أن تسبقها مراجعة بريطانيا لسياستها في فلسطين، مع الحد من تفوق الصهاينة، وإعطاء عرب فلسطين حقهم في اختيار سلطتي البلاد التشريعية والتنفيذية.

قابلت الحكومة البريطانية المطالب العربية بالرفض، وأرسل تشرشل في أبريل من نفس العام رسالة يخاطب فيها الوفد الممثل لعرب فلسطين، اتهمهم فيها "بعدم التعاون"، وأكد أن بريطانيا لن تلغى تصريح بلفور، ولن تتخلى عن فكرة إقامة وطن قومي لليهود. وكان الكتاب البريطاني الأبيض لعام 1922 قد أكد على تمسك بريطانيا بهذه السياسة.

ونتيجة لهذا التعنت فقد العرب كل أمل يمكن تعليقه على بريطانيا، فأرسلت اللجنة التنفيذية العربية في يوليو عام 1922 إلى الوفد الفلسطيني الذي يفاوض البريطانيين في لندن لكي يرجع إلى البلاد ، بعد أن يعلن لحكومة التاج البريطاني رفض الأمة كلها للانتداب، وعزمها على مواصلة الكفاح لنيل الاستقلال فاشتعلت الساحة بأعمال المقاومة العربية والرد البريطاني القاسي.

وكان البريطانيون يصرون على استفزاز مشاعر العرب، وإشعارهم بصورة مكررة بأنه لا فائدة من مقاومة إنشاء الدولة الصهيونية، فَزَارَ بلفور فلسطين في مارس من عام 1925 بدعوة من الوكالة اليهودية؛ ليشارك في افتتاح الجامعة العبرية بالقدس، فقوبل بمظاهرات عربية تندد به وبسياسة بلاده، وعمَّ الإضراب أغلب أنحاء فلسطين، ومع ذلك أكمل بلفور مهمته، وعبر عن تأييده للاستيطان الصهيوني بزيارة بعض المستعمرات اليهودية في القدس وغيرها.

 

6- بريطانيا ومحاولات شق الصف الفلسطيني:

لم يتفق الصف الإسلامي ولا العربي على سياسة عملية تحول دون قيام الدولة الصهيونية؛ إذ كان الاستعمار الغربي مع بدايات القرن العشرين يُكبِّل الكثير من بقاع العالم الإسلامي.

لذلك كان الاعتماد الأكبر ـ حتى نشوب الحرب في عام 1948 ـ على جهود عرب فلسطين مسلمين ومسيحيين، مما أقلق الجماعات الصهيونية وبريطانيا معا، فلجأ الاحتلال البريطاني إلى كسر الشوكة الفلسطينية بالتفريق بين العائلات الفلسطينية الكبيرة، وبث أسباب النزاع والخلافات فيما بينها، خاصة في القدس.

ومن نماذج ذلك، محاولة البريطانيين عقب وفاة مفتي القدس الشيخ كامل الحسيني في مارس 1921 ـ الإيقاع بين عائلتي النشاشيبي والحسيني، وإشعال الصراع بينهما حول منصب الإفتاء، وقد عُيِّن الشيخ أمين الحسيني في هذا المنصب لتفادي إثارة الحركة الوطنية الفلسطينية التي كان يتزعمها الشيخ موسى كاظم الحسيني.

وتجدد الخلاف بين العائلتين عام 1923 في أعقاب المؤتمر الفلسطيني السادس، وكانت "اللجنة التنفيذية العربية" تتزعم الجهود الوطنية الفلسطينية حينئذٍ، ولآل الحسيني في ذلك ضلع ظاهر وجهد وافر، ونتج عن الصراع بين آل الحسيني وآل النشاشيبي تشرذم الجهود الوطنية الفلسطينية ـ وهو الأمر الذي كانت تشعل بريطانيا نيرانه ـ حتى نشأت أحزاب فلسطينية مناوئة "للجنة التنفيذية العربية" مثل "الحزب الوطني" الذي كان ميَّالاً للتعاون مع حكومة الانتداب.

وكانت عواقب هذا الشقاق وخيمة؛ وهو ما دل عليه المؤتمر الفلسطيني السابع الذي عُقد سنة 1928، وضمَّ وُجوهًا مشبوهةً اندست في صفوف المجاهدين والوطنيين، وكادت تميل بالرأي نحو إقامة حكومة وطنية في ظل الانتداب البريطاني، لولا إدراك بعض الوطنيين لخطورة ذلك.

 

7- مشروع الدولة الصهيونية والمندوب السامي البريطاني:

كان اللقب الرسمي الذي تمنحه بريطانيا لمسئولها الأول في كل واحدة من مستعمراتها هو: "المندوب السامي"، وقد تولى هذا المنصب في فلسطين مجموعة من الشخصيات سعت كلها إلى تحقيق مشروع الدولة اليهودية في الواقع.

وأول هؤلاء المندوبين هو هربرت صموئيل، وكان معروفا بصهيونيته المتطرفة، وتولى مسئوليته في يوليو من عام 1920، وأدق وصف ينطبق عليه هو ما قاله عنه وايزمان الزعيم الصهيوني الشهير: "نحن الذين وضعناه في هذا المركز، إنه صموئيلنا"!!

ومن خدمات صموئيل لمشروع الدولة الصهيونية إصداره قانون الهجرة في أغسطس سنة 1920، الذي سُمح بموجبه بدخول 16500 يهودي إلى فلسطين في السنة المذكورة وحدها، وتبعته حزمة من القوانين التي صبت في اتجاه تسهيل سيطرة الصهاينة على الأرض الفلسطينية، وتكريس وجودهم في فلسطين كحقيقة واقعية، وآخر هذه القوانين أصدره صموئيل في عام 1925، وهو خاص بالجنسية الفلسطينية، حيث أُتيح لليهود اكتساب هذه الجنسية بسهولة.

وتولى المندوب السامي الثاني بلومر في أغسطس عام 1925، واقتفى آثار سلفه في دعم مشروع الدولة الصهيونية بسن القوانين التي توسّع مدى الهجرة الصهيونية، وتمنح اليهود فرصة أوسع لتملك الأرض العربية، واكتساب الجنسية الفلسطينية.

ومن أهم أعمال بلومر في هذا الاتجاه: تطبيقه ما سمى بقانون الأشغال العامة، الذي أتاح فرص عمل لأعداد كبيرة من العاطلين اليهود الذين استشرت البطالة بينهم، وأدت إلى فرارهم من فلسطين إلى بلاد أخرى تتاح لهم فيها فرص أفضل للعمل واكتساب الرزق، فأنقذهم بلومر بهذا القانون.

وكانت حصيلة جهود بلومر زيادة عدد اليهود في فلسطين ثلاثين ألفا، وزيادة مائة ألف دونم جديدة في الرقعة التي يمتلكونها في فلسطين.

وتولى جون تشانسلور منصب المندوب السامي لبريطانيا في فلسطين بين عامي 1928 و1931، وكان طبيعيا أن يواصل سياسة من سبقه من المندوبين، فسكت على استيلاء الصهاينة بالقوة على أرض العرب، وتشريدهم لأصحابها، واستفزازهم للعرب. وفي المقابل أعرض عن المطالب العربية بتكوين مجلس تشريعي منتخب. وقد أدى هذا كله إلى "ثورة البراق" التي واجهها البريطانيون بقسوة شديدة، وانحازوا فيها تماما إلى جانب اليهود.

وواصل آرثر واكهوب الذي تولى منصب المندوب السامي في أكتوبر سنة 1931 ـ واصل سياسة أسلافه في تدعيم مشروع الدولة الصهيونية، والتعنت مع المطالب العربية بإنشاء حكومة نيابية، والامتناع عن بيع أرض العرب لليهود ـ كما فعل في عام 1936.

 

8- انتفاضات فلسطينية ضد الاحتلال البريطاني

لم تقتصر جهود الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال البريطاني لبلادهم على الاحتجاج والتظاهر، وإنما تجاوزوا ذلك إلى الانتفاض واستخدام القوة لاستخلاص وطنهم من القيد.

ومن أشهر انتفاضاتهم هذه ما جرى في عام 1933، حيث أصدرت اللجنة التنفيذية العربية بيانا في شهر مارس تحذر فيه من استمرار نزوح اليهود إلى فلسطين، واستيلائهم على الأرض العربية.

وتبع ذلك عقد اجتماع في مدينة يافا، أُقرت فيه مقاطعة الحكومة والبضائع البريطانية والمنتجات الصهيونية، وسط قلق بالغ من دعوة المؤتمر الصهيوني الثامن عشر المنعقد في مدينة براغ التشيكية إلى الإسراع في جهود بناء الوطن القومي اليهودي.

وبدأت التظاهرات العربية تحتشد في شهر أكتوبر في القدس ويافا، وتبعتها أخرى في معظم المدن والقرى الفلسطينية، فواجهوا المتظاهرين بالرصاص، فاستُشهد ستة وعشرون شخصا، وجُرح مائة وسبعة وثمانون آخرون، وقُتل من البوليس الإنجليزي جندي واحد، وجرح ستة وخمسون.

واستأنف العرب تظاهراتهم في يناير من عام 1934، فواصل البريطانيون بدورهم مواجهة المتظاهرين بالقوة، لكن القنابل المسيلة للدموع لم تثن من عزيمة الفلسطينيين، حتى أصيب رئيس اللجنة التنفيذية العربية موسى كاظم الحسيني في مارس من هذا العام في إحدى التظاهرات على يد البوليس الإنجليزي، مما أدى إلى وفاته.

وجاء عز الدين القسام ومواجهاته المسلحة ضد البريطانيين تمهيدًا للثورة الكبرى في فلسطين، فقد استشهد القسام في إحدى هذه المواجهات مع بعض رفاقه في نوفمبر من عام 1935، فاستُنفر الشعور الفلسطيني أمام هذا المثل البارز للتضحية، وزاد من الاستنفار اتساع رقعة الأرض التي يمتلكها اليهود في فلسطين وازدياد عدد الفلاحين العرب الذين يُطردون من أرضهم يوما بعد يوم، وضغط الاستعمار والصهيونية للتضييق على العرب ـ خاصة اقتصاديا، عن طريق سن القوانين التي تحمي الصناعات الصهيونية، وتمكين الصهاينة من الاستيلاء على موارد البلاد.

وتقدم العرب من جديد بمطالبهم بإقامة حكومة وطنية، ووقْف الهجرة اليهودية، والامتناع عن بيع الأراضي لليهود؛ لكن البريطانيين تابعوا تعنتهم، ورفضوا هذه المطالب.

اتجه أتباع القسام إلى الإعداد للمواجهة مع البريطانيين والصهاينة، فقُتل اثنان من اليهود في شهر أبريل من عام 1936، فرد الصهاينة بقتل عاملين من العرب، والتهب الجو عقب ذلك، فقامت تظاهرات عربية في حيفا اشتبكت مع اليهود، فقُتل سبعة يهود وجُرح 29، في مقابل جرح 25 عربيا، ومقتل اثنين.

وردَّ البريطانيون بحظر التجول، وتطبيق قانون الطوارئ، فأعلن العرب الإضراب العام، الذي انتشر وعم المدن والقرى، ولم يفلح أحد في قطعه، فانقلب إلى عصيان مدني. وبدلا من تهدئة الخواطر العربية لجأ المحتل البريطاني إلى تكثيف وجوده العسكري في فلسطين، واستقدم بعض قواته في مصر ومالطة، وواجه الثورة بعشرين ألف جندي.

واشتد الاضطهاد والعسف البريطاني، وكثر الحكم بالإعدام والحبس المؤبد ضد الفلسطينيين، ونُسف 93 من منازلهم تأديبا لأصحابها لمشاركتهم في الثورة.

ولم يتوقف الإضراب الذي أعجز الساسة البريطانيين إلا بنداء الملوك والزعماء العرب للثوار بإيقافه، فتوقف في أكتوبر من عام 1936. ومع ذلك استمرت بعض أعمال الثورة حتى سنة 1939 عند وفاة أحد قادتها اللامعين، وهو عبد الرحيم الحاج محمد.

 

9- ثورة البراق:

الجدار الغربي للحرم القدسي موضع من مواضع الجدل الديني الكبير بين المسلمين واليهود، فالمسلمون يعتقدون أن الموضع القائم هناك باسم "حائط البراق" هو الذي ربط عنده جبريل ـ عليه السلام ـ البراق الذي ركبه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الإسراء والمعراج، وأن دخول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المسجد الأقصى كان من هذه الناحية.

وفي المقابل يعتقد اليهود أن هذا الحائط هو البقية الأخيرة المتبقية من معبد هيرودس الروماني الذي بُني سنة إحدى عشرة قبل الميلاد على بقايا هيكل سليمان ـ عليه السلام ـ ويسمون الحائط باسم "حائط المبكى" ـ أو جدار المناحة ـ حيث يبكون وينوحون على تدمير القدس والمعبد. غير أن هذا الاسم لم يظهر إلا في زمن متأخر، حيث تناوله الرحالة الأوروبيون في تلافيف حديثهم عن زيارتهم للقدس وأرض المشرق.

وقد أثار الحائط نزاعا شديدًا بين المسلمين واليهود بعد أن قَوِيَ التواجد اليهودي في القدس وفلسطين، فشكل المحتل البريطاني لجنة للتحكيم بين الفريقين، فضًّا للنزاع المحتدم، ولم تَجِدِ اللجنة ما تحكم به لليهود، فحكمت للمسلمين بأحقية تملك جميع المنطقة المحيطة بالجدار الغربي من الحرم، وباعتباره وقفا إسلاميا خالصا.

وكان هذا الحكم من لجنة التحكيم حلقة في النزاع الذي احتدم بقوة بين العرب واليهود على حائط البراق التاريخي، فقد استُثير المسلمون بشدة حين قام اليهود في عيد الغفران اليهودي عام 1928م بتجميع الآلاف من نسائهم ورجالهم عند الحائط التاريخي، وأعدوا المكان لأداء طقوسهم، ونفخوا في البوق، ورفعوا صوَرًا عليها هيكلهم البديل عن المسجد الأقصى، فعمت عرب القدس موجة من الغضب العارم، سُرعان ما تسربت إلى مدن فلسطينية أخرى، حتى عمت فلسطين كلها، وتدخل البريطانيون للتخفيف من حدة الأمر، فحكمت اللجنة البريطانية بتملك المسلمين للجدار الغربي وما جاوره.

لكن هذا الحكم لم يسكّن الأوضاع المتأزمة، وظل اليهود يجترئون على المسلمين، ويستفزون مشاعرهم، بل استخدم الصهاينة قضية الحائط لإثارة حماس أبناء دينهم، وجمْعِ الأموال والتبرعات لمساندة حلم الوطن القومي اليهودي في فلسطين.

وفي تطور جديد للموقف قامت تظاهرة يهودية حاشدة في شوارع القدس يوم الخامس عشر من أغسطس ـ آب عام 1929م، وطاف المتظاهرون بشوارع القدس، حتى وصلوا بالقرب من حائط البراق، فرفعوا علمهم، وأنشدوا نشيدهم القومي، وتطاولوا على المسلمين بالألسن.

وفي اليوم التالي، وكان يوم جمعة، حلت ذكرى المولد النبوي الشريف، فاحتشد المسلمون في الأقصى من القدس والمناطق المجاورة، وساروا في تظاهرة نحو الحائطِ موضعِ النزاع، وهناك ألقى خطيب المسجد الأقصى خطبة ألهبت حماس الجماهير، فأحرقوا بعض متعلقات اليهود عند الحائط.

 

وفي يوم السابع عشر من سبتمبر نشب شجار شديد بين شاب مسلم وآخر يهودي، فتدخلت الشرطة البريطانية لفض النزاع، وألقت القبض على المسلم بتهمة ابتداء النزاع الدموي، وقام اليهود على أثر ذلك بالاعتداء على منازل العرب. وسرعان ما تطورت الأزمة بوفاة الشاب اليهودي، فتحولت جنازته إلى تظاهرة صهيونية سياسية ضد العرب. وبدا أن هناك تبييتا من كلا الطرفين للآخر، فاليهود يبيتون الاعتداء للسيطرة على الحائط، والمسلمون يبيتون الحذر لدفع صولة اليهود عنهم.

وانتشرت الأخبار في القرى العربية حول القدس بنيَّة الصهاينة مهاجمة حائط البراق، فأقبل المسلمون نحو القدس بأعداد كبيرة في صباح الجمعة الثالث والعشرين من سبتمبر، وقد تسلحوا بما استطاعوه من العِصِيِّ والسيوف والمسدسات، وعقب الصلاة هاجم المسلمون أحياء اليهود في القدس، ولم يمنعهم من ذلك النيران التي فتحها البوليس عليهم، ولا الطائرات البريطانية المحلقة فوقهم.

وانتشرت الأخبار في المدن الفلسطينية، فعمَّتْها الثورة، واشتعلت نيرانها في الخليل ونابلس وصفد وغيرها ضد اليهود ومعهم الإنجليز الذين أطلقوا النيران على المتظاهرين العرب، وتدخلوا في القتال إلى جانب اليهود، وحكموا بالإعدام على اثنين من عرب الخليل وواحد من عرب صفد، ونُفِّذ فيهم الحكم صباح السابع عشر من يونيو من سنة 1930م.

وكان حصاد القتال في ثورة البراق مائة وستة عشر شهيدًا عربيًا، ومائة وثلاثة وثلاثين قتيلا صهيونيا، وجرحى من اليهود عددهم ثلاثمائة وتسعةٌ وثلاثون، ومن المسلمين مائتان واثنان وثلاثون.

 

النزاع على حائط البراق:

شكلت عصبة الأمم سنة 1930 لجنة دولية للحكم في النزاع بين المسلمين واليهود في ملكية حائط البراق (الجدار الغربي للمسجد الأقصى، ويطلق عليه اليهود اسم: حائط المبكى)، واستمعت اللجنة خلال اجتماعاتها إلى عدد كبير من المواطنين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود وقتئذ، ودرست الشواهد والآثار التاريخية للحائط موضوع النزاع، وأخذت بعين الاعتبار الصلح الموقع عام 632م بين الخليفة الراشد عمر بن الخطاب والبطريرك صفرونيوس زعيم مسيحيي القدس، والذي نص على أن النصارى، ويُطلق عليهم المسيحيون في زماننا المعاصر، اشترطوا على المسلمين ألا يسمحوا لليهود بالدخول إلى القدس أو العيش فيها. وقد عرض الجانب اليهودي على اللجنة 35 وثيقة ومستندا، مقابل 26 وثيقة من العرب المسلمين. وفي ديسمبر (كانون الأول) من عام 1930 أعلنت اللجنة قراراتها، ورفعتها إلى عصبة الأمم وحكومة الانتداب البريطاني، وكانت على الشكل التالي في مجملها: "للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه؛ لكونه يؤلف جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف التي هي من أملاك الوقف.. وإن أدوات العبادة وغيرها من الأدوات التي يحق لليهود وضعها بالقرب من الحائط بالاتفاق بين الطرفين، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تعتبر، أو أن يكون من شأنها إنشاء أي حق عيني لليهود في الحائط أو في الرصيف المجاور له". "ويُمنع اليهود من جلب المقاعد والسجاجيد والحصر والكراسي والستائر والدواب لقرب الحائط"، "ولا يسمَح لليهود بنفخ البوق بالقرب من الحائط"، "ومن حق المسلمين وواجبهم تنظيف الرصيف المقابل للحائط وإصلاحه، متى كان ذلك ضروريا".

(مقال بمجلة الأزهر: عدد ذي الحجة 1418هـ  أبريل 1998م).

 

 

 

10- السياسات البريطانية الممهدة للدولة الصهيونية:

جاء وعد بلفور على رأس السياسات البريطانية التي مهَّدت لقيام الدولة الصهيونية، لكنه كان "مجرد وعد" تنقصه سياسات فعلية تصب في اتجاه القيام الفعلي للدولة، وهو أمر تكفل البريطانيون به أثناء الانتداب الإنجليزي على فلسطين الذي بدأ عام 1923م وانتهى عام 1948. ففي ظلال الوجود البريطاني في القدس وفلسطين، سُمِح بالهجرة اليهودية الكثيفة المنظمة إلى الأرض المباركة، حتى وصل عدد هؤلاء المهاجرين إلى قريب من نصف مليون مهاجر في أقل من ثلاثة عقود (ثلاثين سنة)، فبلغ عدد السكان اليهود في القدس وحدها أكثر من تسعة وتسعين ألفًا في عام 1946، واستلزم ذلك توسعًا في العمران وإقامة المستعمرات، بل إعادة تخطيط المدينة نفسها، فقسم المهندس البريطاني "مكلين" القدس أربعة أقسام: القدس القديمة وتقع داخل الأسوار، والمناطق المحيطة بالمدينة، والقدس الشرقية، والقدس الغربية.

وفتح البريطانيون لليهود دون المسلمين باب التشييد والبناء، فزرعوا المستوطنات والمستعمرات في أنحاء القدس الغربية، حتى تفاقم وجودهم هناك، وأصبح الوجود اليهودي الكثيف في القدس وعموم فلسطين واقعًا تنقصه بعض الملامح ليتحول إلى دولة.

وفي عام 1947م كان اليهود في القدس الغربية وحدها ثمانية وثمانين ألف نسمة، وكان العرب حينها لا يتجاوز عددهم هناك ألفًا وخمسمائة نسمة.

وتلاعب البريطانيون بالحدود البلدية للقدس لصالح الدولة الموعودة، فأدخلوا مزيدًا من الأحياء اليهودية في حدود المدينة، وأخرجوا أحياء وقرى عربية عتيقة منها، مثل: الطور وسلوان والعيسوية وشعفاط وبيت صفافا، ليتيحوا لليهود فرصة تمثيل أكبر في الحكم المحلي للقدس.

وكان من الطبيعي، نتيجة للسياسات البريطانية، أن تتسع المدينة اتساعًا كبيرًا، فبلغت مساحتها عام 1947م أكثر من تسعة عشر ألف دونم (الدونم يساوي ألف متر مربع)، خمسة في المائة منها فقط داخل أسوار القدس القديمة، وخمسة وعشرون في المائة في حوزة اليهود، وسبعة عشر بالمائة للطرق والساحات العامة، والباقي في حوزة العرب.

وفي الناحية الإدارية وضع الانتداب البريطاني على فلسطين وجوها تتقن تنفيذ السياسات الداعمة لقيام الكيان العبري، وتتحمس لهذا التنفيذ، وعلى رأس هؤلاء: المندوب البريطاني الأول على فلسطين "هربرت صموئيل"، وهو يهودي صهيوني مكث في موقعه هذا من عام 1920 إلى عام 1925، وابتدأت في عهده أعمال الحفر الأثرية الواسعة؛ بغية العثور على ما يثبت أي وجود تاريخي لليهود في فلسطين.

 

دعم الإنجليز للدولة الصهيونية:

من خطاب لورد جراى في مجلس اللوردات، مارس سنة 1923:

"إن قيام وطن صهيوني يعني حتمًا قيام حكومة صهيونية، في المناطق التي تشملها حدودها هذا الوطن، وإذا كان ثلاثة وتسعون في المائة من سكان فلسطين هم من العرب، فإنني لا أرى كيف يمكن إقامة شيء آخر، سوى حكومة عربية دون الإضرار بحقوق اليهود. ويخيل إلى أن وعد بلفور ينطوي ـ دون أية مبالغة ـ على صعوبة عظمى في تحقيقه".

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، جـ 1 ص 461).

 

 

11- وعد بلفور

عمل الاستعمار الغربي على أن يستفيد من التواجد اليهودي على أرضه بزرعهم في قلب المنطقة العربية، ليكونوا كرأس حربة تحمي المصالح الاستعمارية في المنطقة، وليتخلص الغربيون من الأزمات الاجتماعية التي تصاحب التواجد اليهودي بينهم.

وقد سعت بريطانيا بالذات سعيًا حثيثًا لزرع هذه الحربة وتركيزها في منطقة القلب من العالم العربي والإسلامي، ووقفت التصريحات الرسمية إلى جوار الممارسات الفعلية تدعم إقامة الدولة اليهودية الصهيونية، ففي عام 1840م طالب وزير الخارجية البريطانية "بالمرستون" بمنح فلسطين لليهود، وسوغ ذلك بقوله: "إن  فلسطين اليهودية ستكون سدًا في وجه أي محاولات شريرة لإنشاء دولة عربية تضم مصر والشام، وتهدد مصالحنا من جديد"!

لكن أهم التصريحات والوعود بإقامة دولة صهيونية على أرض فلسطين، على الإطلاق ـ هو وعد بلفور الذي تحدث فيه بلفور ـ وزير خارجية بريطانيا باسم ملك بريطانيا في رسالة رسمية وُجهت من وزارة الخارجية البريطانية في الثاني من نوفمبر سنة 1917، إلى اللورد اليهودي روتشيلد عضو مجلس اللوردات البريطاني، وكبير الرأسماليين الصهاينة في بريطانيا ـ وقد وعد كاتبو الرسالة ببذل غاية الجهد لتحقيق قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين.

وعقب هذا الوعد خاطب بلفور مجلس وزرائه بقوله: "الصهيونية ـ سواء أكانت على حق أم باطل، حسنةً أم سيئة ـ تضرب جذورها في تقاليد قديمة جدًا. وهي للحاجات الراهنة ، وللآمال المستقبلية أكثر أهمية من رغبات وأهواء السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون في تلك الأرض القديمة"!!

ووصف القانونيون ورجال السياسة في العالم هذا الوعد حينئذ بأنه "وثيقة بمقتضاها قطعت أمة وعدا رسميا لأمة أخرى بمنحها بلاد أمة ثالثة.. إنه عطاء من لا يملك لمن لا يستحق"!!

 

تصريح بلفور:

وزارة الخارجية: في الثاني من نوفمبر سنة 1917

عزيزي اللورد روتشلد، يسرني جدًا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:

"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليًا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى".

وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علمًا بهذا التصريح.

المخلص: آثر بلفور

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، جـ 1 ص285).

ـ احتجاج المؤتمر العربي الفلسطيني الثالث إلى الحكومة البريطانية وبرلمانها على وعد بلفور:

المؤتمر الفلسطيني العربي الثالث، الممثل لجميع طبقات الشعب الإسلامي والنصراني، يتظلم من تصريح بلفور بالوطن القومي لليهود ومهما بولغ في تلطيفه وتأميننا من شره فهو مخالف لكل الشرائع السماوية والوضعية:

1  اعتداء على حقوقنا الطبيعية بانحصار وطننا بنا لتناسلنا فيه وعمارتنا له منذ بضعة عشر قرنًا ووراثتنا له عن آبائنا الذين اشتروه بدمائهم.

2  خرق لحرمة الحقوق الدولية التي زعم الحلفاء أنهم خاضوا الحرب من أجلها والتي لا تجوز أن تسلب رعية الدولة المغلوبة حق توطنها في وطنها أو أن يعتبر ذلك الحق غنيمة حربية تعطية الدول الغالبة لمن شاءت، بل إن حقوق الفتح في القرون الخالية قصارى ما كانت تأتيه إجلاء العشب المغلوب عن بلاده.

3  انتهاك حرمة الشرائع المدنية التي تعد وطن الشعب كمسكن الفرد ليس لغيره حق مشاركته فيه إلا أن يثبت بكثرة جنسيته أو بحدود جغرافيته، وليس لليهود في بلادنا إلا سبعة في المائة من النفوس واثنان في المائة من الثروة.

4  عبث بالعهود التي قطعها الحلفاء بينهم بتحرير الشعوب الخارجة عن تركيا، وهزء بوصايا ولسن وبدماء شهداء الحرب التي سفكت وفاء بتلك العهود، ولا سيما بالعرب الذين منحوا الحلفاء دماءهم وسيوفهم.. إن دول عصبة الأمم ولا سيما ذوات المصالح في الشرق أحكم من أن تسدد إلى الشرق هذا السهم وأن تضرب العالمين: الإسلامي والمسيحي في الموضع الحساس من نفسه في دينه ومقدساته. وأن تتركنا نولى وجوهنا شطر ذينك العالمين نستثير حميتها وإننا لا نكون مسئولين عن نتائج هذا التصريح وما سيكون له من الآثار في الشرق التي من أولها جلب البلشفية .. كما ظهر ذلك في فلسطين من الأعمال والنشرات اليهودية البلشفية.

إن فلسطين تضيق بسكانها، فكيف بشعب غريب أصبح يتدفق إليها كالسيل العرم؟..

ونوجه نظركم إلى أن إنجلترا آخذة في تنفيذ تصريح بلفور على الرغم منا.

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، جـ 1 ص346 ـ 347).

ـ برقيات الجمعيات والشخصيات الفلسطينية إلى مجلس جمعية الأمم بلندن برفض الانتداب ووعد بلفور:

* إلى مجلس جمعية الأمم بلندن:

"النهضة الاقتصادية" ـ لتحققها أن "صلك الانتداب" لفلسطين يقضي على حقوق العرب الاقتصادية ـ تؤيد بكل قواها قرار اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني برفض الانتداب وسائر الطلبات.

جمعية النهضة الاقتصادية العربية ـ حيفا

* إلى مجلس جمعية الأمم بلندن:

جمعية تهذيب الفتاة الإسلامية، وجمعية السيدات المسيحية بحيفا باسم المرأة العربية في فلسطين تناشدان فروسة أجيال الحروب الصليبية العدول عن إهانة البلاد المقدسة بجعلها وطنًا قوميًا لليهود، وتؤيدان الجمعيات الإسلامية والمسيحية برفض الانتداب وطلب الاستقلال.

عن جمعية تهذيب الفتاة

وجمعية السيدات المسيحية

عقيلة سعد ـ عقيلة خليل

* إلى مجلس جمعية الأمم بلندن:

حلقة الأدب بحيفا ترى أن سياسة الانتداب لفلسطين تقضي على حياة اللغة العربية وآدابها. وتؤيد بكل قواها قرار اللجنة التنفيذية برفض الانتداب وسائر الطلبات.

حلقة الأدب بحيفا

* برقيتا عكا إلى مجلس جمعية الأمم بلندن:

نؤيد وفدنا الفلسطيني بجميع مطالبه برفض الانتداب ووعد بلفور ونطلب الاستقلال والوحدة السورية.

عن التجار: أحمد خيزران. عن أصحاب الأملاك : مصطفى فضة. عن أرباب الصناعات: عبد الرحيم ومحمد الباهي، عن المزارعين: محمد كامل الشامي، عن العمال: سعيد اللحام. عن التجار: فوزي العدلوني.

* إلى مجلس جمعية الأمم بلندن:

نحن الموقعين بذيله بما لنا من حق التمثيل نؤيد الوفد العربي الفلسطيني بجميع مطالبه، ونعلن رفض الانتداب والوطن القومي لليهود، ونطالب بالاستقلال والوحدة السورية بحدودها الطبيعية.

ممثلو قضاء عكا: جبرائيل الخوري، سليم نخلة الخوري، إبراهيم بدر. محمد حفظي عبد الحميد. عيسى العبسى، رشيد ميرى، سعيد الياسين. وفول خوام . أحمد فائق الصفدي، محمود دحاج عبده.

* برقية الناصرة إلى مجلس جمعية الأمم بلندن:

نرفض الانتداب الإنجليزي المؤيد لتصريح بلفور الجائر طالبين الاستقلال.

أعيان الناصرة ووجهاؤها

* برقية صفد إلى مجلس جمعية الأمم، ورئيس الوزارة الإنجليزية، ووزير المستعمرات الإنجليزية، نطلب الاستقلال . نرفض الانتداب.

أعيان صفد ووجهاؤها.

* برقية الرملة إلى مجلس جمعية الأمم والوفد الفلسطيني:

يئسنا من العدالة البريطانية، التي رغم عهودها، منحت بلادنا لمتشردي العالم.

نرفض الانتداب البريطاني مع وعد بلفور رغم القول، بأن جمعية الأمم تمثال نحته لويد جورج. راجعناكم لآخر مرة. راجين لآخر مرة، من عدالة أوروبا المسيحية عدم إعطاء قرار يكون أتونًا مستديمًا في فلسطين.

أعيان الرملة ووجهاؤها.

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، جـ 1 ص 444 ـ 446).

ـ خطاب بلفور في مجلس اللوردات (يونيو سنة 1922):

"إني لأعتقد، من وجهة نظر مادية خالصة، أن السياسية التي اتبعناها ستثبت كسياسة ناجحة، ولكننا لم ندع مطلقًا، وفي وسعي أن أقول: إنني لم أدع ذلك قط، إن تصريح الثاني من نوفمبر من عام 1917 قد صدر نتيجة هذه الاعتبارات المادية وحدها، وأنا لا أعتبر هذا التصريح حلاً، وإنما مجرد حل جزئي للمشكلات اليهودية الكبيرة والمستمرة.

"وقد تحدث صديقنا النبيل، وأنا أصدقه تمام التصديق، فقال: إنه لا يحمل أية حزازات ضد اليهود. وإني لعلى ثقة بدوري، من أنني غير متحيز إلى جانبهم، ولكنني أقول إنهم ينفردون في أوضاعهم وتاريخهم وعلاقتهم بالديانات والسياسات العالمية، فليس لهم نظير في ذلك. بل ليس ثمة من يشابههم في ذلك أي فرع آخر من فروع التاريخ الإنساني، فهناك جنس بشري صغير العدد. كان يعيش في البداية في بلاد صغيرة لا تزيد في مساحتها على مساحة ويلز أو بلجيكا، بل إنها تضاهيهما في المساحة، ولم تكن لهذا الشعب في أي وقت من تاريخه قوة مادية، وإنما كان يسحق دائمًا بين ممالك شرقية عظيمة، وكان أبناؤه يبعدون ويشردون ثم يطردون من البلاد ليتبددوا في سائر أرجاء العالم، محتفظين ـ رغم ذلك ـ بدينهم وتقاليدهم العنصرية التي لا مثيل لها في أي مكان آخر، ولا ريب في أن هذا وحده في غاية الأهمية، وعلينا أن نفكر، ولعلى هذا التفكير لا يطيب لنا، وإن كنا لا نستطيع النسيان، بما عومل به هذا الشعب طيلة قرون طويلة في أرجاء مختلفة من العالم، بل إن هذه المعاملة ـ التي أتحدث عنها ـ ما زالت ماثلة حتى هذه اللحظة التي أتحدث إليكم فيها، أجل فكروا، كيف تعرض هذا الشعب للطغيان والاضطهاد، وكيف أن حضارة أوروبا كلها، بل نظامها الديني كله، كانا مسئولين عن الجرائم الفظيعة التي لحقت بهذا الشعب. وأنا لا أنكر أن بعض أفراد هذا الشعب قد سببوا بتصرفاتهم السيئة مثل هذه المعاملة، إذ لا أدري سببا آخر لذلك، ولكن لو أكدنا هذه الناحية فإن علينا ألا ننسى ـ في الوقت نفسه ـ ما قدمه هذا الشعب من إسهام فكري وفني وفلسفي وعلمي في تطوير العالم.

"وقد تمنى سياستنا بالفشل، فأنا لا أنكر أن ما نحن مقدمون عليه مغامرة، ولكن ألا يخطر في بالنا أن نقوم بمغامرات؟ أو ليس من حقنا أن نقوم بتجارب جديدة؟ إن ما آمله ألا يهبط سادتي اللوردات إلى ذلك المستوى من الافتقار إلى الخيال، وأن يجدوا للتجربة والمغامرة كل ما يبررهما، إذا كان لابد من وجود قضية للتبرير، ولا ريب في أن علينا أن نوجه رسالة إلى كل بلاد توزع فيها الشعب اليهودي ـ نقول لأفراد هذا الشعب . إن المسيحية لا تتجاهل ديانتهم ولا تنسى الخدمات الجليلة التي قدموها إلى ديانات العالم العظمى، ولا سيما إلى الديانة التي تؤمن بها غالبية لوردات هذا المجلس، وإننا نود بكل ما لدينا من طاقة أن نتيح لهم الفرصة لأن ينموا في ظلال الهدوء والسلام تحت الحكم البريطاني تلك المواهب العظيمة التي كانوا مرغمين على تنميتها وإنضاجها في بلاد لا تعرف لغتهم، ولا تمت إلى عنصرهم.

هذا هو الهدف المثالي الذي أتطلع إلى تحقيقه، وهذه هي الغاية التي تكمن وراء هذه السياسة التي أحاول الدفاع عنها، وبالرغم من صلاح هذه السياسة للدفاع في كل مجال وعلى كل صعيد، فإن هذا الصعيد هو الذي يؤثر على أكثر من غيره".

(ملف وثائق وأوراق القضية الفلسطينية: علي محمد علي، جـ 1 ص 434 ـ 435).