موقع القدس


الصفحة الرئيسية لموقع القدس
تاريخ القدس القديم |  قبل الإسلام |  الرومان والقدس |  منذ الفتح الإسلامي |  عهد الأمويين |  عهد الفاطميين |  الإحتلال الصليبي
عهد الأيوبيين |  عهد المماليك |  عهد العثمانيين |  العهد العباسي |  عهد الطولونيين |  الإحتلال البريطاني |  الإحتلال الصهيوني
الصحابة |  علماء وزهاد |  مؤرخون ورحالة |  نساء |  أدباء |  شخصيات فلسطينية وعربية
القدس في التاريخ |  مكانة القدس |  الموقع الفلكي |  كنيسة القيامة |  موقف العرب |  المقاومة |  برنامج القدس
دعم أمريكا لإسرائيل |  القضية الفلسطينية في قرنين |  إحصائيات عن اليهود |  الصهيونية
العهدة العمرية واللورد بالمرستون ونابليون والبيع لليهود ورد الشريف حسن ووعد برلفور
صور القدس 1 |  صور القدس 2 |  صور القدس 3 |  صور القدس 4 |  صور القدس 5 |  مواقع

 

6- القدس في عهد الأيوبيون:-

           1- صلاح الدين الأيوبي والقدس:

لم يكن صلاح الدين يوسف بن أيوب قد ولد حين وقعت المأساة، واحتل الصليبيون القدس، غير أنه فتح عينيه على الحياة سنة خمسمائة واثنتين وثلاثين، وهناك صراعٌ مريرٌ يدور بين المسلمين والصليبيين، وحين بلغ السابعة كان عماد الدين زنكي يدمر مملكة الرها، ويخرج الصليبيين منها، وحين بلغ السابعة عشرة، كان نور الدين محمود يسعى حثيثًا إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، ويضم إليه دمشق، بعد أن خيب أمل الصليبيين في الاستيلاء عليها.

بدأ صلاح الدين يظهر على ساحة الحياة الإسلامية شيئا فشيئا، في جو من التواجد الكثيف لأبيه أيوب وعمه أسد الدين شيركوه بالقرب من عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود المجاهدَيْن الكبيرين.

وفي حياة نور الدين وحكمه بدأ دور صلاح الدين، حيث صحب جيش عمه أسد الدين شيركوه لضم مصر إلى دولة نور الدين، وهي المهمة التي نجحت سنة خمسمائة وأربع وستين للهجرة، فأصبح للدولة الفتية جناحان من القوة: مصر والشام، استطاعت فيما بعد أن تطوق بهما الوجود الصليبي في الشام، حتى تلاشى تمامًا أيام المماليك.

وبوفاة نور الدين محمود سنة خمسمائة وتسع وستين للهجرة، أصبح صلاح الدين الأيوبي الأمير الأقوى في الدولة، فأخذ يطبق استراتيجيته لمواجهة الصليبيين، وعينُه على بيت المقدس، واصطدم بالصليبيين في معركة كبرى في حطين سنة خمسمائة وثلاث وثمانين، فسهَّلت له بانتصارها الكبير الطريق إلى بيت المقدس، وسار صلاح الدين بقواته إلى المدينة المباركة، وافتتحها في السابع والعشرين من شهر رجب من نفس العام، بعد غربة دامت حوالي تسعين عامًا.

 

 

 1- إعداد صلاح الدين للمواجهة مع الصليبيين:

كانت القدس عند صلاح الدين يوسف بن أيوب هي قلب المعركة في الصراع مع الصليبيين، وكان لابد من الإعداد والاستعداد الطويل لها، فالطريق إلى تحرير القدس ـ كما رآها ـ مملوءة بالصعوبات...

وإذا كان فتح القدس قد استغرق بضعة عشر يومًا، فإن الإعداد له استغرق حياة جيلين، منذ قام عماد الدين زنكي يقاتل الصليبيين وعينه على المدينة المقدسة.

وقد كان لازمًا لصلاح الدين، وهو يُعِدُّ أمته للمواجهة الشرسة مع الصليبية، أن يهتم بإصلاح جبهته الداخلية، لأن العدو إذا خرج من الداخل كان أشد خطورة، كما أن الجبهة المهلهلة المتفرقة لا تصبر في وجه عدو، فاتخذ ثلاثة إجراءات كبيرة هي:

ـ الإصلاح العقائدي بإلغاء الدولة الفاطمية ودعوتها.

ـ ثم مقاومة الفتن الداخلية.

ـ ثم توحيد ما استطاع توحيده من البلاد الإسلامية.

كما اتبع صلاح الدين سياسة عمرانية واقتصادية واجتماعية تهدف إلى خدمة سعيه نحو تحرير العالم الإسلامي، وإخراجه من ورطته الحضارية، التي كانت الهزيمة والتراجع أمام الصليبيين نتيجة من نتائجها.

واحتاج تنفيذ هذا كله من صلاح الدين أن يخوض معارك شديدة الخطورة، فلقي مقاومات عنيفة، لكنها فشلت في أن تحول دون التغييرات التي سعى إليها.

 

 

2- الإصلاح العقائدي:

لكي يؤتي الإصلاح نتيجته المنتظرة منه، كان لابد أن يمس النفس من الداخل، وأن يُصْلِح العِوَج الذي أصابها، فالدولة الفاطمية الإسماعيلية التي مكثت تحكم من القاهرة جزءًا كبيرًا من العالم الإسلامي لأكثر من قرنين، رسَّخت بعض المبادئ التي لا تتفق ونقاءَ العقيدة الإسلامية، كالعصمة الممنوحة للخليفة ـ والتي تجعل قراراته بعيدة عن المناقشة أو المخالفة، مهما بدت منافيةً لنصوص الدين وروحه ـ والتأويلِ الباطني للقرآن.

وقد اهتم الفاطميون اهتمامًا بالغًا بتوصيل مبادئهم وأفكارهم وترسيخها في البيئة الإسلامية، فبثوا الدعاة، وبنوا المساجد، وأقاموا دور العلم ـ مثل دار الحكمة ـ من أجل تحقيق هذا الهدف.

وقد كان ترسيخ أفكارهم ونشرها في العالم الإسلامي يضمن لدولتهم البقاء الأطول، لذلك أشرف عليها الخليفة مباشرة. وبالرغم من ذلك لاقوا مقاومة كبيرة، ولم يجدوا عند الناس القبول التام لأفكارهم، وإن كان الأثر الشعبي للفاطميين ما زال موجودًا إلى الآن في العديد من البيئات الإسلامية، على هيئة احتفالات بالموالد وما شابهها.

كانت هناك خطوة مهمة أمام صلاح الدين وهو في القاهرة لابد أن يتخذها في سبيل الإصلاح العقائدي، وهو إلغاء الخلافة الفاطمية وجميع تقاليدها وأعمال دعاتها، وكانت مهمةً صعبة تحتاج إلى تمهل لامتصاص رد الفعل إذا كان أكثر غضبًا، فهناك مجموعة كبيرة من الأعيان يَهُمُّها أن يستمر المذهب الفاطمي والدولة الفاطمية، وكان الخليفة العباسي المستنجد بالله والأمير نور الدين محمود يحثّان صلاح الدين على إلغاء الفاطمية وإبطال الخطبة لها.

واستجمع صلاح الدين همته، وعزم على الأمر، فعزل "قضاة مصر الشيعة، وقطع أرزاقهم، وشرد الدعاة (الإسماعيلية)، وألغي مجالس دعوتهم، وأزال أصول المذهب الشيعي، مثل الأذان بحي على خير العمل بدلا من الأذان بحي على الفلاح.. بل حذف من النقش الديني على العملة المتداولة بين الناس صفة العقيدة الشيعية: عليٌّ ولي الله"، وأسقط الدعوة للخليفة الفاطمي العاضد، وجعل مكانها الدعوة للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله بن المستنجد، ولنور الدين بعده، وأزال اسم العاضد من العملة، ووضع اسم المستضيء ونور الدين أيضا، ومنع صلاة الجمعة في الجوامع الكبيرة التي كانت تبثّ الدعوة الفاطمية فى نشاط منذ زمن، كالجامع الأزهر وجامع الحاكم. وبذلك أصبحت الدولة الفاطمية في أول جمعة من سنة خمسمائة وسبع وستين تاريخًا مضى.

ولم يكن كل هذا كافيًا في الإصلاح العقائدي الذي سعى إليه صلاح الدين، إذ لابد من إعادة تسكين العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس الأمة التي تُعَدُّ للجهاد في سبيل الله، فأقام صلاح الدين مجموعة من المدارس التي تعتني بنشر المذهب السني، كالمدرسة المنشأة بالقرب من قبر الإمام الشافعي بالقاهرة.

 

صلاح الدين ومسيره إلى مصر:

قال ابن الأثير:

"أحبَّ نورُ الدين مسيرَ صلاح الدين (إلى مصر) وفيه ذهاب بيته، وكره صلاحُ الدين المسيرَ وفيه سعادته وملكه. حُكي لي عنه أنه قال: لما وردت الكتب من مصر إلى الملك العادل نور الدين ـ رضي الله عنه ـ مستصرخين ومستحضرين ـ أحضرَني وأعلمَني الحال، وقال: تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسولي إليه يأمره بالحضور، وتحثه أنت على الإسراع، فما يحتمل الأمر التأخير قال: ففعلت، فلما فارقنا حلب على ميل منها لقيناه قادمًا، فقال له نور الدين: تَجَهَّزْ للمسير، فامتنع خوفًا من غدرهم أولاً، وعدم ما ينفقه في العساكر ثانيًا، فأعطاه نور الدين الأموال والرجال، وقال: إن تأخرت أنت عن المسير إلى مصر فالمصلحة تقتضي أن أسير أنا بنفسي إليها، فإننا إن أهملنا أمرها مَلَكَها الفرنج ولا يبقى لنا معهم مقام بالشام وغيره.

قال: فالتفت إليَّ عمي أسد الدين وقال: تجهز يا يوسف، قال: فكأنما ضرب قلبي بسكين، فقلت: والله لو أعطيتُ ملكَ مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية من المشاق ما لا أنساه أبدًا، فقال عمي لنور الدين: لا بدّ من مسيره معي، فأمرني نور الدين وأنا أستقيله، ثم انقضى المجلس، ثم جمع أسد الدين العساكر من التركمان وغيرهم، ولم يبق غير المسير، فقال لي نور الدين: لابد من مسيرك مع عمك، فشكوت إليه المضايقة وقلة الدواب وما أحتاج إليه، فأعطاني ما تجهزت به، وكأنما أُساقُ إلى الموت، وكان نور الدين مهيبًا مخوفًا مع لينه ورحمته، فسرتُ معه، فلما استقر أمرُه وتوفي أعطاني الله من ملكها ما لا كنت أتوقعه".

(مختصر كتاب الروضتين في أخبار الدولتين "النورية والصلاحية" ص 133 ـ 134).

 

 

3- القضاء على الفتن الداخلية:

حين تقلد صلاح الدين منصب الوزارة في مصر كان في ريعان الشباب، لذا كان موضع حسد كثير من رجال الدولة الذين عملوا في ظل الفاطميين، فاعتبروه دخيلا عليهم، ومغتصبا لحقوقهم، فضلا عن ذلك كانوا يعملون على تثبيت حكم الفاطميين في مصر مهما كلفهم ذلك من ثمن... فلم يدَّخروا جهدا في تدبير المؤامرات، وبث الدسائس عسى أن يتخلصوا من الوزير الشاب الطموح صلاح الدين، ومن أبرز هذه المؤامرات: مؤامرة مؤتمن الخلافة، ومؤامرة عُمارة اليمني، ومؤامرة كنز الدولة.

أما مؤتمن الخلافة جوهر فقد كان له الحل والعقد في قصر "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين في مصر، فاتفق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفِرِنْج، واستدعائهم إلى البلاد، ليَقْوَوا بهم على صلاح الدين ومن معه، فكتب إلى الإفرنج كتابا يحضهم فيه على الزحف على مصر، حتى إذا وصلوا وخرج إليهم صلاح الدين، وزحف مؤتمن الخلافة بجموع، واقتفى أثره ـ وَقَعَ صلاح الدين بين نارين، فلا يَبقى له ولا لمن معه باقيةٌ.

علم صلاح الدين بالحقيقة، لكنه لم يظهر ذلك، ولم يعاقب مؤتمن الخلافة فورًا حتى لا تثور ثائرة أتباعه ومؤيديه، فما زال صلاح الدين يمهله ويطاوله حتى أتيحت له الفرصة فتمكن منه ومن أتباعه فقضى عليهم.

وأما عمارة اليمني فقد اعتبر الأيوبيين مغتصبين للعرش الفاطمي، وطالما مدح الفاطميين وأيامَهم في شعره، وعمل على إعادة الحكم الفاطمي، ودعا عددا كبيرًا من الجند، وانضم إليه المناصرون، وبقايا الفاطميين وأصبحت حركته خطرا يهدد دولة الأيوبيين الوليدة، ليس هذا فحسب بل كاتب الإفرنج في ذلك ليستعين بهم على تقويض حكم صلاح الدين، والقضاء عليه نهائيا.

لكن أحد مؤيديه، وهو زين الدين بن نجا، وَشَى بخبرهم إلى صلاح الدين ابتغاء المكافأة، فقبض صلاح الدين عليهم وقتلهم سنة خمسمائة وتسع وستين.

وأما كنز الدولة والي أسوان وقوص فقد سعى سنة خمسمائة وسبعين إلى إعادة البيت الفاطمي إلى السلطة، وأنفق في أتباعه أموالاً جزيلة، وانضم إليه جماعة ممن يميلون إلى الفاطمية، فقتل عشرة من أمراء صلاح الدين، فجهز صلاح الدين أخاه "العادل" في جيش كثيف، ثم سار "العادل"، فلقي " كنز الدولة"، وكانت بينهما حروب فرّ فيها كنز الدولة، بعدما قتل أكثر عسكره، ثم قتل كنز الدولة في سابع صفر، وقدم الملك العادل منتصرًا إلى القاهرة في الثامن عشر من صفر.

وهكذا استطاع صلاح الدين أن يقطع دابر الفتن، وأن يقضي على القلاقل والمؤامرات، لينطلق بعد ذلك نحو أفق أوسع في مواجهة الصليبيين.

 

 

4- جهود صلاح الدين العمرانية:

يمثل العمران الداخلي للوطن الوجهَ المكمِّل للعمران الداخلي للإنسان، وإذا كان صلاح الدين قد سعى نحو إرجاع العافية إلى الجسد الإسلامي بإصلاح العقيدة لدى المسلمين، فقد حرص بالمثل على إعمار الأرض بالبنايات المدنية التي تيسّر للخلق أمر معايشهم، والمنشآتِ العسكرية التي تدفع عن الوطن جيوش الأعداء.

ومن هذه البنايات المهمة: سور القاهرة وقلعتها العتيقة (قلعة الجبل)، وقلعة سيناء، وعمَر جزيرة الروضة في النيل، وقوّى أسطول مصر، وجعل له ديوانا مخصوصا أشرف عليه أخوه العادل ، ليكون الأسطول ـ مع جيشه البري ـ ذراعا قوية للمسلمين في وجه الصليبية وحملاتها الشرسة وقواعدها الحصينة.

وعمر السلطان أسوار الإسكندرية وأبراجها، وشيد دورا لعلاج المرضي في عدة مواضع من مملكته، وأقام جنوب قلعة سيناء مسجدين متجاورين، وصهريجا لسقاية الناس.

وامتدت أعمال الإعمار بصلاح الدين بعد تحرير بيت المقدس، فحرص على تحصينها، وبنى بها عدة مدارس، أهمها المدرسة الصلاحية بالقدس.

 

 

5- جهود صلاح الدين الاقتصادية:

تحتاج الحرب إلى استقرار اقتصادي تستطيع الأمة معه أن تمول جهودها القتالية، وتأمن معها من الهِزات والأزمات الداخلية في مثل هذه الأوقات الحرجة.. وقد حرص صلاح الدين على دعم الحركة الاقتصادية في الأجزاء التي سيطر عليها من العالم الإسلامي، فاهتم بالتبادل التجاري الداخلي والخارجي، حتى نشطت التجارة مع بعض المواني الأوروبية، مثل مدن إيطاليا الجنوبية، وأسس تجار البندقية الإيطاليون سوقا لهم في الإسكندرية، واعتنى السلطان بأسواق دولته، وتجلى ذلك في عيون الرحالة في حلب وطرابلس وغيرهما.

واعتنى السلطان الكبير بالري والزراعة، وآخى بين الإقليمين الخصيبين مصر والشام؛ لتأمين حاجة الجيش والأمة من الغذاء.

كما رعى السلطان صلاح الدين الصناعات المهمة في عصره، كالسلاح والسفن والمنسوجات والأقمشة والخزف..

وأكثر من ذلك كانت الحرب نفسها توفر للدولة دخلا كبيرا عقب اللطمات التي يعطيها المسلمون للجيوش الصليبية، فهناك: غنائم الحرب، وفدية الأسرى، وخراج الأرض التي تُفتَح صلحا. كما ضم صلاح الدين كنوز الفاطميين الضخمة إلى أموال الدولة عقب إلغاء خلافتهم.

 

 

6- جهود صلاح الدين الاجتماعية:

تميزت شخصية صلاح الدين بالجد، إدراكًا منه لحساسية المرحلة التي يحياها، وأن الهزل ليس من طبيعة الأمة المجاهدة.

وكان المسلمون في حاجة إلى مثل هذه الروح؛ لحماية هويتهم وذواتهم من المحو والمحق، ووجدوا قدوتهم في قائدهم الذي يشاركهم الحرب والقتال بنفسه، ويسبقُ الناسَ إليها وفيهم أبناؤه وإخوته، ويتعرض لما يتعرض له المسلمون من الأخطار والأهوال ـ والقدوة هي الركن الركين في الإصلاح الاجتماعي.

وألغى السلطان التجمعات والأعياد التي يُزاول فيها الفسق والفجور، مثل عيد النيروز، والمبتدعات التي يُساء فيها إلى الدين، كيوم عاشوراء الذي يحتفل فيه الشيعة بذكرى استشهاد الحسين ـ رضي الله عنه.

كذلك ألغى صلاح الدين الضرائب الجائرة التي كانت مفروضة على رقاب العباد، مثل الضريبة التي كان يفرضها أمير مكة على الحجيج..

 

 

7- تحقيق الوحدة الإسلامية:

وصف ابن الأثير حال المسلمين عندما بدأهم الغزو الصليبيُّ، فقال: "اتفق لهم اشتغال عساكر المسلمين وملوكهم بقتال بعضهم بعضا، وتفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمزقت الأحوال".

فهكذا بدت الصورة في العالم الإسلامي حين حل الصليبيون على المنطقة ضيوفًا ثقلاء وغير مرغوب فيهم، وبسبب هذه الفُرْقة والتنازع بين المسلمين تمكنت الصليبية الغربية من ترسيخ أقدامها، وأصبحت لها ممالك ورعية تابعة في أربع إمارات كبيرة، هي: الرها وأنطاكية وطرابلس والقدس.

وحين هبَّ المسلمون في وجه الزحف الصليبي، الذي كان يسعى إلى قضم المزيد من الأرض الإسلامية، أيقن قادة المسلمين أنه لا نجاح لجهودهم في وقف المد الصليبي والقضاء عليه إلا بتقوية الجبهة الداخلية وتحقيق الوحدة الإسلامية.

وقد تعلم القائد الكبير صلاح الدين هذا الدرس ممن سبقوه على طريق الجهاد، خاصة عماد الدين زنكي ونور الدين محمود، فحرص كلَّ الحرص على تجميع شتات المسلمين، وإبعاد السلاطين الضعفاء عن مواقعهم؛ لأنهم يمثلون نقطة ضعف قاتلة في الجسد الإسلامي الذي يواجه خطر المحو.

ألغى صلاح الدين الخلافة الفاطمية سنة خمسمائة وسبع وستين، فأصبحت القوة الإسلامية تحت قيادة نور الدين كبيرة، بانضمام مصر تمامًا إلى ممتلكاته في الشام وشمال العراق، لكن نور الدين مات بعد ذلك بعامين، ولم تتح له الفرصة للزحف على بيت المقدس لتحريره، بل كادت هذه الفرصة تضيع من الأمة كلها، حين ترك نور الدين للولاية بعده طفلاً في الحادية عشرة من عمره، فتنازع الأمراء من أتباع نور الدين وأقاربه على السلطة، وحل الجد والنشاط في الصليبيين فأخذوا يهاجمون دمشق.

زحف صلاح الدين إلى دمشق ـ بطلب من أهلها ـ وضمها إليه بلا قتال في ربيع الآخر من سنة خمسمائة وسبعين فبدأت العداوات تتكاثر من حوله، وراحت الحراب توجه إليه من كل ناحية، من الصليبيين ومن الأمراء المتنازعين على وراثة تركة نور الدين، حتى استنجد بعض الأمراء بالصليبيين الذين هاجموا جيشه من إمارة طرابلس الصليبية.

ودخل صلاح الدين في حروب حول الجزيرة وحلب، وهو يحسب حساب خطواته، وعينه على الصليبيين القريبين منه، حتى خضعت له كل ممتلكات نور الدين في الشام والجزيرة العربية واليمن والجزيرة بشمال العراق، وطوق الصليبيين من كل جهات البر، وقال القائد المنتصر صلاح الدين يوسف بن أيوب: "أمور الحرب لا تحتمل في التدبير إلا الوحدة"!!

 

8- حطين تفتح الطريق إلى القدس:

غربيَّ طبرية، وعلى الطريق المؤدية إلى القدس جنوبًا، وسط منطقة خضراء فيها زروع وبحيرة وماء كثير، تقع حطين، ويشرف عليها تل مرتفع..

كانت فلسطين في القرن السادس الهجري مملوءة بالصليبيين الذين أشعل صلاح الدين الأرض من تحتهم نارًا منذ وفاة نور الدين، فكان يفاجئهم بالحرب في مواقع كثيرة، ويختطف منهم الحصون والمدن، ويَهزمهم ويُهزم منهم، حتى جاء موعد حطين في سنة خمسمائة وثلاث وثمانين، حيث خرج صلاح الدين من دمشق في شهر المحرم، وتوجه إلى بصرى، وانتظر عودة الحجاج من الحجاز ليؤمنهم من غدر أمير الكرك الذي قتل رَكْبًا للحجيج قبل ذلك، وتعرض بالإهانة لنبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأقسم صلاح الدين على الانتقام منه بنفسه.

فلما عبر الحجيج سالمين، سار السلطان الناصر صلاح الدين بجنوده نحو الكَرَكِ، فنزلها "وقطع ما حولها من الأشجار، ورعى الزرع، وأكلوا الثمار".. وأقبلت القوات إلى صلاح الدين من مصر وشتى أنحاء مملكته.

وبلغت تحركات صلاح الدين مسامع الصليبيين، فأخذوا يجمعون جحافلهم، ويُجَيِّشون جيوشَهم، وفيهم ملوكهم الكبار، وخرجوا إلى صلاح الدين وقواته، وأقبل السلطان الناصر زاحفًا، "ففتح طبرية، وتقوّى بما فيها من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك"، ومنع الماء عن الصليبيين حتى كاد العطشُ يهلكُهم، وتقدم المسلمون حتى نزلوا حطين.

وفي يوم حار من أيام شهر يوليو، في الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، كانت حلوق الصليبيين يوم المعركة ملتهبة من العطش، وهم يحملون شعارهم المقدس، صليبًا من الخشب، وقد زينوه بالذهب والجوهر الكثير، وأسموه صليب الصلبوت؛ لاعتقادهم أن المسيح صُلب عليه..

وأخذوا يزحفون جهة صلاح الدين الذي انسحب من أمامهم ليستدرجهم إلى موضع أفضل للقتال بالنسبة لجيشه، وسيطر المسلمون على المياه ومصادرها، وأعطوا ظهورهم للأردنّ، واستقبلوا العدو في جمعه الكبير، خمسين ألفًا..

في هذه اللحظة انطلق الفرسان من الجانبين في قتال مرير، وارتفعت صيحات المسلمين بالتكبير، وقاتل الناصر صلاح الدين بنفسه، وطاف بين جنوده يحرضهم على القتال، وأمر بإشعال الأرض بالنفط من تحت أقدام عدوّه حين رأى العُشب الجاف يكسوها، فاجتمع على الصليبيين "حَرُّ الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال"، وحمل القائدُ المسلم وجنودُه حملة صادقة كان فيها الحسم، حيث وقعت في الصليبيين مقتلة عظيمة، وراحوا يستسلمون للمسلمين جماعاتٍ، فكان الرجل الواحد من المسلمين يأسر بالعشرات من الصليبيين، يقيّدهم بالحبال، حتى استسلم ملوك الصليبيين، ووقع أكثرُهم في الأسر.

وواصل السلطان الناصر سيره، حتى استولى على قلعة طبريّة الحصينة، وافتتح عكا صلحًا، "ثم سار منها إلى صيدا وبيروت وتلك النواحي من السواحل يأخذها بَلدًا بلدًا، لخلوّها من المقاتِلَةِ والملوك، ثم رجع سائرًا نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأرض الغور، فملك ذلك كله.. وكان جملة ما افتتحه السلطان في هذه المدة القريبة خمسين بلدًا كبارًا..".

لقد فتحت كل هذه الفتوح الطريق إلى بيت المقدس، وأصبح الهدف المركزي من شن الحرب ضد الصليبية قريب التحقق، وراح الشاعر العماد الأصفهاني يقول لصلاح الدين وجيوش المسلمين:

غَزَوْا عُقْر دار المشركين بـ"غزة"

جِهَارًا، وطرف الشرك خزيان مُطْرِقُ

وهيَّجْـتَ للبيـت المقـدَّس لوعـة

يطول بها منه إليك التشوُّقُ

هـو البيـت إن تفتحْـه، والله فاعل،

فمـا بعـده بـاب مـن الشـام مغلَــق!

 

صلاح الدين يحرر القدس:

كانت أنشودةً رائعة للنصر، تلك التي غنّاها صلاح الدين في حطين، حيث التقط بعدها المدن والقلاع من يد الصليبيين واحدة بعد الأخرى. وكان المسلمون بعدها يترقبون بشوق عارم أن يعلن السلطان التوجه إلى بيت المقدس، فلما أعلن ذلك طارت بهم أرواح الشوق، فقصده المتطوعون من العلماء والصالحين من أنحاء العالم الإسلامي، وأتاه أخوه الملك العادل من مصر في قواته، فاجتمع لدى صلاح الدين جيش كبير، سار به من عسقلان إلى القدس.

وقف الجيش المسلم أمام المدينة المُطلة على الدنيا من فوق مرتفعاتها في كبرياء وشموخ، بعد أن وجه صلاح الدين أسطوله البحري في مصر إلى الشواطئ قُبالة القدس، ليمنع وصول أي مساعدة إلى الصليبيين.

وأنزل صلاح الدين أخاه العادل في جيشه جنوب سور المدينة ليشغل العدو بهذه الناحية، ويشتت قواتهم حول الأسوار المنيعة، ونزل السلطانُ نفسُه في الناحية الغربية من القدس، وبقي في موضعه هذا خمسة أيام يحاول اقتحام المدينة، والعدو يزيد هذه الناحية تحصينًا، حتى أيقن صلاح الدين أن الصليبيين قد ركزوا أكثر اهتمامهم وقواتهم وعتادهم في السور الغربي للمدينة، فتحول فجأة إلى السور من جهته الشمالية، ووقع القتال ساخنًا، حتى استشهد بعض أمراء المسلمين، فازدادت النفوس حماسة وإصرارًا على القتال، وأبصر المسلمون الصلبان فوق قبة الصخرة وفوق الأسوار، فازدادوا حماسة لإبطال هذا كله، وتساقطت الأحجار من المجانيق على السور كالمطر الغزير، وتحت وابل هذه الأحجار نقب المسلمون السور من زاويته الشرقية الشمالية، حتى انهدم البرج القائم هناك، وانفتح الطريق أمام المسلمين لاقتحام المدينة.

كان أمام المسلمين أن يُعْمِلوا في أعدائهم قتلاً وذبحًا، ويملأوا شوارع المدينة المباركة من دماء القتلى، لكن صلاح الدين قَبِل أن يصالح الصليبيين، وتسلم منهم القدس المباركة في السابع والعشرين من شهر رجب، أي ما يوافق ليلة الإسراء والمعراج من سنة خمسمائة وثلاث وثمانين.

ومسح القائد المنتصر عن المدينة دموعها، وعالج آلامها، وردَّها إلى سالف عهدها مدينةً إسلامية يُرفع فيها الأذان، وتقام الجُمُعَات.

 

9- صلاح الدين يتسلم القدس:

لم تكن مشاهد المأساة الرهيبة التي ارتكبها الصليبيون في القدس يوم استولوا عليها تفارق خيال صلاح الدين، الذي لم يشاهدها بعينيه، إذ لم يكن قد وُلد حين وقعت، غير أن مشاعر هذا الجيل كله قد تأثرت بهذه المأساة الكبيرة.

وحين استطاع صلاح الدين بقواته فتح طريق في سور القدس، أراد أن يقتحمها على أهلها، وصورة المأساة الأولى ماثلة أمام عينيه؛ دماء قَلَبَتْ لون الأرض حُمْرةً قانية، تميل إلى السواد في بعض المواضع، وأشلاء بشر مقطعةٌ لا يَدْري أيٌّ منها مَن صاحبُه، وملابس الصليبيين وأجسادهم ملطخة بدماء الضحايا، كأنهم ذئاب فرغت لتوها من فرائسها!

لكن الصليبيين راحوا يلتمسون عند السلطان الناصر الصلح، وهو يحاصرهم، فقال لهم في غيظ شديد: "لا أفتحها إلا عنوة (أي بالقوة) كما افتتحتموها أنتم عنوة، ولا أترك بها أحدًا من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين" !!

إلا أنهم عادوا يترققون إلى السلطان، ويذلون بين يديه، وخلطوا بذلك التهديد بقتل خمسة آلاف أسير من المسلمين في أيديهم، وبتخريب البيوت، وإتلاف كل ما يمكن الانتفاع به، وهدم قبة الصخرة، ثم الاستماتة في القتال حتى يُفنوا من يقدرون عليه من المسلمين قبل أن يموتوا هم، فرضي السلطان بالصلح ـ بعد استشارة أمرائه ـ صونًا لدماء المسلمين، وحفظًا للمدينة المقدسة من الدمار.

واشترط صلاح الدين على المحتلين أن يغادروا القدس تمامًا في خلال أربعين يومًا، ولا يصطحبوا معهم خيلاً ولا سلاحًا، ويدفع الرجل عن نفسه عشرة دنانير، والمرأة خمسة، والصغير يُدفع عنه ديناران، ومن عجز عن ذلك صار رقيقًا في يد المسلمين، ومع ذلك تسامح صلاح الدين والمسلمون مع الكثيرين ممن عجزوا عن دفع هذه الدنانير، وتركوهم يغادرون القدس، وتركوا البطريرك يخرج بنفائس الكنائس وكنوزها، وأعاد صلاح الدين زوجات الأمراء والكبراء من الصليبيين إلى أزواجهن، معهن كل ما يملكن من جوارٍ وخدم ومال.

وراح الصليبيون يجمعون متاعهم وهم في ذهول عما يجري حولهم، لا يصدقون أنهم يتركون القدس، ولا يصدقون أن المسلمين يتعاملون معهم بهذا الرفق، وهذا الصون للعهد، وراحوا يتسللون من المدينة المقدسة في ذل، فذهب أكثرهم إلى صور التابعة لهم، وبيتوا في أنفسهم مواصلة الصراع الشرس مع المسلمين حول القدس.

وصلى المسلمون وقائدُهم أول جمعة في القدس ـ منذ الاحتلال الصليبي ـ بعد الفتح بسبعة أيام.

وقائع الاقتحام:

بعد الانتصار الساحق في حطّين وما حولها عام 583هـ، وقبل أن يُفيق الصليبيون من هول هزيمتهم ، استجمع صلاح الدين جُنْدًا كثيفًا وفدوا إليه بعد النصر، وزحف بهم إلى مدينة بيت المقدس؛ أرض الأنبياء، لاستردادها من الصليبيين بعد احتلال قارب التسعين عامًا، فوصلها وطوّقها بحصار مُحكم، وأخذ يتحسس أماكن الضعف في أسوارها، فوجدها محكمة التحصين إلا من زاويتها الشرقية الشمالية، فنصب المنجنيق، ووزع خمس دبابات متعددة الطوابق حول الأسوار، وبدأ يتأهب لبدء الهجوم واجتياز الخنادق المحيطة بالمدينة، إلا أنه رأى أولا أن يكتب إلى أعدائه لتسليم المدينة دون قتال، مع كفالة حقوقهم الدينية بالمدينة، فأبوا إلا الحرب.

فتقدم مشاة جيش صلاح الدين، واجتازوا الخندق، وردموا جزءًا يسمح بمرور الدبابات، ودفع المسلمون بدبابتهم الأولى، فصدمت السور ونقبت جزءًا منه، ثم أصابتها نيران مقاليع الصليبيين المقذوفة من داخل الأسوار، فاحترقت، فدفع المسلمون بالدبابة الثانية، فنقبت جزءًا من السور، ثم سحبت بعيدًا عن السور لئلا تنال منها نيران الأعداء، وقام جنود صلاح الدين بحشو الجزء المنقوب من السور بالأخشاب، وأشعلت فيها النار، فانْصَدَعَ ذلك الجانب ثم هوى فاندفع جند الحق  أمواجًا متتابعة، ووقع قتال بالغ الضراوة بين المسلمين والصليبيين، وفقد الفرنجة من رجالهم أعدادًا كبيرة وضعفت شوكتهم، وانهارت مقاومتهم، وحينئذ طلب قائدهم الأمان معلنًا الاستسلام لجيوش صلاح الدين، ففاوضهم القائد المنتصر وأمنهم ، ثم سمح لهم بالخروج من القدس بكل أمتعتهم وأموالهم شريطة أن يدفعوا الفدية المتعارف عليها في ذلك العصر، وهي عشرة دنانير عن كل رجل، وخمسة عن كل امرأة، وعن كل صغير وصغيرة ديناران، ويؤخذ أسيرًا مَنْ عجز عن أداء ذلك، كما غنم المسلمون الدُّورَ والغلات والأسلحة.

واتجه الخارجون من القدس إلى مدينة صُور، وكان قواد صلاح الدين قد أشاروا عليه باغتنام جميع أموال الصليبيين وأمتعتهم؛ لأن الحرب لم تَنْتَهِ بعدُ، وربما تَقَوَّوْا بهذه الأموال، لكنه أبى إلا أن يكون سمحًا كريمًا، مخالفًا بذلك صنيعهم الشنيع حينما استولوا على المدينة منذ تسعين عامًا فقتلوا كل مسلم ذبحًا أو إحراقًا أو إلقاءً من أعالي الأسوار حتى ارتفعت دماء أكثر من سبعين ألف مسلم في أرض المدينة وخاضت فيها الخيول. أبَى صلاحُ الدين أن يفعل مثل ذلك، وصان أنفسهم غاية الصون، ولم يفرض عليهم سوى الفدية المتعارف عليها.. وأطلق من أسراهم خلقًا كثيرًا: منهم بنات الملوك بمن معهن من نساء وصبيان ورجال، وقَبِلَ الشفاعة في أسرى كثيرين، فعفا عنهم، وسمح لبعض المسنين بالمكث في المدينة وأجرى عليهم راتبًا مدة عمرهم.

تهديد صليبي يائس:

حين فشل الوفد الصليبي المفاوض لصلاح الدين في الحصول على موافقته على الصلح قالوا: "أيها السلطان، اعلم أننا، في هذه المدينة، في خلق كبير لا يعلمهم إلا الله تعالى، وإنما يفْترون عن القتال رجاء الأمان، ظنا منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم، وهم يكرهون الموت، ويرغبون في الحياة، فإذا رأينا أن الموت لا بد منه، فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا،، ونحرق أموالنا وأمتعتنا، ولا نترككم تغنمون منها دينارًا واحدًا، ولا درهمًا، ولاتسبون وتأسرون رجلاً ولا امرأة.

وإذا فرغنا من ذلك أخربنا قبة الصخرة والمسجد الاقصى وغيرهما من المواضع، ثم نقتل من عندنا من أسرى المسلمين، وهم خمسة آلاف أسير، ولا نترك لنا دابة ولا حيوانًا إلا قتلناه، ثم خرجنا إليكم كلنا، فقاتلناكم قتال من يريد يحمى دمه ونفسه، وحينئذ لا يُقتل الرجل حتى يقتل أمثاله، ونموت أعزاء أو نظفر كرامًا".

(الكامل في التاريخ: ابن الأثير 11/548-549).

ـ البشارة بفتح بيت المقدس: كتب صلاح الدين يهنئ الخليفة العباسي بفتح بيت المقدس، يقول: "...كتاب الخادم هذا وقد أظفر الله بالعدو الذي تشظت قناته شفقًا، وطارت فرقه فَرَقًا، وفل سيفه فصار عصا، وصدعت حصاته وكان الأكثر عددًا وحصا، فكلت حملاته وكانت قدرة الله تصرف فيه العنان بالعيان، عقوبة من الله ليس لصاحب يد بها يدان، وعثرت قدمه وكانت الأرض لها حليفة، وغُصَّت عينه وكانت عيون السيوف دونها كسيفة، ونام جفن سيفه وكانت يقظته تريق نطف الكرى من الجفون، وجدعت أنوف رماحه، ولطالما كانت شامخة بالمنى أو راعفة بالمنون، وأصبحت الأرض المقدسة الطاهرة وكانت الطامث، والرب المعبود الواحد وكان عندهم الثالث، فبيوت الشرك مهدومة، ونيوب الكفر مهتومة، وطوائفه المحامية مجتمعة على تسليم البلاد الحامية، وشجعانه المتوافية مذعنة ببذل المطامع الوافية، لا يرون لهم في ماء الحديد لهم عصرة، ولا في فناء الأفنية لهم نصرة، وقد ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وبدل السيئة الحسنة، ونقل بيت عبادته من أيدي أصحاب المشأمة إلى أيدي أصحاب الميمنة.

ولقد كان الخادم لقيهم اللقاءة الأولى فأمده الله بمداركه وأنجده بملائكته فكسرهم كسرة ما بعدها جبر، وصرعهم صرعة لا يعيش معها بمشيئة الله كفر، وأسر منهم من أسرت به السلاسل وقتل منهم من فتكت به المناصل.

وأجلت المعركة عن صرعى من الخيل والسلاح الكفار، وعن أنصاف محيل فإنه قتلهم الأفلاق والرماح والأكسار، فنيلوا بثأر من السلاح ونالوه أيضًا بثأر، فكم أهلة سيوف تقارضن الضراب بها حتى عادت كالعراجين، وكم نجم رماح تبادلت الطعان حتى صارت كالمطاعين.

وكم فارسية ركض عليها فارسها السهم إلى أجل فاختلسه، وفغرت تلك القوس فاها فإذا فوها قد نهش القرن على بعد المسافة فافترسه. وكان اليوم مشهودًا، وكانت الملائكة شهودًا، وكان الكفر مفقودًا والإسلام مولودًا. وجعل الله ضلوع الكفار لنار جهنم وقودًا. وأسر الملك وبيده أوثق وثائقه وأكد وصله بالدين وعلائقه وهو صليب الصلبوت وقائد أهل الجبروت، وما دهموا قط بأمر إلا وقام بين دهائمهم يبسط لهم باعه، ويحرضهم وكان من اليدين في هذه الدفعة وداعه، لا جرم أنهم تهافت على نارهم فراشهم، وتجمع في ظل ظلامه خشاشهم، فيقاتلون تحت ذلك الصليب أصلب قتال وأصدقه، ويرونه ميثاقًا يبنون عليه أشد عقد وأوثقه، ويعدونه سورًا تحفر حوافر الخيل خندقه.

وبعد الكسرة مر الخادم على البلاد فطواها بما نشر عليها من الراية العباسية السوداء صبغًا، الخافقة هي وقلوب أعدائها، الغالبة وهي وعزائم أوليائها، المستضاء بأنوارها إذا فتح عينها البشر، وأشرت بأنامل العذابات إلى وجه النصر، فافتتح بلد كذا وكذا، وهذه أمصار ومدن، وقد تسمى البلاد بلادًا وهي مزارع وفدن. وكل هذه ذوات معاقل ومعاقر وبحار وجزائر، وجوامع ومنائر وجموع وعساكر، يتجاوزها الخادم بعد أن يحرزها، ويتركها وراءه بعد أن ينتهزها، ويحصد منها كفرًا ويزرع إيمانًا، ويحط منائر جوامعها صلبانًا ويرفع أذانًا، ويبدل المذابح منابر والكنائس مساجد.

ويبوئ بعد أهل الصلبان للذب عن دين الله مقاعد، ويقر عينيه وعيون أهل الإسلام أن تعلق النصر منه ومن عسكره بجار ومجرور، وأن ظفر بكل سور ما كان يخاف زلزاله وزياله إلى يوم النفخ في الصور، ولما لم يبق إلا القدس، وقد اجتمع إليها كل شريد منهم وطريد، واعتصم بمنعتها كل قريب منهم وبعيد، وظنوا أنها من الله مانعتهم، وأن كنيستها إلى الله شافعتهم، فلما نازلها الخادم رأى بلدًا كبلاد، وجمعًا كيوم التناد، وعزائم قد تألفت وتألبت على الموت، فنزلت بعرصته.

وهان عليها مورد السيف وأن تموت بغصته، فزاول البلد من جانب فإذا أودية عميقة، ولجج وعرة عريقة، وسور قد انعطف عطف السور، وأبرجة قد نزلت مكان الواسطة من عقد الدار، فعدل إلى جهة أخرى كان للطامع عليها معرَّج وللخيل فيها متولج، فنزل عليها وأحاط بها وقرب منها، وضربت خيمته بحيث يناله السلاح بأطرافه، ويزاحمه السور بأكنافه، وقابلها ثم قاتلها، ونزلها ثم نازلها وبرز إليها ثم بارزها، وحاجزها ثم ناجزها، فضمها ضمة ارتقب بعدها الفتح، وصدع أهلها فإذا هم لا يصبرون على عبودية الجد عن عتق الصفح، فراسلوه ببذل القطيعة إلى مدة، وقصدوا نظرة إلى شدة وانتظارًا لنجدة، فعرفهم في لحن القول وأجابهم بلسان الطول، وقدم المنجنيقات التي تتولى عقوبات الحصون عصيها وحبالها، وأوتر لهم قسيها التي تضرب فلا تفارقها سهامها، ولا يفارق سهامها نصالها، فصافحت السور بأكنافها فإذا سهمها في ثنايا شرفاتها سواك.

وقدم النصر نسرًا من المنجنيق يخلد أخلاده إلى الأرض، ويعلوه علوه إلى السماك، فشج مرادع أبراجها، وأسمع صوت عجيجها ورفع مثار عجاجها، فأخلى. السور من السيارة والحرب من النظارة، فأمكن النقاب، أن يسفر للحرب النقاب، وأن يعيد الحجر إلى سيرته من التراب، فتقدم إلى الصخر فمضغ سرده بأنياب معوله، وحل عقده يضربه الأخرق الدال على لطافة أنمله، وأسمع الصخرة الشريفة حنينه واستغاثته إلى أن كادت ترق لمقيله، وتبرأ بعض الحجارة من بعض، وأخذ الخراب عليها موثقًا فلن تبرح الأرض، وفتح في السور باب سد من نجاتهم أبوابًا، وأخذ نقب في حجره قال عنده الكافر: (يا ليتني كنت ترابًا).

فحينئذ يئس الكفار من أصحاب الدور. كما يئس الكفار من أصحاب القبور، وجاء أمر الله وغرهم بالله الغرور".

(صبح الأعشى: القلقشندي 6/ 496 ـ 504).

 

10 صلاح الدين يمسح عن القدس دموعها:

في يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة خمسمائة وثلاث وثمانين، قبل وقت الصلاة بقليل، وفي صورة مهيبة دخل صلاح الدين بيت المقدس، وحوله قُرابة عشرة آلاف عمامة من العلماء والزهاد، كانت دموع الفرح والإحساس بالنعمة تملأ عيون الناس، فالمدينة المباركة قد عادت بعد غربةٍ أكثرَ من تسعين عامًا إلى الحضن الإسلامي الدافئ، وراحت العيون تصافح  شوارع القدس وأحياءَها ومساجدها التي طالتها يد التشويه، وصلى المسلمون الجمعة ظهرًا، إذْ لم يتسع الوقت لهم لأداء صلاة الجمعة يوم الفتح المسمَّى بالفتح الأكبر، كما سُمِّى فتح مكة بالفتح الأعظم.

وبعد أن جلس صلاح الدين يتلقى التهنئة على الفتح، وأنشأ الشعراء قصائدهم السعيدة تسجل الحادث العظيم، وأرسل صلاح الدين إلى جميع بلاد الإسلام بالفتح العظيم ـ بعدها بدأ صلاح الدين والمسلمون يمسحون عن وجه القدس الدموع، فأزالوا كل التشويهات والتعديات التي قام بها الصليبيون، فأعيدت المساجد كما كانت، ورفعت عنها الصلبان، "وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين"، وكان غسل الصخرة على يد صلاح الدين نفسه، حيث قام يغسلها وهو يبكي، ودارت في ذهنه هنا صورة أمير المؤمنين عمر وهو ينظِّف الصخرة بنفسه بثوبه، ويحمل التراب وهو أمير المؤمنين وحاكم الدنيا!!

وهُدمت البِنايات الإضافية التي زادها الصليبيون في المسجد الأقصى، والتي كانت نزلا لصفوة جنودهم، ووضعت في المسجد المبارك القناديل، وفُرش بالبُسُطِ، وحمل منبر نور الدين محمود الرائع ووضع في المسجد الأقصى، شاهدًا لهذا البطل الذي عمل الكثير من أجل القدس، ورحل قبل أن يتحقق أمله في دخولها والصلاة في مسجدها.

ورتب الناصرُ صلاحُ الدينِ يوسفُ بنُ أيوبَ إمامًا لمسجد قبة الصخرة، وإمامًا للمسجد الأقصى، وبنى المدرسة الصلاحية للشافعية، وشيد للصوفية رِباطًا.

وأراد صلاح الدين أن ينتصر للمساجد، فيهدم كنيسة القيامة، فقال له المسلمون: "قد فتح هذا البلدَ قبلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وترك هذه الكنيسة بأيديهم، ولك في ذلك أسوة"، فتركها قائمة، ولم يترك فيها من النصارى سوى أربعة يخدمونها.

ورتب القائد سكان المدينة من جديد، بحثا عن الأمن والأمان للمدينة ومن يقيم فيها.

11- أول جمعة في القدس بعد الفتح:

(فقُطِعَ دابرُ القوم الذين ظلموا والحمدُ لله رب العالمين) .. الحمد لله معزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومُزِيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دُوَلاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طلّه وهطله، الذي أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يُمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، الآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع، أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه، ونصره أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أجناس الشرك وأوضاره حمد من استشعر الحمد باطن سره، وظاهر إجهاره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله رافع الشكر، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أُسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعُرِج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى، صلى الله عليه وسلم وعلى خليفته الصديق، السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ذي النورين، جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك، ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان".

هكذا ارتفع صوت خطيب الجمعة من فوق منبر المسجد الأقصى، في أول جمعة يقيمها المسلمون في المسجد المبارك منذ إحدى وتسعين سنة كاملة، كانت نفس القاضي محيي الدين بن الزكي مملوءة بالفرحة والسعادة، وهو يلقي هذه الكلمات من فوق المنبر المبارك، ويتبعها بذكر فضائل بيت المقدس، وما ورد من الترغيب في زيارته وشد الرحال إليه.

هنا راح المسجد يتباهى بالموحدين الذين تتردد في جنبات المسجد ألفاظ عبادتهم لله الواحد، وكبر الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع المبارك بجموع المسلمين، وسالت الدموع، ورقت القلوب، في مشهد من مشاهد التاريخ الكبرى.

 

خطبة ابن الزكي:

قال بعد المقدمة: "أيها الناس، أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا، لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة، من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام، بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبًا من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيه رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بني عليه وشيد بنيانه بالتمجيد، فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء، ومدفن الرسل، ومهبط الوحي، ومنزل به ينزل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد [الأقصى] الذي صلى فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وروحه عيسى الذي كرّمه برسالته وشرّفه بنبوّته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون) [النساء: 172] كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً بعيدًا (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذًا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون) [المؤمنون: 91] (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) [المائدة: 17] إلى آخر الآيات من المائدة، وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تُشدّ الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده، واصطفاه من سكان بلاده، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مُجارٍ، ولا يباريكم في شرفها مُبارٍ، فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والواقعات البدرية، والعزمات الصديقية، والفتوحات العُمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية، جددتم للإسلام أيام القادسية، والملاحم اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبّل منكم ما تقرّبتم به إليه من مُهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء، فاقدروا ـ رحمكم الله ـ هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله تعالى المنة عليكم بتخصيصكم بهذه  النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقرّ به عينًا الأنبياء والمرسلون، فماذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه البيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن يفتح الله على أيديكمم أمثاله، وأن تكون التهاني لأهل الخضراء، أكثر من التهاني لأهل الغبراء، أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه، ونص عليه في محكم خطابه، فقال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) [الإسراء: 1] أليس هو البيت الذي عظمته الملل، وأثنت عليه الرسل، وتُليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل؟ أليس هو البيت الذي أمسك الله تعالى لأجله الشمس على يوشع أن تغرب، وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويَقُرب؟ أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب الله عليهم لأجله، فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان؟ فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل، وقد فضلت على العالمين، ووفقكم لما خذل فيه أممًا كانت قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته (كان) و(قد) عن (سوف) و(حتى)، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنودًا لأهويتكم جنده، وشكر لكم الملائكة المنزلون، على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتمجيد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث، والاعتقاد الفاجر الخبيث؛ فالآن تستغفر لكم أملاك السموات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات، فاحفظوا ـ رحمكم الله ـ هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم، بتقوى الله التي مَن تمسك بها سلم، ومَن اعتصم بعروتها نجا وعُصم، واحذروا من اتباع الهوى، ومواقعة الردى، ورجوع القهقري، والنكول عن العدا، وخذوا في انتهاز الفرصة، وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا ـ عباد الله ـ أنفسَكم في رضاه إذ جعلكم من خير عباده، وإياكم أن يستزلَّكم الشيطان، وأن يتداخلكم الطغيان، فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد، وخيولكم الجياد، وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله ما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم، فاحذروا عباد الله ـ بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل، والمنح الجزيل، وخصكم بنصره المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين ـ أن تقترفوا كبيرًا من مناهيه، وأن تأتوا عظيمًا من معاصيه، فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، وكالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، والجهادَ الجهادَ فهو من أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، احفظوا الله يحفظكم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا في حَسْم الداء، وقلع شأفة الأعداء، وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام يا للثارات الإسلامية، والملة المحمدية، الله أكبر، فَتَحَ الله ونَصَر، غلبَ اللهُ وقَهَر، أذلَ الله مَن كَفَر، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، وغنيمة فحُوزُوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم وأبرزوها، وسيِّروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول، وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال الله تعالى: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) [الأنفال: 65] أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره، والازدجار بزواجره، وأيّدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده) [آل عمران: 160] إن أشرف مقال يقال في مقام، وأنفذ سهام تمرق عن قسي الكلام، وأمضى قول تحل به الأفهام، كلام الواحد الفرد العزيز العلاَّم، قال الله تعالى: (وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) [الأعراف: 294] ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، وقرأ أول الحشر، ثم قال: آمركم وإياي بما أمر الله به مِن حُسن الطاعة فأطيعوه، وأنهاكم وإياي عما نهاكم عنه من قُبح المعصية فلا تعصوه، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه.

ثم خطب الخطبة الثانية على عادة الخطباء مختصرة، ثم دعا للإمام الناصر خليفة العصر. ثم قال: اللهم وأدم سلطان عبدِك الخاضعِ لهيبتك، الشاكرِ لنعتمك، المعترفِ بموهبتك، سيفِك القاطع، وشهابِك اللامع، والمحامي عن دينك المدافع، والذابِّ عن حرمك الممانع، السيدِ الأجل، الملكِ الناصر، جامعِ كلمة الإيمان، وقامعِ عبدة الصلبان، صلاحِ الدنيا والدين، سلطانِ الإسلام والمسلمين، مطهرِ البيتِ المقدس أبي المظفر يوسف بن أيوب، محيي دولة أمير المؤمنين. اللهم عُمَّ بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه، اللهم أبق للإسلام مهجته، ووق للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس بعد أن ظُنَّت الظنون، وابتُلي المؤمنون، فافتح على يديه داني الأرض وقاصيها، ومَلِّكه صياصي الكفر ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها، اللهم اشكر عن محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها، وأرجاء الممالك وأكنافها، اللهم ذلل به معاطس الكفار، وأرغم به أنوف الفجّار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار. اللهم ثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم. اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام، وتتخلد على مرِّ الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار اليقين، وأجب دعاءه في قوله (رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديّ، وأن أعمل صالحًا ترضاه، وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) (الأحقاف: 15). ثم دعا بما جرت به العادة".

(وفيات الأعيان: ابن خلّكان 4/ 232 ـ 236).

 

 

 

 

 

12- سكان القدس بعد التحرير:

تدبَّر صلاح الدين شئون المدينة قبل مغادرتها في الخامس والعشرين من شعبان، وأعاد إليها صفتها العربية الإسلامية، فأمر بتسليم بيوت من قُتلوا أو أخرجوا لورثتهم، وقوّاهم بإقطاع بعض أحياء المدينة لقبائل عربية، فأنزل بني حارث قرب القلعة، وبني مرة في سوق الفخر (عرفت بخان الزيت فيما بعد)، وبني سعد في الحي الذي عرف فيما بعد بالسعدية، وبني زيد بقرب باب الساهرة.

وأنشأ صلاح الدين في المدينة عددًا من المعاهد لخدمة سكانها، منها رِباط للصوفية ومستشفى (بيمارستان) للمرضى، كما أنشأ أيضًا المدرسة التي عرفت باسمه فيما بعد، وفوض إدارتها إلى القاضي بهاء الدين بن شداد، والغالب أنها خلفت (دار العلم) الفاطمية التي أنشئت مكانها كنيسة القديسة حنة (أم مريم العذراء) أيام الاحتلال الصليبي.

وأوقف صلاح الدين على هذه المعاهد وغيرها الأوقافَ لضمان نفقة إدارتها، ثم أمر بتعمير سور المدينة، وحفر الخندق حوله، وأقام مقبرة للمجاهدين بقرب باب الساهرة، بالإضافة إلى مقبرة كان الصليبيون قد دنسوها، ومقبرة باب الرحمة خارج سور الحرم الشريف من الشرق.

وفكَّ صلاحُ الدين أسْرَ آلافٍ من المسلمين، كانوا قد وقعوا في يد الصليبيين في المعارك الكثيرة التي دارت بينهم وبين المسلمين، وشمَّ هؤلاء الأسرى رائحة الحرية في جو من السعادة الغامرة بالفتح، وأحسن القائد إليهم، ومنحهم المال، وكساهم، ورجع كل منهم إلى أهله ووطنه ومسكنه.

ولم يرحل نصارى الشرق من سكان القدس مع الصليبيين، بل طلبوا من صلاح الدين أن يبقيهم ففعل، على الرغم من أن بعضًا منهم شايع الفرنجة وساعدهم، ولما رحل بطرِيقُ اللاتين مع الفرنج الذين رحلوا، خلا الميدان لإعادة تأسيس البطريركية الأرثوذكسية التي ألغاها الصليبيون، وقد تمَّ ذلك برضا صلاح الدين ومساعدته.

ليس هذا فحسب بل إنه لم يحرم هؤلاء النصارى من زيارة الأماكن المقدسة لهم في أمان تام وحرية كاملة، حتى إنه قد خصص حراسة للحجاج المسيحيين الذين اتجهوا إلى زيارة كنيسة القيامة.

أما عن اليهود الذين لم يُبق الصليبيون منهم حيا في المدينة، فقد سمح صلاح الدين لبعضهم أن  يقيم في المدينة، وفتح جميع مملكته للمضطهدين منهم، فجاءوا إليه يطلبون الأمن ويلاقون العدل.

 

 

13- الصراع مع الصليبيين حول القدس:

ملأت الكآبة والحزن كل أنحاء أوروبا، وثار الغضب في قلوبهم حين خرجت القدس من أيدي ملوكهم في الشرق، وفتحها المسلمون تحت رايات الجهاد وقيادة صلاح الدين يوسف بن أيوب.. حتى قيل إن البابا أوربان الثالث مات حزنًا من أثر هذا الفتح الكبير.

وخرج بطريرك القدس منها، بعد أن أمَّنه صلاح الدين، وتركه يخرج بكنوز الكنائس ونفائسها ـ خرج البطريرك إلى أوروبا، يطوف ببلدانها، وبيده صورة مرسومة صوّروا فيها المسيح يضربه رجل مسلم، ليؤجج نيران الحقد والكراهية للمسلمين، وليشعل الحرب الصليبية ضد الإسلام من جديد.

أنصتت أوروبا إلى الصوت المُنْكَرِ القادم من الشرق، وعملت الدعاية أثرها القوى فيها، فقام البابا جريجوري الثامن يدعو إلى حرب المسلمين، وخلَفه بعد هلاكه كليمنت الثالث، الذي نشر أساقفته في البلدان يحرِّضون على تجديد الحرب ضد الإسلام والمسلمين، فخرجت الحملة الصليبية الثالثة بقوة هائلة، يتقدمهم ملك ألمانيا فريدريك، وملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، وفيليب أغسطس ملك فرنسا، هذا غير الأساطيل التي ملأت البحر. إلا أن الملك الألماني وجيشه هلك أكثرهم في طريق المجيء والعودة، ولم يقاتلوا المسلمين إلا قليلاً.

كانت القدس هي المقصد الأساسي من هذه الحملة، فأرادوا اختراق البر الشامي عن طريق عكّا ومساعدة أهل ملتهم في الشام، فضربوا عليها حصارًا شديدًا، وكانت هذه الحملة أشرس الحملات الصليبية وأقواها، إلا أن المسلمين في عكا صبروا صبرًا عظيمًا، وقاتل صلاح الدين الفرنجةَ وحاول أن يشغلهم عن عكا، إلا أنهم استولوا عليها في جُمادى الآخرة من سنة خمسمائة وسبعٍ وثمانين، بعد ملحمة من المقاومة استمرت ثلاث سنوات.

هنا أصبحت القدس في خطر شديد، وعُرْضةً لسقوط آخر في يد الصليبيين، ووقع قتال هائل في عدة مواقع بين المسلمين والصليبيين، مات فيه آلاف وآلاف من الطرفين، حتى كتب ريتشارد إلى السلطان صلاح الدين: "إن الأمر قد طال وهلك الفرنج والمسلمون، وإنما مقصودنا ثلاثة أشياء لا سواها، رد الصليب، وبلاد الساحل، وبيت المقدس، لا نرجع عن هذه الثلاثة، ومنّا عين تطرف"! ولم يكن ريتشارد يدري أن كل هذا الجهاد والصبر والاستشهاد من المسلمين إنما هو لحماية الدين والديار، وعلى رأسها بيت المقدس، فرد عليه صلاح الدين ردًا عنيفًا، فاتجه الصليبيون إلى بيت المقدس لانتزاعها، وتقدم الناصر صلاح الدين إلى  المدينة المباركة لحمايتها، وسكن في دار القساقس قريبًا من كنيسة القيامة في ذي القعدة من سنة خمسمائة وسبع وثمانين، "وشرع في تحصين البلد وتعميق خنادقه، وعمل فيه بنفسه وأولاده، وعمل فيه الأمراء والقضاة، والعلماء والصالحون" كما قسم العمل في السور بينه وبين أولاده وأمرائه، وراح يحمل الأحجار بنفسه، وفعل أولاده وأمراؤه مثل ذلك، وكذلك الفقهاء والقراء، واقتدى بهم الناس.

وتقدم ريتشارد ليضرب حصاره حول بيت المقدس، واستعد المسلمون لحصار وقتال طويل، وقبل أن يصل الصليبيون إلى أسوار المدينة بقليل دب الشقاق والخلاف بينهم، إذْ تأكد الجميع من طمع ريتشارد ومكرِه، وأنه يريد الاستئثار بكل شيء لنفسه، فانسحب ملك فرنسا بقواته، ودارت بعض حلقات القتال بين ريتشارد وقوات المسلمين، ثم بلغ ملكَ الإنجليز أن أخاه يريد انتزاع ملكه في بلاده، فأسرع إلى عقد صلح مع المسلمين يحتفظ الصليبيون بموجبه بما في أيديهم، ويُمْنحون الإشراف على كنيسة القيامة، وبذلك دخل المسلمون في مرحلة من الاستجمام بعد أن أضناهم القتال.

 

تطورات الموقف بعد تحرير القدس:

كان صلاح الدين قد سمح للصليبيين بالخروج من القدس بكامل أموالهم وأمتعتهم بعد دفع الفدية، فاتجهوا إلى مأمنهم؛ مدينة صُور التي كانت بأيدي الفرنجة الصليبيين وإذا بها تصير شوكةً في جنب المسلمين ونقطة انطلاق للحملة الصليبية الجديدة، وقد أدرك صلاح الدين خطأه، وتمنى أن لو أخرج الصليبيين من بلاد الشام جميعها مُجَرَّدين من المال والعتاد، فقد صارت "صور" قلعة منيعة، تجمع فيها الفارّون من البلاد المفتوحة بضغائنهم وأحقادهم، وهنا قرر مهاجمتَها، لكنها صمدت وعجز المسلمون عن اقتحامها، فانصرف القائد الناصر إلى اللاذقية شمالاً، وفتحها وأخرج الصليبيين منها مُجَرَّدِين من المال والسلاح، وأفرج عن أسرى المسلمين الذين كانوا بأيديهم.

وأخذت الأنباءُ تتواتر عن تسيير أوروبا حملةً صليبية ضخمة لانتزاع القدس من المسلمين فبثّ صلاح الدين عيونه للتعرف على حجم تلك الجيوش ووجهتها، وقام يبني حصونه ويقوي دفاعاته ويهيئ رجاله لحرب طاحنة.

وفي أوروبا الصليبية انطلق رجال الدين يَجُوبُون أرجاءَها يحثّون الناس على القتال في سبيل الصليب، ونبذ الخلافات جانبًا، والتفرغ لقتال المسلمين، فاتجهت كل الجهود لتجهيز الجيوش تحت قيادة الملوك أنفسهم، وفُرضت ضريبة في كل أوروبا عرفت باسم "ضريبة صلاح الدين"، وانطلقت الجيوش الصليبية: الجيش الألماني بقيادة الملك فريدريك برباروسا عبر شرق أوروبا، والجيش الفرنسي بقيادة فيليب أوجست بحرًا إلى قبرص، والجيش الإنجليزي بقيادة الملك ريتشارد، الملقب بقلب الأسد بحرًا إلى قبرص، وأقام الصليبيون معسكرهم شمال عكا في حشد هائل منظم تحدوهم حمية شديدة للانتقام والثأر لهزيمتهم في حطين وسقوط القدس.

وحَصَّنَ صلاح الدين عكا، وعين عليها قائدين من أكفأ قادته، وبمجرد علمه بوصول الصليبيين إلى شمالها انطلق نحوها، وكان قائداه عليها قد قررا تقسيم الجيوش الإسلامية إلى قسمين: قسم يبقى داخل عكا المستعدة للحصار، وقسم يكون خارجها تحت قيادة صلاح الدين نفسه. ولم تكن الجيوش الإسلامية أقل حمية ولا غضبًا ولا حماسة من أعدائها الصليبيين، لكنها كانت أقل نظامًا، حتى إنهم اندفعوا من تلقاء أنفسهم للهجوم على الأعداء فكان من اليسير على الصليبيين صدُّهم، وقد عاقب صلاحُ الدين مَنْ أقْدَمَ على ذلك.

وأخذ الفريقان يتبادلان الهجوم والصدّ دون حسم للمعركة حول عكّا، وفي يوم الأربعاء العشرين من شعبان عام 585هـ  9811م فوجئ المسلمون بهجوم صليبي هائل، نَجَمَ عنه احتلالهم لرءوس التلال المحيطة بمعسكر المسلمين، والقضاء على مواقع الاستطلاع بها، وكان ذلك إيذانًا ببدء المعارك، وبدا واضحًا تفوق الأعداء في الرجال والعتاد، فضلاً عن امتلاكهم زمام المبادأة وتوجيه المعركة، ودفعوا بأمواج من قواتهم صوب قلب الجيش الإسلامي غير عابئين بتساقط قتلاهم بأيدي مشاة المسلمين ورُماتهم، ودار قتال متلاحم تفوق فيه الصليبيون لوفرة أعدادهم وقدرتهم على تعويض خسائرهم، أما الجيش الإسلامي فلم يكن متكافئًا مع جيوش الأعداء في العدد ولا في العدة، فضلاً عن انقطاع المدد عنه من الجهات الإسلامية المختلفة، فانفتحت في قلب جيش صلاح الدين ثغرة لم تلتئم، واقترب فرسان الأعداء من خيمة السلطان نفسه، فقرر أن يتراجع برجاله عن عكا بعد خمسين يومًا من المعارك الضارية؛ ليتخذ مواقع جديدة، فاحتل موقعًا دفاعيًا دائريًا حصنه بخنادق عميقة واسعة، وسيطر على المرتفعات المحيطة به وحصنها، وخزن مُؤَنًا كافيةً تمكّنه من الصمود وإيقاف الزحف الصليبي الداهم، ثم راسل أمراء المناطق الإسلامية طالبًا منهم النهوض بواجب الجهاد وإرسال المدد.

كانت الخسائر التي مُني بها الأعداء قد أعجزتهم عن اقتحام عكا المدينة الصامدة، كما أعجزتهم عن تعقب جيوش المسلمين المتراجعة، لكنهم لم يكفوا عن ضرب المدينة بالمنجنيق ليلاً ونهارًا، وقطعت أساطيلهم في البحر الطريق على مدد كان في طريقه إلى المسلمين، فقَتلت الصناديدَ الأبطال، ثم فرضت الهدنةُ نفسَها على الطرفين بحلول الشتاء، وكانت عيون صلاح الدين عالية الكفاءة في إخبار القائد بكل جديد لدى العدو، فأخبرته بإعداد الصليبيين مفاجأة للمعارك القادمة، وهي دبابات لا تتأثر بالنيران؛ إذْ طُليت بمادة تمنع الاحتراق، وعلى ظهر كل منها منجنيق كبير يقذف النيران، وكان ذلك أمرًا بالغ الخطر.

وبحلول ربيع عام 0911م بدأ القتال أواخر شهر أبريل، ودفع الصليبيون بسلاح جديد؛ دبابات ذات طبقات، محمولة على عجلات، ولا تتأثر بالنار. وصعد المقاتلون الصليبيون فوقها، وبدأ آخرون في دفعها نحو الأسوار للوثوب عليها واقتحام مدينة عكا المليئة بالمؤن والأسلحة والغنائم التي ظفر بها المسلمون من وقعة حطّين ومن القدس، ولاصقت الدبابات الأسوار، فرماها رماة المسلمين بِكُرَات من اللهب لم تؤثر فيها، ووثب الصليبيون فوق الأسوار ودار قتال متلاحم استمر اليومَ كلَّه، وصمد المسلمون وعجز الأعداء عن اقتحام المدينة، وفي اليوم التالي صمد المسلمون صمودًا بالغًا أمام محاولات الاقتحام، ثم بدأ التعب يدبّ في أوصالهم، واستبدّت الحيرة بصلاح الدين في أمر هذه الدبابات التي لا تحترق، فأحضر ذوي الخبرة ووعدهم بالأموال الجزيلة إنْ هُمْ أحرقوها، فأفلح في ذلك شاب نَحَّاس من دمشق، اسمه "عليّ" إذْ خلط النفط الأبيض بمواد يعرفها، وغلى ذلك في ثلاثة قدور من نحاس حتى صار نارًا، ورمى كل دبابة بِقِدْرٍ من تلك القدور بالمنجنيق من داخل عكا، فاحترقت وصارت نارًا بمن فيها، وذلك يوم الإثنين الثاني والعشرين من ربيع الأول من عام 685هـ، وارتفعت الأصوات بالتكبير، ثم أمر السلطان لذلك الشاب بأموال كثيرة، فلم يقبل من ذلك شيئًا وقال: إنما صنعت ذلك ابتغاء وجه الله ـ تعالى.

وبخسائر قليلة نجح الأسطول المصري في نقل مؤن جديدة إلى المدينة المحاصرة وتوقفت المعارك عدة أيام، والصليبيون متحصنون بمواقعهم شمال عكا.

وقد حاول صلاح الدين استدراجَهم إلى معارك بعيدة عن الحصون والقلاع فلم يُمكنوه من ذلك، وبينما أخذت الإمدادات تتوالى من أوروبا لتقوية الجيوش الصليبية العاتية، كانت الإمدادات التي تصل إلى صلاح الدين لا تمثل شيئًا، مع أنه راسل أمراء كافة الأقطار الإسلامية طالبًا المدد لحماية المقدسات التي استردّها، واستمرت المعارك الصغيرة بين الطرفين حتى حلّ الشتاء، فتوقف القتال وأخذ كل فريق يُعِدُّ عُدَّتَه.

وبانقضاء الشتاء وحلول ربيع عام 785هـ بدأ الصليبيون بالهجوم في شراسة من جميع الجهات مستخدمين عددًا كبيرًا من الدبابات التي لم يعيدوا طلاءها بالمادة المانعة للاحتراق عقب رؤيتهم قدرة المسلمين على إحراقها، واندفعت الدبابات نحو الأسوار، فأحرق المسلمون أعدادًا كبيرة منها، لكن الصليبيين دفعوا بالمزيد منها حتى تكاثرت على الأسوار، وتمكنت من هدم جزء منها، فاندفعت الحشود إلى داخل المدينة، واستبسل المسلمون وقاتلوا أشد قتال، لكن عدد الصليبيين كان خمسة أمثال الجيوش الإسلامية، فحسم المعركةَ تفوقُ الأعداء في العدد والعدة، وسقطت مدينة عكا في أيدي عُبَّاد الصليب بعد قتال استمر قرابة عامين، وذلك في السابع عشر من جمادى الثانية عام 785هـ / الثاني عشر من يوليو عام1911م، وكانت أعداد القتلى من الطرفين هائلة؛ إذْ قُتل من الصليبيين وحدهم خمسون ألفًا، وأُسر من المسلمين ألوف فضلاً عن قتلاهم، وغنم الصليبيون أموالاً عظيمة، وارتفعت النيران والصلبان على الأسوار والأبراج بعد سبعة وثلاثين شهرًا من صمود ومُصابرة صلاح الدين ورجاله أمام وداخل أسوار عكا.

ثم بعث الصليبيون إلى صلاح الدين يَعرضون عليه إطلاق الأسرى المسلمين مقابل إطلاقِهِ أسراهم، وردِّه صليبَ الصلبوت، ودفْعِ مقدار من المال، فقَبِلَ ما عرضوا ونفَّذَ من قِبَلِهِ ما اتفق عليه، فإذا بالصليبيين يَنْقَضُّون على الأسرى المسلمين ضربًا بالسيوف وطعنًا بالرماح حتى أفْنَوْهُم، وكان يومًا من أيام الهزائم الكبرى والأحزان الجسام في حياة المسلمين.

وقد علق المؤرخ الفرنسي "رينيه جورسيه" على غدر الصليبيين بأسرى المسلمين، ونقضهم العهد المبرم مع صلاح الدين بقوله: "كان عملاً بشعًا، ليس شجاعًا وليس له ما يبرره، أين هذا العمل من أعمال صلاح الدين الكريمة تجاه المسيحيين؟ هل ينسى المسيحيون أن صلاح الدين قد سمح لهم بالخروج من القدس بكامل أموالهم وأمتعتهم، هل ينسون أنه في كل مدينة فتحها قد عاملهم معاملة كريمة..".

 وبسقوط عكا في يد الصليبيين انطلقوا قاصدين مدينة عسقلان، فنهض لهم صلاح الدين في وقعات متعددة ليردهم عن عسقلان والقدس، ثم اجتمع ريتشارد ملك الإنجليز بالملك العادل أخي صلاح الدين، فعرض عليه الصلح على أن يعيد الصليب وبيت المقدس والبلاد الساحلية إلى أيدي الصليبيين، فأجابه الملك العادل بقوله: "إن دونَ ذلك قتل كل فارس منكم ورَاجِل". فوقعت عند غابة أرسوف موقعة أخرى بين الصليبيين وجيش صلاح الدين، خسر فيها الطرفان ألوفًا بعد ألوف، ثم تقدم صلاح الدين نحو عسقلان، فاستشار ذوي الرأي، فأشاروا بتخريبها وتدميرها ـ مع كثرة زروعها وثمارها وأزهارها وأنهارها، وكثرة رخامها وحُسْنِ بنائها؛ لئلا تقع في يد الأعداء فَيَثِبُوا منها على بيت المقدس، فهدمت وأحرقت حتى صارت رمادًا، ثم رحل عنها صلاح الدين في ثاني رمضان سنة  785هـ، ثم اجتاز الرمْلة فدمر حصونها، وزار بيت المقدس وعاد إلى معسكره سريعاً، فقاد الجيشَ لحماية القدس وشرع في تحصين المدينة وتعميق خنادقها ومَلْئِها بالماء، ونصب المنجنيق حولها، وعمل في ذلك بنفسه وأولاده مع الجيش، وعاونه الأمراء والقضاة والصالحون حتى أَهَلَّتْ سنة ثمانٍ وثمانين وخمسمائة من الهجرة (558هـ)، وفي تاسع جمادى الأولى استولى الصليبيون على قلعة الداروم، فقَتَلوا من المسلمين وأَسروا، ثم اتجهوا نحو القدس، فبرز إليهم صلاح الدين، ففروا دون قتال، ثم اجتمع شملهم حتى صاروا قوة عظيمة، يقودهم ملك الإنجليز "ريتشارد" الملقب بقلب الأسد، الذي صمم على المسير إلى القدس ومحاصرتها. وبينما الصليبيون كذلك إذا بهم يختلفون؛ أيمضون إلى القدس مع

 

 

14- الاستعداد لحصار طويل:

كانت الشدائد والأهوال التي لقيها صلاح الدين ومن معه بعد تحرير القدس ـ أكبر بكثير مما عانوه قبل الفتح وعند دخولهم المدينة المباركة، فقد حفز فتح المسلمين للقدس كل قوى أوروبا، فخرجوا في أعداد كبيرة، واستعدادات حربية ضخمة، وقاد ملوكهم الكبار الجيوش بأنفسهم، بحثًا عن موضع لهم في الأرض المباركة.

وقد عانى المسلمون الكثير وصبروا صبرًا عظيمًا في حصار الصليبيين لعكا، لعلم صلاح الدين ومن معه أن سقوط عكا يفتح الطريق أمام الصليبيين نحو القدس، لكن المدينة الساحلية سقطت في يد ريتشارد وجنوده في جمادى الآخرة سنة خمسمائة وسبع وثمانين، وراح السلطان صلاح الدين والمسلمون يستعدون بقوة لمواجهة حصار صليبي قاس للقدس.

لم يكن صلاح الدين يرى أن الاستعداد المادي يكفي وحده لمواجهة العدو؛ لذا لم تتوقف جهوده عند حفر الخنادق حول القدس، وتقوية سورها، وتعزيز نقاط الدفاع فيها، وردم العيون خارج السور لكي لا ينتفع بها العدو القادم ـ وإنما تجاوزت جهود المجاهد الكبير ذلك إلى الجانب القلبيّ والنفسيّ، فقام جنودُه ـ بإشارة من العماد الأصفهاني الكاتب ـ بالمبايعة على الموت عند صخرة المعراج، كما كان الصحابة يفعلون، ووقف صلاح الدين في جنوده خطيبًا، يحملهم مسئولية عظيمة، وهي حماية الأمة المسلمة كلها.

ووجد صلاح الدين إجابة حسنة من جماعة المسلمين، ففرح لذلك، ووزع القوات بحيث يتبقى بعضها داخل المدينة يدافع عنها، ويبقى البعض الآخر خارج القدس: يشغل الصليبيين، ويبقى لحماية باقي ديار الإسلام، وكان اليوم جمعة، فلما حضر صلاح الدين للصلاة، "وأذن المؤذن للظهر ـ قام فصلى ركعتين بين الأذانين، وسجد وابتهل إلى الله ـ تعالى ـ ابتهالاً عظيمًا، وتضرع إلى ربه وتمسكن، وسأله فيما بينه وبينه كشف هذه الضائقة العظيمة".

وكان الله مع خَلْقِه وعبادِه، فكشَف الغُمة بخلافٍ وقع في معسكر الصليبيين، الذين مالوا إلى طلب الصلح. ولم يمكث صلاح الدين في القدس بعد ذلك إلا أياما قليلة.

من رسائل القاضي الفاضل أثناء الصراع مع الصليبيين:

كتب إلى صلاح الدين يقول: "المملوك يُنهي (أي يبلغكم) أن الله ـ تعالى ـ لا يُنال ما عنده إلا بطاعته، ولا تُفرَّج الشدائد إلا بالرجوع إليه والامتثال لأمر شريعته، والمعاصي في كل مكان بادية، والمظالم في كل موضع فاشية، وقد طلع إلى الله ـ تعالى ـ منها ما لا يُتوقع بعدها إلا ما يُستعاذ منه، وقد أجرى الله ـ تعالى ـ على يد مولانا من فتح البيت المقدس ما يكون بمشيئة الله له حجة في رضاه، ونعوذ بالله أن يكون حجة عليه في غضبه، بلَغ المملوك (أي: القاضي الفاضل نفسه، وهكذا كان يخاطب الملوك) من كل وارد منه مكاتبة ومخاطبة بأنه على صفة تقشعر منها الأجساد، وتتصدع بذكرها الأكباد، والمملوك لا يتعرض لتفصيل ما بلغه من ظهور المنكرات في أتباعه، وشيوع المظالم في ضياعه، وخراب البلد وعدم القدرة على المرمة (أي الترميم) لقبة الصخرة والمسجد الأقصى، وبالغفلة عن مرمتهما وتفقدهما في أشتية القدس العظيمة الجليلة المثلجة لا يؤمن سقوطهما، وافتضاح القدرة في العجز عن إعادتهما، والمرمة أقرب تناولاً من الإنشاء والتجديد، ولا شبهة أن مولانا ـ عز نصره ـ في أشغال شاغلة، وأمور متشددة، وقضايا غير واحدة ولا متعددة، ولكن قد ابتلي الناس فصبروا، وأضجرَتْهُم الأيام فما ضجروا، وأي عبادة أعظم من عبادته التي قام بها والناس عنها قعود، وصبر في طلب جنتها على ناري الحرب والوقت ذواتي الوقود.

غير أن مولانا إذا ذكر نصيبه من الإقدام فلا ينسى نصيبه من الحزم، ولا يعجل في الأمور الخطيرة، ولا يُقدم بالعدد القليل على العدة الكثيرة، فالمولى إذا أقبل كان واحدًا وإذا أدبر كان مُقوَّمًا بجميع الخلق ولا يطمع بأن يقوم به الألف، وليذكر المولى نوبة الرملة التي كان وقوعها من الله ـ سبحانه ـ أدبًا لا غضبًا، وتوفيقًا لا اتفاقًا، ولا يكره المولى أن تطول مدة الابتلاء بهذا العدو فثوابه يطول، وحسناته تزيد، وأثره في الإسلام يبقى، وفتوحاته بمشيئة الله يعظم موقعها والعاقبة للتقوى، ولينصرن الله من ينصره، والله ـ تعالى ـ يشكر لمولانا جهاده بيده وبرأيه، وبولده وبخاصته، وبعامة جنده " (هذه الرسالة من القاضي الفاضل، والرسائل التي بعدها تشجيع منه ـ رحمه الله تعالى ـ وتثبيت لصلاح الدين).

ومن كتاب آخر:

"إنما أُتينا من قِبَل أنفسنا، ولو صدقناه لعجل لنا عواقب صدقنا، ولو أطعناه لما عاقبنا بعدوّنا، ولو فعلنا ما نقدر عليه من أمره لفعل لنا ما لا نقدر عليه إلا به، فلا يستخصم أحد إلا عمله، ولا يَلُم إلا نفسه، ولا يَرْجُ إلا ربه، ولا تنتظر العساكر أن تكثر، ولا الأموال أن تحضر، ولا فلان الذي يُعتقد عليه أن يقاتل، ولا فلان الذي ينتظر أنه يسير، فكل هذه مشاغل عن الله ليس النصر بها ولا نأمن أن يكلنا الله إليها، والنصر به، واللطف منه، والعادة الجميلة له، ونستغفر الله ـ سبحانه ـ من ذنوبنا فلولا أنها مسدُّ طريق دعائنا لكان جواب دعائنا قد نزل، وفيض دموع الخاشعين قد غسل، ولكن في الطريق عائق، خار الله لمولانا في القضاء السابق واللاحق".

ومن كتاب آخر:

"وعسكرنا لا يشكو ـ والحمد لله ـ منه خورًا، وإنما يشكو منه ضجرًا، والقوى البشرية لا بد أن يكون لها حدّ، والأقدار الإلهية لها قصد، وكل ذي قصدٍ خادمُ قصدِها، وواقفٌ عند حدها، وإنما ذكر المملوك هذا ليرفع المولى من خاطره مقت المتقاعس من رجاله، كما يُثَبت فيه شكر المسارع من أبطاله، قال الله ـ تعالى: (فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر).

يا مولانا: أليس الله ـ تعالى ـ اطَّلع على قلوب أهل الأرض فلم يؤهل ولم يستصلح ولم يختر ولم يُسهل ولم يستعمل ولم يستخدم في إقامة دينه وإعلاء كلمته وتمهيد سلطانه وحماية شعاره وحفظ قبلة موحديه إلا أنت، هذا، وفي الأرض من هو للنبوة قرابة، ومن له المملكة وراثة، ومن له في المال كثرة، ومن له في العدد ثروة، فأقعدَهُم وأقامَك، وكسَّلهم ونشَّطك، وقبضهم وبسطك، وحبب الدنيا إليهم وبغَّضها إليك، وصعَّبَها عليهم وهوَّنَها عليك، وأمسك أيديهم وأطلق يدك، وأغمد سيوفهم وجرّد سيفك، وأشقاهم وأنعم عليك، وثبطهم وسيرك: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبَّطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين).

نعم وأخرى أهم من الأولى أنه لما اجتمعت كلمة الكفر من أقطار الأرض وأطراف الدنيا ما تأخر منهم متأخر ولا استبعد المسافة بينك وبينهم مستبعد، وخرجوا من ذات أنفسهم الخبيثة لا أموال تنفق فيهم، ولا ملوك تحكم عليهم، ولا عصا تسوقهم، ولا سيف يزعجهم، مُهطعين (أي مسرعين) إلى الداعي، ساعين في أثر الساعي، وهم من كل حدب ينسلون (أي من كل مرتفع من الأرض يظهرون) ، ومن كل بر وبحر يقبلون، كنتَ يا مولانا ـ كما قيل ـ أبقاك الله:

ولستَ بملكٍ هازمٍ لِنَظِيرِه            ولكنَّكَ الإسلامُ للشرْكِ هازِمُ

هذا وليس لك من المسلمين كافة مساعدة إلا بدعوة، ولا مجاهد معك إلا بلسانه، ولا خارج معك إلا بهم، ولا خارج بين يديك إلا بالأجرة، ولا قانع منك إلا بزيادة، تشتري منهم الخطوات شبرًا بذراع، وذراعًا بباع، تدعوهم إلى الله وكأنما تدعوهم إلى نفسك، وتسألهم الفريضة كأنك تكلفهم النافلة، وتعرض عليهم الجنة وكأنك تريد أن تستأثر بها دونهم.

والآراء تختلف بحضرتك، والمشورات تتنوع بمجلسك، فقائل: لم لا نتباعد عن المنزلة، وآخر: لم لا نميل إلى المصالحة، ومتندم على فائت ما كان فيه حظ، ومشير بمستقبلٍ ما يلوح فيه رشد، ومشير بالتخلي عن عكا حتى كأن تركها تغليق المعاملة (أي نهاية الجهاد مع الكفار)، وما كأنها طليعة الجيش ولا خرزة السلك إن وهت تداعي السلك، فألهمك الله قتل الكافر، وخلال المخذِّل، والتجلدَ وتحت قدمك الجمر، وأفرشك الطمأنينة وتحت جنبك الوعر.

ولكنَّ مولانا صفيحة وجههِ               كضوءِ شهابِ القابسِ المُتنورِ

قليلَ التشكي للمهم نصيبه                كثيرَ الهوى شتى النوى والمسالك

لا شبهة أن المملوك قد أطال، ولكن قد اتسع المجال، وما مراده إلا أن يشكر الله على ما اختاره له ويسره عليه، وحببه إليه، فرب ممتحن بنعمة، ورب منعَم عليه بمشقة، وكم مغبوط بنعمة هي داؤه، ومرحوم من بلوى هي دواؤه، ويريد المملوك بهذا أن لا يتغير لمولانا ـ أبقاه الله ـ وجهٌ عن بشاشة، ولا صدرٌ عن سعة، ولا لسانٌ عن حسنة، ولا تُرى منه ضجرة، ولا تُسمع منه نَهْرة، فالشدةُ تذهب ويبقى ذكرها، والأزمة تنفرج ويبقى أجرُها، وكما لم يُحدِث استمرارُ النعم لمولانا ـ عز وجل نصره ـ بطرًا فلا تُحدِث له ساعات الامتحان ضجرًا، والمملوك يستحسن بَيْتَيْ حَاتِم، ومولانا ـ أبقاه الله وخلَّد سلطانَه ومُلكه ـ يحفظهما:

شربنا بكأسِ الفقرِ يومًا وبالغِنى               وما منهما إلا سَقَانَا بهِ الدهرُ

فما زادنا بَغيًا على ذي قرابةٍ          غنانا ولا أزرى بأَحْسَابِنا الفَقْرُ

والمملوك بأن يسمع أن مولانا ـ عز نصره ـ على ما يعهده من سعة صدره أسرُّ منه بما يسمعه من بشائر نصره، ويا ليتني كنتُ معهم، وماذا كانت تصنع الأيام إما شيبًا من مشاهدة الحروب، فقد شبنا والله من سماع الأخبار، أو غُرمًا يمكن خُلفه من الوَفْر (المال الكثير) فقد غرمنا في بُعد مولانا ما لا خُلف له من العمر، أو مرض جسم فخيره ما كان الطبيب حاضره، ولقد مرضنا أشد المرض لفراقه إلا أن التجلد ساتره".

ومن كتاب آخر: "قيل للمهلب (بن أبي صفرة القائد المعروف) : أيَسُرُّك ظفر ليس فيه تعب ؟ فقال: أكره عادة العجز.

ولابد أن تَنْفذ مشيئة الله في خلقه، لا رادَّ لحكمه، فلا يتسخط مولانا بشيء من قدره، فلأن يجري القضاء وهو راض مأجور خير من أن يجري وهو ساخط موزور، من شكا بثه وحزنه إلى الله شكا إلى مشتكى واستغاث بقادر، ومن دعا ربه خفيًا استجاب له استجابة ظاهرة، فلتكن شكوى مولانا إلى الله خفية عنا، ولا يقطع الظهور التي لا تشتد إلا به، ولا يُضيّق صدورًا لا تنفرج إلا منه، وما شرد الكرى (أي النعاس والنوم)، وأطال على الأفكار ليل السُّرى (السرى: سير عامة الليل) إلا ضائقة القوت بعكا، ولم يبق إلا ضعف نعم المعين عليه ترويح النفس وإعفاؤها من الفكر، فقد علم مولانا بالمباشرة أنه لا يُدبَّر الدهر إلا برب الدهر، ولا ينفذ الأمر إلا بصاحب الأمر، وأنه لا يَقِلّ الهمُّ إن كثر الفكر.

قد قلتُ للرجلِ المقسَّمِ أمرُهُ         فوِّضْ إليهِ تَنَمْ قريرَ العَيْنِ

وكل مقترح يجاب إليه إلا ثغرًا يصير نصرانيًا بعد أن أسلم، أو بلدًا يخرس فيه المنبر بعد أن تكلم، يا مولانا: هذه الليالي التي رابطتَ فيها والناس كارهون، وسهرتَ فيها والعيون هاجعة، وهذه الأيام التي يُنادَى فيها: ياخيل الله اركبي، وهذه الساعات التي تزرع الشيب في الرؤوس، هي نعمة الله عليك، وغراسك في الجنة: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خيرٍ محضرًا) وهي مجوِّزاتك على الصراط، وهي مثقلات الميزان، وهي درجات الرضوان، فاشكر الله عليها كما تشكره على الفتوحات الجليلة، واعلم أن مثوبة الصبر فوق مثوبة الشكر.

من ربط جأش أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قوله : "لو كان الصبر والشكر بعيرين ما باليت أيهما ركبت"، وبهذه العزائم سبقونا وتركونا لا نطمع في اللحاق بالغبار، وامتدت خطاهم ونعوذ بالله من العثار، ما استعمل الله في القيام بالحق إلا خير الخلق، وقد عُرف ما جرى في سير الأوّلين، وفي أنباء النبيين، وأن الله ـ تعالى ـ حرَّض نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يهتدي بهداهم، ويسلك سبيلهم، ويقتدي بأولي العزم منهم.

وما ابتلى الله ـ سبحانه ـ من عباده إلا من يعلم أنه يصبر، وأمور الدنيا ينسخ بعضها بعضًا وكأن ما قد كان لم يكن، ويذهب التعب ويبقى الأجر، وإنما يقظات العين كالحلم، وأهم الوصايا ألا يحمل المولى همًا يضعف به جسمه، ويضر مزاجه، والأمة بنيان وهو ـ أبقاه الله تعالى ـ قاعدتُه، والله يثبتُ تلك القاعدة القائمة في نصرة الحق.

ومما يستحسن من وصايا الفرس: "إن نزل بك ما فيه حيلة فلا تعجز، وإن نزل بك ما ليس لك فيه حيلة ـ والعياذ بالله ـ فلا تجزع"، ورب واقع في أمر لو اشتغل عن حمل الهم

 

 

15- آخر أيام صلاح الدين في القدس:

وجْهُ صلاح الدين تعرفه القدس جيدًا مجاهدًا رحيمًا، وتملأ البسمة فمها حينما تذكره كواحد من أعظم أبطالها، ووجه القدس يعرفه صلاح الدين جيدًا، ويملأ الحزن قلبه من قسوة الناس مع هذه المدينة المباركة، الجالسة فوق رُبا عالية، تنظر إلى الناس في كبرياء وجلال جيلاً وراء جيل.

وقد عاد صلاح الدين إلى القدس بعد صلح الرملة الذي عقده مع ريتشارد قلب الأسد في شعبان من سنة خمسمائة وثمان وثمانين، وأخذ يرتب أمور المدينة المقدسة، وينظم شؤونها الإدارية، ووسع في أوقاف المدارس والصوفية.

ثم اشتاق قلبه إلى الحج، وطار به الشوق إلى سماء مكة والمدينة وأرضهما، فعزم على الحج، لكن أصحاب الرأي من المسلمين، رأوا أن يؤجل السلطان حَجَّه إلى عام آخر، خوفًا على البلاد من الصليبيين، فاستجاب صلاح الدين للنصح، ومكث في بيت المقدس بقية شعبان وجميعَ شهر رمضان قضاه في صيام وصلاة وقرآن في رحاب المسجد الأقصى وعند الصخرة، وكان يُكْرِم ملوك الفرنجة إذا وفدوا عليه، تأليفًا لقلوبهم، ومنعًا لشرورهم عن المسلمين.

وفي الخامس من شوال ركب السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وعساكرُه الخيول ونيتُه دمشق، بعد أن عين عز الدين جوردبك نائبًا له على القدس، وبهاءَ الدين بن يوسف بن رافعٍ الشافعيَّ قاضيًا عليها، وراحت الخيل تخرج من القدس متثاقلة، فهي الخطا الأخيرة هنا لصلاح الدين فوق هذا التراب الغالي؛ إذ توفي ـ رحمه الله ـ في دمشق أواخر شهر صفر من العام التالي، وترك القدس وغيرها أمانة في أعناق خلفائه من بني أيوب.

 

16- صلح الرملة:

استهلكت مواجهة الحملة الصليبية الثالثة (التي جاءت لاسترداد القدس من المسلمين) جهودا ضخمة من صلاح الدين وجيوشه، حتى ملَّ كثيرٌ من جنوده طولَ القتال وشدتَه، لكن القائد الباسل وكبار رجاله راحوا يحثون الناس على الثبات والصبر، ويحمّلونهم مسئولية الذود عن الأمة الإسلامية وعن دينها..

ولم يكن الصليبيون أقلَّ مللا للقتال، الذي كان يكلفهم كل يوم ثمنا باهظا من القتلى والأسرى والأموال والسلاح.. ومع هذا ظلَّ الموقف الحربي ـ في الغالب ـ ثابتا بين الفريقين، فالصليبيون عاجزون عن استعادة بيت المقدس، والمسلمون غير قادرين على إجلاء الغزاة عن السواحل الشامية..

في هذه الأجواء مال الخصمان إلى المسالمة، واتفقا على عقد هدنة بينهما، فعُقدت وتضمنت بنودا: أولها ثبات كل فريق على ما تحت يده من الأرض (وكان للفرنجة حينها الشريط الساحلي الممتد من صور إلى حيفا).. وثاني بنود الاتفاقية: إتاحة الفرصة للصليبيين لزيارة بيت المقدس بغير ضريبة يدفعونها، وثالثها: إيقاف الحرب بين الطرفين ثلاث سنوات..

وهذا البند الأخير يؤكد أن معاهدة الرملة ليست رضىً بالاحتلال، ولا سكوتا على اغتصاب أرض المسلمين، وإنما كان اتفاقا مؤقتا لالتقاط الأنفاس المتسارعة من كثرة الحروب بلا جدوى..

 

الوصية بالدفن في القدس:

"إذا وصى (أحد) بأن ينقل إلى بلد آخر، لا تنفّذ وصيته؛ فإنّ نقل الميت حرام على المذهب الصحيح المختار. قال الشافعي: إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس فينقل اليها لبركتها." (من كلام النووي في كتابه الأذكار).

 

        2-  خلفاء صلاح الدين والقدس

1- العلاقات السياسية في العالم الإسلامي أيام خلفاء صلاح الدين:

بعد رحيل صلاح الدين عن الحياة (عام 589هـ) بقي الأيوبيون فرسانَ الحلْبة وأقوى سلطة في العالم الإسلامي، وإن ظلت الفُرقة والتشرذم والتقاتل الداخلي أشياء مألوفة في البيت الأيوبي منذ رحيل السلطان العظيم صلاح الدين إلى أن زال ملك الأيوبيين بعد تولي المماليك السلطنة في مصر والشام وكسرهم التتار سنة 658هـ.

كان أكبر خطأ وقع فيه الأيوبيون، هو تفتيت دولة صلاح الدين بين أفراد أسرته، فتولى أخوه العادل العراق وديار بكر، وجاءت مصر في نصيب العزيز بن صلاح الدين، والقدس ودمشق للأفضل بن صلاح الدين، وتملك الظاهرُ بن صلاح الدين حلب. وبقيت حمص وحماة وبعلبك واليمن لأبناء عمومة السلطان الراحل.

وتكرر نفس الخطأ عقب وفاة العادل سنة 615هـ، فقد تقاسم أولاده مملكته (التي وسّعها على حساب بقية سلاطين بني أيوب)، فدمشق (وتتبعها القدس) للمعظم عيسى، ومصر للكامل، وميافارقين وما يتبعها لنجم الدين، والأشرف له العراق.

كان هذا الوضع ـ في كل الأحوال ـ كفيلا بأن يحاول كل سلطان من هؤلاء الوثوب للاستيلاء على دولة الآخر، وتوسيعِ مملكته على حسابه. وانتقالُ القدس من سلطان إلى آخر من الأيوبيين نموذج على هذا التنافس، فبعد صلاح الدين تولى عليها ابنه الأفضل، ثم انتزعها منه عمه العادل، وورثها عنه ابنه المعظم، وبوفاة المعظم سنة 624هـ تولى أمر القدس ابنه الناصر داود، لكنها لم تدم في يده طويلا؛ إذ انتزعها منه سريعا عمه الكامل سلطان مصر.

أما الخليفة العباسي، فلم تكن سلطاته تتجاوز بغداد ومساحات أخرى حولها، حتى عجز عن قيادة حركة التحرير ضد الغزوين الشرسين الصليبي والمغولي، وهو ما تولاه مجاهدون عظماء من الزنكيين والأيوبيين والمماليك.

وكل ما بقي للخلافة هي قيمة معنوية في العالم الإسلامي، إذ كان السلاطين والملوك المسلمون يستمدون شرعيتهم من هذه الخلافة، فعل هذا صلاح الدين نفسه وأخوه العادل ، ومَن بعدهما من بني أيوب.

كانت هناك قوة سياسية أخرى في العالم الإسلامي، وهم السلاجقة الذين كان لهم سلطان واسع في القرن الخامس الهجري، لكنهم كانوا أثناء القرن السادس في مرحلة الأفول، فقد سيطر الزنكيون على أملاكهم في الشام سنة 511هـ، وأزال الخوارزميون ملكهم من العراق سنة 590هـ، وبقيت لهم أرضهم في آسيا الصغرى إلى ما بعد الأيوبيين.

 

 

2- خلفاء صلاح الدين والقدس

أدت اتفاقية الرملة بين صلاح الدين وريتشارد قلب الأسد عام 588 هـ ـ إلى حالة من الاستقرار النسبي في القدس وفي عموم المنطقة، إلا أن هذه الحال لم تطل فيما بعد بسبب النزاع بين خلفاء صلاح الدين، الذي قُسمت مملكته عقب وفاته بين أبنائه وإخوته وصارت القدس تحت ولاية ابنه الأكبر الأفضل نور الدين عليّ حاكم دمشق، ثم خرج العزيز ابن صلاح الدين على أخيه الأفضل، وتنازعا حول دمشق، فأصلح عمهما العادل بينهما، على أن تدخل القدس تحت أملاك العزيز حاكم مصر، ثم تعاون العادل وابن أخيه العزيز في الاستيلاء على دمشق، وآلت مصر ودمشق وفلسطين وأكثر مملكة صلاح الدين إلى العادل بعد وفاة العزيز سنة 595 هـ، وجعل العادل ولاية القدس إلى ابنه المعظم، وفي ولايته سنة ستمائة وسبع حاول الصليبيون غزو القدس، لكنهم طلبوا الصلح حين رأوا ثبات المسلمين وصبرهم.

لقد ترك صلاح الدين في نفوس الصليبيين ميراثا كبيرا من البغض للمسلمين؛ لأن آمالهم في البقاء بالقدس وغيرها من أرض الإسلام قد أصبحت أحلاما ضائعة أمام ثبات صلاح الدين وجهاده، الذي تواصل حتى لقي الله تعالى، لذلك لم يكن خلفاء صلاح الدين يلتقطون أنفاسهم من قتال الفرنجة الصليبيين في موقعة حتى تُشَنّ عليهم حرب صليبية من ناحية أخرى، فبعدما عُقد الصلح في الشام سنة ستمائة وسبع، أقبل الصليبيون بجحافلهم إلى مصر في سنة ستمائة وتسع، فاجتمع لهم الملك العادل، وابناه الفائز والمعظم والي القدس واشتدوا وأعدوا قواتهم، فبلغ العادلَ أن أحد الأمراء التابعين له ثار في الشام وحاول الاستيلاء على دمشق والقدس وغيرهما، فسارع العادل لكي يَسُدَّ الخلل، ويعالج الأمور قبل أن تخرج عن سيطرته، وأرسل ابنه المعظم ليقضي على الفتنة، فسارع بقواته نحو القدس حتى سبق إليها، وحاول أن يرد الثائر إلى الطاعة بالملاطفة والحكمة، لكنه رفض الاستجابة، فمال عليه المعظم بقواته حتى شرده وقبض عليه، واستولى على ما تحت يده من المال والثروة.

وبوفاة العادل أخي صلاح الدين، مات الأمراء الأقوياء من بني أيوب، وأصبح الأبناء أكثر استعدادًا للتقاتل فيما بينهم من أجل النفوذ والسلطان، واشتدت الهجمات الصليبية على مصر لإبطال وإضعاف قدرة المسلمين فيها على حماية الشام والقدس، حتى أيقن الكامل بن العادل أن هجمات الفرنجة على ممتلكاته في مصر لن تنقطع إلا بتسليمهم القدس التي انتزعها من الناصر ابن أخيه المعظم، فعقد معهم صلحا على ذلك، وبات المسلمون في حزن عام لا يصدقون ما حدث، حتى عادت المدينة المقدسة في سلطنة الملك الصالح نجم الدين أيوب إلى رحاب المسلمين، بعد أن حررها السلطان الناصر داود تحريرا مؤقتا.

 

 

3- العادل وبيت المقدس:

أعظم السلاطين الأيوبيين بعد صلاح الدين هو أخوه الملك العادل أبو بكر، الذي اكتسب خبرة كبيرة في الحرب والإدارة؛ نتيجة لاشتراكه مع أخيه صلاح الدين في معاركه ومفاوضاته وإدارته لأقاليم الدولة، واشتَهر بالكفاية والدهاء والدراية بشؤون الحكم.

كان العادل بمنزلة النائب لأخيه صلاح الدين، حتى ناب عنه في مصر عند رحيل السلطان إلى بلاد الشام لجمع الشمل المسلم وحرب الصليبيين هناك. وفي جولة تحرير القدس أرسل صلاح الدين إلى أخيه العادل في مصر، فأقبل عليه في قواته، وشاركه في تحريرها، كما شاركه في جولات أخرى كثيرة.

وبعد وفاة صلاح الدين سنة 589هـ كانت العراق وديار بكر هي نصيب العادل من تركة أخيه الراحل. وتولى أبناء صلاح الدين: العزيزُ على مصر، والأفضلُ على دمشق وبيت المقدس، والظاهرُ على حلب.

ولم يطل الأجل بالسلطان الشاب العزيز عماد الدين؛ إذ سقط عن فرسه وهو في رحلة صيد فمات سنة 595هـ، ولم يكن له من الولد من يصلح للسلطنة، فضم العادل مصر إلى مملكته، وكان قد أخذ من الأفضل ما تحت يده سنة 591هـ، وأبقى له ناحية صغيرة على شاطئ الفرات تُسمَّى سُمَيساط..

وهكذا اتسع سلطان العادل، حتى صار الوريثَ الأكبر لمملكة أخيه صلاح الدين، فحكم الحجاز ومصر والشام واليمن وديار بكر وأرمينية..

ولكي يضمن العادل وحدة مملكته وضع أبناءه نوابا عنه على بعض أنحائها، فكانت دمشق والقدس تحت ولاية ابنه المعظم، ومصر مع ابنه الكامل، وأعطى ابنَه أيوب ميافارقين..

وقد مكث العادل أيام حكمه في جهاد متواصل وحروب مريرة مع الصليبيين، لا توقفها إلا معاهدات مؤقتة، ربما تنازل لهم فيها عن مال أو أرض، وربما انتصر عليهم، وقد ينتصرون هم.. لكنه أضاع الكثيرَ من جهده في سبيل الاستيلاء على المزيد من تركة أخيه الراحل.

وتوفي العادل سنة ستمائة وست عشرة حزنا وكمدًا لاستيلاء القوات الصليبية على برج السلسلة الواقع في جزيرة شمال النيل عند التقائه بالبحر المالح، وكان البرج "كالقفل على ديار مصر.. وحين وصل الخبر إلى الملك العادل، وهو بمرج الصُّـفّر، تأوه لذلك تأوها شديدا - أي تألم وتوجع - ودق بيده على صدره أسفا وحزنا على المسلمين وبلادهم ومرض من ساعته مرض الموت".

 

 

4- المعظم عيسى وبيت المقدس:

وصف المؤرخون الملك المعظم عيسى بن العادل بأنه "جُمع له بين الشجاعة والبراعة والعلم"، وإن كانت له هفوات وأخطاء قاتلة، وقد كان للمعظم نصيب في ولاية القدس والدفاع عنها، فوُلّيَ دمشق والقدس في حياة أبيه، ثم انفرد بهما سنة 615 هـ حتى توفي سنة ستمائة وأربع وعشرين.

لم يكن الصليبيون يَمَلُّون من محاولاتهم استعادة القدس منذ خرجت من أيديهم، بل واصلوا الحرب تلو الحرب أملاً في استردادها، وفى سنة ستمائة وسبع كانت لهم محاولة إلى ذلك، فتحركوا بقواتهم ناحية القدس، وارتكبوا بعض المفاسد، فخرج إليهم المعظم عيسى بجنوده، وقام أهل العلم يحضون الناس على الجهاد في سبيل الله، وكان بدمشق حينئذ عالم كبير وواعظ جليل هو سبط ابن الجوزي، يجلس ويلتف الناس حوله بالآلاف، فقام في ربيع الأول من هذا العام وخطب في الناس، وحضهم على الجهاد في سبيل الله، وأخرج لهم شَعرًا لأناس تابوا بين يديه، وصنعوا منها ما يفيد في عون المجاهدين، فلما رآها الناسُ في مجلس الوعظ بكوا بكاء شديدًا، وقطعوا من شعورهم مثلها، وخرج العالِم من دمشق راكبا فرسه "والناس من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، فخرج من باب الفرج، وبات بالمصلى، ثم ركب من الغد في الناس.. ومعه خلائق كثيرون، خرجوا بنية الجهاد إلى بلاد القدس...".

وحين وصل الركب إلى نابلس تلقاهم المعظم عيسى، فلما رأى ما صُنع من شعور التائبين، "جعل يقبِّلها ويمرِّغها على عينيه ووجهه ويبكى"، والتقى سبط ابن الجوزي بجمهوره في نابلس ووعظهم، وحضهم على الجهاد في سبيل الله، ثم خرجوا في جيش المعظم نحو الفرنجة، فقتلوا منهم كثيرًا، وخربوا أماكن لكي لا يستفيد منها الصليبيون في الهجوم على المسلمين، وغنم المسلمون وعادوا سالمين، وحصن المعظم جبل الطور بالقدس ليكون مجالاً لإرباك الصليبيين.

ورأى الفرنجة الصليبيون أن المسالمة في هذه الحال أفضل لهم، فراسلوا الملك العادل والد المعظم، وصالحوه على هدنة بين الطرفين، فوافقهم على ذلك.

وفى سنة ستمائة وأربع عشرة انقضت المهلة، فعاد الصليبيون إلى الإفساد في الأرض، فنهبوا ما كان في بيسان من الغلات والدواب، وقتلوا وسبوا كثيرا من المسلمين، وانتشروا بين بيسان وبانياس يقطعون الطريق ويقتلون ويأسرون، فتحرك الملك المعظم بقواته حتى نزل بين القدس ونابلس "خوفًا على القدس منهم، فإنه هو الأهم الأكبر" فرجعوا دون مرادهم من القدس.

وفي السنة التالية قاتل المعظم الصليبيين عند القيمون، فغلبهم، "وقتل منهم خلقا، وأسر من الداوية - وهي قوات خاصة - مائة، فأدخلهم إلى القدس منكَّسةً أعلامهم".

لكن المعظم أخطأ خطئًا كبيرا حين هدم سور القدس، وذلك في المحرم من سنة 616هـ، فصعَّب على المسلمين فيما بعد مهمة حماية المدينة وحراستها من العدو المتربص، وهرب المقدسيون من المدينة مخافة أن يفاجئهم الصليبيون، "وتركوا أموالهم وأثاثهم، وتمزقوا في البلاد كل ممزق".

 

 

5- الكامل الأيوبي والقدس

أصبحت تركة العادل وميراثه ثقيلا على من بعده، سواء في مصر أم الشام، فتحمل ابنه الكامل أثقل المسئوليات؛ إذ كانت ولايته على مصر، وصار لزامًا عليه أن يواجه الحملة الصليبية القوية، والتي تقدمت سنة ستمائة وخمس عشرة (في أواخر حياة أبيه) حتى استولت على دمياط، وقتلوا العباد وخربوا البلاد.

هنالك استنجد الكامل بالمسلمين وأمرائهم ليدركوا المسلمين قبل أن يملك الفرنجة مصر، ويتحكموا منها في مصير المنطقة، فأقبلت العساكر الإسلامية إليه من كل مكان، وكان أولَ من قدم عليه أخوه الأشرف، ثم المعظم. وهاجمت قوات المسلمين الفرنجة في السنة التالية، بعد أن كمل استعدادها، فهُزم الصليبيون، وقُتل منهم عشرة آلاف، وأخذ المسلمون منهم خيلا وأموالا كثيرة، دون أن يحرروا دمياط.

كل هذا والقدس هدف أعز منالا على السهام الصليبية، لكنها بقيت متنقلة بين أيادي بني أيوب كما كان حالها معهم دائما، فبعد صلاح الدين تولى عليها ابنه الأفضل، ثم أخذها منه عمه العادل، وورثها عنه ابنه المعظم، وبوفاة المعظم سنة 624هـ تولى أمر القدس ابنه الناصر داود، لكنها لم تدم في يده طويلا؛ إذ انتزعها منه سريعا عمه الكامل سلطان مصر.

كان الكامل يقاتل الصليبيين وهو يعلم أنهم قصدوا مصر لكسر شوكتها والاستيلاء عليها، ليسهُل لهم الاستيلاء على بيت المقدس، فحرص على ألا يعطيهم الفرصة لتحقيق هذا الهدف الكبير. لكنه حين أحس بضعف التحالف الذي بينه وبين إخوته، ووقعت وحشة بينه وبين أخيه الأشرف، عرض على الصليبيين المعسكِرين في دمياط أن يأخذوا بيت المقدس وكل ما أخذه صلاح الدين منهم، مقابل أن يتركوا دمياط ويرحلوا عنها، لكن الصليبيين ظنوا أن الكامل لن يدعهم مادامت في مصر قوة، فلم يقبلوا ما عرضه عليهم.

وجاء القدر الإلهي بنجدة المسلمين، حيث ضاقت الأقوات على الصليبيين في دمياط، وجاءهم الطعام من البحر فاستولى عليه أسطول المسلمين، وفتح بعض المسلمين عليهم سدًا على النيل عند دمياط، حتى غرقت المدينة، وصار الصليبيون فيها محصورين من الجهات الأربع، وشدد المسلمون الحصار عليهم، حتى اضطر الصليبيون إلى طلب الصلح مع الجلاء، فوافقهم الكامل ولم يعطهم من الأرض شيئًا.

وفى سنة خمس وعشرين وستمائة جدد الصليبيون دماءهم بقوات جديدة أقبلت من صقلية في الحملة السادسة، فاستولوا على صيدا وانتزعوها من يد المسلمين، وزحف الكامل بقواته من مصر إلى الشام حتى دخل بيت المقدس لحمايتها، وحين اطمأن إلى وجود أخيه الأشرف وقواته في الشام عهد إليه بحفظ بيت المقدس، وهمّ بالعودة إلى مصر، لكن الأشرف خشي على بيت المقدس من الفرنجة، فرجا أخاه أن يبقى إلى جواره لحماية المدينة المقدسة، فبقي الملكان هناك "يحوطان القدس من الفرنج".

وأتى العام التالي بمفاجأة غير سارة للمسلمين، إذ وقع الخلاف والتنازع بين أبناء البيت الأيوبي، والصليبيون على مقربة منهم، والكامل مقيم بنواحي بيت المقدس، ووجد الصليبيون فرصتهم الذهبية في النزاع البادي بين المسلمين، فدخلوا مع الكامل في مفاوضات أملوا فيها شروطهم برد القدس وما استعاده صلاح الدين منهم، وأُمضي الصلح على إعادة بيت المقدس إلى الصليبيين بمنتهى اليسر والسهولة، وهي التي استردها المسلمون بالأمس بدماء الشهداء، وبذلوا لأجلها أقصى ما يمكنهم بذله. لذلك كان وقع هذا الحادث مؤلما على المسلمين، وبقي نقطة سوداء في تاريخ السلطان الكامل الأيوبي.

 

 

6- تأثر المسلمين بتسليم القدس للصليبيين:

بقيت أمجاد تحرير الأيوبيين الأولِ للقدس سنة 583هـ أغنية ينشدها المسلمون، وأحبوا جهاد بني أيوب وحفْظهم للمدينة المباركة، ووضعوا القائد الكبير صلاح الدين موضع الاحترام الشديد..

لكن لم تمر اثنتان وأربعون سنة على تحرير صلاح الدين للقدس، أي في سنة ستمائة وست وعشرين، حتى جاء من البيت الأيوبي من يدخل في هدنة ومفاوضات يصالح فيها الصليبيين مقابل أن يتنازل لهم عن درة المدن وزهرتها الغالية (القدس) ما عدا الحرم القدسي، وهو السلطان الكامل ابن أخي صلاح الدين، وأراد من ذلك أن يتخلص من المنافسة مع الصليبيين، ليتفرغ لتوسيع ممتلكاته على حساب غيره من السلاطين الأيوبيين!!

ودخل الإمبراطور فرديرك الثاني قائدُ الحملةِ بيتَ المقدس في ربيع الآخر، في احتفال مهيب، وهو مملوء بالفخر لما حققه بغير قتال من نصر لم تستطع أوروبا أن تحققه بالحرب والقتال في أربع حملات صليبية جاوزت قواتها المليون من الجنود.

وما سمع المسلمون بالخبر، حتى صاروا في ذهول شديد، لا يصدقون ما جرى، وتألمت القلوب له تألما شديدًا، وبكى المسلمون في شوارع دمشق وبيوتها ومساجدها، وفى شتى بلاد المسلمين، حتى لم يمر على دمشق يوم بكت فيه كبكائها في هذا اليوم!!

"وبقي أهل بيت المقدس مع الفرنج في الدار، ونطق الناقوس، وصمت الأذان، وعد الناس ذلك وصمة في الدين، وتوجهت به اللائمة من الخلافة (والمسلمين) قاطبة على الكامل".

 

 

7- الناصر داود وتحرير مؤقت للقدس:

انتقل شرف الإمارة على القدس ودمشق عقب وفاة المعظم سنة 625هـ ـ إلى ابنه الناصر داود، ومن هنا صار لزامًا على الناصر الحفاظ على الدرة الثمينة (القدس) وصيانتها من التربص الصليبي بها، لكن المفاجأة جاءت في العام التالي لتولي داود السلطة (سنة 626هـ)، إذ استولى عمه الكامل على القدس، وعقد هدنة مع الصليبيين لمدة عشر سنوات، يمتنعون أثناءها عن الحرب، على أن يمنحهم القدس.

وكان ذلك الصلح من أجل أن يتفرغ الكامل لانتزاع دمشق من يد الناصر داود، وفى جولات متتابعة تنقلت دمشق من يد إلى يد، وامتد سلطان الناصر داود وانحسر، حتى أصبح أميرًا على حصن الكرك إلى الشرق من البحر الميت، وكان له دور كبير في وضع نجم الدين أيوب في السلطنة على مصر، بعد أن رأى ألوان الذل والسجن. ولنجم الدين هذا فضل في التحرير الأيوبي الثالث لبيت المقدس.

لقد كان التحرير الأيوبي الأول للمدينة المقدسة على يد الناصر صلاح الدين، والثاني على يد الناصر داود، حيث قرر داود في سنة 637هـ التفرغ لتحرير القدس من يد الصليبيين الذين عاش مسلمو القدس بينهم في ذلة..

كان الناصر داود يؤمن جيدًا بأن أي نداء للجماهير المسلمة لتحرير القدس سيلاقي استجابة سريعة، فجمع جمعا عظيما من المسلمين، وقسمهم فرقا لكل فرقة راية، ووزعهم على جوانب المدينة، واتفق على أن تكون إشارة البدء التي يكون عندها الهجوم على الصليبيين هو   التكبير..

سارت القوات المسلمة ليلاً، وأخذوا أهبتهم واستعدادهم الكامل، وأشعلوا النيران، ورفعوا الرايات، والصليبيون في القدس يحتفلون بعيدهم، قد انشغلوا بشرب الخمر واللهو واللعب...

وهنا ارتفع صوت التكبير، فتردد بين المشرق والمغرب، وسمع الصليبيون في القدس الصوت يأتي من كل مكان كالرعد، فملكهم الخوف والجزع، ودخل المسلمون المدينة وقتلوا الكثير من الصليبيين وبينهم ملكهم.

وأعاد الناصر ما كان قد أقره الناصر صلاح الدين أخو جده من احترام الأماكن الطاهرة وصيانتها، وكتب داود بالبشرى إلى المسلمين في كل مكان، وعاد الشاعر يقارن بين الناصر داود والناصر صلاح الدين ويقول:

المسجد الأقصى له عادة          

سارت فصارت مثلاً سائرًا

إذا عاد بالكفر مستوطنًا                        

أن يبعث الله له ناصرًا

فناصر طهره أولاً                       

وناصر طهره آخرًا!!

ولأن القدس كانت حينئذ مدينة بلا أسوار، يصعب الدفاع عنها إلا بقوات ضخمة، والبيتَ الأيوبي ضعيف لا تجتمع لسلاطينه كلمة، بل تحالف بعضهم مع الصليبيين ـ لهذا كله فقد انسحب الناصر داود من القدس نحو الكرك، فدخلها الصليبيون من جديد.

 

 

8- الملك الصالح أيوب وتحرير القدس:

بعد تحرير الناصر داود لها عادت القدس إلى الصليبيين من جديد؛ بسبب تحالفاتهم مع بعض ملوك البيت الأيوبي، منهم الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والمنصور صاحب حمص.

كان هذا التحالف معقودًا في وجه سلطان الديار المصرية نجم الدين أيوب، الذي استقدم من المشرق جيشًا من وراء الفرات، من بقايا الدولة الخوارزمية المنهكة في مواجهات عديدة مع قوات المغول وغيرهم.

وفي سنة اثنتين وأربعين وستمائة وقعت معركة شرسة بين جيش نجم الدين أيوب، وفيهم القوات الخوارزمية، وبين الحلف المضاد من الصليبيين وبعض الأمراء الأيوبيين، وانتصر نجم الدين وقواته انتصارًا ساحقًا، وانكسر الفرنجة وحلفاؤهم، وقال بعض أمراء المسلمين المتحالفين مع الصليبيين: "قد علمت أنّا لما وقفنا تحت صلبان الفرنج أنا لا نفلح"!

وفي نفس هذه السنة حاصر نجم الدين أيوب بقواته من الخوارزمية ومن مصر بيت المقدس التي رجعت مدينة صليبية يجلس المحتلون على صخرتها، ويشربون الخمر، وعُلق الجرس في المسجد الأقصى، وصمت صوت الأذان. وقد كان الصليبيون حاولوا تحصين المدينة وتعزيز حاميتها وتقوية استحكاماتها، لكن الحماس والشدة التي ميزت قوات الخوارزمية جعلتهم يقتحمون المدينة المباركة بقوة، حيث دار في شوارعها قتال شديد انهارت فيه المقاومة الصليبية، وقَتل فيها الخوارزمية عددًا كبيرًا من الصليبيين، وتركوا ستة آلاف من رجالهم ونسائهم وأطفالهم يخرجون بشفاعة من الملك الناصر داود.

وفي عام ستمائة وأربعة وأربعين نزل الصالح نجم الدين أيوب أرض الشام، ودخل دمشق، وغزا بعض المدن والحصون، "وزار في رجوعه (في العام التالي) بيت المقدس، وتفقد أحواله"، وأمر بإعمار سور المدينة، كما كان أيام الناصر صلاح الدين، وأنفق على ذلك من الخراج، وما يتحصل من غلات بيت المقدس، وتعهد بالإنفاق على ذلك من ماله إن احتاج".

وكان هذا التحرير للقدس هو التحرير الثالث الذي قام به الأيوبيون للمدينة المباركة، حيث بقيت في يد المسلمين بعدها زمنًا طويلاً، وتنافس عليها الأيوبيون والمماليك، حتى انفرد بها المماليك، وتلاهم العثمانيون، ثم دخلتها القوات البريطانية في أوائل القرن العشرين الميلادي، وتلاها الاحتلال الصهيوني في عامي 1948 و1967.

 

جهاد المشارقة:

"عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "يخرج من خراسان رايات سود فلا يردها شيء حتى تنصب بإيلياء" رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب.

 

 

 

9- القدس بين الأيوبيين والمماليك:

من تحت العباءة الأيوبية خرجت دولة المماليك؛ إذ عمد سلاطين بني أيوب المتأخرين إلى الإكثار من الرقيق الذين يجلبونهم صغارًا، ويربونهم على الفروسية، دعمًا لسلطانهم وتثبيتًا لملكهم، وأهم هؤلاء السلاطين الأيوبيين نجم الدين أيوب صاحب الديار المصرية.

وقد عظم شأن مماليك نجم الدين أيوب بعد وفاته حتى قتلوا ولده توران شاه، وقفزوا على كرسي الملك في صورة المملوك عز الدين أيبك سنة ستمائة وثمان وأربعين ومنذ هذه اللحظة دب النزاع والخلاف بين الأيوبيين في الشام والمماليك في مصر حول مواضع النفوذ، يقود الأيوبيين الناصر يوسف صاحب دمشق، ويتزعم المماليك عز الدين أيبك.

وقد بلغ من انحطاط الملوك حينئذ أن كلا الطرفين حاول الاستعانة بالصليبيين ضد الآخر، والمذهل أن كليهما وعد الصليبيين بإعطائهم بيت المقدس مكافأة لهم على هذا التحالف.

وأدرك المستعصم متولي الخلافة العباسية في بغداد خطورة هذا الوضع، وأيقن أن هلاك المسلمين بمصر والشام متحقق من جراء تحالفهم مع الصليبيين، خاصة أن التتار مقبلون من المشرق زحفا على دار الخلافة، كأنهم إعصار لا يوقفه شيء، فبعث الخليفة المستعصم نجم الدين البادرائي رسولا للصلح بين المسلمين في مصر والشام، فوجد القتالَ قد نشب بين الفريقين، واشتدت الحرب، والصليبيون ينتظرون من عز الدين أيبك أن يسلمهم بيت المقدس إلا أن البادرائي أفلح في الإصلاح بين الفريقين المسلمين المتنازعين، وردهما إلى الصواب، وذلك سنة ستمائة وإحدى وخمسين.

وكان من شروط هذا الصلح أن تبقى لأيبك مصر وجنوب فلسطين بما فيها بيت المقدس. لكن المدينة المباركة انتقلت في معاهدة صلح جديدة (سنة ستمائة وأربع وخمسين) إلى السلطان الناصر يوسف صاحب دمشق، وبقيت في يده إلى سنة 658هـ، حيث جاء الإعصار المغولي قاصدًا اجتياح الشام ومن بعدها مصر، لكن المغول انكسروا في عين جالوت.