موقع القدس


الصفحة الرئيسية لموقع القدس
تاريخ القدس القديم |  قبل الإسلام |  الرومان والقدس |  منذ الفتح الإسلامي |  عهد الأمويين |  عهد الفاطميين |  الإحتلال الصليبي
عهد الأيوبيين |  عهد المماليك |  عهد العثمانيين |  العهد العباسي |  عهد الطولونيين |  الإحتلال البريطاني |  الإحتلال الصهيوني
الصحابة |  علماء وزهاد |  مؤرخون ورحالة |  نساء |  أدباء |  شخصيات فلسطينية وعربية
القدس في التاريخ |  مكانة القدس |  الموقع الفلكي |  كنيسة القيامة |  موقف العرب |  المقاومة |  برنامج القدس
دعم أمريكا لإسرائيل |  القضية الفلسطينية في قرنين |  إحصائيات عن اليهود |  الصهيونية
العهدة العمرية واللورد بالمرستون ونابليون والبيع لليهود ورد الشريف حسن ووعد برلفور
صور القدس 1 |  صور القدس 2 |  صور القدس 3 |  صور القدس 4 |  صور القدس 5 |  مواقع

1)- القدس قبل الأسلام

1- مدينة الإنسان

لم يكن هبوط آدم وحواء من الجنة عقوبة بقدر ما كان إمضاءً لسنة إلهية قضت بأن يعيش الإنسان رحلة حياته الأولى في دارٍ يُبنَى العيشُ فيها على ثنائية الراحة والتعب.

وقد التمس الإنسان لنفسه فيما علّمه الله تعالى وألهمه ـ أسبابًا تجلب له الراحة، وتدفع عنه التعب والنصب، وكان اتخاذ البيوت والمنازل واحدًا من أبرز هذه الوسائل وأهمها.

في البدء كانت البيوت متناثرة متباعدة، تعتمد على ما يتوافر في الأرض وعليها من موادَّ، فهذا بيت من شَعْر، وذاك منزل من حَجَر... وسكن الإنسان الكهوف ـ كبيوت جاهزة ـ في بعض مراحل حياته فوق الأرض.

ومع استمرار مسيرة الزمن دنت البيوت من البيوت، وتقاربت حيطانها، وكثرت أعدادها وأصبح الناس يرون كل مجموعة من البيوت وحدة واحدة. وعلى أكتاف هذه الوحدات قامت فكرة القرى والمدن. ومشى الإنسان على الأرض زمنًا، يبعثر في أنحائها القرى والمدن: على مجاري الأنهار، وفي الأودية والبقاع التي تَخْصُب فيها الزراعة، وحيث تَنْصَدِعُ الأرض فتُنبت الحب والثمار، وحيث ينشط مرور التجّار..

ويا لها من رحلة طويلة وعجيبة، حملت فيها الأرض أثقالاً وأثقالاً فوق ظهرها؛ مدنًا وقرىً، لكن هل تستوي المدن جميعًا، فتقف على درجة واحدة من عراقة التاريخ، وتلبس ثياب الطهر وأزياء القداسة.

لقد تفاوتت مقامات المدن ودرجاتها، حتى علا بعضها في الذُّرَى حيث لا يُلحق، واكتفى بعضها الآخر بطرف من المجد، وبقي الكثير مغمورًا في إطاره المحلي لا يتعداه.. ومن النجوم البازغة في سماء المدن مكة والمدينة والقدس، وكذلك دمشق وبغداد وطيبة وروما وقرطبة، وغيرها...

وإذا كان لكل مدينة موضعها وموقعها الجغرافي الخاص بها، فإن لكل واحدة منها أيضًا شخصيتها التي تميزها.. والقدس، أو بيت المقدس، أو أورشليم، أو إيلياء ـ هي إحدى الأمهات الكبرى للمدن التي شيدها الإنسان فوق ظهر الأرض، بل هي زهرة مدائن الدنيا. المدينة:

"قالت الحكماء: أحسن مواضع المدن أن تجمع خمسة أشياء، وهي: النهر الجاري، والمحرث الطيب، والمحطب القريب، والسور الحصين، والسلطان، إذْ به صلاحُ حالها وأمن سبلها وكف جبابرتها".

و"اعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدعة والسكون، وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار. ولما كان ذلك للقرار والمأوى، وجب أن يراعى فيه دفع المضار بالحماية من طوارقها، وجلب المنافع وتسهيل المرافق لها: فأما الحماية من المضار فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعًا سياج الأسوار، وأن يكون وضع ذلك في ممتنع من الأمكنة، إما على هضبة متوعرة من الجبل، وإما باستدارة بحر أو نهر بها، حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة فيصعب منالها على العدو ويتضاعف امتناعها وحصنها. ومما يراعي في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض، فإن الهواء إذا كان راكدًا خبيثًا، أو مجاورًا للمياه الفاسدة أو لمناقع متعفنة أو لمروج خبيثة، أسرع إليها العفن من مجاورتها؛ فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة، وهذا مشاهَد"…

"وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور: منها الماء، بأن يكون البلد على نهر، أو بإزائها عيون عذبة ثرَّة. فإن وجود الماء قريبًا من البلد يسهل على الساكن حاجة الماء وهي ضرورية، فيكون لهم في وجوده مرفقة عظيمة عامة. ومما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم إذ صاحبُ كلِّ قرارٍ لا بد له من دواجن الحيوان للنتاج والضرع والركوب، ولا بد لها من المرعى، فإذا كان قريبًا طيبًا، كان ذلك أرفق بحالهم، لما يعانون من المشقة في بعده، ومما يراعى أيضًا المزارع؛ فإن الزروع هي الأقوات. فإذا كانت مزارع البلد بالقرب منها، كان ذلك أسهل في اتخاذه وأقرب في تحصيله. ومن ذلك الشجر للحطب والبناء، فإن الحطب مما تعم البلوى في اتخاذه لوقود النيران للاصطلاء والطبخ. والخشب أيضًا ضرروي لسقفهم وكثير مما يستعمل فيه الخشب من ضرورياتهم وقد يراعى أيضًا قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاضية من البلاد النائية".

"ومما يراعى في البلاد الساحلية التي على البحر، أن تكون في جبل، أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد، تكون صريخًا للمدينة متى طرقها طارق من العدو.

والسبب في ذلك أن المدينة إذا كانت حاضرة البحر، ولم يكن بساحتها عمران للقبائل أهل العصبيات، ولا موضعها متوعر من الجبل، كانت في غِرَّة للبيات (أي يمكن مهاجمتها ليلاً بصورة مفاجئة) وسهل طروقها في الأساطيل البحرية على عدوها وتحيُّفه لها، لما يأمن من وجود الصريخ لها، وأن الحضر المتعودين للدعة قد صاروا عيالاً وخرجوا عن حكم المقاتلة، وهذه كالإسكندرية من المشرق، وطرابلس من المغرب، وبونة وسلا، ومتى كانت القبائل والعصائب موطَّنين بقربها، بحيث يبلغهم الصريخ والنعير، وكانت متوعرة المسالك على من يرومها باختطاطها في هضاب الجبال وعلى أسنمتها؛ كان لها بذلك منعة من العدو ويئسوا من طروقها، لما يكابدونه من وعرها، وما يتوقعونه من إجابة صريخها".

[ابن خلدون: عبر، ج2، ص 617-621]

"حكي عن الحكماء أنها قالت: لا تستوطن إلا بلدًا فيه سلطان حاضر، وطبيب ماهر، ونهر جار، وقاضٍ عدل، وعالم عامل، وأسواق قائمة، وقالت الحكماء أيضًا: أحسن المدن هي التي تجمع خمسة أشياء: نهر جار، ومحرث طيب، وحطب قريب، وسور حصين، وسلطان قاهر، إذ به صلاح أهلها وتأمين سبلها".

"أما الأمصار فهي الأوطان الجامعة، والمقصود بها خمسة أمور:

أحدها: أن يستوطنها أهلها طلبًا للسكون والدعة. والثاني: حفظ الأموال فيها من استهلاك وإضاعة. والثالث: صيانة الحريم والحرم من انتهاك ومذلة. والرابع: التماس ما تدعو إليه الحاجة من متاع وصناعة. والخامس: التعرض للكسب وطلب المادة. فإن عدم فيها أحد هذه الأمور الخمسة فليست من مواطن الاستقرار وهي منزل قيعة ودمار. قال الزبير بن العوام رضي الله عنه: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: إن البلاد بلاد الله، فحيث ما وجدت خيرًا فاحمد الله وأقم.

وحظ السلطان في عمارة البلدان والأوطان أوفى من حظ رعيته، لأنه أصل هم فروعه، ومتبوع هم أتباعه.

والذي يعتبر في إنشائها ستة شروط، أحدها: سعة المياه المستعذبة. والثاني: إمكان الميرة المستمدة، والثالث: اعتدال المكان الموافق لصحة الهواء والتربة. والرابع: قربه مما تدعو الحاجة إليه من المراعي والأحطاب، والخامس: تحصين منازله من الأعداء والزعار. والسادس: أن يحيط به سواد يعين أهله بمواده.

فإذا تكاملت هذه الشروط الستة في إنشاء مصر استحكمت قواعد تأييده، ولم يزل إلا بقضاء محتوم، وأجل معلوم.

ثم على منشئ المصر في حقوق ساكنيه ثمانية شروط؛ أحدها: أن يسوق إليه ماء السارية إن بعدت أطرافه، إما في أنهار جارية، أو حياض سائلة، ليسهل الوقوف إليه من غير تعسف، والثاني: تقدير طرقه وشوارعه حتى تتناسب ولا تضيق بأهلها، فيسضر المار بها. والثالث: أن يبني جامعًا للصلوات في وسطه ليقرب على جميع أهله ويعم شوارعه بمساجده. والرابع: أن يقدر أسواقه بحسب كفايته، وفي مواضع حاجته. والخامس: أن يميز اخطط أهله، وقبائل ساكنيه، ولا يجمع بين أضداد متنافرين ، ولا بين أجناس مختلفين. والسادس: إن أراد الملك أن يستوطنه سكن منه في أفسح أطرافه، وأطاف به جميع خواصه، ومَن يكفيه من أمر أجناده، وفرق باقيهم في بقية أطرافه؛ ليكفوه من جميع جهاته. وخص أهله بالعدل. وجعل وسطه لعوام أهله ليكونوا مكنوفين بهم، وليقل ركوبه فيهم حتى لا يلين في أعينهم. والسابع: أن يحوطهم بسور إن تاخموا عدوًا، أو خافوا اغتيالاً حتى لا يدخل عليهم إلا من أرادوه، ولا يخرج عنهم إلا من عرفوه، لأنه دار لساكنيه، وحرز لمستوطنيه. والثامن: أن ينقل إليه من أعمال أهل العلوم والصنائع ما يحتاج أهله إليه حتى يكتفوا بهم، ويستغنوا عن غيرهم.

فإذا قام منشئه بهذه الشروط الثمانية فيه، فقد أدى حق مستوطنيه ولم يبق لهم عليه إلا أن يسير فيهم بالسيرة الحسنى، ويأخذهم بالطريقة المثلى؛ وقد صار من أكمل الأمصار وطنًا، وأعدلها مسكنًا.

والأمصار نوعان: مصر مزارع وسواد. ومصر فرصة وتجارة، فأما مصر المزارع والسواد فهو أثبت المصرين أهلاً، وأحسنهما حالاً، وأولاهما استيطانًا لوجود مواده فيه، واقتناء أصولهما منه. ومن شروطه، أن يكون في وسط سواده، وبين جميع أطرافه؛ حتى تعتدل مواده منها، وتتساوى طرقه إليها؛ وهو موفور العمارة ما كان سواده عامرًا. فإن نال أهله فيه حيف، فرقهم الحيف في سواده؛ فأصابوا عيشا، ودافعوا       من زمان الحيف وقتًا. وإن جار السواد على أهله كان لهم في المصر أمن وملاذ، ويكون كل واحد منها للآخر معاذًا.

وأما مصر الفرصة والتجارة فهو مِن كمال الإقليم، وزينة الملك؛ لأنه مقصود بتحف البلاد، وطرف الأقاليم؛ فلا يعوز فيه مطلوب، ولا ينقطع عنه مجلوب.

والمعتبر فيه ثلاثة شروط؛ أحدها: أن يتوسط أمصار الريف، ويقرب من بلاد المتاجر، فلا يبعد على طالبه، ولا يسبق على قاصده. والثاني: أن يكون على جادة تسهل مسالكها، ويمكن نقل الأثقال فيها؛ إما في نهر، أو على ظهر. فإن توعرت مسالكه وأجدبت مفاوزه عدل الناس عنه إلا من ضرورة. والثالث: أن يكون مأمون السبل لأهل الطرقات، خفيف الكلف قليل الأثقال؛ فإنه ليس يأتيه إلا جالب مجتاز يطلب من البلاد أجدادها؛ فإن توعر هجر. وهذا أكثر البلدين طالبًا، وأنشرهما في الأقاليم ذكرًا. وهو معد لمطالب الملوك، لا لموادهم، فإن استمدوه وتحيفوه بالمكوس والأعشار نفروا عنه. وإن وجدوا سواه صار لأهل الضرورات دون الاختيار، ولا دوام لأوطان الأضرار، ولا يبعد أن يندرس، فيلحق المضطر بالمختار، وإن لم يستدركه سلطانه بتخفيف وإنصاف، لأن أمواله تجارة متنقلة، لا يشق عليهم تحويلها؛ فهم يستوطنون من البلاد أعدلها، ويقصدون من المتاجر والمعاملات أسهلها، فإن نبا بهم وطن؛ فكل البلاد لهم وطن، قال الشاعر:

واترك محل السوء لا تحلل به              وإذا نبا بك منزل فتحول."

(الماوردي ، تسهيل ، ص 209-213).

 

2- القدس زهرة المدائن:

كانت الأرض واسعة لا يتصارع عليها الناس، بِكْرًا تَبُوحُ لهم كل يوم بِسِرٍّ كبيرٍ من أسرارها، فهنا نهر كبير يجري، وهناك وادٍ خصيب جواد بالخضرة والخير، وهناك آبار غزيرة فياضة بالماء .. هكذا بدا المشهد في المراحل المبكرة لحياة البشر فوق الأرض.

وقد سعى الإنسان منذ القدم وراء هذا الخير الذي نشرته يد القدرة الإلهية الخالقة في الأرض، وهناك أقام الإنسان مدنه ومنازله وقراه.

وقد جعل الله تعالى الناس شعوبًا وقبائل، وكان من نصيب اليَبُوسِيِّين ـ وهم سامِيُّون عرب ـ تشييدُ البناء الأول لمدينة مِن أعظم مدن الدنيا والتاريخ، وذلك قبل الميلاد بثلاثين قرنًا، حيث لم يكن النبي الكريم إبراهيمُ ـ عليه السلام ـ قد ظهر فوق صفحة التاريخ داعيًا إلى التوحيد، منتقلاً به من العراق وما بين النهرين، ومتنقلاً به بين الشام ومصر والحجاز.

ولم يكن بناء اليبوسيين لزهرة المدائن أو مدينة بيت المقدس سوى البناء الأول لها، وعلى مدى التاريخ جددت المدينة ثوبها ثماني عشرة مرة، فهدمت أو دمرت ثم أعيد بناؤها في كل هذه المرات، حتى استقرت على هيْأتِها في العهد العثماني، ودخلت عليها زيادات أخرى كبيرة مع الاحتلال الإسرائيلي للتقليل من شأن القدس القديمة ومسخ طابعها الخاص.

شد الرحال إلى المسجد الأقصى:

     روى البخاري في صحيحه عن أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِي اللَّه عَنْه ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَسْجِدِ الأقْصَى".

    في فتح الباري قال ابن حجر: "معنى اَلْحَدِيثِ : لا تُشَدّ اَلرِّحَال إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ اَلْمَسَاجِدِ أَوْ إِلَى مَكَانٍ مِنْ اَلأَمْكِنَةِ لأَجْلِ ذَلِكَ اَلْمَكَانِ إِلا إِلَى اَلثَّلاثَةِ اَلْمَذْكُورَةِ، وَشَدّ اَلرِّحَال إِلَى زِيَارَةٍ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ لَيْسَ إِلَى اَلْمَكَانِ بَلْ إِلَى مَنْ فِي ذَلِكَ اَلْمَكَان".

     وروى البخاري أيضًا عن قَزَعَةَ مَوْلَى زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ـ رَضِي اللَّه عَنْه ـ يُحَدِّثُ بِأَرْبَعٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَعْجَبْنَنِي وَآنَقْنَنِي (= أعجبنني، وهو توكيد لما سبق)، قَالَ: "لا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ إِلا مَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو مَحْرَمٍ (= من لا يحل له نكاحها أبدًا)، وَلا صَوْمَ فِي يَوْمَيْنِ: الْفِطْرِ وَالأَضْحَى، وَلا صَلاةَ بَعْدَ صَلاتَيْنِ: بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَبَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ، وَلا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الأَقْصَى وَمَسْجِدِي".

     وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ مِنْهُ حَدِيثًا فَأَعْجَبَنِي، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: فَأَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَا لَمْ أَسْمَعْ؟! قَالَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لا تَشُدُّوا الرِّحَالَ إِلا إِلَى ثلاثة مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى. وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: لا تُسَافِرِ الْمَرْأَةُ يَوْمَيْنِ مِنَ الدَّهْرِ إِلا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ مِنْهَا أَوْ زَوْجُهَا" (ورواه أحمد أيضا).

     وروى النسائي في سننه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى".

     وروى ابن ماجه عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:" لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الأَقْصَى".

القدس قلب فلسطين:

"القدس هي هوية فلسطين، وهي من أعطاها الغالب الأعم من صبغتها وأهميتها. ليست القدس مدينة في وطن هو فلسطين، ولكن فلسطين وطن في مدينة هي القدس. إن فلسطين بغير القدس لا تكون أكثر من سيناء مصر أو جولان سوريا أو شريط حدود لبنان الجنوبي، قضية تحرير سياسي بحت".

"القدس لا يمكن أن تستحيل إلى أنها محض موقع وعاصمة، فهي ليست برلين يمكن أن تحل محلها بون في الضمير الألماني، وهي ليست استامبول يمكن أن تحل محلها أنقرة في الضمير التركي. ولكنها القدس بغير بديل".

المستشار طارق البشري

القدس (تقرير شهري يصدر قي القاهرة) العدد التجريبي

شعبان 1419هـ، ديسمبر 1998م.

 

3- القدس بين البناء والهدم:

اختار الله ـ تعالى ـ لمكة أن تكون في المركز الحقيقي للكرة الأرضية، لكنها ظهرت كوديعة في قلب الصحراء الأمين، بعيدًا عن مواطن الاحتكاك، وأماكن الصراع بين الأمم، تأمينًا للأداء المطمئن لمناسك الطاعة في هذا المكان المختار المقدس.

أما بيت المقدس، فهي جوهرة ألقيت في قلب العالم المَوَّارِ بالحركة، حيث تتلاقى أطراف أمم شتى، وتطل عيون كثيرة طامعة في السيطرة على هذه البقاع.. وكأن القدس تبعث الحيوية في حياة البشر بهذا الموقع وتلك المكانة التي لها، فتتلاطم فيها أمواج البشر: المسالمة طلبا للقرب، والمحاربة طمعا في السيطرة وبسط السلطان.

والقدس مدينة ذات أرقام قياسية كثيرة، حققتْها منذ جلست في موضعها من بلاد الشام وأرض فلسطين، فقد هُدمت، أو دمرت، وأعيد بناؤها ثماني عشرة مرة، ودخلها الفاتحون ـ من شتى الأمم ـ سبعا وثلاثين مرة، كما نالت منزلة رفيعة عند المسلمين، ولدى اليهود والنصارى.

وعلى يد اليبوسيين الكنعانيين كان البناء الأول "لأورسالم" التي سميت عند المسلمين بيت المقدس، وتتابعت فيما جاء بعد ذلك من التاريخ أمم عديدة سيطرت على المدينة المباركة فجاء المصريون القدماء، والعبرانيّون من بني إسرائيل، وتبعهم البابليون الذين كانوا عُتَاةً جبارين، وجاء الفرس على أثرهم، ثم اجتاحت جيوش الإسكندر المقدونيّ المنطقة بأسرها حتى سيطروا عليها. وخلف على بيت المقدس بعد زوال دولة الإسكندر وخلفائه ـ الرومانُ، الذين بقيت المدينة في أيديهم، حتى فتحها المسلمون، وبقيت في أيدي المسلمين منذ ذلك الزمن (العام السادس عشر للهجرة)، وإن تعرضت للاحتلال ثلاث مرات: من الصليبيين في نهاية القرن الخامس الهجري، ومن البريطانيين ثم اليهود في القرن العشرين الميلادي.

حفريات تؤكد بناء المدينة عدة مرات:

في عام 1884م قام بعض علماء الآثار الإنجليز (مودسلي) بالحفر في سور أورشليم الجنوبي، "وخلَفه عام 1894م ف. ج بليتز، وواصل العمل في هذه المنطقة حتى عام 1897م. وكان هدف هذه البعثة ـ كما يقال ـ الاهتداء إلى امتداد هذا السور واتجاهه، إلا أنه تبين لهؤلاء الأثريين أن مدنا كثيرة قامت في ذلك المكان ثم طُمرت. وأدرك العرب أن أعمال الحفر هذه ستودي بالمدينة المقدسة (القدس الشريف) فأوقفوها، إلا أنها انتقلت إلا جهات أخرى في فلسطين وخارجها من البلاد المجاورة".

(إسرائيل عبر التاريخ 1 / 3 ـ 4. د. فؤاد حسنين علي).

التخريب الثاني للقدس:

"خُرِّبت للمرة الثانية على يد العرب الفلسطينيين (كما يذكر سفر أخبار الأيام الثاني 21 / 17): "وأهاج الرب على يهورام روح الفلسطينيين والعرب الذين بجانب الكوشيين، فصعدوا إلى يهوذا، وافتتحوها، وسلبوا كل الأموال الموجودة في بيت الملك مع بنيه ونسائه أيضا، ولم يبق له ابن إلا يهوا حاز أصغر بنيه".

(إسرائيل عبر التاريخ 1 / 6  د. فؤاد حسنين علي).

4- اليبوسيون يبنون بيت المقدس:

كما لم يكن هنالك بشر يوم خلق الله ـ تعالى ـ الأرض، لم يكن هنالك ـ أيضًا ـ يهودي ولا إسرائيلي يوم بني اليبوسيّون بيت المقدس، فقبل الميلاد بثلاثين قرنًا (أي: في العصر البرونزي) اختارت الأقدار الموقع والبُنَاةَ الذين شيدوا مدينة القدس لأول مرة فيما هو معروف لنا من التاريخ.

ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، أو خمسة آلاف عام من اليوم، تفصل بيننا وبين تلك العقول العربية القديمة التي راحت تختار للمدينة المقدسة موقعَها، وتخطط لمبانيها.. وتلك العضلات التي راحت تنفِّذ خِطط البناء، واضعة حجرًا فوق حجر، وواصلة جدارًا بجدار، حتى استتمّ بناء المدينة الصغيرة، وبَدَتْ كأنها طفل وديع يتطلع من فوق هضبة عالية إلى الدنيا من حوله.

إن المعلومات التي نعرفها عن اليبوسيّين؛ أولِ من بنى مدينة بيت المقدس ـ قليلةٌ، وإن كان من المؤكد أنهم فرع من الكنعانيين العرب الذين هاجروا من الجنوب، وبالتحديد من شبه الجزيرة العربية، إلى هذه الأنحاء ذات الموقع المتميز والمتفوقة في ثرواتها قياسًا بصحراء الجزيرة العربية القاسية... وكانت لغة اليبوسيين الأصليةُ كنعانيةً، ثم انضمت إليها  فيما يُعتقَد  لغةُ البابليّين عند سيطرتهم على القدس.

وقد اختار اليبوسِيّون شمال بلاد فلسطين ليَقْطُنُوا فيها، بينما اختار أبناءُ عمومتِهم الفينيقيّون سُكْنَى الشواطئ الجنوبية لفلسطين.

ولم يكن العقل البشري حينئذ معطلاً عن التفكير وحُسن التدبير، برغم البعد الزمني الكبير بيننا وبين اليبوسيين؛ فهم حين فكروا في تشييد عاصمة لهم اختاروا موضعًا حصينًا مرتفعًا عما حوله من الأرض، وبَنَوْا لها حصنا؛ حتى تبقى في مأمن من الأعداء، واختاروا لها أيضًا موقعا استراتيجيًا حيويا؛ حتى ينتفعوا بمميزاته التجارية وخيراته الطبيعية، فبنيت المدينة مع مجموعة من المدن الكنعانية على طريق المياه بين الشمال والجنوب على مرتفع الضهور قرب عين ماء جيحون أو نبع العذراء  في موقع حيوي. وحفر اليبوسيون نَفَقَـًا تحت الجبل لنقل مياه النبع إلى داخل الحصن.

وكان ذلك في عهد الملك الكنعاني "سالم"، الذي عُرف بملك السلام، وعُرفت مدينته باسم "يبوس".. 

وجاء الملك اليبوسي "ملكي صادق" في القرن الحادي والعشرين قبل الميلاد تقريبا، فزاد في مباني المدينة، وشيد على المرتفع الجنوبي المعروف اليوم بـ "جبل صهيون" قلعة للدفاع عن القدس، التي صار اسمها حينئذ أوروسالم أو أورشاليم كما نطقها العبريون بعد ذلك بزمن طويل.

 

وفي مدن فلسطين القديمة أرشدت الحفائر إلى أن البيوت كانت صغيرة متراصَّةً، تتكون من طابق واحد، وهي إما من الطين أو الحجر العادي، وعادة تكون في سفح تل، أو عبارة عن كهوف في سفح التل. أما في داخل المدينة، فالشوارع ضيقة جدًا وملتوية، ولا توجد بها ميادين وعند مدخلها "السوق" حيث تقام المحكمة، وتعقد العقود، وتعلن التشريعات.

وفي هذا الزمن البعيد، كانت للقدس أهمية تجارية خاصة؛ لربْطِها بين البحر والصحراء، وَوَصْلِهَا حبرونَ (الخليل) ببيت إيل من أعمال رام الله، وتستمر الطريق من بيت إيل نحو شكيم (نابلس) من ناحية، ونحو أريحا ووادي الأردنّ من ناحية أخرى.

 

القدس الكنعانية:

ـ الهجرة: "تعتبر الموجة الكنعانية واحدة من أكبر الموجات البشرية التي غادرت شبه الجزيرة العربية واستوطنت الجنوب الغربي من الشام، فعرفت فيما بعد بأرض كنعان أو فلسطين. واليبوسيون يمثلون بطنًا رئيسًا من بطون الكنعانيين، وهم أول بناة القدس، وإليهم نسبت فعرفت أولاً باسم "يبوس" وكان ذلك حوالي 3000 عام قبل الميلاد. ولما استتب لهم المقام بنو حصنًا يبوسيًّا قويًّا على الرابية الجنوبية الشرقية للمدينة حماية لهم من غارات العبرانيين والفراعنة.

وذكرت "الموسوعة الفلسطينية" أن اسم "أوروشاليم" هو أقدم اسم لها وينسبها إلى الإله "شالم" أي إله السلام لدى الكنعانيين، فدعيت فيما بعد "أوروشالم" أو مدينة السلام".

(مدائن فلسطين: نبيل خالد الآغا ص 40).

ـ أقدم السكان: "أقدم من نعرف على هذه الأرض ـ أرض فلسطين بشكل عام ـ هم الشعب الذي "قامته مثل قامة الأرز، وهو قوي كالبلوط". هذا الشعب الذي يعود انتشاره إلى أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد، والذي استمر حتى مطالع الألف الأولى قبل الميلاد ـ هو قسم من الشعب العموري (السامي العربي) عرفه التاريخ باسم الكنعانيين. حتى التوراة تسمي فلسطين "أرض كنعان" وهؤلاء الكنعانيون هم الذين زرعوا أرضها بالمدن ألفي سنة: أريحا، مجدو، بيت شان، عكو (عكا) يافو (يافا)، أورشليم (يبوس)، غزة، عسقلون (عسقلان)، أشدود، بئر السبع، بيت لحم ـ كلها من بنائهم. وجماعتهم الساحلية التي امتدت على البحر هم من نعرفهم بالفينيقيين أصحاب صور وصيدا وجبيل وعرقة وأوغاريت. والكنعانيون هم الذين منحوا البلاد ثقافتها التاريخية الأولى من لغة وعلم ودين وكتابة ونظم اجتماعية وفن وبناء وقيم حضارة".

(الفلسطينيون من الاقتلاع إلى المقاومة ص 155. د. شاكر مصطفى وآخرون).

ـ يقول روجيه جارودي : كان "البدو الرحل القادمون من الصحراء العربية يأتون إليها (منطقة الهلال الخصيب) ليستقروا بها أحيانا، بصورة موسمية أو نهائية، سواء في العراق، أو فيما يطلق عليه اليوم: سورية ولبنان وفلسطين. وأيًا ما كانت الأسماء التي تطلق على هؤلاء البدو الرحل، الذين كانوا: أمورين منذ الألف الثالثة قبل الميلاد (وهم الذين كانوا يشكلون الأسرات الكبيرة "السامية" في العراق، كما كانوا سكان سورية القديمة وسواحلها) ثم كانوا كنعانيين (انتشروا على الساحل كله داخل فلسطين وجنوبيها)، ثم آراميين (جابوا ربوع البلاد ابتداء من الألف الثانية، ق.م. واستقروا في أنحائها في الألف الأولى) أيًا ما اختلفت الأسماء فإنهم لم يكونوا عروقا أو عنصريات، بل هم موجات من السيطرة المتتابعة في شعب سامي واحد، تمتد جذوره داخل شبه الجزيرة العربية".

(فلسطين أرض الرسالات الإلهية: رجاء جارودي صـ 38، ترجمة د. عبد الصبور شاهين).

ـ آثار كنعانية: أكد عالم الآثار اليهودي جدعون إفني في أغسطس 1998م أن عمليات التنقيب التي تمت في حي سلوان الفلسطيني، جنوب المسجد الأقصى، وخارج أسوار مدينة القدس القديمة، أدت إلى اكتشاف نظام معقد لنقل المياه يعود تاريخه إلى ما قبل دخول نبي الله داود إلى القدس. وربط جدعون إفني بين اكتشاف بقايا برجين حجريين استخدما لتدعيم شبكة المياه وقطع فخارية استخدمت في تقدير عمر الشبكة وبين العهد الكنعاني، وذلك من خلال الحقبة البرونزية الوسيطة، مشيرًا إلى أن هذا الاكتشاف ـ حسب ما قال جدعون إفني ـ يغير كل ما يدّعيه اليهود عن مدينة داود. كذلك قال عالم الآثار اليهودي روني ريك تعقيبًا على ذلك: "آسف، إن الملكين داود وسليمان لم يظهرا في تلك الحقبة الكنعانية".

وقد أشرف على الأبحاث باحثان تابعان لإدارة الآثار الإسرائيلية هما روني دايش وإيلي شوكرون. ووصف جدعون إفني هذه الاكتشافات الأخيرة بأنها تغطي ضعف مساحة سلوان الحالية، وبذلك صار معلومًا للعالم أجمع أن جماعات المستعمرين اليهود الذين صادروا واستولوا على عدة بيوت في سلوان وسكنوا فيها بالتنسيق مع سلطات الاحتلال وبمساعدتها ادعوا أن هذه مدينة داود والآن ثبت بطلان هذه القصة!

وكشفت التنقيبات الأثرية التي قامت بها الباحثة الإنكليزية كاثلين م. كينيون سنة 1961م في طبقات العصر البرونزي القديم من أكمة أوفل بالقدس عن بقايا السور الأول الذي بناه اليبوسيون على جبل صهيون، وأبرزت قسمًا من أسس الأبنية وتمديدات جر المياه إلى الحصن من عين جيحون. وكذلك كشفت الحفريات عن بعض القبور وأواني الخزف من العهد البرونزي القديم حتى العهد الحديث.

ـ الفينيقيون وأبناء عمهم الكنعانيون: "الفينيقيون من الفرع الكنعاني من فروع الجنس السامي، وكانوا يعتقدون أنهم هاجروا إلى الساحل السوري من شاطئ شرقي، ربما كان الشاطئ البابلي. وقد نما حبهم للبحر على خلاف غيرهم من الأقوام السامية وأبناء عمومتهم الكنعانيين الذين عاشوا في الداخل حياة مختلفة عن حياتهم. وكان الفينيقيون يسمون أنفسهم بالكنعانيين، ويدعون بلادهم بأرض كنعان. وقد عرفتهم الأقوام المعاصرة لهم بهذا الاسم. كما أن العهد القديم يشير إليهم في بعض الأحيان باسم الصيداويين، نسبة إلى صيدا".

".. ويستدل من النقوش والعملة وأسماء المواقع الجغرافية، وغير ذلك من المخلفات الفينيقية أن اللغة الفينيقية هي من زمرة اللغات السامية الشمالية، وأنها فرع من اللغة الكنعانية التي كانت تضم اللهجات الفينيقية والعبرية والموآبية".

و"التاريخ يسجل لهذا الشعب خدمة جُلَّى في ميدان تطوير الكتابة، هذه الخدمة هي المساهمة الكبيرة في ميدان تطوير ونشر الألفباء. وقد انتقلت الكتابة الألفبائية عنهم إلى اليونان، وبالتالي إلى أوروبا".

(موجز تاريخ الحضارة د. نور الدين حاطوم وآخرون ص 237 ـ 238).

5- علاقة المصريين القدماء بالقدس:

فوق أرض مصر قامت واحدة من أقدم الحضارات البشرية، في الوقت الذي كانت فيه بقاع كثيرة من الأرض لم يسكنها الإنسان بعد.. وقد كان المصري القديم في وقت القوة يمد ذراع سيطرته إلى البلاد المجاورة له، لتصبح تابعة للتاج المصري.. ومن هذه البلاد: أرض الشام، وبلاد ما بين النهرين، والأناضول، وغيرها..

وفي القرنين العشرين والتاسع عشر قبل الميلاد سعى فراعنة الأسرة الثانية عشرة إلى بسط سلطانهم في اتجاه سوريا، ووصلوا بسيطرتهم السياسية والاقتصادية إلى أرض كنعان، وإن لم تصبح إقليمًا مصريًا. وانصبّ الاهتمام المصري على المدن القائمة في أرض كنعان؛ لأهميتها التجارية والعسكرية، والتي لم يكن للقدس منها حظ وفير حينئذ، إلا أنها نَمَتْ بعد ذلك بقليل حتى أصبح الملكُ سيزوستريس الثالث في القرن التاسع عشر قبل الميلاد يَعُدّ مَلِكَها عدوًا له يستوجب اللعنات في الطقوس الدينية.

وانشغل المصريون بشئون بلادهم الداخلية عن التدخل في بلاد كنعان زمنًا حتى جاء القرن الخامس عشر قبل الميلاد فدخل الفراعنة في صراع مع إمبراطورية الحيثِيّين في الأناضول، والملوك الشماليين في بلاد ما وراء النهر، فأصبحوا في حاجة ماسّة إلى تأمين خضوع أرض كنعان لسلطانهم، حتى يعبروا إلى أعدائهم في أمان، فنجح تحتمس الثالث في القيام بمهمة الإخضاع، الذي شمل القدس أيضًا، وإن تمتع الملوك في المنطقة بنوع من الاستقلال الواضح.

وفي القرن الرابع عشر قبل الميلاد ، جلس على عرش مصر الملك أمينوفيس الثالث وابنه أمينوفيس الرابع أو إخناتون، فأرسل أديهبا والي القدس إلى الفرعون يطلب الغوث والنجدة ضد قبائل وعشائر نزحت من الصحراء إلى فلسطين، وراحت تهدد الأمن، وتسبب الكثير من الفوضى والاضطراب، وهذه القبائل هم العبريّون من بني إسرائيل.

وقد عاد المصريون إلى بيت المقدس، وسيطروا عليها مرة أخرى بعد وفاة النبي سليمان ـ عليه السلام ـ وانقسام مملكته في القرن العاشر قبل الميلاد، وكانت السيطرة المصرية هذه المرة على يد الفرعون شيشناق من الأسرة الثانية والعشرين.

وإذا كانت القدس ومصر قد دخلتا بعد ذلك ـ ضمن المنطقة ـ تحت سلطة أجنبية واحدة عدة مرات، على يد اليونانيين والفرس والبطالمة والرومان ـ فإن الفتح الإسلامي لمصر، لم يتيسر إلا بعد فراغ عمرو بن العاص من أمر بيت المقدس، حيث حاصرها طويلاً، حتى صَالَحَ عمرُ بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أهلَها. وأدخل الفتح المبارك مصر والقدس تحت سلطان المسلمين، فصنعوا لهما هوية واحدة، وبقى الرباط بين البلدين علامة من علامات التاريخ في المنطقة إلى الآن.

 

رسائل تل العمارنة:

في رسائل تل العمارنة التي عُثر عليها عام 1887م (وهي رسائل تبودلت بين الفرعونين أمينوفيس الثالث وأمينوفيس الرابع (إخناتون) (اللذين عاشا فيما بين 1410 ـ 1360 ق.م) من ناحية، وبين أمراء وملوك الشرق الأدنى من ناحية أخرى.

في هذه الرسائل نقرأ أن "أديهبا" والي القدس أرسل إلى فرعون مصر يخبره أن قبائل وعشائر أخذت تنزح من الصحراء إلى فلسطين، وأن هذه القبائل تهدد الأمن، وتسبب كثيرًا من الفوضى والاضطراب نظرًا لأعمال السلب والنهب التي تقوم بها. وإذا واصلنا قراءة هذه الرسائل وجدنا أديهبا يطلق على هذه القبائل اسم خبري أي عبري حسب التسمية المعروفة لنا الآن، إذ إن حرف خ يقابله حرف ع. أما لفظ عبري فهو بدل عبر، بمعنى شاطئ أو ناحية، والمقصود هنا شاطئ الأردن لا الفرات كما ظُن قديما".

(إسرائيل عبر التاريخ 1 / 53 د. فؤاد حسنين علي).

6- الخليل إبراهيم في القدس:

فيما بين النهرين، وقبل الميلاد بعشرين قرنًا تقريبا، ظهرت شخصية من أمهات الشخصيات الإنسانية، وهو سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ فوجد قومَه يعبدون البشر والحجر والكواكب والنجوم، من دون الله ـ تعالى ـ فحنف ومال عن تلك الخرافات، وراح يجادل قومه ويحاججهم ، فوجد قلوبًا مملوءة بالهَوَى وتقليد الآباء، وعقولاً مغلقة على ما سبق، وإن كان خرافةً لا يستسيغها عاقل.. وأكثر من ذلك وجدهم يردّون على حججه القاطعة بالأذى ومحاولة الإفناء الجسدي، فهاجر إلى ربه.

ومن هذه اللحظة ساح الخليل إبراهيم في أرض الله، وغرس في كل بلد دخله مَعْلَمةً للتوحيد، أو ترك أثرًا يجعل لعبادة الله احترامًا في نفوس الخلق، فدخل مصر، وملأ نفس ملكها احترامًا وهيبة له، ودخل مكة، وترك بها ذرية مؤمنة وبيتا يمثل معلما للتوحيد، ودخل أورشليم بيت المقدس وبلاد الشام، وبنى المسجد الأقصى ـ فيما يقال ـ وترك هناك ذريته من ولد إسحاق ويعقوب، الذين بقي لهم ذكر في التاريخ، وكثرت ذريتهم: (.. فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة.. ).

لقد ترك إبراهيم ذريته وسط العرب في موطنَيْن من الأرض، فترك بِكْره إسماعيل بين الجُرْهُميين العرب في مكة، وترك ولده الثاني إسحاق بين أظهر العرب الكنعانيين، فنما زرع إسماعيل، وكثرت ذريته، حتى صار أبا لهؤلاء المستعربين في الجزيرة العربية، وجاء من هذا النسل الكريم خاتم النبيين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي كان يرجع برسالته إلى حنيفية إبراهيم ـ عليه السلام.

كما نما زرع إسحاق، وكثر أبناء ولده يعقوب، الذي انحدر من نسله بنو إسرائيل، وخرج من ذريته أنبياء كثيرون أقاموا في القدس وما حولها.

سيدنا إبراهيم في الأرض المقدسة:

(قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ. وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ. وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ). (الأنبياء: 69 ـ 71).

(وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ…) إلى قوله تعالى: (وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ. فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ). (العنكبوت: 16 ـ 27).

قال النخعي وقتادة: "هاجر إبراهيم ـ عليه السلام ـ من كوثى، وهي قرية من سواد الكوفة، إلى حران، ثم إلى الشام، ومعه ابن أخيه لوط، وامرأته سارة. وقال الكلبي: هاجر من أرض حران إلى فلسطين" (انظر: تفسير القرطبي للآيات).

مهاجر إبراهيم

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّم ـ يَقُولُ: سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ فَخِيَارُ أَهْلِ الأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ وَيَبْقَى فِي الأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا (2123 أبو داود).

 

7- يعقوب وبنوه:

"إسرائيل" ويعقوب علمان على شخصية واحدة، كُتبت في سجلات النبيين، ووُصف بأنه "الكريم ابن الكريم ابن الكريم..".. بدأ رحلة حياته في أرض الشام، مستكملا مسيرة أبويه إبراهيم وإسحاق هناك.. ورُزق يعقوب باثني عشر ابنا، وكان متوقعا أن يستمر تناسلهم وتكاثرهم في بيت المقدس وما حولها، لكن القحط والجدب في هذا الموطن حينئذ، وشغْلَ يوسف بن يعقوب ـ عليهما السلام ـ منصبا كبيرا في بلد خصيب هو مصر ـ دفعت ببيت يعقوب إلى الهجرة.

هاجروا إلى موطن جديد، وفي ركبهم نبي، وينتظرهم في مصر نبي، فليس المهم لديهم أن تكون الإقامة هنا أو هناك، ما دامت حرية العبادة مكفولة، وما دامت ضروريات الحياة متوافرة.

هاجروا إلى مصر، ومرت عليهم فيها أربعة قرون، بقوا خلالها فصيلا مميزًا من البشر، ولم تشأ الأقدار الإلهية أن يذوبوا وسط سكان الشام من العرب، ولا وسط المصريين الحاميّين، حتى خرج بهم موسى ـ عليه السلام ـ من مصر، وأراد أن يرجع بهم إلى بيت المقدس قبل الميلاد باثني عشر قرنًا، إلى الأرض التي بارك الله حولها، ليخطوَ تلك الخطوات المباركة التي خطاها من قبل في المدينة المقدسة الخليل إبراهيم ـ عليه السلام ـ لكنهم عصوا الله ورسوله.

نبي الله يعقوب:

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ). (يوسف: 38).

وقال تعالى عن نبيِّه يعقوب: (.. وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). (يوسف: 68).

العهد القديم وملكية الأرض:

الاستشهاد بنص العهد القديم الذي يَعِدُ نبيَ الله إبراهيم - عليه السلام - بتمليك الأرض لنسله - على أنه وعد لليهود دون غيرهم من نسل إبراهيم بتملك هذه الأرض  هذا الاستشهاد يُعَدُّ تحكمًا في الاستدلال؛ لأن العهد القديم نفسه يذكر أن بكر إبراهيم هو ولده إسماعيل – عليه السلام – وليس إسحاق – عليه السلام، وليس أحدهما أولى بتملك الأرض دون الآخر بناء على هذا النص من العهد القديم.

 

8- النبي موسى والأرض المقدسة

(يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين).. هكذا حكى القرآن نداء موسى ـ عليه السلام ـ لقومه من بني إسرائيل بدخول بيت المقدس وما حولها، بعد أن نجاهم الله من فرعون وقومه ـ في القرن الرابع عشر قبل الميلاد تقريبا.

ولم يفهم بنو إسرائيل أن مهمة الناس تجاه رسولهم، بعد الإيمان به عن قناعة وطواعية، هي طاعة أمره، ولو شق على النفس، وصعب على الإمكانات المتاحة، فراحوا يخاطبون رسولهم الكريم موسى بما يخالف أدب الخطاب مع العظماء الذين اصطفاهم الله، فقالوا: (يا موسى إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون).

فخافوا وجبنوا عن مواجهة قومٍ لمجرد أنهم يفوقونهم في ضخامة الجسد وقوة البنية، ولم يعلموا أن النصر لا تقف خلفه هذه الأسباب وحدها، فالعقيدة الراسخة، والهمة العالية، والحرص على إرضاء الله ـ تعالى ـ كل هذه قوى دافعةٌ تَسقط تحت أقدامها الفروقُ والمميزات الأخرى.

 

لقد تربّت هذه الأنفس على العبودية والذل حينما سخرهم الفراعنة للخدمة والأعمال الدنِيّة، وأبَى بنو إسرائيل ـ عندما أتيحت لهم الفرصة ـ أن يطلّقوا هذه العبودية، وذاك الجبن، واكتفوا بأن تتدخل اليد الإلهية لإنقاذهم من فرعون، أما هم فلن يفعلوا شيئا، ولو من أجل دخول الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم!! فقالوا: لنبيهم: (إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون).

وبهذه المعصية حُرِم بنو إسرائيل في هذا الجيل من تملك بيت المقدس، فشكاهم موسى إلى ربه (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافْرُقْ بيننا وبين القوم الفاسقين)، فكتب الله عليهم التيه في أرض سيناء أربعين سنة، لم تنقطع فيها نعم الله عنهم، حتى ظهر جيل آخر أقرب إلى الله ـ تعالى ـ فقادهم يوشع بن نون تلميذ النبي موسى ـ عليه السلام ـ أول القرن الثالث عشر قبل الميلاد تقريبا ـ فدخلوا بلاد الشام، واستولوا على أريحا شرقي القدس، دون أن تتم لهم السيطرة الكاملة على الأرض المقدّسة، فقد تأجل ذلك إلى القرن العاشر قبل الميلاد، ليتحقق على يد داود ـ عليه السلام.

قصة سيدنا موسى ودخول الأرض المقدسة:

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ. يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ. قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ. قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ. قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ"). (المائدة: 20 ـ 26)

نحن أولى بموسى:

روى مسلم في صحيحه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ. فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.

وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلانِ، رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ وَرَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى الْعَالَمِينَ، وَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلام ـ عَلَى الْعَالَمِينَ. قَالَ: فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيِّ، فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ، فلا أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمَّنْ اسْتَثْنَى اللَّهُ".

معنى "المقدَّس" بين الإسلام واليهودية:

اعتقد الوثنيون القدماء أن قداسة المعبد تنشأ من كونه بيتًا للإله، يسكنه ويتواجد به لمن أراده ودعاه، فلا يعود هذا الموضع ولا تلك البقعة كسائر الأرض التي نعرفها بل يكتسب قداسة من قداسة الرب الذي يسكنها.

واليهودية في أصلها دين إلهي موحد لا يرى أتباعه قداسة المعبد في هذا الإطار الوثني الضيق، وهم يجلون الله أن يُحَدَّ بمكان أو يكون له بيت يسكنه ولا يغادره، لكنهم مع ذلك يعتقدون "بحضور" إلهي داخل معبدهم، الذي تتدرج فيه القداسة من مرحلة إلى أخرى، حتى يكون هذا الحضور وهو ما يطلقون عليه الشكينة، حالا بأقدس جزء في المعبد، حيث يسمونه قدس الأقداس. ويرى اليهود أنه لا يجوز لأحد أن يقترب من هذا الموضع إلا كاهنهم الأكبر، في يوم واحد في كل عام، على أن يتزيّ برداء خاص ويدلف إلى الموضع بطقوس خاصة.

أما المسلمون فهم يعلمون من لغتهم أن المقدس هو الطاهر، ويرون أن الأرض المقدسة هي الأرض المطهرة كما يفسرها بذلك ابن كثير والقرطبي، أو المباركة، كما يروي القرطبي والطبري عن مجاهد، ويضيف القرطبي "والبركة التطهير من القحوط والجوع ونحوه".

لم يعتقد المسلمون إذًا - بوجه من الوجوه - أن الأرض أو الجبال ونحوها تكتسب صفة إلهية تنزهها عن حالها المادي، ولا شك أن خير ما يوضح ذلك قول عمر بن الخطاب الشهير مخاطبًا الحجر الأسود "أما إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما فعلت".

9- القدس عاصمةً لمملكة داود:

في عيون أهل الدنيا تعلو منزلة الملوك كل منزلة، وفي عيون طلاب الآخرة يرتفع مقام الأنبياء فوق كل مقام، وهذا داود ـ عليه السلام ـ قد جمع الله له الملك والنبوة معًا، فسجله التاريخ كواحد من الشخصيات العظيمة بالمقياسين الديني والدنيوي.

بزغ نجم داود في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، في وقت صراع بني إسرائيل مع الملك جالوت المسيطر على بيت المقدس، حيث طلب بنو إسرائيل من أحد أنبيائهم أن يختار منهم ملكا يقودهم لدخول بيت المقدس، فرضُوا بعد جدال لم يكن هناك ما يدعو إليه ـ بطالوت الذي اختاره لهم نبيهم بأمر الله ـ تعالى.

وقاد طالوت جموع بني إسرائيل الكثيفة لقتال عدوهم، ونفوس الإسرائيليين موزعة، ما بين طامع في نصر دين الله ـ تعالى ـ وطامع في تحقيق نصر لا يدفع له ثمنًا.. وفي الطريق تساقط من جنود طالوت كثير من أتباعه أمام الاختبارات، فخالفوا قائدهم، وجبنوا لِمَا رأوا من قوة جنود جالوت، فتقدم طالوت بنحو ثلثمائة من المؤمنين ثبتوا معه، وبرزوا لعدوهم في إيمان وشجاعة، وتضرعوا إلى ربهم أن يلبسهم الصبر ويرزقهم ثبات الأقدام والنصرَ على العدو، فمكن الله هؤلاء المؤمنين من رقاب عدوهم فغلبوهم، وطلع نجم داود حينما تقدم من جالوت الملك نفسه، فأرداه قتيلاً، وحسم المعركة لصالح العصبة المؤمنة سنة ألف وتسع وأربعين قبل الميلاد تقريبا.

من يومها أصبح داود عند بني إسرائيل ـ مؤمنهم وكافرهم ـ رمز المجد والنصر، خاصة أنه تولى الملك عليهم، وأقام دولة مسلمة عاصمتها بيت المقدس.

وحين دخل داود المدينة المباركة وجدها مقامة على الجانب الشرقي، فأقام في الجانب الغربي جزءًا آخر يكاد يكون مدينة وحده، وبنى فيه القصر، مستعينًا في ذلك بخبرة أهل بيت المقدس، وهم ذوو أصول سامية عربية.

وأكثر من ذلك أن الشعب في مملكة داود كان كثير من أفراده من اليبوسيين العرب، بل إن العهد القديم الذي يقدسه أهل الكتابَيْن يذكر أن داود عليه السلام - تزوج من هؤلاء العرب.

وتحت حكم داود بقيت القدس أربعين سنة عاصمة لدولة موحدة، ونشطت التجارة في المنطقة المحيطة في هذه الفترة.

وانتقل الملك بوفاة داود إلى ابنه سليمان ـ عليهما السلام ـ فبلغت المملكة أقصى اتساع لها في عهده.

جهاد سيدنا دَاوُد:

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمْ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنْ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ. وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ". (البقرة: 246 ـ 251).

 

اليهود يعرفون الحق:

روى الترمذي في سننه عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ: قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَقَالَ صَاحِبُهُ: لا تَقُلْ نَبِيٌّ، إِنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَأَلاهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، فَقَالَ لَهُمْ: لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ، ولا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، ولا تَسْحَرُوا، ولا تَأْكُلُوا الرِّبَا، ولا تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، ولا تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً الْيَهُودَ أَنْ لا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ. قَالَ: فَقَبَّلُوا يَدَهُ وَرِجْلَهُ، فَقَالا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ. قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالُوا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ تَبِعْنَاكَ أَنْ تَقْتُلَنَا الْيَهُودُ. وَفِي الْبَاب عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَسْوَدِ وَابْنِ عُمَرَ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

النبي داود والقدس:

القدس قبل داود "لم تكن إلا مدينة فوق الهضبة الجنوبية الشرقية، بإقرار توراتي وأركيولوجي؛ لأن سَقْي المدينة كان من عين جيهون، والهضبة تسمح بالدفاع عن المدينة، والدفاع عن هذا الماء".

(مجلة منار الإسلام ع 8 لسنة 24 ص30).

ـ "لم تعد أورشليم في ظل حكم داود وسليمان إلا مسرحًا لأشد البرامج الإنشائية والمعمارية طموحًا، حيث قام سليمان بتوسيع المدينة شمالاً، ولكي تسيطر على سائر المدن والعواصم المحلية يجب أن تزخر بالعظمة والأبهة، وقد نجح سليمان في تحقيق هذه الغاية وبلوغها، فأكثر من المباني الحكومية والملكية، كما حصن المدينة وأمدها بقناة تحمل إليها المياه من بعيد، كما ختم مشروعاته العمرانية ببناء آخر جعل من أورشليم المدينة الرئيسية ومدينة المستقبل، أعني إقامة المعبد (الصحيح أنه المسجد) الذي كان يتميز بدقة تفاصيله وكثرتها." (إسرائيل عبر التاريخ جـ 1، صـ 237، 238 د. فؤاد حسنين علي).

 

10- القدس عاصمة لمملكة سليمان:

بعد أربعين سنة من الحكم والملك مات سليمان ـ عليه السلام ـ حوالي عام ثلاثين وتسعمائة قبل الميلاد، وقد بقيت مملكته طوال هذه المدة قوية مرهوبة الجانب، وظلت القدس عاصمة له طوال حكمه ..

وأتيح لسليمان من أسباب القوة والسيطرة ما لم يتح لأبيه من قبله، فكان له جنود من الجن والإنس ومن الطير، وسخر الله له الريح تتحرك بأمره حيث شاء، وعلمه لغة الطير، مما مثل عنده أدوات لنشر الدين ومحاربة الوثنية والخرافة.

والقدس عند نبي الله سليمان أكثر من عاصمة سياسية لمملكته؛ فهي قبل ذلك، منار ينطلق منه نور النبوة، وتقام فيه العبادة لله تعالى وحده، وقد جدد سليمان ـ عليه السلام ـ بناء المسجد الأقصى بالمدينة المقدسة، واستعمل الإنس والجن في ذلك، حيث عملوا له محاريب، وغير ذلك من البنايات التي تخص المسجد.

ولم تقتصر حركة سليمان العمرانية على مسجد بيت المقدس الجليل، بل اتسعت لتشمل المدينة كلها، وكثيرًا من الجهات والبقاع في مملكته، فغدت القدس مجالا لحركة عمرانية كبيرة، ودخلت عليها توسيعات كثيرة. والقرآن في حديثه عن سليمان يشير إلى اهتمامه بالبناء والعمران عموما، واستخدامه الجن في هذه المهمات (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجِفَان كالجواب وقُدُور راسيات). وقد جاءت ملكة سبأ إلى النبي سليمان في عاصمة ملكه، فوجدت أمامها صرحا عجيب البناء، أقيم من الزجاج فبهرها، حتى أسلمت لله، الذي يؤمن به سليمان قبلها بالرغم من أن ملكه أعظم من ملكها مراتٍ ومراتٍ.

وللشهرة الواسعة التي نالها سليمان، حتى وهو حي، بقيت عاصمته أورشليم جاذبة للناس من كل الأجناس، ومن علامات شهرته أن ملكة سبأ حينما تلقت كتابه إليها، قالت للناس من أنصارها: (إنه من سليمان..) ، فحدثتهم بطريقة مَنْ يعرف سليمان جيدًا.

وقد كانت روعة البناء والعمران السليماني في القدس وغيرها جاذبة لأعين الملوك فيما بعد، فحرصوا في غزوهم لبيت المقدس على سلب كنوزها، وتخريب عمرانها، ومثلوا سيف انتقام قاسيا من بني إسرائيل، ومن هؤلاء: البابليون والفرس واليونان والرومان.

سيدنا سليمان وبناء المسجد:

في تفسير قول الله تعالى عن نبيه سليمان: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) (سبأ: 14).

قال أبو عبد الله القرطبي: "قيل: كان رؤساء الجن سبعة، وكانوا منقادين لسليمان ـ عليه السلام ـ وكان دَاوُدُ ـ عليه السلام ـ أسس بيت المقدس، فلما مات أوصى إلى سليمان في إتمام مسجد بيت المقدس، فأمر سليمانُ الجنَّ به، فلما دنت وفاته قال لأهله: لا تخبروهم بموتي حتى يتموا بناء المسجد، وكان بقي لإتمامه سنة". والله أعلم بصحة هذه الرواية ودقتها.

(وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ. فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاً آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ). (الأنبياء: 78 ـ 79).

(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ). (الأنبياء: 81).

(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ). (النمل: 15 ـ 16).

(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ). (سبأ: 12 ـ 13).

(وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). (ص: 30).

نبي الله سليمان يبني المسجد الأقصى:

روى النسائي في سننه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خلالا  (= صفات) ثَلاثَةً: سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمًا يُصَادِفُ (= يطابق) حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لا يَنْهَزُهُ (= يُنهِضه ويخرجه) إِلا الصَّلاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ (ورواه ابن ماجه).

وروى أحمد في مسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ إِنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلام ـ سَأَلَ اللَّهَ ثَلاثًا أَعْطَاهُ اثْنَتَيْنِ وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ لَهُ الثَّالِثَةُ، فَسَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَيُّمَا رَجُلٍ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ لا يُرِيدُ إِلا الصَّلاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ مِثْلَ يَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. فَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ".

بناء المعبد أو الهيكل (المسجد):

ما بناه سليمان معبد بالمعنى الإسلامي، لا بالمعنى الوثني أو المنحرف عن الدين، ويصح أن نقول إنه مسجد، وهو المقصود ـ فيما يبدو ـ بالوصف في الإصحاحين السادس والسابع من سفر الملوك بأنه بني في سنة الأربعمائة والثمانين لخروج بني إسرائيل من مصر، وكلم الرب سليمان قائلاً: "هذا البيت الذي أنت بانيه إن سلكت فيه فرائضي وعملت أحكامي وحفظت كل وصاياي للسلوك فيها، فإني أقيم معك كلامي الذي تكلمت به إلى داود أبيك، وأكنك في وسط بني إسرائيل، ولا أترك شعبي إسرائيل". وأن البيت طوله ستون ذراعًا وعرضه عشرون ذراعًا وسمكه ثلاثون ذراعًا. وقد بنى البيت من الحجارة".

(راجع : د. عبد الحميد زايد، القدس الخالدة، الهيئة المصرية للكتاب 1974م، ص62، وندوة الأزهر حول: القدس ماضيها ومستقبلها، جمادى الآخرة 1416هـ / نوفمبر 1995م).

حديث العهد القديم عن بناء سليمان للمسجد (الهيكل):

يذكر "الإصحاح السابع من سفر صموئيل الثاني أنه كان هناك نبي اسمه ناتان وأن داود جاء إليه ليستشيره في بناء بيت للرب، وأن الرب أوحى لناتان بأن يقول لداود: إن نسلك الذي يخرج من أحشائك هو الذي يبني لي بيتا، وإنه سيثبت كرسي مملكته إلى الأبد".

"وجاء في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر أخبار الأيام الأول أن داود أمر بجمع الأجانب الذين في أرض إسرائيل وأقام نحاتين لنحت حجارة مربعة لبناء بيت الله. والعبارة قد تفيد أن النحاتين هم أولئك الأجانب. ثم يستمر الإصحاح فيقول: وجهَّز داودُ حديدًا كثيرًا للمسامير لمصاريع الأبواب والوصل، ونحاسًا كثيرًا يفوتُ الوزن، وخشبَ أَرْزٍ لا يُحصى أحضره له الصيدونيون والصوريون، قائلا: إن ابني سليمان صبيٌّ غضٌّ والبيتُ الذي يبنى للرب عظيم جدا فأنا أجهز له، ثم دعا سليمان وأوصاه ببناء بيت للرب وقال له: إنه كان في نفسي أن أبني بيتا للربِ إلهي غير أن كلام الرب صار إليّ قائلا: إنك قد سفكتَ دما كثيرا على الأرض أمامي، وإنه سيولد لك ابن يكون رجلَ سلامٍ أريحه من جميع أعدائه، وأمنحُ السِّلم والدعة لإسرائيلَ في أيامه، فهو يبني لاسمي ويكون لي ابنا وأكون له أبًا".

"وفي الإصحاح التاسع والعشرين من سفر أخبار الأيام الأُول أن داود قال: إن ابني سليمان الذي اختاره الله وجده صغيرًا غضًّا، وإن عمل الهيكل عظيم؛ لأنه للرب، وإنه جهز بكل وسعه لبيت الإله: الذهبَ لما هو ذهبٌ والفضةَ لما هو فضةٌ والنحاسَ لما هو نحاسٌ والحديدَ لما هو حديدٌ والخشبَ لما هو خشبٌ وحجارةَ الجزع وحجارةَ الترصيعِ وحجارةً كحلاءَ ورقماءَ وكلَّ نوع من الحجارة الكريمة، وحجارةً بكثرة من الرخام، وإنه وهَبَ مِن ماله الخاصّ من الذهبِ والفضةِ علاوةً على ذلك ثلاثةَ آلافِ قنطارٍ من ذهبِ أوفير وسبعةَ آلافِ قنطارٍ فضةً مصفاة لتصفيح جدران البيت، وأنه قال للناس مَن كانَ مُتطوعا فليملأ يده للرب اليوم، فأدى الرؤساء والآباء لخدمة بيت الله من الذهب خمسةَ آلافِ قنطارٍ وعشرةَ آلافِ درهم، ومن الفضة عشرةَ آلافِ قنطارٍ، ومن النحاسِ ثمانيةَ عشرَ ألفَ قنطارٍ، ومن الحديدِ مائةَ ألفِ قنطارٍ، ومَن وجد عنده حجارة أداها لخزينة الرب، وإن الشعب فرح لهذه التبرعات".

"وجاء في الإصحاح الثالث من سفر الملوك الأول ـ أن الشعب في عهد سليمان كان يقرب ذبائحه على المشارف لأنه لم يكن قد بُني بيت للرب".

"وجاء في الإصحاح الخامس من سفر الملوك الأول - أن حيرام ملك صور أرسل عبده إلى سليمان لتهنئته بالملك لأنه كان محبا لداود. فأرسل سليمان إليه يقول: إن أبي لم يقدر أن يبني بيتا للرب بسبب الحروب التي أحاطت به، وقد أراحني الرب من كل الجهات فليس من فاتن ولا حادثة شرٍّ، وإني نويتُ أن أبنيَ بيتًا للرب، ثم طلب منه أن يأمر بقطع أرز من لبنان بواسطة عبيد الطرفين، على أن يؤدي إليه أجرة عبيده حسب ما يرسم، وقد لبى حيرام طلب سليمان فكان يرسل إليه بخشب الأرز وخشب السرو حسب ما أراد، وأدى سليمان إلى حيرام مقابل ذلك عشرين ألف كر من الحنطة طعاما لبيته وعشرين ألف كر من الزيت كل سنة. وتعاهد الملكان على السلم. ثم سخر سليمان ثلاثين ألف رجل وقسمهم إلى ثلاث مجموعات وكان يرسلهم إلى لبنان على دورات شهرية كل شهر ثلثهم. ثم سخر سبعين ألف رجل لحمل الأثقال وثمانين ألفا لقطع الأحجار. وقد بلغ عدد الرؤساء والوكلاء والمراقبين ثلاثة آلاف وثلاثمائة على ما ذكره الإصحاح نفسه. وفي الأرقام مبالغة ظاهرة. وقد انتهى الإصحاح بقوله: إن الملك ـ سليمان ـ أمر بقلع حجارة كبيرة ثمينة لتأسيس البيت بالحجارة المنحوتة فنحتها بنَّاءو سليمان وبناءو حيرام والجبليون، وهيأوا الأخشاب والحجارة لبناء البيت.

وقد ذكر الإصحاح السادس أن سليمان بدأ ببناء الهيكل في السنة الرابعة من ملكه. وذكر الإصحاح السابع أنه أتمه في السنة الحادية عشرة من ملكه. وقد ذكر الإصحاح السابع أن سليمان أنشأ بالإضافة إلى الهيكل قصرا، فيه قسم لسكناه وآخر للقضاء والحكم وسماه غابة لبنان وأتمه في السنة الثالثة عشرة من حكمه، وأنه أنشأ كذلك بيتًا لزوجته بنت فرعون.

ولقد احتوى الإصحاحان وصفًا للهيكل والقصر ممزوجا بكثير من الخيال والمبالغة، وخاصة في مقادير الذهب التي وضعت في الهيكل، حتى لكأنه كان سبيكة من الذهب، فالمحراب الذي بطولِ عشرينَ ذراعًا وعرضِ عشرينَ ذراعًا وسُمكِ عشرينَ ذراعًا مغشي بالذهب، والمذبح القائم أمامه مغشي بالذهب، وداخل البيت مغشي بالذهب، والسلاسل الممتدة أمام المحراب من الذهب، وجميع البيت بتمامه مغشي بالذهب (وهذه عبارة الإصحاح)، والكروبين التي سمك كل منها عشرة أذرع وكل جناح من أجنحتها خمسة - مغشاة بالذهب، وأرضُ البيت داخلا وخارجا مغشاة بالذهب (وهذه عبارة الإصحاح أيضا)، والمصراعان مغشيان بالذهب. وجميع الأدوات من مذبح ومائدة ومنائر وسرج وأزهار ومقاط وطسوت ومقاريض وجاماك وصحون ومجامر ومفاصلِ مصاريعِ قدسِ الأقداسِ من ذهبٍ خالص!

وقد أطنب الإصحاح السابع في الأعمال والزخارف النحاسية التي قام بصنعها فنان من صور اسمه حيرام استحضره سليمان خصيصا لذلك، ووصفه بأنه كان ممتلئا حكمةً وفهمًا ومعرفة في كل صنعة من النحاس".

"وقد جاء في الوصف فيما جاء في صدد ضخامة البناء وتفرعاته أن أساساته وجدرانه كانت من حجارة ضخمةٍ بعضها عشرة أذرع وبعضها ثمانية أذرع، وكانت تنحت وتنشر في المقالع، وأن طول الهيكل ستون ذراعا وعرضه عشرون وسمكه ثلاثون (ولعل المقصود من كلمة سمك هنا وفي غير مكان، هو الارتفاع لأنه لا يبدو معنى لسمك مثل هذا السمك في التعبير عن تخانة الجدران) وكان أمامه رواق طوله عشرون ذراعا وعرضه عشرة أذرع، وعلى جوانبه طباق ثلاث وغرف محيطة به. وقد سقف بجذوع وألواح من الأرز، وفرش بألواح من السرو. وأقيم في مؤخرته محراب من ألواح الأرز المزخرفة، وكان طوله عشرين ذراعا وعرضه عشرين وسمكه عشرين، وكان يظلله كروبان من خشب العتم، سمك كل منهما عشرة أذرع وكل جناح في كل منهما خمسة أذرع، وقد انبسطت الأجنحة وتماست في وسط البيت. وقد نقش على جميع الجدران صور كروبين ونخيل وزهر ونقش مثل ذلك على المصاريع. وكانت الدار الداخلية ثلاثة صفوف من الحجارة المنحوتة، وصف من جوائز الأرز".

"وفي الإصحاح الثامن من سفر الملوك الأول وصفٌ لتدشين الهيكل، امتزج هو الآخر بالخيال والذكريات، ومما ذكره الإصحاح أن سليمان جمع عظماء الآباء والشيوخ والرؤساء للاحتفال بنقل تابوت عهد الرب الذي كان فيه لوحا الحجر اللذان وضعهما موسى فيه في حوريب، حيث عاهد الربُّ بني إسرائيل عند خروجهم من مصر، وأن الكهنة حملوا التابوت وخباء المحضر وكل الأمتعة المقدسة وسار الجميع في موكب عظيم حتى أدخل التابوت إلى مكانه في المحراب تحت أجنحة الكروبين، وأن الكهنة حينما خرجوا من قدس الأقداس ـ المحراب ـ ملأ الغمام بيت الرب فلم يستطع الكهنة أن يقفوا للخدمة بسبب الغمام لأن مجد الرب قد ملأ البيت، وأن سليمان حينئذ أقبل بوجهه وبارك كل جماعة إسرائيل الذين كانوا وقوفا".

"وقد حكى الإصحاح التاسع أن الرب تجلى لسليمان وقال له: إني قد سمعت صلاتك وتضرعك وقد قدست هذا البيت الذي بنيته لأجعل اسمي فيه إلى الأبد وستكون عيناي وقلبي هنا كل الأيام. وإذا سرت أنتَ أمامي كما سار داود بسلامة القلب والاستقامة وعملت بجميع ما أمرتك به وحفظت رسومي وأحكامي أقر عرش ملكك على إسرائيل إلى الأبد كما كلمت داود أباك، وإن عُدتم وزُغتم أنتم وبنوكم ولم تحفظوا وصاياي ورسومي وعبدتم آلهة غريبة وسجدتم لها فإني أقرض إسرائيل عن وجه الأرض، وأنفي البيت الذي قدسته من حضرتي فيكون إسرائيل مثلا وأحدوثة بين الشعوب ويكون هذا البيت عبرة لكل من يمر به فيقول: لماذا فعل الرب كهذا بهذه الأرض وهذا البيت؟ فيجاب لأنهم تركوا الرب الههم.

(باختصار نقلاً عن: تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم: محمد عزة دروزه ، ج2 ص 187 ، 197 ـ 198 ، 200 ، 205 ، 207 ـ 209 ، 210 ـ 212).

 

 

11- الغزو البابلي لبيت المقدس:

بعد وفاة سليمان ـ عليه السلام ـ دب الخلاف بين بني إسرائيل، وتنازعوا على الملك، وانقسموا دولتين: إسرائيل في الشمال، ويهوذا في الجنوب، وعاصمة الأخيرة بيت المقدس.

ودب فيهم الداءان: الفرقة، وضعف الإيمان بالله، فكان من أثر ذلك أن تسلط عليهم أعداؤهم، فاقتحم الآشوريون القساة دولتهم الشمالية، وشردوا الشعب فيما سمى بـ "السبي الأول"، حوالي عام سبعمائة وواحد وعشرين قبل الميلاد.

وأما الدولة الجنوبية يهوذا، فقد اكتسحها البابليون، يقودهم نبوخذ نصَّر أو بختنصر البابلي، الذي تعامل مع بني إسرائيل بقسوة شديدة أيضا، لضلوعهم في معاونة خصومه من فراعنة مصر ـ كما يذكر بعض المؤرخين ـ فحطم بختنصر بيت المقدس، وذبح قائد الإسرائيليين وأبناءه، ونفى الشعب الإسرائيلي إلى ما بين النهرين، فيما سمى بـ  "السبي الثاني". وهرب الكثيرون من وجه البطش البابلي إلى مصر والشمال الإفريقي وشبه الجزيرة العربية، وأصبحت القدس مدينة مدمرةً تتردد في أنحائها أصوات الخراب والدمار، وصارت خالية من الإسرائيليين تماما. وذلك في أوائل القرن السادس قبل الميلاد.

في هذا الزمان كان الآشوريون حكاما أقوياء فيما بين النهرين، فزحف البابليون في دولتهم الثانية على العاصمة الآشورية نينوى حتى سلبوا منها المجد، وحطموا الدولة الشرسة، ثم انطلق البابليون يوسِّعون سلطانهم، حتى أخضعوا الشام وبيت المقدس، ومنذ هذا اليوم سرى على القدس قانون أن الأقوى هو وحده الذي يستطيع السيطرة على المدينة المقدسة، يصدق ذلك على البابليين، كما يصدق على الفرس من بعدهم، ثم اليونان، ثم الرومان، وهكذا.

إفساد بني إسرائيل:

(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) (الإسرء: 4 ـ 7).

يخبر تعالى أنه أَعْلَمَ بني إسرائيل في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويتجبرون ويطغون ويفجرون.. فإذا جاء وعد أولى الإفسادتَيْن سلّط الله عليهم جندًا من خلقه أولي بأس شديد؛ أي قوة وعُدة وعدد فتملكوا بلادهم وسلكوا خلال بيوتهم ذاهبين وجائين لا يخافون أحدًا وكان وعدا مفعولا.. وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم من هم؟ فقيل هم جالوت وجنوده.. وقيل: سنحاريب وجنوده.. وقيل: إنه بختنصر ملك بابل الذي ظهر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم ثم أتى دمشق فقتل سبعين ألفا من أشرافهم وعلمائهم وأخذ معه خلقا كثيرا أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم..

قوله تعالى: "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها" أي فعليها كما قال تعالى: "من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها"، فإذا أفسدتم الكرة الثانية جاء أعداؤكم ليسوءوا وجوهَكم ويهينوكم ويقهروكم وليدخلوا مسجد بيت المقدس كما دخلوه أول مرة حين جاسوا خلال الديار "وليتبّروا ما علوا تتبيرا" أي يدمروا ويخربوا ما ظهروا عليه.

(تفسير ابن كثير).

تغير المجتمع الإسرائيلي مع السبي البابلي:

كان المجتمع الإسرائيلي في الشام زراعيا "حتى جاء السبي (البابلي) فانتزعه من الزراعة إلى التجارة بفضل انتقال الإسرائيليين إلى مملكة بابل، حيث كانت الحياة التجارية قد استكملت كل مقوماتها .. ولم يبق أمام الإسرائيليين المسبيين إلا دخول السوق والاتجار. فمن الوثائق التي جاءتنا، والخاصة بالبيت التجاري الشهير "موراشو" وأولاده الذي تأسس حوالي 464 ق.م نعلم أن عددًا كبيرًا من عملائه كانوا إسرائيليين".

(إسرائيل عبر التاريخ 1 / 136 د. فؤاد حسنين علي).

 

 

12- سيطرة الفرس على بيت المقدس:

في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، وبعد أن أزال الإمبراطور الفارسي قورش مُلْكَ البابليين، راح الفرس يبسطون سلطانهم على المواضع المهمة من العالم المحيط بهم، وكانت دولتهم فَتِيَّةً تملك من أسباب القوة ما يمكّنها من ذلك، كما كان سلطانُها الكبير قورش يسلك سبيل الرفق مع خصومه، على النقيض من سابقِيهِ من الآشوريين والبابليين الذين لم يقتصروا على الشدة مع أعدائهم في ساحات الحرب، بل اشتدوا أيضا في مواجهة الشعوب بعد فتح الدول والاستيلاء على المدن.

وقد كان قورش أحد الفاتحين التاريخيين لبيت المقدس، فقد اتخذ قرارًا ذا أهمية خاصة في تاريخ اليهود، وهو السماح لهم بالعودة من السَّبْيِ إلى بيت المقدس، بعد أن مزق البابليون جموعهم، لكن كثيرا من الإسرائيليين كانوا قد كيّفوا حياتهم مع الواقع الجديد، واستقرت أوضاعهم في بلاد ما بين النهرين، وفضلوا البقاء في المنازل الهادئة التي أقاموها على شواطئ دجلة. إلا أن القلة التي عادت إلى المدينة المقدسة أعادت بناء سور المدينة وبيت العبادة من جديد.

ومع أن الفرس قد غادروا المدينة ومدنا أخرى كثيرة غيرها أمام زحف الإسكندر المقدوني الكاسح، إلا أنهم عادوا إليها، والرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مرحلة دعوته في مكة، وذلك بعد الانتصار الكاسح الذي حققوه في مواجهة البيزنطيين سنة 614 من الميلاد، وعاد الفرس ليلقوا هزيمة مريرة أمام الحشود الهائلة التي قادها هرقل بعد هذا التاريخ بثلاثة عشر عاما، حيث سيطر الروم البيزنطيون على بيت المقدس بضع سنوات، انتهت بالفتح العُمَرِيّ للمدينة المقدسة سنة ست عشرة من الهجرة.

 

قصة العزير:

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 259).

تفسير ابن كثير للآية:

سبق هذه الآية قولُه تعالى "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وهو في قوة قوله هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه ولهذا عطف عليه بقوله "أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها". اختلفوا في هذا المار من هو فروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أنه قال: هو عزير. ورواه ابن جرير عن ناجية نفسه وحكاه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وسليمان بن بريدة وهذا القول هو المشهور..

وأما القرية فالمشهور أنها بيت المقدس، مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها. "وهي خاوية" أي ليس فيها أحد، من قولهم خوت الدار تخوي خويا. وقوله "على عروشها" أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها، فوقف متفكرا فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة، وقال: "أنى يحيي هذه الله بعد موتها" وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها وبعدها عن العودة إلى ما كانت عليه. قال الله تعالى: "فأماته الله مائة عام ثم بعثه".. وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته، وتكامل ساكنوها، وتراجع بنو إسرائيل إليها، فلما بعثه الله ـ عز وجل ـ بعد موته كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه كيف يحيي بدنه، فلما استقل سويا قال الله له ـ أي بواسطة الملك: "كم لبثت؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم".. وذلك أنه مات أول النهار ثم بعثه الله في آخر النهار، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم، فقال: "أو بعض يوم. قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه" وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما تقدم لم يتغير منه شيء، لا العصير استحال ولا التين حمض ولا أنتن ولا العنب نقص.

"وانظر إلى حمارك" أي كيف يحييه الله عز وجل وأنت تنظر، "ولنجعلك آية للناس" أي دليلا على المعاد، "وانظر إلى العظام كيف نُنْشِزُها" أي نرفعها فيركب بعضها على بعض.. "ثم نكسوها لحما"... فعند ذلك لما تبين له هذا كله "قال أعلم أن الله على كل شيء قدير" أي أنا عالم بهذا وقد رأيته عيانا فأنا أُعلم أهل زماني بذلك.

العبرانيون:

يقول أندريه إيمار (أستاذ في جامعة السوربون): "فرضت الحياة البدوية على العبرانيين نظام القبائل الجماعي، ثم فرض عليهم الصراع بغية احتلال أرض الكنعانيين، والمنازعات مع الفلسطينيين بنوع خاص، تنظيما آخر بجانب ظهور الروح القومية وسيرها في مدارج التقدم، فالحرب تتطلب رؤساء يستطيعون جمع الحد الأقصى من طاقات العمل والنشاط في مجهود مشترك. (و) كان الرؤساء الأول "القضاة" وهو الاسم الذي أُطلق على القضاة المدنيين في المدن الفينيقية".

ويقول: "في مملكة إسرائيل الواسعة، وجد أتباع يهوه أنفسهم أكثر ميوعة وانفلاتا، فنزعوا إلى التظاهر فيها باستعدادهم لتقبل التأثيرات الخارجية، ولاسيما الكنعانية منها، فبدا إيمانهم وما يستلزمه من طقوس أقل نقاء وصفاء".

 

 

 

13- اليونانيون ووجود قلق في القدس:

الإسكندر الأكبر أو الإسكندر المقدوني، أحد القادة الكبار في التاريخ البشري، شرَّق بقواته وغرَّب فاتحا للبلاد والمدن، واستولى بقواته، وهو في مَيْعَةِ شبابه، في القرن الرابع قبل الميلاد، على مساحات واسعة من الأرض المعمورة حينئذٍ، فكون إمبراطورية لها ممتلكات في كل قارات العالم القديم: أوروبا وآسيا وإفريقيا.

وكان من قدر مدينة بيت المقدس أن تقع في يد هذا القائد الكبير، الذي أزال دولة الفرس، حين هزم دارا الثالث بالقرب من نهر إيسوس..

وقد سار الإسكندر في معاملته لليهود سير سابقِيه من الفرس، فمال إلى الرفق بهم؛ إذ استطاع أحد أحبار اليهود أن يؤثر عليه، وينال رضاه.

وعلى الرغم من ذلك فقد ضعفت أهمية بيت المقدس في هذه الفترة؛ إذْ كانت القوافل التجارية تمر بالمدن القريبة منها، دون أن تكون في حاجة إلى الذهاب إلى أورشليم التي تفتقر إلى المواد الخام التي تعتمد عليها التجارة.

واختطف الموت الإسكندر سنة 322 قبل الميلاد، وهو في شرخ شبابه، وكان قد مر على فتحه للقدس عشر سنوات فقط.. فانفتح بموته بابٌ لصراعٍ مرير بين ذوي النفوذ في دولته؛ إذْ لم يتركْ لخلافته سوى طفل صغير، كان تولّيه إيذانا بقيام المعارك والصراعات الطاحنة بين أصحاب النفوذ في جميع أنحاء إمبراطورية الإسكندر، و"تعرضت أرض يهوذا ـ وعاصمتها أورشليم ـ باعتبارها منطقة عبور مركزية للقوات المتصارعة ـ للغزو المتواصل من الجيوش السائرة من آسيا الصغرى إلى سوريا أو مصر، تحمل أمتعتها ومعداتها وعائلاتها وعبيدها. وفُتحت أورشليم ست مرات على الأقل في تلك السنوات".

تأرجحت السيطرة على القدس في هذه المرحلة بين طائفتين من اليونانيين هم: البطالمة والسلوقيون، فأخذ بطليموس الأول الذي سيطر على المدينة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة قبل الميلاد ـ ينفي اليهود خارج القدس، ونقل الكثير منهم إلى الإسكندرية.

ومالت الكفة إلى السلوقيين سنة 275 قبل الميلاد، فاستولوا على بيت المقدس، ثم عاد البطالمة من جديد واستولوا على المدينة المقدسة سنة 199 قبل الميلاد، فدمر اليونانيون بيت العبادة الإسرائيلي، وكثيرًا ما كانوا يستدرجون اليهود إلى يافا، ويغرقونهم في مياهها، وازدادت الهجرات اليهودية إلى مصر والشمال الإفريقي وبلاد ما بين النهرين خلال هذه الفترة.

وقد جعلت هذه الأحداث الدامية اليهود أكثر ميلا إلى الحكم السلوقي، فعاونوه ضد البطالمة والمصريين (الذين كانوا خاضعين للحكم البطلمي أصلا)، فعادت أورشليم تابعة للسلوقيين من جديد، وخفف أنطيخوس السلوقي الضرائب عن اليهود، واهتم بعمارة المدينة وتدعيم حصونها، حتى ازدهرت أورشليم، وصارت مدينةً فخمة معمورة بالسكان.

ولم يمر وقت طويل حتى اقتحم المدينةَ غازٍ جديد، هو أنطيوخوس أبيفانس الحاكم اليوناني في سوريا، وذلك حوالي سنةِ مائة وسبعين قبل الميلاد، فنهبها وذبح الكثير من سكانها، ثم أرسل قائده أبولونيوس ليواصل عمله في تدمير المدينة ومعبدها، مما نتج عنه ثورة يهودية عارمة سنة ثلاث وستين ومائة، تسمَّى ثورة المكابيين، التي نجح اليهود فيها في طرد اليونانيين من بيت المقدس.