موقع القدس


الصفحة الرئيسية لموقع القدس
تاريخ القدس القديم |  قبل الإسلام |  الرومان والقدس |  منذ الفتح الإسلامي |  عهد الأمويين |  عهد الفاطميين |  الإحتلال الصليبي
عهد الأيوبيين |  عهد المماليك |  عهد العثمانيين |  العهد العباسي |  عهد الطولونيين |  الإحتلال البريطاني |  الإحتلال الصهيوني
الصحابة |  علماء وزهاد |  مؤرخون ورحالة |  نساء |  أدباء |  شخصيات فلسطينية وعربية
القدس في التاريخ |  مكانة القدس |  الموقع الفلكي |  كنيسة القيامة |  موقف العرب |  المقاومة |  برنامج القدس
دعم أمريكا لإسرائيل |  القضية الفلسطينية في قرنين |  إحصائيات عن اليهود |  الصهيونية
العهدة العمرية واللورد بالمرستون ونابليون والبيع لليهود ورد الشريف حسن ووعد برلفور
صور القدس 1 |  صور القدس 2 |  صور القدس 3 |  صور القدس 4 |  صور القدس 5 |  مواقع

العرب والقضية الفلسطينية

مقال 1 دولة اليهود بين العجز والإعجاز

بعد مرور مئة عام على المؤتمر الأول لدهاة صهيون

دولة اليهود بين العجز والإعجاز

مجلة البيان – العدد 118

بقلم: عبد العزيز كامل

(لو أردت أن اختصر مؤتمر بازل في كلمة واحدة، لقلت: في بازل أسست الدولة الصهيونية، إن العالم سيرى بعد خمسين سنة على وجه التأكيد هذه الدولة).

هذا ما سطره مؤسس الصهيونية الحديثة بقلمه في مذكراته قبل نحو قرن من الزمان تعليقاً على المؤتمر الأول لقادة اليهود، الذي انعقد في مدينة بازل بسويسرا سنة 1897م، وذلك في الجزء الثاني من مذكراته وبالتحديد في صفحة (581).

فهل كان هرتزل من المتنبئين بالغيب، الذين كشفت لهم أسراره وأستاره عندما بشر بقيام دولة اليهود بعد خمسين عاماً؟.. لا..لا!.

إنه  في رأيي  لم يكن أكثر من لص، أسس عصابة للسطو على بيت مأهول وسط قرية كبيرة، عبر طريق وعر طويل، فظل هو وعصابته يتحسبون لأخطار الطريق، وعقبات الوصول، واحتمالات التصدي، وتوقعات الثأر والانتصار؛ ففوجئوا جميعاً بسرعة الوصول وإنجاز المأمول، بسبب واحد، وهو: أن الطريق خلت من الشرطة، والقرية افتقرت إلى الساهرين، وأهل البيت كانوا نائمين؛ فمن يصدق أن مقولة هرتزل تحققت قولاً وعملاً في موعدها المحدد؟!

إن مؤتمر بازل هذا انعقد في الفترة ما بين 29  31 أغسطس عام 1897م، وبالفعل، لم تنقضِ الأعوام الخمسون بعدها حتى أُعلِنَت دولة اليهود في مايو 1948م.

وها نحن نعيش زمن انقضاء الخمسين الثانية بعد استيلاء العصابة على البيت، وبعد أن أعلنوا عن سكناه وملكيته إلى الأبد؛ رغم أنف كل أهل القرية!

وها هي الأجيال تلو الأجيال من العصابة تتوارث الإصرار على النجاح والانتصار بالعمل، وها هي أيضاً الأجيال تلو الأجيال من أهل القرية تتوارث التواصي بالأمل بالعودة.. الأمل بالتحرير.. الأمل بالنصر، مجرد أمل مع قليل من العمل حتى صاح فيهم متكلموهم أخيراً: لا داعي للأمل! بل لا داعي للعمل!!

هل يقال بعد ذلك: إن هرتزل تنبأ (بمعجزة) إنشاء دولة (إسرائيل)؟

إنني أقول: إن تلك لو كانت (معجزة) لما كان السبب فيها (إعجاز) العقل اليهودي المستهدي بالتوراة وبرؤى الأنبياء  كما يرددون ويكررون  بقدر ما كان السبب هو (عجز) العقل العربي بعد أن أريد عزله عن هدي النبوة ووحي السماء، نعم! لقد صادف التفاف اليهود حول باطلهم التفات قومنا عن الحق الذي معهم، وتوافق إقبالهم على دينهم، مع الإدبار عن ديننا!

كثيراً ما حاولنا تجاهل هذه الحقيقة، فرددنا مراراً: أن زعماء اليهود، بدءاً من هرتزل، وحتى بن جوريون وبيجن ورابين (علمانيون) لا صلة لهم بعقائد التوراة، ولا تأويلات التلمود!

أتدري  أيها القارئ  ما الحدث الذي أوجد فكرة (الدولة اليهودية) عند هرتزل قبل مائة عام؟ اسمع ذلك منه، يقول متحدثاً في مذكراته عن رؤيا رآها: (ظهر لي المسيح (الملك) على صورة رجل مسن في مظهر العظمة والوقار، فطوقني بذراعيه، وحملني بعيداً على أجنحة الريح... والتقينا على إحدى تلك الغيوم القزحية بصورة موسى، فالتفت المسيح إلى موسى مخاطباً إياه: من أجل هذا الصبي كنت أصلي)، إلا أنه قال لي: اذهب وأعلن لليهود بأنني سوف آتي عما قريب لأجترح المعجزات الكبيرة، وأسدي الأعمال العظيمة لشعبي وللعالم).

ونحن نعرف أن عقيدة (المسيح المنتظر) محور يدور حوله المسلسل التاريخي اليهودي القديم والمعاصر، وهي عقيدة لا يستطيع أحد أن يدعي أنها فكرة علمانية!. وفي الصفحة الأولى من يومياته، نجد هرتزل يتحدث عن (الأرض الموعودة) التي اتخذها عنواناً لرواية عقد العزم على كتابتها، وهي التي قرر بعد ذلك أن يترجمها إلى برنامج عملي. أما كيف دفعته تلك الأحلام والعقائد إلى السير في طريق إكمال البرنامج فيقول: (شُغلت لمدة خلت بعمل لا حدّ لعظمته، ولا أعرف الآن ما إذا كنت سأمضي به حتى النهاية، يتراءى لي كحلم جبار، لكنه استحوذ عليّ أياماً وأسابيع إلى ما وراء حدود الوعي، يرافقني أنى توجهت، ويرفرف فوق حديثي اليومي، ثم يتطلع من خلف ظهري إلى عملي الصحفي التافه لدرجة السخرية، يزعجني ويسكرني، من السابق لأوانه الظن بما سيؤول إليه أمره، لكن تجاربي قد علمتني أنه حتى ولو كان حلماً، فهو شيء عظيم)! (يوميات هرتزل ج1 ص3).

لقد تجاوز هرتزل مجاراة النفس مع الأحلام بوصفها أحلاماً، ولكنه أيقظ تلك الأحلام من سبات ألفي عام، وشرع ينظم وينسق الأفكار المتعلقة بالآلام وآمال اليهود لكي يصل إلى عرضها على شكل مشروع (حل) أمام كبار المتمولين اليهود، أمثال البارون (دي هيرش) ومجلس إدارة أسرة (روتشيلد)، ولم يكن اليهود يملكون في ذلك الوقت إلا المال، الذي كانوا لا يدرون ماذا يفعلون به!

وعبر عامين كان يصيد فيها الأفكار من فضاء الخواطر، تبلورت الفكرة في رأس هرتزل ودوّنها في كراسة، صارت بعد ذلك كتاباً باسم (الدولة اليهودية) وكان ذلك عام 1896م، ووصف ما دوّنه بأنه (محاولة لإيجاد حل عصري للمسألة اليهودية) وبعد ذلك بعام، جمع هرتزل أساطين اليهودية في العالم لمناقشة أفكاره، وكان المؤتمر الأول في مدينة بازل بسويسرا عام 1897م، الذي استمر في الانعقاد بشكل دوري، حتى يومنا هذا.

لقد تمكن الأب الروحي لليهود المعاصرين (تيودور هرتزل) من استقطاب مختلف الاتجاهات والتيارات الصهيونية السائدة بين يهود العالم في ذلك الوقت، لكي يجمعهم على هدف واحد لا يختلفون عليه ولا ينفضّون من حوله وهو: إعادة اليهودية إلى المجد من خلال دولة، ولكن أي دولة؟! قال هرتزل: (إن الشعار الذي يجب أن نرفعه هو: دولة داود وسليمان)!

ولم تكن هناك دولة لداود وسليمان  عليهما السلام  إلا في فلسطين، ولكن (فلسطين) كانت تطلق على مساحة تفوق بكثير حدود فلسطين المعروفة الآن جغرافياً، لتشمل جميع الأراضي اللبنانية والسورية والأردنية وبعض الأراضي العراقية والمصرية، وأراضي من شمال الجزيرة العربية، وهذه الأراضي في جملتها هي ما اصطلحت برامج التوسع اليهودي على تسميته ب (إسرائيل الكبرى)، الذي حددته نصوص العهد القديم بأرض الميعاد، من النيل إلى الفرات.

والذي يعنينا هنا، أن المؤتمر الصهيوني الأول الذي دعا إليه هرتزل، حدد هدف الصهيونية القديم في عبارة معاصرة وهو: (إيجاد وطن للشعب اليهودي يضمنه القانون الدولي العام).

أما الوسائل التي اعتبرها المؤتمر الصهيوني كفيلة بتحقيق ذلك الهدف فهي: 

أولاً: تعمير كل ما يمكن من الأراضي الفلسطينية بسكانٍ يهود مستقرين، من عمال وزراعيين وصناعيين، لإنشاء أجيال تتشبث بالأرض، ويستحيل اقتلاعها أو إجلاؤها.

ثانياً: تشجيع وتنظيم هجرة اليهود في العالم إلى أرض فلسطين لتكثيف الوجود اليهودي فيها، وربط هذه الهجرة بمنظمات محلية ودولية.

ثالثاً: بعث الشخصية اليهودية، بما ينبغي أن تحمله من مشاعر وعقائد وشعائر وتقاليد على المستوى الفردي والجماعي، وذلك بإحياء ما اندرس من تراث الديانة اليهودية نظرياً وعملياً.

رابعاً: العمل على ضمان موافقة القوى الدولية على إنشاء هذا الكيان عند تهيؤ الفرصة لإعلانة.

ولم يضيّع اليهود الوقت في التشاغل بالخلافات  رغم تشعبها بينهم في كل العصور  ولكنهم تخطوا الدعوة إلى ما تتحد عليه القلوب، إلى السير خلف ما تحتمه العقول.

ولم يكد يمضي وقت طويل بعد انعقاد المؤتمر الأول، حتى كانت المساعي اليهودية الجماعية نحو الهدف والشعار، تتحرك في خطوات وئيدة، لكن نتائجها أكيدة، وإذا أرض (داود وسليمان) تبرز إلى الوجود تحت اسم نبي ثالث هو يعقوب أو (إسرائيل)!

ولنلق الآن نظرة على السنوات التي أعقبت المؤتمر الأول، وكيف سارت الأمور فيها، لنرى العلاقة بين (الأمل) و(العمل) عند اليهود في عصورهم الأخيرة، ولنقارن بعد ذلك بينها وبين العلاقة بين (الأمل) و(العمل) عندنا  نحن المسلمين  في عصورنا المتأخرة.

* في عام 1898م  أي في العام التالي للمؤتمر الأول  وحّد هرتزل الجماعات اليهودية ولمّ شعثها في كيان واحد، واستطاع كسب تأييدها لمشروعه، وتمكن من رص صفوفها خلف برنامجه.

* في عام 1899م، تم تأسيس المصرف اليهودي، الذي كُلّف بمهمة تمويل نشاطات الاستيطان في فلسطين، وتأمين الخدمات المالية التي تحتاجها الحركة الصهيونية الموحدة.

* في عام 1901م، تأسس (الصندوق القومي اليهودي) ليكون مسؤولاً عن شراء الأراضي في فلسطين من أصحابها العرب لتمليكها لليهود.

* في عام 1903م قرر المؤتمر الصهيوني تركيز جهود الحركة اليهودية العالمية على أرض فلسطين وحدها، دون تشتيت الجهود في أماكن أخرى في العالم، اقتُرحت على اليهود لتأسيس دولة لهم فيها  كأوغندا أو العريش.

* في عام 1907م قرر المؤتمر الصهيوني السادس أن يتولى بنفسه مهمة مباشرة النشاط الاستيطاني الاستعماري في أرض فلسطين، وشكّل من أجل هذا شركة تعمل كفرع من فروع (المصرف القومي اليهودي).

* في عام 1908م، أطلق أحد الاقتصاديين اليهود شعار: (التغلغل الاقتصادي) ووضع برنامجاً لتنفيذه باعتبار أن الاقتصاد هو المحرك الفعال للسياسة، إذا أُحسِن استغلاله.

* في عام 1913م قررت الحركة الصهيونية إنشاء (الجامعة العبرية) في فلسطين، لتتولى مشروع البعث الديني اليهودي بشكل أكاديمي منظم يضمن تنشئة الكوادر المخلصة للمبادئ الصهيونية.

* في عام 1914م، نشبت الحرب العالمية الأولى، فكانت نقطة انطلاق جديد للحركة الصهيونية ومؤتمراتها، حاولت من خلالها السعي للحصول على كسب التأييد الدولي للقضية اليهودية؛ نظراً لما حدث خلال هذه الحرب من تعرض قطاعات من اليهود للإبادة في أفران الغاز على يد الزعيم الألماني الحانق على اليهود (أدولف هتلر).

* في عام 1917م، أثمرت جهود المؤتمرين اليهود في الوصول إلى استصدار (وعد بلفور) الذي أعطت بريطانيا بمقتضاه الحق القانوني لليهود بإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وقد كانت هذه مرحلة فاصلة في تاريخ اليهود المعاصر، حتى إن أحد الصهيونيين المعاصرين(1)، حدد تاريخ الصهيونية في مراحل محددة فقال: (إذا أمعنا النظر، نرى أن تاريخ الصهيونية ينقسم إلى أربعة أزمنة مختلفة: الأول: زمن التوراة، والثاني: الزمن السابق لهرتزل، والثالث: الزمن المعاصر لهرتزل، والرابع: الزمن التالي لتصريح بلفور).

وتتسلسل القصة بعد ذلك بما هو معروف بعد وعد بلفور؛ حيث وجد اليهود في هذا الوعد  فرصة تاريخية حقيقية سنحت لهم للمرة الأولى منذ أكثر من ألفي عام لكي يحققوا ما بشرهم به نبيهم الكذاب (تيودور هرتزل)!

لقد حقق اليهود خلال المئة عام المنصرمة كثيراً من أحلامهم التي كانت  كما يقول الشاعر: حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحت حقيقة لا خيالاً، ولكن هل خلت مخيلاتهم من الأحلام المستقبلية الآن؟! وهل توقفت أطماعهم عند هذا الحد من العلو فقالوا: كفى؟!. أبداً، فما تزال جعبتهم ملأى بالأطماع، وما تزال الأهداف أمامهم ينتظر كل منها سهمه في تراخٍينا وخمولنا؛ والذي أريد قوله: إن الصراع الذي استمر قرناً ولا يزال مستمراً؛ مرشح للاستمرار عهوداً وعقوداً أخرى؛ فماذا يا ترى دبر اليهود لمئة عام أخرى قادمة..؟! وماذا يا ترى أعددنا  نحن المسلمين  لمواجهتهم ولو لعشر أعوام قادمة؟

بقي أن أشير إلى أن البرنامج المفصل لإفساد العالم على يد اليهود، والذي اشتهر باسم: (بروتوكولات حكماء صهيون) كان قد بدأ في وضعه منذ المؤتمر الأول لفيف من عتاة زعماء اليهود، يمثلون خمسين جمعية يهودية، ولم يكونوا يخططون فقط للسيطرة على فلسطين، بل كانوا يخططون للسيطرة على العالم منطلقين منها، ومن (أورشليم) لتثبيت عرش الحكومة العالمية برئاسة ملك من نسل داود ومن هناك وعبر وسائل ووسائط سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية، يستغل اليهود فيها جهود غير اليهود ويوظفونها لمصلحتهم هم، جاء في البروتوكول الثالث: (وحينما يأتي أوان تتويج حاكمنا العالمي سنتمسك بهذه الوسائل نفسها، أي نستغل الغوغاء كيما نحطم كل شيء قد يثبت أنه عقبة في طريقنا).

وجاء فيه: (إن المحفل الماسوني المنتشر في كل أنحاء العالم ليعمل في غفلة كقناع لأغراضنا، ولكن الفائدة التي نحن دائبون على تحقيقها من هذه القوة في خطة عملنا في مركز قيادتنا ما تزال على الدوام غير معروفة للعالم كثيراً).

وجاء في البروتوكول الخامس: (إننا نقرأ في شريعة الأنبياء أننا مختارون من الله لنحكم الأرض، وقد منحنا الله العبقرية كي نكون قادرين على القيام بهذا العمل. إن كان في معسكر أعدائنا عبقري فقد يحاربنا، ولكن القادم الجديد لن يكون كفؤاً إلا لأيد عريقة كأيدينا... إن القتال المتأخر بيننا سيكون ذا طبيعة مقهورة لم ير العالم مثيلاً لها من قبل، والوقت متأخر بالنسبة لعباقرتهم، وإن عجلات جهاز الدولة كلها تحركها قوة، وهذه القوة في أيدينا، هي التي تسمى.. الذهب)!.

إذن فالبروتوكولات تحدثنا عن صراع لم تنته أكثر فصوله..

أما نحن... فإننا نكتفي بالشك والتشكيك في البروتوكولات ومن وضعوها ومن نشروها.. ونغمض العين عمن نفذوها أو معظمها، ونظل نوغل في التغافل والتهرب، حتى نفاجأ بأن دولة اليهود (الصغيرة) قد أعدت لكل عاصمة عربية  ما لا يقل عن عشر قنابل نووية.. وعندها علت الأصوات: نحن عاجزون، نحن مضطرون. نحن مدفوعون إلى الاستسلام.. عفواً إلى السلام... بل سلام الشجعان!

الهوامش :

(1)              هو إيلي ليفي أبو عسل، في كتاب (يقظة العالم اليهودي) الذي طبع بمصر عام 1934م.

 

 

مقال 2 خمسون عاماً من الفشل (1)

الصراع العربي (الإسرائيلي) تحت الرايات العلمانية

خمسون عاماً من الفشل..!

(1/2)

مجلة البيان 115

بقلم : عبد العزيز كامل

تجري الاستعدادات في دولة اليهود على قدم وساق للاحتفال في العام القادم بذكرى مرور (50 عاماً) على إعلان (دولة إسرائيل) تلك الدولة المسخ التي زرعتها أحقاد الغرب، بينما تعهدتها بالرِّي والنماء أخطاء العرب.

نعم، فما كانت (إسرائيل) لتبقى وتعلو، أو لتوجد أصلاً، لولا سلسلة من أخطاء تترادف، وخطايا تتراكم، ممن وضعوا أنفسهم في واجهة هذا الصراع الديني الاعتقادي، حيث تعمد هؤلاء  عن سابق إصرار وترصد  أن يفرغوا هذا الصراع من محتواه الاعتقادي وخلفيته الدينية من جانبنا، في مقابل تعمد الآخرين  عن سابق إصرار وترصد أيضاً  أن يصبغوه بالصبغة العقائدية في كل جزئياته، بدءاً من اختيار اسم هذه الدولة (إسرائيل) ورمزها (نجمة داود) ودستورها (التوراة والتلمود) وشعارها (أرض الميعاد) وحلمها التاريخي إعادة بناء (هيكل سليمان) في (أورشليم القدس) حيث يتطلع اليهود لمجيء ملك من نسل داود يحكم العالم!.

أما بنو قومنا، فتحت الرايات العلمانية المتعددة، قد جدوا واجتهدوا في إبعاد الإسلام عن المعركة، وإقصاء القرآن عن توجيهها، وتنحية العقيدة الحقة عن مواجهة العقيدة الباطلة، بل بالغوا في ذلك حتى استبعدوا المسلمين غير العرب من المشاركة في المعركة ابتداء، فأطلقوا على هذا الصراع: (الصراع العربي الإسرائيلي) مرة، و(معركة القومية العربية) مرة أخرى، و(أزمة الشرق الأوسط) مرة ثالثة. بينما كان في الإمكان حشد الأمة الإسلامية كلها خلف الأمة العربية في هذا الصراع الحضاري المصيري بين أمة الإسلام وأمة يهود.

ولكن الذي حصل  ولا يزال يحصل  أن القيادات العلمانية تصر على التصدي لمعركة ليست لها ولا أهلها، وتأبى التنازل عن مبادئها المنافية للدين، على الرغم من كل أنواع الفشل الذي جرّته على الأمة عبر خمسين عاماً من عمر هذا الصراع.

ولما كانت هذه الأعوام الخمسون قد انقضى نصفها في الحروب الخاسرة، بينما انقضى نصفها الآخر في عمليات السلام الفاشلة، فسوف نبدأ أولاً باستعراض جولات تلك الحروب في النصف الأول من عمر الصراع (1948  1973م) ثم نثنِّي بمسارات ومراحل العملية السلمية في المرحلة الثانية من (1973  1997م).

الجولة الأولى: حرب أيار (مايو) 1948م: انتهت هذه الحرب إلى نتيجة مذهلة؛ إذ تعرضت سبعة جيوش تابعة لسبع دول عربية لهزيمة منكرة، لا أقول أمام جيش لدولة واحدة، ولكن أمام عدة منظمات يهودية شبه عسكرية، وهي تلك التي تم توحيدها بعد ذلك تحت اسم (جيش الدفاع الإسرائيلي) فما الذي حدث..؟

يمكننا التعرف على ذلك من خلال اللقطات التاريخية التالية:

* - بعدما أصدرت الأمم المتحدة قرارها الظالم في نوفمبر 1947م بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، سارع القادة السياسيون العرب إلى اتخاذ قرار بدخول حرب شاملة ل(تأديب) عصابات اليهود، وكان ذلك القرار حماسياً ارتجالياً، لم يسبقه إعداد أو تخطيط، وقد عارض القادة العسكريون قرار الحرب بشدة في هذا التوقيت، وحذروا منه أشد التحذير.

* - فوجئ القادة العسكريون باتخاذ القرار السياسي الفعلي بالحرب، قبل بدء تلك الحرب بيومين أو ثلاثة، في وقت لم يكن لدى معظم الجيوش العربية حتى ميزانية تسمح بدخول حرب، ولم يكن قد جرى تدريبها بعدُ على الدخول في حروب شاملة.

*- اجتمع رؤساء أركان كل من (مصر والعراق والأردن وسوريا ولبنان) قبل الحرب وأعلنوا الاتفاق على إعداد ما لا يقل عن خمس فرق عسكرية كاملة الاستعداد والتسليح مع ستة أسراب من المقاتلات والقاذفات، بحيث تكون جميعاً خاضعة لقيادة عربية موحدة، ولكن هذا الاتفاق لم ير النور، فلم يتم إعداد الفرق، ولم تدبر الأسراب ولم توحد القيادة!

*- لم توضع خطة منسقة للجيوش العربية لخوض الحرب، بل حُدد لكل جيش هدف يصل إليه، وأُجِّل التنسيق إلى ما بعد وصول كل جيش إلى هدفه!

*- لم يتجاوز عدد الجنود العرب الذين سيقوا إلى الحرب خمسة عشر ألف جندي، في حين حشد اليهود نحو ستين ألف مقاتل مجهزين تجهيزاً كاملاً للمعركة التي لم يقرروا هم البدء فيها.

*- دخلت الجيوش العربية الحرب في 15 مايو 1948م، دون أي معلومات عن العدو، بل كانت غالبية تلك الجيوش تقاتل في أرض تجهل طبيعتها وطريقة القتال فيها.

*- كان الفيلق الأردني هو الأجود من حيث التدريب والتسليح، ولكنه  مع الأسف  كان تحت قيادة الجنرال البريطاني النصراني (جلوب).

*- بالرغم من كل هذا، فقد دفعت العاطفة الإسلامية الجنود العرب إلى إحراز عدة نجاحات في بداية الحرب، كادت أن تحوِّل الدفة لصالحهم ضد اليهود المعروفين بالجبن الشديد في القتال، ولكن حكومتي (بريطانيا وأمريكا) أحستا بذلك الخطر، فسارعتا إلى دفع مجلس الأمن الدولي إلى إصدار قرار بفرض الهدنة اعتباراً من يوم 8 يوليو 1948م ولمدة شهر كامل.

*- مرة أخرى سقط السياسيون في العجلة، ووافقوا على الهدنة، فتنازلوا بذلك لليهود عن عنصر المبادأة أو المبادرة، وحرص العرب على أن يظهروا بمظهر الحريص على احترام (الشرعية الدولية)! التي لم تحترمهم، والتي زرعت اليهود في أرضهم.

*- حرص اليهود على استغلال كل دقيقة من فترة الهدنة لتغيير موازين القوى لصالحهم، وسخروا أشد السخرية من غباء القرار العربي بقبول الهدنة، حتى إن (مناحم بيجن) كتب وقتها يقول: (إننا لا نعرف حتى الآن كيف ولماذا قبلت الدول العربية الهدنة، بعد أن كان الموقف العسكري في صالحها تماماً)!

*- بعد انتهاء شهر الهدنة، كان اليهود قد نجحوا في تسلم زمام المبادرة سياسياً وعسكرياً، ثم بدؤوا في حرب استنزاف للجيوش العربية كلاً على حدة، فقد عادت الحرب ثانية، وكان اليهود هم البادئون هذه المرة، فنفذوا ضربة جوية مفاجئة لمطار العريش في (مصر)، وهو المطار الذي كان يعتمد عليه الجيش المصري؛ لأن بقية المطارات كانت خاضعة للمحتل الإنجليزي، ثم أعقب ذلك قصف جوي لتجمعات الجيش البرية في كل قطاعات القتال مما أدى إلى حالة من الفوضى والارتباك.

*- بعد أن حقق اليهود قدراً كبيراً من النجاح وأصبحوا في حاجة إلى فرصة لالتقاط الأنفاس، أصدر مجلس الأمن قراراً ثانياً بالهدنة، واستجاب العرب مرة أخرى فأعطوا لليهود فرصة ثانية للمزيد من لمِّ الشمل واستعادة النشاط!

*-عادت الحرب للمرة الثالثة بمعارك متفرقة هنا وهناك، إلى أن أصدر مجلس الأمن قراره الثالث بإيقاف الحرب نهائيّاً بعد أن فشلت كل الجهود العربية في إجلاء اليهود عن الأراضي التي احتلوها في فلسطين، وهو ما يعني بعبارة أخرى: الهزيمة في تلك الحرب والفشل في تحقيق أي من أهدافها!

ومما يجدر ذكره هنا، أن عقد الأربعينات الذي جرت فيه تلك الحرب، قد شهد انتعاشاً في الشعور بالانتماء القومي العربي، حيث بدأ العرب وقتها في الفصل بين مفهومي (الأمة العربية) و(الأمة الإسلامية) وتُوِّج هذا الشعور القومي بإنشاء (الجامعة العربية) رداً على من كانوا ينادون بالعودة إلى (الجامعة الإسلامية).

الجولة الثانية: حرب 1956م :

جاءت الجولة الثانية بعد أن آلت السلطة في بعض الدول العربية إلى أنظمة ثورية، دعت نفسها بالتقدمية، وكان النظام الثوري العسكري في (مصر) هو المتزعم لها، وقد عدّ من أهدافه الرئيسة المعلنة: تحرير (فلسطين) والقضاء على دولة (إسرائيل)، وجعل من هذا الهدف  إلى جانب توحيد العرب تحت راية القومية العربية  قضية يبني بها المجد والزعامة، فماذا كان مسلك الثوريين العساكر بعد أن تسلموا دفة الصراع مع اليهود..؟ هذا ما توضحه المشاهد التاريخية التالية:

- كان أول عمل قام به (قائد الثورة) (جمال عبد الناصر) بعد تسلمه منصب الرئاسة رسمياً هو تأميم قناة السويس في 26 تموز (يوليو) 1956م، وكان ذلك قراراً دعائياً اتخذ دون دراسة أو تحسب لما يمكن أن يترتب عليه من نتائج، وقد جاء رد فعل على تصريح لوزير الخارجية الأمريكي وقتها (فوستر دالاس) قال فيه: إن الاقتصاد المصري منهار.

- ثار الغرب لهذا القرار، وخاصة ما كان من (إنجلترا وفرنسا) حيث أخذتا في الإعداد لإجراء حاسم وتواترت الأنباء عن حشود إنجليزية وفرنسية في (قبرص) استعداداً لعمل عسكري ضد (مصر) بالاشتراك مع دولة اليهود، ولكن (عبد الناصر) لم يكترث، ولم يأخذ هذه التهديدات مأخذ الجد، بل كان هناك استرخاء عسكري بالرغم مما يجري، حتى إن القيادة المصرية خففت من أعداد القوات المعدة للقتال لأسباب غير مفهومة.

- عندما بدأت نذر الحرب كان اليهود يحتفظون بالتفوق العسكري مقارنة بالإمكانات المصرية التي يفترض أنها أكبر وأقوى الإمكانات العربية، فقد كان التفوق ظاهراً حتى في الجانب العددي البشري، فكان التفوق في المشاة بنسبة 1: 3 لصالح اليهود، وفي القوات البرية (الدبابات) بنسبة 1: 1.8 لصالح اليهود، وفي سلاح المدفعية بنسبة 1: 2.5 لصالح اليهود أيضاً.

- نسق اليهود جهودهم مع حلفائهم استعداداً للحرب، فاتفقوا مع فرنسا على تأمين الغطاء الجوي الكافي للمدن الإسرائيلية وعلى أن يتولى السلاح البحري تأمين حراسة السواحل الإسرائيلية، وأن تشارك القوات الفرنسية بالقتال ضد أي دولة عربية تدخل الحرب إلى جانب (مصر)، وأُسند إلى السلاح الجوي البريطاني مهمة تدمير الطيران المصري على الأرض.

- وأخيراً اقتنعت القيادة الثورية بأن أمر الحرب جد لا هزل فيه، فبدأت في تركيز الجهود على حماية سيناء من الشرق، بينما أهملت الجبهة الجنوبية إهمالاً مريباً، حيث كان من الغريب أن يخصص لهذه المنطقة الحيوية نحو 120 جندياً من المشاة لحمايتها!!.

- وبدأت الحرب في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1956م بمهاجمة الخط الأقل خطراً في نظر القيادة المصرية، وهو المنطقة الجنوبية من سيناء، وأعلن اليهود أنهم يقاتلون على بعد 40 كيلو متراً من قناة السويس، حتى يعطوا الذريعة لكل من إنجلترا وفرنسا للتدخل العسكري، بحجة حماية حرية الملاحة الدولية في قناة السويس.

- وبالفعل أقدم سلاح الجو البريطاني على ضرب الطيران المصري على الأرض، واضطر المصريون للقتال دون غطاء جوي على مختلف المحاور، وأبلى المقاتلون المصريون بلاءً حسناً في القتال، لولا أن الأوامر صدرت من القاهرة، للقوات الرئيسة بالانسحاب بعد إنذار أرسلت به إنجلترا وفرنسا، وبدأ الانسحاب ليلة 31 أكتوبر 1956م، من قطاع إثر قطاع مما سبب حالة من الارتباك والاضطراب.

- وفي ظل غياب أي غطاء جوي أو طبيعي من جبال أو أشجار، كان الانسحاب شاقاً ومكلفاً، فقد أصبحت القوات المنسحبة هدفاً مكشوفاً أمام الطائرات النفاثة المغيرة والمحملة بكل أنواع الأسلحة المدمرة والحارقة.

وهكذا انتهت الحرب بهزيمة الجيش المصري وإهانته في حرب بدأتها الدعاية وأوصلها الغرور إلى أسوأ نهاية، فقد احتُلت سيناء ولم تنسحب إسرائيل منها إلا بعد أن ضمنت السماح لها بالملاحة في خليج العقبة كيف تشاء.

وكان ل (بريطانيا) (صديق العرب المفضل دائماً) الدور الأكبر في تقديم الجيش المصري لقمة سائغة لإخوان القردة والخنازير.

الجولة الثالثة: حرب يونيو 1967م: هي الحرب الثانية في العهد الثوري التقدمي الوحدوي الاشتراكي... العلماني! وقد كانت عاراً لم تُمسح آثاره إلى اليوم، حيث كان الهدف الرئيس لها احتلال القدس، فتحقق الاحتلال، ولم يتم التحرير إلى اليوم لا سلماً ولا حرباً. وهذه بعض المشاهد التاريخية للكارثة التي سميت زوراً (نكسة)!

- تضخم الغرور في الذات اليهودية بعدما تم إحرازه من انتصارات رخيصة على شعوب مغلوبة على أمرها، ولم تكد تنقضي عشر سنوات على حرب 1956م حتى تفتحت شهية اليهود لحرب جديدة، ففي شهر ديسمبر 1966م أعلن (ليفي إشكول) رئيس وزراء إسرائيل في ذلك الوقت، نية بلاده في دخول حرب جديدة ضد العرب وهدد بغزو (سوريا)، في لهجة جديدة وغير معهودة من اليهود المتظاهرين أبداً بالمسكنة والاستضعاف.

- وفي عام 1967م لم ينقض شهر نيسان (إبريل) منه حتى كان اليهود قد نفذوا ما توعدوا به؛ فشن سلاحهم الجوي هجوماً ضخماً ضد (سوريا)، وفي الشهر التالي هدد الهالك (إسحاق رابين) بدخول دمشق، بعد افتعال مشكلة وأزمة بسبب تحويل مجرى نهر الأردن، وقيام أعمال فدائية ضد دولة اليهود من داخل (سوريا).

- وكان هذا الهجوم الإسرائيلي ضد (سوريا) رسالة موجهة أيضاً إلى (مصر)، التي كان قادتها منهمكين أو غارقين في المستنقع اليمني، حيث الحرب الظالمة التي أقحم فيها الجيش المصري للقتال هناك نصرة للقوى (التقدمية) ضد القوى (الرجعية)! وبدلاً من أن تتنبه تلك القيادة للخطر، وتسعى لحشد القوة ضد العدو الحقيقي المتربص من وراء الحدود، اكتفى الثوار بنشر قوات بغرض الردع والتخويف واستعراض القوة في (سيناء).

- اعتبر اليهود ذلك الاستعراض بمثابة إعلان حرب من (مصر)، وأعلن (موشي دايان) وقتها أن (مصر) هي العدو الحقيقي وليست (سوريا)، وأن على (إسرائيل) أن تتفرغ لحربها وأصبح قرار الحرب في إسرائيل في حكم المنتهى منه، ولم يبق إلا انتظار الذريعة المناسبة.

- ومرة أخرى قدم النظام الثوري الذريعة لليهود المتربصين، فصدر قرار بمنع الملاحة في خليج العقبة الذي تنتقل منه البضائع من وإلى (إسرائيل).

وانتشرت القوات المصرية على خليج العقبة بعد انسحاب قوات الطوارئ الدولية منه، وزاد الطين بلة أن جرى الإعلان عن توقيع ميثاق دفاع مشترك بين (مصر) و(الأردن) بالرغم من الخلافات التي كانت قائمة بينهما.

- لم يعد هناك وقت للتفكير لدى دولة اليهود، فشكّل رئيس وزرائها حكومة حرب وأدخل فيها (موشي دايان) وزيراً للدفاع، لينفذ توعده بالانتقام من (مصر)، وكانت القوات الإسرائيلية قد أتمت استعداداتها التي بدأتها منذ زمن لخوض الحرب الشاملة في حين كانت القوات المصرية غير مستعدة حتى مساء الرابع من يونيو من العام نفسه.

- وفي صباح الخامس من يونيو 1967م، قام اليهود بشن الحرب، معلنين أنهم في وضع دفاع عن النفس بعد أن حشدت مصر قواتها في سيناء، وأغلقت خليج العقبة؛ وأحلت قواتها محل قوات الأمم المتحدة، وبدأ اليهود في توجيه ضربة جوية مفاجئة ضد القواعد الجوية العربية في كل من (مصر) و(سوريا) و(الأردن) و(العراق)، وأطلق على هذه العملية (ضربة صهيون)!

- انطلق الطيران اليهودي كله من مرابضه (150 طائرة) وتوجه نحو 19 قاعدة مصرية جوية موزعة في أنحاء (مصر) (الدلتا  سيناء  الصعيد) لتدكها وهي على الأرض وبعد خمس عشرة دقيقة من بدء الحرب كان الجنرال (مردخاي هود) قائد سلاح الجو الإسرائيلي في لقاء مع ممثلي الصحافة الإسرائيلية والعالمية، حيث زف إليهم البشرى بتلك المذبحة الجوية وقال: لقد دمرنا الحصيلة الكبرى من طائرات العدو، منها (309) طائرة في (مصر)، و(60) طائرة في (سوريا)، و(29) طائرة في (الأردن) و(12) طائرة في (العراق)، وطائرة واحدة في (لبنان)، في حين لم تخسر (إسرائيل (إلا (19) طائرة!!.

- يعود السبب في هذا الحدث المفجع في تاريخ الحروب الحديثة إلى عدد من الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها القيادات العربية، ومنها:

إساءة تقدير قوة العدو، وإهدار الاستفادة بالقدرات الذاتية، ويعود أيضاً إلى سبب آخر مهم، وهو: أن القيادة المصرية كانت قد قررت القبول بتلقي الضربة الأولى نزولاً على نصائح (السوفييت)، حيث قدرت الخسائر المتوقعة في حال تلقي الضربة الأولى بما يتراوح بين 15  20% من مجموع القوة الجوية العربية، واعتبرت القيادة السياسية هذه النسبة ضئيلة، وتُعد تضحية مقبولة في مقابل إظهار (إسرائيل) بمظهر البادئ بالعدوان أمام الرأي العام العالمي!!!

- أما الحرب البرية الرئيسية بعد ذلك، التي دارت رحاها في سيناء، فيكفي أن نتصور ساحة قتال مكشوفة أمام طيران معادٍ، يصول ويجول فيها وينتقي الأهداف التي يشتهيها دون أي عائق من جيش مأمور بالانسحاب لا بالمقاومة!

- وبالرغم من كل عوامل الفشل التي بدأت بها المعركة، إلا أن دفاعاً مستميتاً من الجنود، حاول في بعض الجهات مقاومة الهزيمة ببسالة نادرة، حتى إن القادة الإسرائيليين أنفسهم اعترفوا بحدوث موجة من الاضطراب سادت صفوفهم في المحور الشمالي بسبب المقاومة العنيفة.

- وأجمع عسكريون كثيرون على أن القيادة العسكرية المصرية لو كانت قد دبرت هجمة مضادة لإجهاض الهجوم الإسرائيلي في ذلك الوقت لكان لذلك تأثير في تغيير مجرى المعركة غير أنها أصيبت بالشلل المعنوي بسبب الضربة الجوية المفاجئة فاكتفت بإصدار أوامر الانسحاب، مما تسبب في فقد الجيش المصري لـ 80 % من سلاحه، وفقد عشرة آلاف جندي، وألف وخمسمئة ضابط، ووقوع خمسة عشر ألف جندي، ونحو خمسمئة ضابط أسرى في يد العدو، ولم تتوقف الحرب على الجبهة المصرية إلا بعد أن طلبت مصر وقف إطلاق النار على جبهتها معلنة بذلك التسليم بالهزيمة.

- التفت اليهود بعد ذلك إلى الجبهة الأردنية، فاحتلوا الضفة الغربية، فطلبت الأردن وقف إطلاق النار وسلمت بالهزيمة، ثم اتجه اليهود إلى سوريا واحتلوا مرتفعات الجولان مع قاعدتها مدينة القنيطرة، ثم أعلن عن وقف إطلاق النار؛ وبذلك انتهت الجولة العسكرية الثالثة، وأعلن الرئيس المصري أنه يتحمل مسؤولية الهزيمة؛ وأنه لذلك سوف يتخلى عن السلطة، ولكن الجماهير التي خدرتها الشعارات الثورية، تقبلت الهزيمة والتضحية بالأرض والدم والوطن، ولكنها لن تقبل التفريط في الزعيم ولو قادها إلى الجحيم!.

الجولة الرابعة: حرب أكتوبر 1973م : درجت أوساط كثيرة على وصف حرب أكتوبر عام 1973م بأنها حرب (التحريك) وليست حرب (التحرير) كما اشتهرت على الألسنة. ومن العجيب أن الرئيس المصري الحالي نفسه قد وصفها علناً بذلك الوصف، فهل في الأمر من سر؟! الظاهر أن ذلك الوصف فيه شيء من الصحة، إذ إن الأمور بعد هزيمة عام 1967م، كانت تتجه نحو الحل السلمي، حتى إن (عبد الناصر) نفسه قد قبل في آخر حياته بمبادرة أمريكية للسلام بين العرب وإسرائيل، وهي مبادرة (روجرز) ولكن جو الإحباط بعد أن تبينت الشعوب حجم الكارثة، ومشاعر السخط على القيادات العربية التي تسببت فيها، بالإضافة إلى استمرار احتلال اليهود لما احتلوه في تلك الحرب في (مصر وسورية والأردن وفلسطين)، كل ذلك حال دون إمكانية الإقدام على توقيع معاهدات صلح مع اليهود، تقرهم فيه الزعامات العربية  من موقف ضعف  على البقاء والعيش في أرض فلسطين، كان لا بد إذن من عمل شيء كبير، يكون نقطة انطلاق نحو إنهاء حالة الحرب مع اليهود إلى الآن..!

ولأن هذه الخطوة المطلوبة  أعني إنهاء الصراع مع اليهود  كانت كبيرة في حجمها، خطيرة في أبعادها، ومثيرة في تفاصيلها، فقد كان لا بد من تخفيف وقعها على الشعوب قدر المستطاع وعلى مراحل؛ ولهذا كان الإعداد لحرب (التحريك) التي وُضِعَ لها سيناريو مسبق في ردهات وكواليس السياسة الدولية.

وكان هذا السيناريو يقضي باستعادة الجيش المصري والنظام معه لهيبته باسترجاع جزء من شبه جزيرة سيناء التي أضاعها النظام الثوري نفسه في مرحلة سابقة، وفي الوقت نفسه يحفظ لقادة اليهود ماء وجوههم أمام شعبهم فيلتفون حول هذا النصر، ويفرغونه من محتواه من الناحية العسكرية ثم من الناحية السياسية. وقد تم الأمر على هذا النحو:

في يوم السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973م الموافق للعاشر من رمضان 1393هـ، اجتازت القوات المصرية قناة السويس، وانتقلت إلى الضفة الشرقية، واقتحمت خط (بارليف) الحصين، لتأخذ مواقع دفاعية بعد عشرة كيلو مترات من شاطئ القناة في داخل سيناء، ولم تعط للقوات المسلحة بعد ذلك أي صلاحية لتتابع تقدمها في سيناء لإكمال تحريرها مع وجود الإمكانية لذلك، حتى إن رئيس الأركان نفسه في الجيش المصري (سعد الدين الشاذلي) قد اختلف مع القيادة السياسية واتهمها بالتواطؤ، وعاش سنوات طويلة في منفاه الاختياري خارج البلاد.

وبعد عشرة أيام من بدء الحرب وإحراز تلك الانتصارات فيها لصالح العرب، عبرت عدة دبابات يهودية قناة السويس من منطقة (الدفرسوار) وفتحت ثغرة في صفوف القوات المصرية، ثم تتابع تقدم الدبابات اليهودية، وانتشرت على طول القناة من ضفتها الغربية، وحاصرت مدن القناة، وحجزت القوات المصرية في سيناء، وبهذا انقطعت وسائل الاتصال بين قطاعات الجيش المصري، وبدت (إسرائيل) أمام مواطنيها ومؤيديها في الداخل والخارج منتصرة، حيث تمكنت من أسر القوات المصرية كلها في سيناء، والالتفاف عليها؛ بينما كانت الدعاية المصرية والعربية تصور العبور على أنه من أعظم الانتصارات،وانتهت الحرب عند ذلك الحد بإعلان وقف إطلاق النار، في وضع لا يسمح للمصريين بادعاء النصر الشامل، ولا يمنع اليهود من ادعاء الثأر الكامل. وبعد انتهاء الحرب مباشرة بدأ تدشين العملية السلمية بين مصر وإسرائيل في مراحلها المبكرة، وذلك بزيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكي (اليهودي) (هنري كيسنجر) لمصر، حيث اتفق مع القيادة على فض الاشتباك بين المصريين والإسرائيليين والاتجاه نحو حل النزاع في الشرق الأوسط بالطرق السلمية.

وهنا أمر ينبغي تنبيه القارئ إليه، وهو أننا لا نشكك في إمكانية تحقيق النصر على اليهود، ولا في إخلاص الجنود الذين قاتلوا وقتلوا، بل لا نقلل من أهمية دور التعبئة المادية والمعنوية للمعركة هذه المرة، ولكننا نعبر فقط عن قناعة بأن هذا النصر الجزئي كان حجة أقامها الله على العرب والمسلمين في إمكان نصرهم على عدوهم ولو كانوا أذلة، وأنه كان يمكن أن يكون نقطة انطلاق نحو نهضة ووحدة عربية وإسلامية شاملة، ولكن أعداء الأمة أصروا أن يجعلوا منه نقطة انطلاق أيضاً، ولكن إلى نكبة وفرقة عربية وإسلامية شاملة... وهذا ما كان في النصف الثاني من عمر الصراع، عبر خمسين عاماً من الضياع....

وللحديث بقية

 

 

مقال 3 خمسون عاماً من الفشل (2)

أجواء الحرب.. في أحلام السلام

(2/3)

البيان – العدد 116

بقلم: عبد العزيز كامل

بالرغم من قناعتنا  نحن المسلمين  بأن السلام (الدائم) مع اليهود أمر مستحيل، فضلاً عن كونه أمراً غير مشروع  لعدم جواز الاعتراف لهم باغتصاب أرض فلسطين.. إلا أن كثيراً من القيادات العربية كانت  ولا تزال  تمني نفسها بإمكانية تحقيقه، فتخطية البحث في مشروعية تطبيقه، وكانت تلك القيادات تتطلع من خلال البحث عن (السلام) إلى تحصيل ما عجزوا عن تحقيقه عبر (السلاح).

ونحن سوف نفترض حسن النية في هذه القيادات، وسوف نفترض أنها فعلاً أرادت التغلب على اليهود عبر طاولة المفاوضات بدلاً من ساحة الصراعات.. سنستبعد إلى حين ما يعده بعضهم: هواجس التآمر، ووساوس الخيانه، واتهامات العمالة، وسنقول: إن هؤلاء أرادوا حقاً الانتصاف للأمة من عدوها سلماً بعد أن عجزوا عن الانتصار لها حرباً.. فهل أفلحت تلك القيادات في السلام بعد أن فشلت في الحرب...؟!.

هذا ما سوف نناقشه من خلال استعراض مسيرة الحلول السلمية التي حملها (قطار السلام) الذي انطلق بعد حرب 1973م وهو التاريخ الذي يمثل نصف مدة الخمسين سنة من الصراع العربي الإسرائيلي منذ بدأ وإلى الآن... وهذه الحلقة الأولى لأهم المحطات.

المحطة الأولى: مؤتمر جنيف 1974 م:

(الحرب من أجل السلام): بهذا العنوان، أو بهذه الروح دخل العرب الحرب الرابعة مع اليهود عام 1973م، وأثناء تلك الحرب، وقبل أن تضع أوزارها، وجه الرئيس المصري السابق (أنور السادات) يوم 16 أكتوبر 1973م (أي بعد بدء الحرب بعشرة أيام) رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأمريكي الأسبق (ريتشارد نيكسون) اقترح فيها مشروعاً للسلام يتضمن الدعوة إلى إيقاف إطلاق النار على أن تنسحب إسرائيل فوراً من جميع الأراضي العربية التي احتلتها في حرب يونيو 1967م، وأبدى استعداده لحضور مؤتمر سلام دولي لإقرار السلم في منطقة الشرق الأوسط.

وسرعان ما تحركت الأطراف الدولية وعلى رأسها (واشنطن) و(موسكو) لإنهاء القتال الذي بدا أنه يمكن أن يهدد الدولة اليهودية، وأسفرت جهودهما عن صدور قرار من مجلس الأمن الدولي يدعو لوقف القتال والبدء فوراً في مفاوضات بهدف إقامة سلم (دائم) و(عادل)! في الشرق الأوسط، وسارعت مصر وسورية والأردن و(إسرائيل) أيضاً إلى قبول قرار وقف إطلاق النار، بينما رفضته العراق ومنظمة التحرير الفلسطينية التي كانت تتبنى مبدأ عبد الناصر وهو أن (ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد بغير القوة).. وهنا  وبسبب عدم وجود أرضية من الثوابت المشتركة، بدأ التصدع في الجدار العربي، الذي كان ماثلاً أصلاً بسبب الأرض الهشة التي يقف عليها فمصر بدأت تسير في (عملية السلام) في اتجاه الحل المنفرد، بينما تباينت مواقف الدول العربية الأخرى بما يدل على أن العرب بدأوا عمليه السلام في مراحلها المبكرة، دون أدنى اتفاق أو تنسيق أو تحديد للثوابت، كما كان شأنهم عبر عقود الحرب.

ثم جاء وقت انعقاد مؤتمر (جنيف) الذي دعا إليه مجلس الأمن بعد الحرب، إلا أن كلا من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لم يرق لهما أن تُبحث قضية السلام دولياً، فربما تبرز أنواع من الضغوط عبر القنوات الدولية لا تكون في صالح اليهود؛ ولهذا تقرر فجأة أن تدخل واشنطن بثقلها لتحويل مجريات الأمور، فكان أن جاء وزير خارجية الولايات المتحدة في ذلك الوقت اليهودي (هنري كيسنجر) إلى مصر في بداية عام 1974م ليجري مباحثات كانت بمثابة مرحلة التدشين لعملية السلام الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة.

وبدأ العمل على إدخال مصر في مسار الحل المنفرد لدورها الكبير في قضية الصراع.

المحطة الثانية: كامب ديفيد 1978م:

توالت الأحداث لتوصل إلى الهدف المحدد بدقة من قبل، وهو إخراج مصر من ساحة المعركة مع اليهود، لينكسر بذلك أحد فكي الكماشة التي كان يمكن لها في وقت من الأوقات أن تكسر ظهر الكيان اليهودي في فلسطين، وكانت (كامب ديفيد) الاتفاقية التي أوصلت إلى هذا المصير المنتظر، فقد أعلنت الولايات المتحدة في 17 سبتمبر 1978م عن توصل كل من مصر (وإسرائيل) إلى صيغة اتفاق بينهما لوضع حد نهائي للنزاع العربي الإسرائيلي، وكان هذا الإعلان بعد سلسلة من الاجتماعات استمرت (13) يوماً، ضمت كلاً من الرئيس الأمريكي الأسبق (جيمي كارتر) والرئيس المصري السابق (أنور السادات) ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق (مناحيم بيجين)، وكان ذلك في المنتجع الذي أطلقوا عليه (مخيم داود) والذي اشتهر إعلامياً باسم (كامب ديفيد).

وأثمرت هذه الاجتماعات إعلاناً عن توقيع اتفاقيتين منفصلتين:

الأولى: تتعلق بتحديد أسس علاقات السلام بين دولة اليهود والدول العربية الأخرى، وتدعو بقية دول المواجهة أن تحذو حذر مصر في إنهاء الحروب مع اليهود، وتنص من جهة أخرى على إقامة حكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك لمدة خمسة أعوام، دون تحديد موعد البدء بها، أو ما سيكون عليه الحال بعدها.

أما الوثيقة الثانية: فتحدد أسس معاهدة سلام بين مصر و(إسرائيل) على أن تنجز وتبرم في فترة لا تتعدى ثلاثة أشهر من تاريخ اجتماعات (كامب ديفيد)، أما بنود هذه المعاهدة الثانية، فهي تأكيد لكل الإجراءات التي من شأنها إيقاف أي أعمال عسكرية بين الطرفين بشكل نهائي، واستعداد كل طرف لممارسة علاقات طبيعية مع الطرف الآخر، ونصت إحدى بنود هذه الاتفاقية على أنها معاهدة ملزمة، وليس لأحد الطرفين حق نقضها! ومن الجدير ذكره هنا، أن تلك الاتفاقيات المعلنة، صاحبتها أيضاً اتفاقات سرية؛ فكان هناك اتفاق سري حول لبنان يقضى بتجريد القوات الفلسطينية والميلشيات اللبنانية من السلاح تدريجاً بإشراف دولي وعربي! وقد ترجم هذا عملياً بعد ذلك بإخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان عام 1982م.

وتتضمن بنود كامب ديفيد اتفاقات سرية أخرى وتتلخص فيما يلي:

1- وعد أمريكي لمصر بزيادة المساعدات المالية والاقتصادية كلما تم تنفيذ بنود المعاهدة؛ ويتضمن ذلك وعداً أمريكياً آخر بتعويض مصر عن المساعدات العربية التي يمكن أن تفقدها بإيقافها من قِبَلِ الدول العربية (1).

2- اتفاق على تنسيق التعاون بين الاستخبارات المصرية ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (السي  أي  إيه) ليس فقط يتعلق بالأوضاع في مصر، بل في إطار المنطقة العربية كلها.

3- تتعهد أمريكا بتحديث الجيش المصري (ضد من..؟) وتزويده بالأسلحة الأمريكية التي تعوضه عن الأسلحة السوفييتية عند الاستغناء عنها.

4- موافقه الرئيس المصري على تسريح قطاع كبير من الجيش المصري، بحيث تخفض أعداده من 650 ألف جندي إلى 250 ألف جندي فقط!

5- السماح باستخدام أمريكا لبعض القواعد العسكرية التي ستتخلى عنها إسرائيل في سيناء.

6- إعطاء أمريكا صلاحيات موسعة لاستخدام منطقة شرم الشيخ فيما يخدم استراتيجتها في المنطقة.

ردود الفعل العربية على اتفاقات كامب ديفيد:

بطبيعة الحال، كان لا بد أن ترفض أكثر الدول العربية اتفاقيات كامب ديفيد، لا لأنها تتضمن اعترافاً بدولة اليهود  فتلك دعوى كانت تتردد بين آن وآخر  ولكن لأن هذا الاعتراف جاء بشكل منفرد ودون سابق مشورة، أما الأدبيات القومية أو الليبرالية أو حتى الثورية، فإنها لم تكن تتضمن مبادئ ثابتة فيما يتعلق بضوابط الصداقة والعداء.. أو الولاء والبراء، فالدول التي ترتمي في أحضان القوى الشيوعية الملحدة، أو النصرانية الصليبية، ما الذي يمنعها من إقامة علاقة ود وصداقة مع دولة يهودية؟

لقد أثبتت الأيام بعد ذلك أن كل محرمات العلمانية يمكن استحلالها، وكل ممنوعاتها يمكن السماح بها، فليس ثَمّ حرام دائم أو حلال دائم عند من يستمدون تشريعهم من الأهواء..

ولكن الظروف وقتها كانت لا تسمح إلا بالرفض على مستوى الدول، وأيضاً على مستوى الشعوب التي صدمت فيما رأته تراجعاً عن ثوابت لا يمكن التراجع فيها.

لقد أخذ الرفض العربي صورة تشنجية عالية الصوت، لامعة الضوء، ولكنها سراب يحسبه الظمآن ماءً، وقد أثمر هذا الرفض في النهاية ولادة ما أطلق عليه وقتها: (جبهة الصمود والتصدي)!! تلك الجبهة التي تعهدت بالمضي في المعركة مع الغاصبين إلى النهاية، وتم الإعلان عن هذه الجبهة في مؤتمر القمة العربي المنعقد في بغداد 1979م، وقد عقدت دول تلك الجبهة بعد ذلك أكثر من مؤتمر لإحكام المقاطعة العربية للدولة التي خرجت عن (الإرادة العربية) ولكن... لم يكد ينقضي عقد من الزمان حتى آل أمر جبهة (الصمود والتصدي) إلى الخمود والتصدع! فقد بدأ بعض أعضائها في التسلل تحت جنح الظلام إلى معسكر السلام!

المحطة الثالثة: (مؤتمر فاس):

شرع الرافضون لكامب ديفيد من (الصامدين) يتصدون لطرح مبادرة عربية، تقول للسلام مع اليهود: نعم، ولكن.. (بشكل جماعي) وكان ذلك في مؤتمر (فاس) الذي عقد في المغرب بين (6  9/9/1982م) ومن العجيب أن ما علت الأصوات العربية باستنكاره من اتفاقات كامب ديفيد (الخيانية الانفرادية) قد سطّر بهدوء، ودون ضجيج في البند السابع من مشروع (فاس)، ولكن مع الفارق المذكور، وهو أن الأول كان بمبادرة فردية، والثاني كان بمبادرة شبه جماعية.

وتعد نتائج مؤتمر (فاس) هي الأرضية التي انطلقت منها بعد ذلك كل مشروعات التسوية بدءاً من الاتفاق الأردني الفلسطيني (22/11/1984م) الداعي إلى مبدأ (الأرض مقابل السلام) وحتى اتفاقات أوسلو وصدق فيها المثل الشعبي: (وقعت الفاس في الرأس)!

المحطة الرابعة: مشروع إعلان الدولة الفلسطينية:

في الفترة ما بين 1986، 1988م، بدأت منظمة التحرير الفلسطينية تنشط بدورها في إجراء اتصالات مع عناصر إسرائيلية، تمهيداً للدخول في حوار سلمي مع الدولة اليهودية، وذلك بعد قرار صدر عن المجلس الوطني الفلسطيني في دورته لعام 1986م، يدعو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير لوضع خطط بفتح الاتصال المباشر مع دوائر يهودية وإسرائيلية.

وكانت الإشارات قد بدأت تدل على نية رئيس المنظمة ياسر عرفات إلى الاعتراف بقرار مجلس الأمن رقم 242، الذي يدعو إلى اعتراف العرب بدولة (إسرائيل) بحدود ما قبل حرب 1967م، وكان العرب جميعاً قبل ذلك يطلقون على رفض هذا القرار باعتبار أنه يعني التنازل مقدماً عن ثلثي أرض فلسطين، بل كان ياسر عرفات يقول ويكرر إنه يقبل أن تقطع يده على أن يقبل بالقرار 242! ولكن عرفات عاد وقبل بالقرار وهو يعده الآن أثمن ورقة في يده! ولكن قبوله وقتها كان له وقعه وصداه (المؤقت) وحتى يغطي على هذا التراجع المخيف، فقد أوعز إلى المجلس الوطني الفلسطيني بأن يعلن في دورته التاسعة عشرة عن قيام (دولة فلسطين المستقلة)! ثم خطت منظمة (التحرير) خطوة (سلمية) أخرى، حينما ذهب رئيسها إلى جنيف، وأعلن أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 13 ديسمبر 1988 ما يلي:

1- أنه على استعداد للتفاوض مع (إسرائيل).

2- تتعهد المنظمة أن تتعايش بسلام مع (إسرائيل) وأن تحترم حقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها.

3- أن المنظمة تدين أعمال العنف الفردي والجماعي وإرهاب الدولة، ولن تلجأ إلى شيء من ذلك! ولقد كانت هذه (التوبة) المعلنة كافية لكي تكفر عن الفلسطينيين  أمام الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل  كل ما اقترفته أيدي الفدائيين الفلسطينيين والمجاهدين وأبطال الحجارة من (إساءات) في حق اليهود (المظلومين)!! وقد قرت أعين هؤلاء اليهود وأعوانهم بما قال عرفات، حتى إن (جورج شولتز) وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت علق على خطاب عرفات قائلاً: إنه انتصار باهر، يدل على أن اللاءات الثلاث العربية الشهيرة في مؤتمر الخرطوم 1967م، تحولت في جنيف لتصبح (نعم) ثلاث مرات أيضاً!

المحطة الخامسة: مؤتمر مدريد:

قبيل حرب الخليج الثانية، كان الفلسطينيون قد سد في وجوههم باب (السلام) بعد أن عادت الولايات المتحدة ساخطة عليهم بسبب عملية فدائية قامت بها إحدى الفصائل الفلسطينية التي كانت على علاقة بالمنظمة، وبعد أن توقفت الحرب وفي يوم 6 مارس 1991م، وهو يوم الاحتفال بالنصر، ألقى الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش خطاباً أعلن فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية عازمة وبحزم على تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، وقد بدأ (جيمس بيكر) وزير الخارجية الأمريكي وقتها جولات مكوكية لتهيئة الأوضاع لعملية سلمية جديدة. تتناسب مع ظروف جديدة، وكان المقرر أن يعقد مؤتمر دولي يكون مجرد واجهة علنية عامة لمحادثات ثنائية منفصلة بين كل دولة عربية وبين (إسرائيل) أما منظمة التحرير المعنية أصلاً بموضوع السلام، فقد تقرر استبعادها لموقفها في حرب الخليج، على أن يكون البديل عنها وفد من فلسطينيي الداخل، وليس من المنظمة وعلى أن يكون ذلك الوفد أيضاً جزءاً من الوفد الأردني في المؤتمر.

وتقرر أن تكون العاصمة الأسبانية (مدريد) المقر الرسمي لانعقاد المؤتمر (الواجهة) ثم تجري بعد ذلك المفاوضات في مسارات ثنائية بين كل طرف عربي على حدة وبين الطرف اليهودي، واختيرت مدريد في ذلك الوقت لأسباب لا تخلو من إيحاءات ورموز زمانية ومكانية لم تكن خافية.

وقد تجسد الضعف بل الذل العربي في هذا المؤتمر، حيث صال إسحاق شامير رئيس وزراء (إسرائيل) الأسبق وجال، ولوّح بالتوراة وآياتها، وذكّر بالتاريخ ودروسه وشرّق وغرّب باسم اليهودية وأمجادها وآمالها وآلامها في القديم والحديث، وكان هو الزعيم الوحيد من أطراف الصراع الذي حضر بنفسه ولم ينب أحداً عنه، وكان قد أصر على شروط لا تقبل أنصاف الحلول قبل التفاوض في أي شيء وكأنما أراد أن يذكّر بها أن الجلوس على مائدة المفاوضات لا يعني النّدّية أو التكافؤ بين الأطراف؛ وأراد شامير أن يذل العرب والمسلمين في شخص الفلسطينيين فاشترط هذه الشروط:

1- لا يسمح بمشاركة أي فلسطيني عضو في المجلس الوطني في المؤتمر.

2- مجرد ذكر منظمة التحرير في المؤتمر يعني انسحاب اليهود.

3- الإشارة لأي اعتزاز بالانتماء للكفاح الفلسطيني، يعني أن المؤتمر في حكم الملغي، وسينسحب هو ووفده منه! وكاد يحدث بالفعل ما حذر منه شامير، إذ أقدم أحد أعضاء الوفد الفلسطيني وهو (صائب عريقات) على وضع الكوفية الفلسطينية المشهورة على رأسه أثناء الاجتماع فاحتج شامير واحتد، وطلب إزالة هذه المخالفة فوراً!!.

فبأي روح يا ترى، وبأي نفسية كانت تجري المفاوضات (السلمية) ومع هذه الشخصيات (العدوانية) في تركيبها وتكوينها وتفكيرها واعتقادها وأحلامها..؟!

المهم أن المؤتمر انعقد، وكأنه تظاهرة تحتفي بهوان أمة لم تجد من يتكلم باسمها أو يدافع عن كرامتها ومقدساتها، وكان من المفاوضات العجيبة  بعد انتهاء المؤتمر أن تُختار النصرانية (حنان عشراوي) لتتكلم باسم القضية الفلسطينية العربية الإسلامية!! ولهذا الموضوع بقية في جزئه الثالث في العدد القادم إن شاء الله.

الهوامش :

(1)              يلاحظ أن هذه المساعدات المالية والاقتصادية، استمرت طوال السنوات الماضية، لتعطي الدولة العربية الكبرى إمكانية التصدي لزعامة (عملية السلام) فلما انتهى هذا الدور أو أوشك على الانتهاء الآن، فقد أصدر (الكونجرس) الأمريكي قراراً هذا الشهر (يونيو 97) بإيقاف المعونة الأمريكية لمصر (مليار دولار سنوياً) بدعوى أن مصر أصبح لها دور سيئ في تعويق عملية السلام!.

 

مقال 4 خمسون عاماً من الفشل (3)

أجواء الحرب.. في أحلام السلام

(3/3)

مجلة البيان - 117

بقلم: عبد العزيز كامل

المحطة السادسة: محادثات المسارات المتعددة في واشنطن:

بعد الانتهاء من مؤتمر مدريد، اختيرت واشنطن لتكون مقراً لاجتماعات مسارات التفاوض الثنائية، ودارت المحادثات على مسارات منفصلة كما هو متفق عليه  أو كما أرادت (إسرائيل) فقد كانت تخطط لإضاعة الوقت في هذه المفاوضات لتشتيت جهود العرب والاستفراد بكل طرف على حدة، لكي تستثمر هذا الوقت لصالحها بتنفيذ برامج ومخططات تحتاج إلى تغطية، وقد ظهرت هذه النية بعد ذلك على لسان (شامير) الذي قال: (كنت أريد للمفاوضات في واشنطن أن تمتد عشر سنوات، حتى تستكمل خطط الاستيطان، وحتى لا تبقى أرض فلسطينية يتم التفاوض عليها...)!! نعم أليسوا يهوداً؟.

لقد حرص هؤلاء الأعداء على إضاعة الوقت فعلاً، حتى إن بعض (القضايا) التي جرت مناقشتها بين الوفد الإسرائيلي والأردني مثلاً، كان منها: التعاون من أجل مقاومة توالد البعوض في وادي الأردن! وكان منها ضرورة التنسيق للتوصل إلى حل في مشكلة الحمام البري الطائر الذي يطير من الأراضي الأردنية ليتغذى على الغلال في الصوامع الإسرائيلية!!

أما القضايا الجادة  على كل المسارات  فكانت تؤجل باستمرار، وكانت وفود اليهود تردد دائماًَ قناعتها بأن من أصول التفاوض الصحيح حل المشكلات الصغيرة أولاً ثم التفرغ للمشكلات الكبيرة. ومع كل هذا الهوان، فقد كان المفاوض العربي والفلسطيني يشعر في نفسه بذلك الهوان، بغض النظر عن القضايا التي تناقش، يعبر عن ذلك (د.حيدر عبد الشافي) بقوله: (نحن وفد منقسم على نفسه، وفي الحقيقة فنحن أربعة عشر عضواً فلسطينياً وكل عضو فينا وفد مستقل، وكل واحد منا يمثل نفسه، وله اتصالاته وله ميادينه)!! وكان من الطبيعي مع كل هذا أن تكون نتائج مسارات واشنطن.. الفشل!!

المحطة السابعة: اتفاقيات أوسلو: بعد فشل محادثات المسارات المتعددة في واشنطن، اتجهت الأنظار إلى (أوسلو) عاصمة النرويج، وكان ذلك عقب ظهور عدد من المستجدات على الساحة العربية والدولية منها:

1- انتقال رئاسة الوزراء في (إسرائيل) إلى حزب العمل برئاسة (إسحاق رابين) بعد سقوط (إسحاق شامير) زعيم حزب الليكود.

2- أن منظمة التحرير  من خلال محادثات واشنطن  ظهر أنها مستعدة نفسياً وعملياً لإعطاء كل شيء مقابل الاعتراف بها، وأنها سوف ترحب بأي تعاون من شأنه ألا ينقل الوصاية على القضية الفلسطينية من يد المنظمة إلى أيدي (حماس).

3- حرص كل أجهزة المخابرات ومراكز الدراسات في إسرائيل وغيرها على إظهار وإبراز أن هناك قوة إسلامية عارمة يمكن أن تكتسح أكثر من ساحة عربية ومن ضمنها فلسطين في ظل التشرذم والفشل العربي، وأن تلك الموجه الإسلامية يمكن لها أن تقفز إلى واجهة الأحداث ليرى اليهود أنفسهم وجهاً لوجه أمام مبارز جديد لم يتعودوا على منازلته، وقد عبر عن هذا التخوف أحد الوزراء في حكومة رابين عندما قال: (إن الحركة الإسلامية ستتصاعد، وستؤدي إلى تقوية التيار الديني في (إسرائيل) نفسها، وأستطيع أن أقول: إن المتشددين الإسلاميين والمتشددين اليهود سيلتقون في ساحة المواجهة هنا على أرض فلسطين، وعندها سيخرج الأمر من أيدينا تماماً)!

وكان (رابين) يرى لأجل ذلك  أنه لا مانع من الاعتراف بالمنظمة بعد اعترافها بـ (إسرائيل) وبحقها في حياة آمنه ضمن حدود معترف بها، وكان في ذلك مخالفاً لسلفه (شامير) وقد سوّغ وجهة نظره بقوله: (إن المنظمة إذا وضعت بصمتها على ورقة الاستسلام، فلن يستطيع أحد أن يزايد على (أصحاب الشأن))!

وبدأ الفلسطينيون عبر قنوات اتصال سرية في التفاوض مع الإسرائيليين لإبرام اتفاق (منفرد)، وأثمرت هذه الاتصالات في الوصول إلى اتفاق مبدئي أطلق عليه: (غزة وأريحا أولاً) وكان المفاوضون قد اتفقوا في أوسلو على ألا يكرروا الخطأ الذي حدث في واشنطن من الوفد الفلسطيني وهو المطالبة بالبدء بالموضوعات الصعبة الرئيسية مثل: حق تقرير المصير، والمستوطنات، ومستقبل القدس. واختاروا أن يكون البدء بأمور عملية تقبل التنفيذ، ووقع الاختيار على (غزة وأريحا أولاً) بمعنى تمكين الفلسطينيين من حكم هاتين المنطقتين حكماً ذاتياً، وكانت هذه مبادرة إسرائيلية صرفة، صادفت هوىً لدى القيادة الفلسطينية، وقد تم التوصل إليها بينهما دون شراكة من أي طرف ثالث.

وقد أراد الإسرائيليون بهذه الاتفاقية أن يضربوا عدداً من العصافير بحجر واحد في هذه المرحلة وذلك بما يلي:

1- التخلص من قطاع غزة المزدحم والمزعج، والمليء بأسباب التوتر الأمني والعلل الاقتصادية والكثافة السكانية العربية.

2- إرضاء غرور القيادة الفلسطينية المتطلعة إلى زعامة وهمية على دولة غير واقعية لن تفيد الشعب الفلسطيني، ولن تضر الشعب الإسرائيلي.

3- إيهام العالم بعدالة الصفقة اليهودية في آخر فصول القضية الفلسطينية.

4- عزل القوى العربية غير الراغبة في السلام  إن وجدت  بإعطاء البرهان على أن أصحاب القضية قد ألقوا البندقية.

5- احتواء التيار الإسلامي المتصاعد في غزة على يد الشرطة الفلسطينية بعد أن عجزت الشرطة الإسرائيلية عن القضاء عليها.

وبعد خمس جولات من المباحثات في أوسلو، تم التوصل في (8/5/1993م) إلى ما يسمى وقتها ب (اتفاق إعلان المبادئ) المتعلق بمنح الفلسطينيين حكماً ذاتياً في غزة وأريحا، وكان بيريز متحمساً للإسراع في إبرام ذلك الاتفاق الذي تفتقت عنه قريحته، فقد كان يراه فرصة تاريخية لا تعوض في مثل ذلك الظرف الذي كان يقتضي الاعتراف بالعدو الذي لم يعد عدواً (منظمة التحرير)؛ لأن البديل هو كابوس لا يمكن تصوره، ولذلك قال: (إن البديل الوحيد لمنظمة التحرير  إذا تجاوزناها  هو (حماس) وحماس لن تعترف أبداً بإمكانية السلام معنا..)!

وما كان لاتفاق أوسلو أن يخرج إلى الوجود، إلا بعد أن تم تأجيل كل القضايا الأساسية وهي: (القدس) (الحدود) (المستوطنات). وبالرغم من أن الاتفاق أسوأ مما كان ينتظره المتشائمون، حيث إنه لا يحقق الحد الأدنى من الثوابت الفلسطينية، إلا أن ياسر عرفات كان يحب أن يطلق عليه: (سلام الشجعان).

وفي مقابل قبول الاتفاق على مضض من بعض العرب بسبب إجحافه بالفلسطينيين في أرضهم، فإن الإسرائيليين عمهم الفرح به، حتى إن أحد الوزراء الإسرائيليين وهو (يوسي ساريد) علق عليه قائلاً: (إن إسرائيل اليوم خلقت من جديد، فمنذ إنشائها لم تكن الدولة شرعية في المنطقة التي قامت فيها، واليوم (13 سبتمبر 1993م) اكتسبت إسرائيل شرعية الاعتراف بها) هذا على مستوى العارفين بالأمور من الإسرائيليين، أما قطاعات الشعب التي ساءها أن ترى (عرفات) داخل أرض الميعاد مرة أخرى، فقد هالهم هذا التغيير، ولكن رابين طمأنهم وهدأ من روعهم، وخاطبهم  ولما يجف مداد الاتفاق  قائلاً: (إنه لن يكون هناك انسحاب إسرائيلي، ولكن: إعادة انتشار، و(السلطة) للفلسطينيين سوف تكون تحت سيطرة (الدولة الإسرائيلية) وحتى الأرض، فليس هناك اتفاق بشأنها، ولكن بشأن البشر الذين يسكنون عليها.

أما الأموال التي ستأتي لتلك السلطة الفلسطينية، فلن تصل إلى أيديها مباشرة بل ستمر عبر قنوات دولية تضمن سلامة مصارفها)!

ثم بدأ تنفيذ بعض بنود الاتفاق، واستقدمت أعداد من المقاتلين الفلسطينيين السابقين الذين كانو قد تفرقوا في عدد من البلدان العربية، لتتشكل منهم كتائب شرطة  لمكافحة الشغب أو بالأحرى: مكافحة الشعب، إذا أراد أن ينتفض مرة أخرى، ومع كل هذا التنازل.. فإن الطرف اليهودي كان يتعامل مع الطرف الفلسطيني بالازدراء كله، والمكر والخداع كله، وكعادة اليهود في التملص من العهود، فإنهم لم يصبروا على (اتفاق أوسلو) رغم حيفه وجوره، وعادوا إلى التمثيلية المكرورة وهي (تعدد فهم النص) تلك التمثيلية التي درجوا على اللجوء إليها كلما أرادوا التحريف أو التزييف، فيقولون: النص هكذا، ولكننا نفهم منه كذا.. وأنتم تفهمون منه كذا، وبهذا في كل مرة يتخلصون من أي التزام، ويتبرؤون من كل مسؤولية، لقد قال رابين قبل مصرعه: (إنني اكتشفت أن هناك قراءتين لاتفاق أوسلو: قراءة فلسطينية وقراءة إسرائيلية، ونحن أمام تفسيرات مختلفة لقضية كنت أظنها واضحة في الاتفاق، وقال: (إن فجوة الاتفاق بيننا وبين عرفات واسعة).

بمثل هذه التصريحات، وفي ظل تلك المواقف التي توجهها الرغبة في التلاعب، تجري فصول العملية السلمية، فما كان يفهم (شامير) من قواعد اللعبة، يمكن أن يختلف غداً عما فهمه (بيريز)، وما كان مسلّماً به عند رابين، يمكن أن ينقلب على أعقابه في مفهوم (نيتنياهو)! وما تعاهدت عليه حكومة (الليكود) اليوم، ليس ملزماً لحكومة العمل غداً. وهكذا تتوالى الفصول في عملية السلام المهزول نقضاً للوعود، ونكثاً للعهود.

وبهذا تم التوسع في بناء المستوطنات، وبهذا تقرر الانتهاء من أمر (مصير القدس) قبل أن يأتي موعد التفاوض بشأنها، وبهذا يجري الآن العمل لنقل السفارة الأمريكية إليها، ليمثل هذا أرضية دولية للاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة أبدية لإسرائيل.

والظاهر أن أوان الفصل الأخير من فصول عملية السلام قد آذن بالأفول، حيث نعاه عرفات إلى العالم في تصريح له في زيارته الأخيرة إلى فرنسا (1 يوليو 1997م) قال فيه: (إن نتنياهو قد اتخذ قراراً وسوف ينفذه، وهو إعادة احتلال غزة وأريحا)! فهل سيبدأ بغزة وأريحا.. أولاً؟

نقول للقيادات العربية التي وضعت نفسها في واجهة القضية الإسلامية: ليتكم قرأتم أو فهمتم من كتاب الله وصفين وخصلتين من اليهود لم ولن يتخلوا عنهما:-الأولى: أنهم لا عهد لهم مع أحد. قال الله تعالى: ((أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)) [البقرة: 100].

والثانية: أنهم لا أمان لهم. قال تعالى: ((كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً)) [المائدة: 64].

إذن، فقطار (السلام)، لا يركبه اليهود إلا للوصول عبر محطاته إلى ميدان الحرب؛ وهذا أمر واضح لمن راقب أحوال القوم في القديم والحديث. ((وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلياً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا)) [النساء: 45، 46] اللهم كف عنا بأسهم في الحرب، ومكرهم في السلام.

الهوامش :

(1)              يلاحظ أن هذه المساعدات المالية والاقتصادية، استمرت طوال السنوات الماضية، لتعطي الدولة العربية الكبرى إمكانية التصدي لزعامة (عملية السلام) فلما انتهى هذا الدور أو أوشك على الانتهاء الآن، فقد أصدر (الكونجرس) الأمريكي قراراً في (يونيو97) بإيقاف المعونة الأمريكية لمصر (مليار دولار سنوياً) بدعوى أن مصر أصبح لها دور سيئ في تعويق عملية السلام!.