الطاهر وطار: الكاتب والتجربة (1)

شعب الجزائر شعب المعجزات.. هذا الشعب كان لابد ان يكون قياديوه في مستواه
اميل لاطروحة آيت احمد في معاداته لبومدين ولا اتبني خلافه مع بن بله واراه يشطح

حوار: محمد بوازدية وعابد شارف


يمثل الطاهر وطار، الكاتب والروائي الجزائري صورة عن حياة الرواية الجزائرية في مرحلة الاستقلال، فهذا الكاتب الذي اتخذ وسيط العربية للتعبير عن هموم امته، قام بتوثيق صورة المجتمع وتحولاته الفكرية والثقافية والسياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال. بدأ الوطار الذي عرف بروايته اللاز ، الحوات والقصر ، عرس بغل وغيرها ماركسيا يساريا وانتهي كما يقول معدا الحوار مدافعا عن الاسلام. ويبدو ان التحولات السياسية والفكرية في حياة الكاتب وطار لها علاقة بانهيار الاحلام وسقوط النموذج الكبير الذي بناه ابناء الامة، امة المليون شهيد لغد جميل، ومستقبل مشرق. فالوطار يري ان الاحلام ظلت احلاما، بسبب العسكرتاريا التي ارادت الاحتيال علي التاريخ. يعتبر الوطار نفسه عربيا في الثقافة والوسيط الذي يستخدمه، ولهذا السبب نراه يقدم عددا من الاراء النقدية حول كتاب الجزائر بالفرنسية او اعضاء الحركة الفرانكفونية. ولهذا السبب فالوطار علي خلاف نظراذخه وزملائه يظل كاتبا معروفا لقراء اللغة العربية، فصناع النشر باللغة الفرنسية في باريس يفرضون عليه حصارا، ويؤمن الوطار كما سنري في الحوار المطول الذي اجرته معه القدس العربي ان صناع النشر واصحاب دور النشر يملون علي الكاتب الجزائري باللغة الفرنسية الطريقة وطبيعة الموضوعات التي يكتبون عنها. هذا الموقف يحمل في طياته رؤية عن الفنان والروائي المحارب الذي خاض العديد من المعارك العبثية مع ممثلي اليسار واليمين ومع الحكومة والمعارضة في محاولة لتأكيد نفسه،كشخصل مستقل، مافريك، يسبح خارج التيار. وتمثل هذه المعارك مجمل القضايا التي شغلت الواقع الجزائر، مثل التعريب والفرانكفونية، سلطة اليسار ضد العسكر واليمين، الاسلاميون ضد النظام الحاكم، وقضايا اللغة في الاطار الوطني والقومي، خاصة واقع مناطق القبائل التي يقول انه توقع بانفجارها منذ زمن بعيد، قبل ان تنفجر في العام الماضي. ولهذا فقراءة التجربة الروائية والادبية للطاهر وطار تستدعي النظر لمجمل التحولات الفكرية والسياسية التي عاشها الكاتب، وربطها بها، اي فهم الانتاج الروائي ضمن زمنه الخاص، فالكاتب الذي بدا يساريا رومانسيا يحلم بالجزائر الجميلة في عهد بومدين، غيره الذي انقلب علي رفاق القلم اليساري وقرر اتخاذ طريقا خاصا، يلغي المسافات القديمة ويتجاوزها. ويري معدا الحوار محمد بوازدية وعابد شارف ان الطاهر وطار، الاديب والروائي، رجل رجل لا يعرف الدبلوماسية والحذر في الكلام. إنه يجهل تماما معني المجاملة. والسبب واضح فهو جزء هام من ذاكرة الجزائر في النصف الثاني من القرن الماضي. ولم يكن وطار بمثابة الشاهد علي زمنه السياسي والاجتماعي بل كان مشاركا في هذا الحياة العامة، الادبية منها والسياسية. يتركز نشاط وطار اليوم حول ديوان الجاحظية الذي وصفه مرة بأنه وكر ثقافي . وقد اسس هذا المركز الثقافي قبل عقد ونصف من الزمن، في وسط الجزائر العاصمة. وقد ظل الحانوت الثقافي الوحيد الذي ظل يعمل في الوقت الذي غمرت فيه النزاعات بين الاسلاميين والنظام الحاكم كل الجزائر. وظل المركز بمثابة شهادة علي حيوية الثقافة في تأكيد هوية الجزائر، في الوقت الذي هرب، هاجر، غادر، قتل فيه العديد من المثقفين الجزائريين. لم يسلم وطار من الاتهامات والغمز واللمز بان له علاقة ما مع الطرف الاخر، الذي اتخذ من الجبال معاقل له
وفي قلب هذه الشك كانت استمرارية الكاتب علي فتح دكانه للزبائن الذين لا يأتون، تماما كما انتظر سكان الارياف الشهداء يعودون هذا الاسبوع دون جدوي. الجاحظية، الديوان والمركز هي عنوان عن الجزائر الذي لم يكن في يوم من الايام. ورؤية للمستقبل الذي سيكون. ووطار، الكاتب والتجربة يظل خير من يقدم لنا رؤية عن وطنه، وادباء الزمان والمكان والتاريخ والرؤية.
القدس العربي


عن الحركة الوطنية

كثيرون يعتقدون ان الأزمة الجزائرية الحالية ما هي إلا امتداد لأزمة الحركة الوطنية؟
في اعتقادي ان الأزمة الحالية وما سيأتي من أزمات بالنسبة للجزائر هي انتقام التاريخ من حركة وطنية تحررية غير كفوءة لتحتال علي التاريخ ولتسرق من التاريخ اذا ماعدنا الي مقومات حركة التحرير الجزائرية بأشخاصها وظروفها ماعدا الظرف العالمي الذي جاءت فيه وهو ظرف تحرر الشعوب العالم اذا ما عدنا الي هذه الحركة وحللنا قادتها شخصا بشخص وتعرفنا عليهم مناضلا مناضلا نتعجب كيف ان هؤلاء الناس يستطيعون ان ينتزعوا من التاريخ وطنا قارا كبيرا، يمتد من البحر المتوسط الي اعماق افريقيا، وتحده

 

 

الطاهر وطار: الكاتب والتجربة (2)

استغرب أن يغني شاب صعلوك يسمي الشاب خالد فيطرب أولاد سيّد درويش ويطرب العالم
عرس بغل تنبأت بسقوط الاشتراكية ليس في الجزائر ولكن في الاتحاد السوفييتي



حوار: محمد بوازدية وعابد شارف


يرسم الطاهر وطار في حواره صورة عن مأساة الجزائر التي بدأت في السبعينات او الحقبة البومدينية التي يري انها اصل الداء واساس البلاء. ويربط ولادة العديد من اعماله بأحداث تاريخية، سياسية، عالمية ومحلية. فالطاهر وطار كان يكتب مدفوعا بالتعبير عن ازمات الحاضر، سواء كان ذلك للادانة او المديح. ويري وطار ان القيادة الجزائرية لم تكن مؤهلة لقيادة الشعب الجزائري الذي يعتبره شعبا عبقريا. ويتحدث الكاتب عن الظاهرة الاسلامية، والكتابات الادبية التي نشأت حولها، حيث يري ان الاعمال الادبية التي كتبها جزائريون بالفرنسية تظل اعمالا غير اصيلة. فالكاتب يذهب كراقصة بطن تقدم نفسها في الكباريهات، ويستنثي وطار هنا من الكتاب، رشيد بوجدرة الذي يصفه بان له وجدانا عربيا اسلاميا ووجدانا تونسيا جزائريا ويمكن أن يكتب بأي لغة
(القدس العربي)
عن الصوفية والتراث الفكري العربي

ماهو موقع الطاهــر وطار الفكري والادبي في التراث العربي؟
انا مستوعب الحضارة العربية واعود اليها كثيرا واحترم مشاعر المؤمنين مهما كانوا، وأومن بضرورة احترام الاديان. ولكن اتبع في رؤيتي الفنية قواعد الواقعية الاشتراكية، وهي حزبية الادب وطبقيته وشعبيته ولا يمكن أن أكون حزبيا. فلو اسست حزبا في الصباح سأتجاوزه في المساء. ولكن طبقية الادب أؤمن بها إيمانا مطلقا.
اما شعبـــية الادب فهي هذا الوجدان الذي يخرج من عندي من هنا ليعود الي ذلك الطفل في البادية الذي يمشي حافيا والذي له صلة بالناس ويحفـــظ الامـــثال والقرآن والاحاديث.
ماعدا ذلك يأتي تلقائيا. فالحداثة مثلا في الواقعية الاشتراكية، انا كسرت البطل الايجابي ورحت الي البطل السلبي، وتخليت حتي عن البطل باعتبار أننا في مجتمع آخر غير المجتمع الذي كان في المنظومة الاشتراكية السابقة. ومن هنا أحب القرامطة لانهم حركة انسانية كونية انبعثت في اطار الدين وطالبت بالعدالة المطلقة. وكتبت عن هذه الحركة في رواية عرس بغل .
عندي رؤية اعلنت اخيرا في ملتقي: انا لا أومن بأن الله يتنازل ليسيّر شؤون الفرد. الله يسير المصائر والكائنات، وبان الفرد في حين تعظيمه لله هو يعظــــم نفسه.. وهذه حالة تصوفية ليست نكرانا لوجود الله، لكن فهماً اخر مثل فهم محي الدين بن عربي والامير عبد القادر.. حالة تصوفية خاصة بي.
الغريب أن هذه الحالة أدركتني وانا في سن السادسة عشرة عندما كنت أصلي في مسجد قسنطينة وكنت احرك اصبعي فانتبهت الي ان اصبعي وانا والمسجد أصغر من ان نقابل الله ونقف في حضرته ونطلب منه أن يسجل الحسنات ولازمتني هذه الحالة الي اليوم.
في قضية كونك غير محترف ما معني ذلك في البناء التقني للرواية؟
كل العمل الذي أكون عزمت او بصدد انجازه هو عاطفة قوية تسكنني وهذه العاطفة تتشكل شكلا وموضوعا ومحتوي تأخذ حريتها في التشكل ولكن هذا لا ينفي أنني اعرف تقنيات تكوين الشخصية. اعرف تقنيات بناء الملاحم وتقنيات التراجيديا انما الشكل لا احدده انما اتصرف بدراية حتي لا انزلق في متاهات البناء الروائي فأنا حداثي ولكن لا اتبع حداثة غيري واحتار لكاتب في الامارات او في الصحراء يقلد سان سيمون. كتاب أوروبا لهم ظروف تختلف تماما من جميع الأوجه عن ظروفه..
بناء الحوات والقصر بناء غير معقد، بناء جاء من فضاء أسطوري جميل. هل هذا الفضاء جاء من التأثر ولو من بعيد من جو ألف ليلة وليلة أو من شيء آخر؟
اولا وقبل كل شيء ينبغي وضع رواية الحوات والقصر في اطار تاريخي، هذا الاطار أن هناك في مصر ما يشبهها وكنا لا نعرف بعضنا. كان جمال الغيطاني وصنع الله ابراهيم صاحب نجمة أغسطس ولكن جاءت وقائع الزعفراني وزيني بركات. كما جاءت وقائع اللجنة أظن، و تلك الرائحة لصنع الله ابراهيم. جئنا بهيكلية جديدة للرواية وكان هذا عبارة عن احساس برفض الاشكال القديمة الكلاسيكية، أشكال الواقعية الكلاسيكية الروسية، أشكال نجيب محفوظ وغيره.
رغم أنني ما قبل الحوات والقصر في رواية اللاز و الزلزال تحررت من الشكل الكلاسيكي وقلت لابد من الخروج بشيء من عندنا. شيء عربي شمال افريقي غير متأثر بما يكتب في الغرب اطلاقا.
مع أني عدت الي الميثولوجيا الاغريقية عدت الي برومثيوس الاغلال الي برومثيوس حرا والي مسخ الكائنات لاوفيدز. وأنا في الخمسينات عندما كنت في تونس كنت مطلعا علي الملاحم الاغريقية وهي منعكسة عند شكسبير في الكثير من أعماله. وكان الجو السياسي أيامها في الجزائر لا يمكن التعبير عنه الا بشكل الحوات والقصر وكنت ممتلئا برفض انقلاب 19 جوان 1965 وسلوكات الادباء. وثانيا كانت أيامها ضجة واشاعات كبري تقول إن هواري بومدين ضرب وأن هواري بومدين طلقت منه زوجته. وكان هناك أيضا اجتماع في فندق سرايدي في عنابة ضم أحمد مدغري وبوتفليقة وأحمد راية ومجموعة اخري كانت تخطط لانقلاب ضد بومدين. وقبلها بسنة في 1973 وقع في تشيلي الانقلاب، أقل من سنة قبل كتابة الحوات والقصر وكنا متأثرين بموت نيرودا وكذلك كان يجري في اثيوبيا زحف الجيش علي مؤسسات الامبراطورية في يوم يؤممون المباغي، في يوم يؤممون مصانع البيرة، وكانت حركة غريبة. نفس الشيء بالنسبة للجيش البرتغالي الذي تمرد ضد الملكية في البرتغال. كان هذا الجو العالمي كله والجو الداخلي وكنت مشحونا به وكنت قلقا. وكان الشعب الجزائري كله قلقا من الجو في الجزائر. فلا نحن جمهورية ولا نحن امبراطورية ولا نحن ملكية ولا أي شيء. جاءت الرواية وقد كتبت في أوت (اب/ اغسطس) ، وأنا دائما اكتب في آب (اغسطس) أوت سنة 1974 بعدها بسنة أو بأشهر قليلة تقــــرر اجراء الانتخابات البرلمانية. كان تجاوب من فوق أو احساس عام مشترك بضرورة التغيير. جاءت الانتخابات البرلمانية في 1974 ثم في 1976 جاءت الانتخابات الرئاسية. وأنا فخور بأني سجلت هذا الموقف بهذا العمل وبهذا الاسلوب. وبيني وبينك الحوات والقصر من جملة الروايات القليلة التي أعيد قراءتها من حين لآخر. الحوات والقصر والفصول المتعلقة بالحاج كيان في عرس بغل وبعض المقاطع في الولي الطاهر يعود الي مقامه الزكي.

اللغة والاسلوب في العمل الروائي

ماذا عن العلاقة بين لغة الحوات والقصر والولي الطاهر وبدرجة أقل عرس بغل؟
اللغة أنا باستمرار أكتبها عن وعي تام. هناك التزام بمقولة عربية قديمة تقول لكل مقام مقال. مقاطع ينبغي أن نرتفع فيها باللغة ومقاطع ينبغي أن ننزل فيها. شخصيات لها منطق شخصيات لها أسلوب ولغة. هذا أكتبه بذكاء ووعي. مع أني أكتب منفعلا. حتي في الشتاء لا أكتب إلا والعرق يتصبب مني. انفعال شديد. وأنأ أكتب علي نفس واحد. كل رواياتي ماعدا اللاز كتبتها علي نفس واحد. أبدأ اليوم وخمسة عشر يوما من بعد أتم الرواية. أحيانا أتركها مثل الحوات والقصر وافتح قوسا. كنت أنا وزوجتي وابن أخي في سد غريب بالقرب من خميس مليانة في قرية صغيرة بمنطقة جبلية وكنا وحدنا والقرية بعيدة بحوالي كيلومتر وكنت أصطاد السمك. كانت الحرارة شديدة وكنا نسكن كرفانا. عدت من هناك مرهقا متعبا تركت الحوات والقصر ولم أعد الي قراءتها حتي شهر تشرين الاول (أكتوبر) أو تشرين الثاني (نوفمبر)، فعندما عدت إليها لم أعرفها. وقلت ان هذه الرواية كتبها انسان مجنون غيرطبيعي.
ولكن لم تعدل فيها شيئا؟
لا لا. المخطوط لا أزال أحتفظ به ويمكنك رؤيته. قبل أن أشرع في استعمال الكومبيوتر. كل رواياتي لها سجل. كلها. اللاز، الزلزال، عرس بغل، الحوات والقصر. وبعد ذلك جاء الكومبيوتر وصار يأكل الحروف. ونشرت الحوات والقصر مسلسلة في جريدة الشعب في شهر رمضان سنة 1975 أظن وطرحت علي طاولة مجلس الثورة.
وتقرر أن يستمر نشر الرواية حتي لا تلفت الانتباه. واستمرت.. ولكن ظلت في مدارج خزائن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع لغاية 1978 أربع سنوات مما اضطرني الي نشرها علي حسابي. استدنت من خياطة هولندية كانت جارتنا أربعة آلاف دينار قدمتها الي دار نشر في قسنطينة، دار البعث، فنشرت.
هل هي نفس الروح ونفس الشغف أو هناك رابطة بين الحوات والقصر و الولي الطاهر ؟
في كل أعمالي هناك عاطفة، هناك شحنة عاطفية أصبها أو أفرج عنها ثم هناك قاسم مشترك بين كل أعمالي دائما علي طريقة كما يقول التكريتي الناقد العراقي ان هناك جوالا علي طريقة الاغريق القدماء من خلاله نتابع أحداث الرواية وهذا مشترك بين كل أعمالي اللاز في اللاز، الحاج كيان في عرس بغل، الولي الطاهر في الولي الطاهر وعلي الحوات في الحوات والقصر، والشاعر في الشمعة والدهاليز. هذا قاسم مشترك بين كل أعمالي مع اختلاف التقنيات الاخري.
مع اختلاف حتي الاطار والمواضيع. ولكن أكتب بنفس الحمية. اذا لم تكن لدي هذه العاطفة انتظر سنة سنتين ثلاثا خمسا سنوات حتي اصدم بشيء جديد. والغريب أنني رغم ما يجري في الجزائر حاليا بعد الولي الطاهر لا أري جديدا في العالم. كما كنت لا أري جديدا بعد موت بومدين. حتي كتبت تجربة في العشق وهي مهمة جدا.. وهي رواية رهيبة هي الحكم أو الترتيب النهائي لفترة بومدين، قال هو حكم بوليسي تسلطي كل شيء فيه مزيف.
في رواياتك مواقف سياسية وفيها أحيانا التعبير عن أحاسيس في الشمعة والدهاليز نوع من الحزن والاحساس بالتهميش؟
أولا وقبل كل شيء، أنا لا أتحرج من التعبير عن ايديولوجيتي السياسية وأفكاري السياسية ومثلي في ذلك جاك لوندن الذي تعلمنا جميعا عليه القيمة وفائض القيمة من روايته العظيمة العقب الحديدية . وأضحك من نقاد يستهجنون لفظة ماركس أولينين أو اشتراكية أو شيوعية ويغضون الطرف عن اسم آخر. أعود الي الشمعة والدهاليز ، أعتقد أنها تلخيص او اذا صح التعبير للحالة الجزائرية من 1962 الي عهد كتابة الرواية. الحالة الجزائرية الثقافية أيضا. هذا الشاعر الذي تثقف بالفرنســـية ولكن من أصول شبه ريفية فلاحية ويحسن العربية لأنه تعلم في مدرسة مزدوجة يشده الحنين دائما وأبدا الي ذاته الي أمه وخالته وعمه المختار.
وهي كل ما يمثل وجدانه الشخصي ويصطدم باستمرار بالمثقفين من حوله، هؤلاء المستلبين نهائيا. هؤلاء الذين لا وجدان لهم لانهم ليسوا شعراء. يقع في أزمة بعد أن طرح ناس آخرون مسألة الهوية وهم الإسلاميون. فهو لا ينتمي إليهم. وظل يدرس وضعهم وربما ينتمي اليهم من خلال عشقه لبنت ترتدي الحجاب ولا تتكلم الفرنسية. وهي وضعية تراجيدية. وهذا الشاعر يعرف كارل ماركس ويعرف لينين ويعرف النظريات، فيقتل بتهم مختلفة. وهذا الشاعر شبه ميت وهو يبحث عن هويته بطرق مختلفة ويحاول أن يحيا ولا يجد حياة. يقتل بمنطق فرنسي ومنطق أمريكي ومنطق اسلامي ومنطق المخابرات الجزائرية..الخ
كلهم يجمعون علي قتله فيقتل. واستعملت في الرواية ما استعملت في باقي الروايات من الخيال الفسيح، استعملت الحاسة السادسة في الشمعة والدهاليز كما استعملتها في العشق والموت في الزمن الحراشي . أنا أؤمن بالحاسة السادسة ولي علاقة كبيرة بها.

السبعينيات اصل الداء

علي الرغم من موقفك السياسي من نظام بومدين، تبدو كأنك تقيم فرقا بين السبعينات وبين بومدين وكأن هناك حنينا للسبعينات في أعمالك التي جاءت فيما بعد؟
السبعينيات أدنتها في الشهداء يعودون هذا الاسبوع ، وأدنتها في اشتراكي حتي الموت . وأعتبر أن السبعينيات هي أصل البلاء وأن ما نعانيه الآن، اذا كان فعلا معاناة لانني لا أعتبر أننا نعاني، أعتبر أن كل مآسي الجزائر الآن ارتدادات زلزالية وأنا أنظر إليها بسخرية وليس بتشاؤم. انظر إليها نظرة فكرية عميقة حتي أنه عندما يبلغني أن هناك مئة ألف قتلوا آخذ هذا براحة بال كما لو أن ما أتوقعه أكثر. كل هذا آخذه بفكر. أنا لست متشائما مما يقع الآن.. أنا أضع دائما الجزائر في الاطار الكوني. عرس بغل هي تنبؤ بما يحدث الآن، ليس فقط في الجزائر، حتي في الاتحاد السوفييتي سابقا. وقد كتبت عرس بغل أيضا بعد زيارتي لاكثر من بلد اشتراكي. وكنت حكمت علي أن البورجوازية الصغيرة، وهذا همي المشترك من أول رواية الي آخر رواية، وهل ستستمر هذه البورجوازية الصغيرة في صدقها الي النهاية. والنتيجة التي أصل إليها دائما هي أنها بورجوازية كاذبة وأنها لا تستطيع أن تنتحر أكثر من مرة. كنا في موسكو في منبر السلم في 1987/1988 حيث دعا غورباتشوف مجموعة من المفكرين ورجال الدين وأصحاب رؤوس الاموال، وكنت الوحيد من شمال افريقيا، من تونس الجزائر المغرب وليبيا، فاختلفت مع محمود أمين العالم ـ ذكره الله بالخير ـ كان في كل خمس دقائق يشيد بغورباتشوف وبالديمقراطية وبالاشتراكية والشفافية. وكان هذا بحضور جمال الغيطاني، فثرت فيه ثورة جزائرية. قلت له: هذا الرجل هو (انور) سادات الاتحاد السوفييتي.
أنتم صفقتم لستالين، صفقتم لخروتشوف، لبولغانين، لمولوتوف.. دعونا لحظة واحدة نتأمل ماذا يفعل هذا الرجل. فلهذا أضع الجزائر في اطارها العالمي والتاريخي.
يبــــــــدو ان لك رأيا فـــي الشخصــــية الجزائــرية وتعتبرها متمــــيزة جدا من الناحية الثقافــــية والاجتمــــاعية والتاريخية؟
هذا الرأي مستنبط من أننا شعب لم نصنع حضارة بحكم أننا لا نمتلك أنهارا ولا استقرارا جيولوجيا ولا وحدة جغرافية، ولكن نجد أنفسنا باستمرار في خضم الحضارة. هناك أسرة بربرية حكمت مصر الفرعونية ثلاثة قرون، وهناك باستمرار حضور. دخل المسلمون الجزائر فكافحتهم امرأة وانجزت شيئا لم ينجــــز في بــــلد آخر: لقد أحرقت البلاد. هذه لا يعملها إلا جزائري. عُقبة بن نافع لم يقتل إلا في الجزائر. في عهد الرومان، الثائرون علي الكنيـــــسة الرومانية جزائريون. والغريب أنه كان في نفس الوقت سانت أوغستين. دخل الاستعمار الفرنسي فوجد دولة لها سفن ومدافع ولكن تتخلي عن مسؤولياتها، فينهض شاب بدوي ينصب نفسه أميرا يسمي الامير عبد القادر ويتولي مع الشعب هذه المهمة.
في التاريخ الجزائري عبقرية لا توجد في جهة أخري، تجعل الجزائري باستمرار في خضم الحدث الحضاري الموجود ودون أن يكون له رصيد. أنا استغرب أن يغني شاب صعلوك، ليس بالمعني السلبي للكلمة، ولكن بالمعني الايجابي يسمي الشاب خالد فيطرب أولاد سيّد درويش وفريد الاطرش وأم كلثوم ويطرب العالم. هذه ظاهرة جزائرية. أنا رجل بدوي مترجم في جميع أنحاء العالم. الهواري بومدين أو بن بلة غير مؤهلين أصلا وجدا نفسيهما في خضم الحدث في مستوي الآخرين.
أقول دائما ان كل المتمردين في شمال افريقيا هربوا الي جبالنا. الي الاوراس وجرجرة فشكلوا شعبا عبقريا. فأنا أعبر عن الجزائري بأنه رجل في جيبه، اما أن يخرج مالا ليكرمك أو سلاحا ليقتلك، لا يعرف الوسطية. أقمنا دولة خارجية، دولة عبد الرحمن بن رستم.
والخوارج.. لم يستطيعوا أن يقيموا دولة في العالم الاسلامي، كلهم جاؤوا الجزائر فأقاموا الدولة الرستمية، دامت

الطاهر وطار: الكاتب والتجربة (3)

في الطاعون لا نجد من الجزائر سوي المدينة.. استفزتني الرواية فعارضتها بـ الزلزال
مالك حداد شاعر أجنبي يتحدث كمستشرق أكثر من حديث ابن البلاد
حوار: محمد بوازدية وعابد شارف


يتحدث الطاهر وطار عن الادباء الجزائريين باللغة الفرنسية، ويعتبر أنهم غير احرار في اختيار موضوعاتهم، ولغتهم تنزع لتقليد الاعمال الفرنسية الاخري. وينتقد وطار كتابات مالك حداد، فيما يري ان اعمال محمد ديب، ومولود معمري، وكاتب ياسين فيها الكثير من وجدان الجزائر. ويعترف وطار بعدم قدرته علي قراءة اعمال رشيد بوجدرة، فيما يهاجم الرؤية الاوروبية في اعمال البير كامي، الذي رجح كفة الهوية الفرنسية علي هوية الجزائري. ويتعامل مع ظاهرة الاسلاميين في الجزائر كظاهرة ايجابية. ويعتقد ان الحديث عن ازمة في الرواية العربية لا اصل له والمشكلة تكمن في غياب النقد.
القدس العربي


الاسلاميون

هل ظاهرة الاسلاميين في جزائر اليوم تدخل في هذا التفسير؟
نعم. أقول أنها ظاهرة ايجابية. ظاهرة تدل علي أن هناك عروقا حية لم تمت. هذه العروق عروق حضارية. هناك ضغط من الآخر. الأوروبي، المسيحي، الغربي، البوذي، العالم الآن أصبح وحدة صغيرة. وهناك ردة فعل لابد أن تحدث لدي كل مجتمع سوي. ثم إن لحالة العنف تفسير آخر هو غياب العقل. هي ردود فعل عفوية مهما كانت الكوارث والخسائر. فهذا رد فعل صحي. وأنا كنت سأكون حزينا لو أن الشعب الجزائري لم يفعل ما فعله من ردة الفعل.
ما رأيك في بعض الروايات الجزائرية التي كتبت عن هذا الأمر، مثل رواية رشيد بوجدرة ورشيد ميموني وبوعلام صنصال؟ أولا من الناحية الأدبية الجمالية ثم من الناحية السياسية؟
أنا لم أقرأ هذه الروايات كلها.
هل هذا موقف منك؟
لا، هذه الروايات لم تصلني. وليس لدي وقت لاضاعته في هذه الموضوعات.
مثلا، رواية بوعلام صنصال قسم البرابرة حديثة الصدور وقد نالت شهرة كبيرة، ألم تقرأها ايضاً؟
لم أقرأها ولن أقــــرأها. حتـــي وان اعطيت لي. قرأت اخيرا رواية للطاهر جاعوط الباحثون عن العظام واستغربت كيف أن هذه الرواية، وهي مكتوبة بلغة جميلة، كيف أن كل هذه الرواية، لا يرد فيها ذكر فرنسا ولا العسكر الفرنسي. كما لو أن الجزائريين كانوا يكافحون ضد شبح لا يعرفونه.
أعود الي حكــــاية بعض زمــــلائنا. أعتقـــد أنهم لم يفكروا في الأزمة أصلا. لم يستعملوا فكرهم ولا ذهنهم ولا مبادئهم، خاصة رشيد بوجدرة. ان وجود الآخر ضروري. لا يمكن نكرانه. والدعوة الي قتله دعوة غير عقلانية وغير حضارية.
الانسياق لافكار الخمسينات وادانة كل دين موروثة من الثورة الفرنسية وليس حتي من الماركسية والشيوعية. جاءت من بلدية باريس. هذا انسياق غير علمي وغير نضالي وغير ثوري وغير سياسي. ثم ان كل كتابة تأتي من غير ادراك حقيقي لا معني لها. والانسان اذا لم يكن مدركا لا يمكن أن يكون مبدعا اطلاقا. أنا أتعذب عندما أكون نزيها مع خصمي. اتعذب عذابا شديدا، ولكنني أجد لذة عندما اعترف به. عندما يكون له وجود. لان بدون خصمي لا وجود لي. وأدب الشتائم هذا لا يستمر.
هل طرح السؤال عن حق الاسلاميين في الوجود السياسي طرح سليم؟
هذا أمر خطير. انهم يطالبون بقتل هؤلاء الناس، أي يطالبون بقتل الاسلاميين ويستعذبون اقصاء ارسال 40 ألف شاب الي المحتشدات بدون محاكمة في 1992. حرب صليبية يقودها ناس يزعمون أنهم تقدميون ويساريون. وأنا أستغرب. نحن في مرحلة تاريخية انهارت فيها كل القيم. الاشتراكية انهارت، الرأسمالية انهارت، ليس لنا متكأ نتكئ عليه لرفض الاسلاميين. بأي حق وبأي منطق. أنا كماركسي لم اكن في يوم من الأيام أؤمن بالديمقراطية الاوروبية. أعلم أن رأس المال هو الذي يتحكم فيها وهو الذي يوجه الانتخابات. أعلم هذا علم اليقين وكمثقف لا يمــــكن أن استــــسلم لكــــل هذه المغريات. أتنكر لكل ماضينا الثوري والفكري والــــروحي. الديمقراطية الحقيقية هي قبول الآخر. فهناك، مع الأســــف الشديد، بعض الكتاب المحترفين مثـــل رشيد بوجدرة، وهو كاتب مبدع، انساق ولم يشغل فكره وراء موقف غير موضوعي.
هل نستطيع التفريق بين عمل بوجدرة كإبداع وعمله كموقف سياسي؟
الابداع ينبع من مواقف سياسية وايديولوجية صافية. لا يمكن أن تبدع يمينا وأنت يساري أو أن تبدع يسارا وأنت يميني. لا. الاناء بما فيه ينضح. كيف تتبني مواقف رجعية وأنت يساري. انهم يتهمونني بأنني تبنيت مواقف الاسلاميين. لا لم أتبن مواقف الاسلاميين ولكني اعترف بوجودهم، وهذا هو الفرق.
كانت روسيا تقول عن امريكا انها نمر من ورق. فكان الصينيون يردون ويقولون نعم من ورق ولكن له أنياب نووية. هؤلاء موجودون ولهم ايديولوجية ويمكن التحالف معهم للاطاحة بالانظمة الشمولية. أنا أفضل أن تسقط كل الانظمة العربية علي يد الاسلاميين. ذلك أسرع لاقامة نظام ديمقراطي أفضل من أن يبقي حسني مبارك في مصر وفلان هنا وهناك. وأنا خائف كالعذراء من أن يستولي الاسلاميون علي السلطة. هذا موقف غير ثوري.
ما رأيك في الأدب الذي يكتبه عرب في فرنسا مثل بوجدرة، في أدب رجل مثل أمين معلوف، أو كتاب يكتبون بالعربية في فرنسا؟
اعتقد أن ناسا كثيرين غير عرب كتبوا في فرنسا، وفرنسا تستقطب كبريطانيا ومن حق كل كاتب أن يجد سبلا توصله الي الآخرين، سواء في بلاده أو خارج بلاده.
أمين معلوف أو بن جلون أو كتّاب مصريون، هؤلاء لا تطرح قضيتهم. هؤلاء وُجدوا في فرنسا وكتبوا ونشروا وكان يمكن أن يبقوا في بلدانهم.
المشكلة هو الظاهرة الاستعمارية في الجزائر. فالذي يذهب الي فرنسا لا يذهب ككاتب له شخصية أمين معلوف او الطاهر بن جلون في كتاباته الاولي، انما يذهب كراقصة بطن تقدم نفسها في الكباريهات. هذه هي المشكلة. رشيد بوجدرة ظاهرة اخري. بوجدرة يحسن اللغة العربية وله وجدان عربي اسلامي ووجدان تونسي جزائري ويمكن أن يكتب بأي لغة. وهو يطرح نفسه كمحترف يعيش ويفرض نفسه بواسطة قلمه.

الناشر الفرنسي ملحاح

الطاهر جاعوط نشر في فرنسا في فترة كان النشر فيها في الجزائر صعبا. هذه حقيقة. انما كيف يخضع الكتاب الجزائريون الي توجيهات الناشر الفرنسي. والناشر الفرنسي ملحاح في أن تكتب له مواضيع معينة، وهو مسيس ومؤدلج يطرح قضية الجنس والعنف وقضية سب الحاضر، ولكن دون مس الاستعمار الفرنسي. وأنا واثق من أن الطاهر جاعوط وقع تحت سلطة الناشر الذي تصرف كما يشاء في كتبه. قبل أن أحكم علي كاتب جزائري أسأل هل له أستاذ في وطنه؟ هل يعرف المتنبي، بقّار حدة ومحمد أومحند. اذا كان له هذا الوجدان، فأنا لا اخاف علي هذا الكاتب. فحتي سلمان رشدي بالنسبة لي كاتـــب اسلامي عاق. كتب في اطار نشأته الاسلامية.
إنما كاتب مثل رشيد ميموني، وأنا تعرفت عليه عن قرب، لا أحس بأن لهذا الرجل جذورا في المجتمع الجزائري. الطاهر جاعوط له جذور وكان ممكن، لولا الأزمة الجزائرية التي اذكاها اناس فقدوا العقل، ألا يكون بهذا الشكل في مواقفه من ثورة الاستقلال والاسلام والعروبة.
هل تعتقد أن المبدع العربي انما هو يهاجر حتي يلقي فضاء آخر أصلح للابداع؟
واقعنا في العالم العربي واقع مؤلم وسوريالي. والمبدع المسكين يتلقي كل يوم آلاف الصواريخ وهو عرضة للسقوط والانهيار في أي لحظة. كنت مرة في طرابلس في مؤتمر الشعب العربي فجيء لنا بشاعر أحبه. وكان من فصيلتي الفكرية فراح يقرأ قصيدة يمدح فيها الكتاب الاخضر. غادرت القاعة تألما لا احتجاجا وقلت اللهم لا تجعلني في هذه الوضعية. بالنسبة لي هذا الانسان وقع. انهار وسقط. وكان يمكن أن تحصل لي هذه الحالة أو لأي واحد غيري علي أن نستسلم ونصير فرنسيين نمثل فرنسا في البلدان العربية كما يفعل بعض الشعراء مبعوثين أو مستقدمين من طرف المركز الثقافي الفرنسي.

ازمة في الرواية العربية!

هل يمكن اليوم الحديث عن ازمة في الرواية العربية؟
أولا وقبل كل شيء أنا شخصيا لست مطلعا علي كل الروايات ولا علي معظم ما يصدر... لا أطلع إلا علي ما يصلني. ثم إن المسألة تهم النقاد اكثر مما تهم كاتب الرواية. ولكن علي العموم اعتقد أن طرح مسألة الأزمة أو غير الأزمة غير وارد.. بل بالعكس الرواية تأصلت الي درجة أن الكثيرين يكتبونها. فتجد الغث وتجد السمين. تجد الجيد والمتوسط والضعيف علي المستوي العربي.
عموما هناك كتاب مكرسون لهم أسماء ولهم أعمال وهؤلاء معظمهم حتي وإن كانوا ناجحين في اعتقادي انهم يجهلون اصول الفن الملحمي والدرامي. يكتبون علي السليقة. إلا القليل، فتجد أعمالا مطولة يمكن تجاوز صفحات كثيرة منها. يمكن قراءة بعض صفحات في بدايتها ثم في وسطها ثم في خاتمتها وهكذا تكون عرفت الرواية لانها لا تتوافر علي العنصر الذي يشد والذي يتطور فيه العمل والذي هو جزء من النسيج الكامل للعمل. هؤلاء معروفون يمكن تحديدهم.
وهناك كتاب شباب يكتبون كتابات جيدة جدا. ولسوء الحظ ما ينقصهم في العالم العربي هو النقد الذي يستشف المستقبل ويساعد علي نمو هذا الفن أو ذاك ـ القصة والرواية والشعر. النقد شبه احترافي يكتب للصحافة وللمجلات الاسبوعية والشهرية. فهو إذن نقد متعجل. والناقد الواحد يكتب لاكثر من مجلة. هذا لا ينفي وجود دراسات أكاديمية حول اعمال كثيرة. ولكن لسوء الحظ أن هذا النقد الاكاديمي لا يخرج للناس. وبالتالي لا يشكل نواة لنقد عربي متميز ضمن سياق النقد العالمي. هناك نقيصة تظهر عند بعض الروائيين وهو اللهث وراء الموضة، وراء التقليعات في الرواية باسم الحداثة. نحن نفهم أن الحداثة هي النابعة من ذات الكاتب من محيطه من مجتمعه من امكانياته من اطلاعه...الخ. وليس التقليد لان حتي المحدث في الغرب لا يكرر نفسه باعتبار أن ذلك مضاد للحداثات. وهو يحدث نفسه باستمرار.
فهذا نتجت عنه أعمال واهتم بها النقاد كظاهرة وانما لا تعطي الكثير ولا تصمد في وجه الزمن ولا تنتشر في وسط القراء وبالتالي لا تساعد علي خلق قراء رواية مدمنين. في الجزائر صار الكثير من الشباب يستسهلون كتابة الرواية وهذا شيء ايجابي وجيد وخاصة دخول العنصر النسوي في معالجة الفن الروائي. وأنا قرأت لكثير من الشباب بعضهم بلغ حدا عاليا من النجاح أمثال زرياب بوقفة وشهرزاد زاغر، وسفيان قدادسة. البعض من هؤلاء يكتبون عن دراية أمثال زرياب ويعرفون فن الدراما، فن الملحمة ويتحكمون في تقنيات الفن الروائي. وبعض من كتبوا من أمثال السعيد مقدم وحميد عبد القادر يكتبون علي السليقة وكتابات صحافية قد تكون نواة للرواية البوليسية مثلما هو الحال عند السعيد مقدم.
هناك كتاب في الجزائر يواصلون الكتابة ويخرجون الي الناس من سنة لاخري يزعمون الحداثة ويزعمون معرفة لغات ولكن مع الأسف يظلون يراوحون مكانهم إن لم يرتدوا علي أعقابهم، وبعضهم ظن أن اللغة العربية هي التي خانته. ولذلك طفق يكتب باللغة الفرنسية ولكن ظل هو هو.
هل يمكن الحديث عن مقياس معين: الحداثة. كون الروائي مؤهل لجائزة نوبل أو كون الروائي يجب أن يكون له التزام سياسي معين؟
ينبغي ألا نضع مقاييس وشروطا ووصفات وتعليمات للمبدع. المبدع هو الكأس الذي يرشح بما فيه. هناك كتّاب سياسيون بطبيعتهم مثلي شخصيا. هناك كتّاب نفساويون مثل بوجدرة. هناك كتّاب تاريخ وكتّاب جنس..الخ. فلا نستطيع ولا يجب أن نضع شروطا يلتزم بها المبدع. كل فنان يعطي من طعم الغابة التي يرعي فيها. الحداثة هي التطوير والتلاؤم مع روح العصر. اذا تجاهلنا ايقاعات العصر وألوانه والمعرفة سهلة المنال في هذا العصر والتداخل الانسان وبقينا في عهد بلزاك أو عهد غوركي، فهذا معاكس للحداثة، هذا جمود وتقليد للماضي.
واعتقد أن أحسن حداثة هي التي تنبع عن عفوية للكاتب الملم بكل معطيات عصره. وأنا شخصيا، حتي وإن أعجبتني طرق نتجت في اوروبا عن وضعيات مختلفة، أنهي نفسي عن اتباعها. ذلك أنني أعيش في مجتمع آخر. مجتمع وقته أكبر من وقت الاوروبيين. زمانه أوسع من زمانهم. مجتمع لم يتعود بعد علي قراءة الرواية أو القصة. مجتمع تهزه الايقاعات والموازين، فأجبر نفسي علي أن أتطور ضمن هذا المجتمع كما فعلت بدءا بـ الحوات والقصر و الزلزال ...الخ. يعني آخذ من وجدان هذا المجتمع ما يجعله يرتبط بي ويجعلني ارتبط به وما يجعل الآخرين أيضا في الغرب وخارج الغرب ينظرون إليَّ ككاتب متميز من مجتمع يختلف عن مجتمعهم.
لم تقرأ كل ماركيز لانك تخشي علي أصالتك منه كما قلت لي، هل هذا الاستنتاج ينسحب علي روائيين آخرين أقدم من غارسيا ماركيز وأشهر منه؟ مثلا، ماذا عن همنغواي وفولكنر وكافكا وسارتر والبير كامي؟
أبدأ من آخر السؤال. بالنسبة لهؤلاء تتلمذت عليهم أول ما تتلمذت في صباي واستحسنت لغة همنغواي: اللغة الضاربة، اللغة الرصاصة التي لا تعوض. وكذلك استحسنت تطوير الحدث بواسطة الحوار كما هو الشأن عند جون بول سارتر وألبير كامي. وهما أقرب الي المسرح من الرواية. واستفدت أيضا من كتاب المدرسة الروسية عموما وخاصة غوركي من النزول الي الحضيض. من تتبع الانسان في جميع حالاته وعدم اتخاذ موقف من الحالات الانسانية وعرضها بأمانة وصدق ونزاهة. وهذا ما فعلته في معظم أعمالي. لا أنحاز لهذا البطل أو ذاك باعتبار أنني أتعاطف معه. بعد أن تمكنت من صياغة شخصيتي من كل هؤلاء الذين ذكرتهم، صرت أنمّي شخصيتي من خلال تجربتي، من خلال رؤيتي وبحثي الدائم في مجال الدراما بالذات. واذا ما سمعت عن كاتب عظيم مثل غارسيا ماركيز أتردد كثيرا في قراءته ثم أقرأ له عملا واحدا وأتجنبه.
أذكر أنني لم أقرأ رواية نجمة لكاتب ياسين إلا مؤخرا.
ولماذا؟
كنت أيضا أخاف منها. ألف ليلة وليلة لم أبدأ في قراءتها إلا مؤخرا. وقرأت منها جزأين فقط الي حد الآن.
أطلع علي اعمال زملائي، بعضه أمسحه مثلما فعلت مع أعمال نجيب محفوظ وحنا مينة وجمال الغيطاني. أمسح لكل كاتب أربعة أو خمسة أعمال حتي اكون فكرة عن أسلوبه ونمطه وعنه ككل ثم أتركه واقول هذا فرغت من مسألته. تصور أنني لم أقرأ أمين معلوف الي الآن ولا أعتقد انني سأقرأه احتراما له واحتراما لنفسي أيضا.
ماذا تخشي، هل تخشي خيبة الأمل؟
لا، ليس خيبة الأمل. هذه أعمال عليها اجماع في الشرق والغرب علي أنها أعمال عظيمة. والناس يتبعون الموضة. والكاتب يتأثر دون أن يدري، لا وعي الكاتب يأخذ ويعيد الصياغة بشكل آخر. لا أزال لم اتخلص من رواية القصر أو رواية المسخ .
كلما اشرع في الكتابة أقرر سلفا أن ابعد كافكا وأعماله لانها اعمال عظيمة ومؤثرة. صحيح ان الام لغوركي أو العقب الحديدية لجاك لندن قرأتها من زمان ولا تستحضرها الذاكرة. الذاكرة الخفية هي التي تعيدها وهي التي تتأثر بها. مرة قرأت الشوارع الخلفية لعبد الرحمن الشرقاوي فوجدت فيها الكلاسيكي الروسي ووجدت فيها بوشكين ووجدت فيها كذا وكذا فلم أنهها وقلت الاحسن الذهاب للمصدر.

السرقات الادبية

قيل الكثير عن السرقات الأدبية. الكثير من الروايات العربية تشبه روايات مكتوبة في الغرب.. حتي في العنوان في البناء في الفكرة العامة... هل هذا الأمر يأتي من كون اللاشعور هو الذي يملي هذا أم هي سرقات مقصودة؟
اعتقد أننا يجب أن نركز حديثنا علي المبدعين الحقيقيين أما هؤلاء وهم كثيرون هؤلاء الذين يستولون علي اعمال الناس وجملهم وصورهم علي حيوات ابطال الناس، هؤلاء لا ينبغي أن ندخلهم ضمن الروائيين المبدعين.
أذكر مرة انني بدأت أقرأ في رواية لكاتب لا اذكر اسمه فوجدت نفسي ووجدت حنا مينة ورشيد بوجدرة. كل هؤلاء في فقرات مركبة تركيبا، فرميت الرواية ولم أقرأ لصاحبها أي شيء آخر. قلت هذا ليس بمبدع ولن يبدع مادام لا يحترم ابداع وجهد غيره.
هناك تأثر نعم، تأثر طبيعي لا مفر منه. ولا يعني هذا أن تأخذ فقرات غيرك وتعيد صياغتها. وهناك بعض المحترفين يعيدون صياغة انفسهم. العمل الواحد يكتبونه عدة مرات في أشكال مختلفة. هؤلاء ما يهمهم اكثر هو اصدار عنوان جديد وبيعه لدار النشر.
هذا الكلام كله عن الرواية العربية. في الجزائر ما رأيك في الرواية المكتوبة بالفرنسية بغض النظر عن الجدل الكلاسيكي، هل الأدب المكتوب بالفرنسية جزائري عربي أو غير عربي؟
أنا لم أقرأ للجيل الجديد. قرأت مؤخرا رواية الباحثون عن العظام للطاهر جاعوط كما قلت لك.
قرأتها باللغة العربية وهي مترجمة ترجمة جيدة. ترجمها الجيلالي خلاص. الكثير من صفحاتها المترجمة متماسكة وجيدة ولكنها تختلف عما نكتبه بالعربية. تختلف كون باله أطول، يدخل في التفاصيل ويقف عند قضايا ومناظر معينة. استغربت انه وفي كل الرواية لم يذكر اسم فرنسا ولا الاستعمار الفرنسي كما قلت لك سابقا. قلت هذا بتدخل من الناشر يحذف ويضيف ما يشاء وهو سيد في أوروبا.
الكتاب باللغة الفرنسية من نوع الطاهر جاعوط يتخذون نماذج راقية من الأدب الغربي. لا أقول يصنعون علي منوالها. ولكن يتخذونها كقدوة. ولغة الطاهر جاعوط لغة جميلة حسب الترجمة. رشيد بوجدرة لم أقرأ له أكثر من 10 صفحات، وهذا خلل يتعلق بي انا.
في كل رواياته؟
في كل أعماله. وهذا نقص فيَّ لانني، مع الأسف الشديد، من النوع الذي لا يتمكن من قراءة رشيد بوجدرة. أقرأ 10 صفحات فأنام.
والسبب؟
السبب انه لا يستهويني. وكذلك حصل نفس الامر مع ادوار خراط، ظلت راما والتنين عند رأسي سنوات طويلة ثم وضعتها في المكتبة، كلما وصلت الي 10 صفحات أنام.
هذه القضية تعود إليَّ. أنا لا أقرأ كباحث، أقرأ كمستمتع. بالنسبة للكلاسيكيين محمد ديب روائي عظيم من خلال ثلاثيته التي قرأتها مع أعمال أخري، فهو من مستوي العمالقة الكلاسيكيين.
مالك حداد بالنسبة لي شاعر أكثر منه روائي. وشاعر أجنبي. عندما يتحدث عن رصيف الازهار أو سأهبك غزالة ، فحديث مستشرق أكثر من حديث ولد لبلاد، مثل كاتب ياسين في نجمة مهما كان أسلوبه وبناؤه المتداخل والمعقد، فهو ابن الجزائر يعرف الروح الجزائرية وله وجدان جزائري. كذلك مولود معمري ومولود فرعون. هؤلاء روائيون قاصون وليسوا شعراء مثل حداد. تحس أن مالك حداد صنع شيئا بتكلّف كما لو أنه يريد أن يثبت شهادة ليس اكبر.

عن البير كامي

ما رأيك في القيمة الادبية لروايات ألبير كامي، ثم هل تحس أن كامي من خلال اعماله جزائري ام فرنسي. هل هو أقرب الي الجزائر أم فرنسا، هذا بغض النظر عن موقفه من القضية الاستعمارية؟
ألبير كامي حدد نفسه في الغريب حيث أنه أدان الجزائري وفصل نفسه عنه واعتبر نفسه اوروبيا. واعتقد أن هذا صحيح.
في الطاعون لا نجد من الجزائر سوي المدينة، مدينة وهران والاحياء الاوروبية منها. وقد استفزتني رواية الطاعون فعارضتها بـ الزلزال .
الطاعون رواية الموت و الزلزال رواية الحياة. الطاعون رواية الجمود و الزلزال رواية الحركة. وكان في نيتي أن أتمم بدون التأثر بما كتبه كامي اطلاقا لاننا في عالمين مختلفين. أنا في عالم الحياة وهو في عالم الموت. يمكن تجاوزا أن نعتبر ألبير كامي مثل مالك حداد.، جزائريين بالعشرة.
لا أجد في كتابات مالك حداد الوجدان الجزائري أكثر من وجدان دليل السائح. واذا عرفنا ماضي مالك حداد أبوه متورز بملة وليس بجنسية. مالك حداد نفسه كان يحمل اسما آخر غير اسمه الجزائري وتربي في بيئة خاصة.
لم يكن في جزائر قبل الاستقلال، يتميز فيها الجزائري عن غير الجزائري بدقة. كان هناك اختلاط.
وعموما، كل ما كتب بالفرنسية سيعود الي فرنسا، طال الزمن أم قصر، وستهتم به المدرسة الفرنسية من حيث النحو والصرف واضافات المفردات كونه انتاج باللغة الفرنسية من شعوب أخري. وحتي اذا ما ترجم إلينا فيظل عملا أجنبيا.
هذا الأمر لم يحدث لدي شعوب أخري. مثال ذلك كتاب النبي لجبران الذي كتب بالانكليزية؟
ولم يحدث مع الطاهر بن جلون ولا يحدث مع رشيد بوجدرة. جبران وأدباء المهجر هؤلاء لبنانيون قبل أن يكونوا مستعملين للغة أخري.
وهناك كتاب كثيرون ومنهم مصريون يكتبون باللغة الفرنسية ولكن لا احد يقول انهم غيرمصريين.
عندما يتعلق الامر بشخص لم يعش في بيئة جزائرية ولا يعرف الوجدان الجزائري ويكتب بلغة أخري، سواء لظرف خاص به أو متعمد...الخ.
أنت تعتقد ان الرواية وعاء أوسع للتعبير من المسرح، باعتبار انك لم تكثر من الكتابة المسرحية بل تخليت عنها؟
نعم بشكل من الاشكال. ولكن في المسرح هناك عامل آخر. أن تعيش في الكواليس وأن تعيش مع الممثلين والممثلات. أن تعيش في هذا الوسط بعينه. الرواية عمل انعزالي فردي ينجزه الانسان بعيدا عن الآخرين.
هناك كتّاب استطاعوا أن يخلقوا نوعا أدبيا يسمي المسرح لا يصلح إلا لان يُقرأ، وعجز المخرجون علي نقلها الي المسرح؟
اعتقد أنها حيلة من حيل الكتّاب، إما نكتب مسرحا لأن يمُثّل ويشاهده الناس وينفعلون معه، واما أن نخلق شيئا آخر غير المسرح نسميه المونولوج أو شيئا آخر.
لا تنسي أن توفيق الحكيم وليد بيئة نهض فيها المسرح في أيامه. بيئة ارسلت فيها مصر بعثات لايطاليا وفرنسا وأمريكا لتقرأ وتتعلم المسرح والسينما، وبالتالي انعكس هذا علي توفيق الحكيم وغيره.
وأنا لو بقيت في تونس لواصلت في كتابة المسرح. في الجزائر هناك قطيـــعة بين من يعمل في السينما والمسرح والكتاب، خاصة بالعربية. الذين يعملون في السينما والمسرح معظمهم ذوو ثقافة محدودة جدا ولهم ثقافة فرنسية وهم مغروون. فبمجرد أن ينتج أحدهم فيلما يضع نفسه ويضعه الناس في قمة القمم، وأنه صاحب الرأي والحكم.
أذكر أن مخرجا مشهورا تلفن لي علي الساعة الثانية ليلا وكان سكران يقول: حكوا لي عن قصة الحوات والقصر وأعجبتني تلك المرأة وأريد أن أحولها الي فيلم! هذه كارثة، والامر يؤلمني كثيرا.

3

الطاهر وطار: الكاتب والتجربة (4)

الجبهة الاسلامية للانقاذ انساقت وراء الشباب وضيعت فرصة تاريخية للسيطرة علي الحكم
اعتبر بن جديد والعربي بلخير ومولود حمروش كلهم دوني كفاءةً.. واتعامل معهم كشركاء
حوار: محمد بوازدية وعابد شارف


يتحدث الاديب الجزائري وطار عن موقفه من تحويل بعض اعماله القصصية للمسرح، حيث يري ان العمل فقد الكثير من حيويته. وصار ميلودراميا وليس تراجيديا. ويدافع وطار عن مستوي اعماله الادبية الاخيرة ويقول انها مقروءة وبشكل كبير في الخارج، وعدم اقبال القاريء الجزائري عليها له علاقة بمواقف الاديب وليس ابداعه. وفي نفس السياق يتحدث وطار عن تجربته في مجال انشاء اذاعات محلية جهوية ويري انها ضرورة هامة لنقل وجهات النظر في الاقاليم. ورد الاتهامات التي وجهت اليه باعتبار محاولاته تساعد علي تقسيم البلاد جهويا وثقافيا. ويقدم وطار اراءه ومواقفه في الجبهة الاسلامية للانقاذ التي يري انها ضيعت فرصة تاريخية هامة. ويستعيد في هذا الاتجاه ذكرياته عن احداث حزيران (يونيو) 1992. وفي هذا السياق يتحدث عن موقف الحكومة من الاحداث، دورها او دور بعض الشخصيات التي يري انها كانت مسؤولة عن تردي الاوضاع في الجزائر.
القدس العربي
من القصة للمسرح

كيف كان رد فعلك وأنت تسمع بتحويل الشهداء يعودون هذا الاسبوع الي مسرحية؟
لم أسمع ان هناك تفاوضا مسبقا اوهناك عقدا من المسرح الوطني الجزائري. أنا أعتبر ان ما أكتبه ملك للناس، يمكن أن يعدلوه وأن يفعلوا به ما يشاؤون اعتبارا بأن عبقريتي توقفت عند انجاز هذا العمل. بعد ذلك يأتي المقتبس، فالمخرج فالممثل فالسينوغرافي ثم صاحب الضوء. تأتي عبقريات أخري لتنجز عملا منفصلا تماما عما انجزتـــه وربما اكثر تطورا عما أنجزته.
ما مدي قرب أو بعد مسرحية الشهداء من روح الطاهر وطار؟
لو اقتبست في ظرف آخر غير ظرف الحزب الواحد والخوف السياسي لكانت ستكون شيئا آخر تماما. في القصة بحد ذاتها أنا اتبعت أسلوب التخفي وراء الموضوع بشخصي، بآرائي بلغتي. لغة بسيطة جعلت فيها الاحداث هي التي تطغي وهي التي تسيطر علي ذهنية القارئ وحتي الكاتب. وهذا ما لم يستطع المقتبس والمخرج الانتباه إليه وانجازه. لا أدري.. ربما بحكم الظروف السياسية فعوضوا الكثير من القضايا التي طرحتها بالبهرجة الموسيقية، بالقلال وصراخ الممثلة صونيا.
وقد عذرتهم في تلك الفترة. قلت: لا يستطيعون أن يطرحوا علي الناس ما طرحته بهذا الشكل في هذه الظروف. ومع ذلك، وأنا أشاهد المسرحية، انفعلت وتأثرت، ولكن كان قد تبين لي أن الخلل في الضوضاء، ملأوا الساحة بالصراخ والبندير.. بالميلودراما إن صح التعبير، وأنا لم أتبع الميلودراما في العمل. العمل تراجيدي وليس ميلودراميا.
اهتم القراء والنقاد بالروايات الاولي للطاهر وطار، وشهرة الروايات الأولي اكثر من اهتمامهم بالروايات الأخيرة. ابتداء بتجربة في اعشق؟
صحيح. ولكن ينبغي أن نعترف ان هناك اهتماما داخل الجزائر وآخر خارج الجزائر. خارج الجزائر أنا محظوظ. لا يمر شهر الا وتصدر مقالة عن كل اعمالي ومقالات رائعة جدا، حتي تلك التي تنتقد تتناول العمل بجدية وانضباط وتنصفني. أما في الجزائر فأنا أخوض معركة ضد مؤسسات. معركة ايديولوجية ومعركة فكرية. معركة مع شباب يميلون الي قتل الأب. فأنا بالنسبة اليهم أقف حجر عثرة في طريقهم. ومع ذلك فالاصداء لدي من قرأوا الشمعة والدهاليز أصداء عظيمة جدا. وهناك كتابات كثيرة في المغرب حيث طبعت ستة آلاف نسخة من الولي الطاهر نفدت كلها في أسابيع.
في مصر طبعت الشمعة والدهاليز مسلسلة في أخبار اليوم ثم طبعت في دار الهلال، ودار الهلال تطبع طباعة واسعة وشعبية.
ولكن في الجزائر لم أجد ناشرا واحدا لا لـ الولي الطاهر ولا لـ الشمعة والدهاليز . دققت كل الابواب. يخافون الطاهر وطار الشيوعي، ويتنكلون في الطاهر وطار الذي لم يناهض الاسلاميين والذي يؤيد فكرة مواصلة انتخابات 1992. فأحس بأنني محاصر ومهمش. وهذا يحدث في الكثير من المسائل. تصوروا أنني أجلس مع وزير في مكتبه وتستمر الجلسة أكثر من ساعتين، فلا يسألني من أين أعيش، من أين آكل، هل أنا في حاجة الي شغل، هل أستطيع أن أقدم له دعما في مجال معين. هل له سلاح. هل يحتاج الي حراسة. اطلاقا.
لا لان هذا الوزير لديه ملف خاص بالطاهر وطار كتبه اخواننا؟

اذاعات جهوية

معروف عنك أنك انشأت عدة قنوات اذاعية متخصصة وجهوية. وفي ذلك الوقت بدأ الانفتاح الاعلامي وطرأت مشكلة لا تزال مطروحة الي الان وهي مشكلة تسريح الذبذبات للسماح للخواص بانشاء قنوات اذاعية خاصة؟ ما هو السبب الذي جعل السلطة لا تسمح بهذا الي حد الان؟
النظرة الاولي تقول ان هذه المحطات غير مربحة بالنسبة للقطاع الخاص. في الجزائر صاحب المال يعطيك مالاً لكن يقول لك لا تذكرني ولا تتكلم عني. ثم ان الازمة التي عصفت بالبلاد من سنة 92 الي اليوم وجعلت البلاد تعيش القوانين الاستثنائية، جعلت الناس لا يطمعون في انشاء مثل هذه المؤسسات.
بالنسبة لي، كان انشاء المحطات الجهوية لسببين: الاول استراتيجي كانشاء المحطات علي الحدود الغربية، تلمسان وبشار وتمنراست. اما تبسة (علي الحدود مع تونس) فكان لي بشأنها رأي آخر. والسبب الثاني هو انه حق اعلامي. نشرات الاخبار لا تستطيع ان تستوعب كل اخبار الوطن، خاصة الاخبار المحلية، اقصد اخبار تمنراست وبشار وسوق اهراس وتبسة وغيرها. فمن الظلم ان تعطي للرأي العام كل الأخبار ولا تعطي للجهويين الأخبار الجهوية. لكن حدث ان هاجموني من كل مكان هجومات عنيفة. قيل عني انني اقسّم البلاد، وقيل ان وطار بصدد خلق نزاعات ونعرات. بالنسبة لمدينتي تبسة وباتنة، كان رأيي أن تكون هناك اذاعة مشتركة بينهما نسميها اذاعة اوراس النمامشة لاشتراك المنطقة في لغة واحدة وعادات واحدة وفي نضال واحد. وكان رأيي أن أنشئ هوائيا واحدا وتكون اذاعة اوراس النمامشة اذاعة الشاوية وتشمل كل المنطقة وليس انشاء هوائي واذاعة كل عشرة كيلومترات. هذا هو التقسيم الفعلي. وانما أن يكون للشمال القسنطيني اذاعة، وعنابة وضواحيها اذاعة، فهذا هو المنطق. انا أحلل وأدرس ولا أسير وفق عواطف أو افكار ارتجالية غير مدروسة. كانت هناك مشكلة في القناة الثانية (بالامازيغية) تركتها فرنسا وتركها المسؤولون الجزائريون ومعظمهم من بلاد القبائل. تركوها ميتة تذيع تسع ساعات علي هوائي لا يتعدي خمسين كيلوواط، فجئت بدراسة معاكسة للدراسة التي انشأت هذه الاذاعة. وطرحت السؤال اذا ما قويت هذه الاذاعة ماذا سيحدث، واذا ظلت هكذا ماذا سيحدث؟ اذا صارت تُسمع في خنشلة وباتنة واريس وتبسة ماذا سيحدث؟ وصلت الي نتيجة انها ستكون اذاعة وطنية، اذاعة كل البربر. وهي الان اذاعة تكرس لغة واحدة ولهجة واحدة من البربرية، وتكرس حتي اغاني ومشاعر استثنائية، وهي فكرة استعمارية قبل ان تكون جزائرية. استغربت كيف لم ينتبه المسؤولون الذين سبقوني الي هذه المأساة، فجعلتها اذاعة وطنية وسرقت من القناة الثالثة (بالفرنسية) ستمئة كيلوواط. وأثار هذا ضجة ولربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلتهم يقيلونني من الاذاعة. كان للقناة الثالثة 2200 كيلوواط، بينما كان لاذاعة القبائل خمسون. والغريب ان مسؤول هذه القناة جاءني يحتج بعد ان قويت قناته ويقول ان القناة الثالثة قد ضعفت وانك زعزعتها، بدل ان يشكرني. هكذا تمكنت في هذه الفترة، وهي عام ونصف العام، من انشاء رواية اسمها الاذاعة الوطارية. وجدت حوالي 350 مترا مربعا فضاء مغلقا فحولته الي ناد.

اخطاء الجبهة

عندما كنت مديرا للاذاعة حدثت احداث حزيران (يونيو) 1991، ثم احداث غريبة عن مدير الاذاعة وعن مدير التلفزيون كما بالنسبة لوزير الداخلية ورئيس الحكومة.. ما هي قراءتك لأحداث حزيران، القراءة السياسية أقصد؟
اعتقد ان من اخطاء الجبهة الاسلامية للانقاذ انسياقها وراء الشباب بدون درس أو تمعن والسقوط في لعبة الاخرين. الأمور غامضة بالنسبة لي، ولكن اشعر بأن الكثير من هذه الأحداث مفتعلة والجماعة في الانقاذ انساقوا اليها انسياقا واخذتهم العزة بالاثم بالقوة، ولم يحسنوا استغلال الفرص. كان بامكانهم الاستيلاء علي الحكم قبل هذا الوقت لو قاموا بالاعتصام في مكان اخر، في المرادية حيث قصر الرئاسة.. لو فاجأوا النظام. انما احداث ساحة أول مايو بالضبط فاستغربتها. علي كل حال انا كنت انظر الي المسألة بعقل. كان تقديري ان هناك حالة جنون تعم البلاد.
اذكر هذه الاحداث واحداث غزو العراق الكويت ايضا. كنت محاطا بكل هذه الاحداث. اذكر انه هناك اضراب نقابة جبهة الانقاذ فجاءت تعليمات غير مباشرة، أي غير صريحة، اقولها للتاريخ، تقول اطردوا المضربين عن العمل. قمت بدراسة صغيرة: هل هؤلاء مهندسون، هل يعطلون العمل في الاذاعة، هل يعطلون البث؟ قالوا لا، انهم بعض عمال ثانويين وبعض كوادر ثانوية وعددهم 12 فردا لا يضرون ولا ينفعون، ويمكن الاستغناء عنهم الي الابد فاتخذت قرارا بمجلس الادارة.
كانوا يتحدثون في مجلس الادارة عن طرد ما يزيد عن 50 عاملا في التلفزيون. اتخذت قرارا وقلت الطاهر وطار الذي كافح طول حياته من اجل العمال لا يسمح لنفسه بطرد عامل واحد بسبب اضراب سياسي فعادوا الي عملهم. عاد المضربون الي العمل من تلقاء انفسهم اعترافا بالجميل.
اذكر انني اتخذت موقفا معاكسا في حرب الخليج ضد الغزو العراقي. جاء 5 سفراء من السعودية والكويت والامارات وغيرها، طلبوا موعدا من مدير التلفزيون فطردهم مدير الاخبار عمار بخوش، قال نحن مع العراق، والله اعلم هذا ما قيل لي.
جاؤوا عندي فاستقبلتهم ولاموا قائلين: انتم منحازون، قلت نحن تحت ضغط الرأي العام ونحن ايضا بشر. ولكن هل لديكم كلام تقولونه؟ قالوا نعم. ونزلوا الي الاستديو وتكلموا كلهم. قلت لهم لا تلوموني ان جاء سفير العراق ورد عليكم. هذا حقه. كنت احلل ولم اكن اسيّر علي هواي. كانت مسألة احللها، ووجدت ان من مصلحة الجزائر الاَّ تتخذ موقفا يعادي خمسة بلدان بترولية لها مثل هذا الوزن. يمكن غدا ان يتصالح هؤلاء الاخوة ونصبح نحن في حيص بيص.

احداث حزيران (يونيو)

الشيء الذي حدث في احداث حزيران (يونيو) ان الامر تأزم بعد اتفاق الحكومة التي كان يرأسها مولود حمروش مع مسؤولي الجبهة الاسلامية للانقاذ علي تحديد ساحات الاعتصام. وبالتالي هذا ما دفع بالاصلاحيين الي القول ان تأزم الوضع في جزيران (يونيو) انما هو انقلاب ضد الاصلاحات؟
قبل استقالة الحكومة بيوم استقبلني وزير الداخلية محمد الصالح محمدي. طلبت هذا الموعد لاطلب اشياء لجمعية الجاحظية. وقال لي بالحرف الواحد ان هناك مؤامرة مدبرة ضد البلاد مشيرا الي الاطراف العسكرية صراحة. انا تحفظت ولكنك اجبرتني علي الكلام، ولكن لنلقل هذا الكلام للتاريخ. اما انا شخصيا فلا علم لي. لا تأتيني تعليمات لا من الرئاسة ولا من الحكومة ولم يكن هناك أيامها وزير للاعلام اطلاقا. وربما التلفزيون كان يهمهم كثيرا. أما الاذاعة فلا تهم احدا. كنا نستقبل يوميا ثلاث أو اربع مرات عباسي مدني. سألني الجنرال العربي بلخير بأسلوب مهذب قائلا انتم تستقبلونه (عباسي) كثيرا. فقلت له أنا وطني وواع بما افعل وهذه المسألة تخصني. اذا كان لكم أحد فأتوا به فاعتذر بلطف، وهذه شهادة للتاريخ. وهو رجل بكل صفة لطيف.انسان مهذب. ولم اشهد وانا مدير للاذاعة أي تدخل. ربما كانوا يحقدون علي وربما كانوا يتكلمون علي باي كلام، ولكن لم يجرؤوا علي التدخل اطلاقا. لا رئيس الحكومة ولا غيره. مصالح الامن في الاخير بدأت تشن حملة ضدي مع عناصر موجودة كما هو الشأن في كل مكان.
ولكن ان اعزل بهذه الطريقه في عهد رئيس الحكومة (سيد احمد) غزالي الذي كان بينه وبيني حساب. غزالي الذي لم اعره اية قيمة ولم اكلمه في التلفون اثناء ازمة صوت الثورة الفلسطينية. حتي انهم عندما عزلوني لم يقولوا ان فلانا عيّن في مكان فلان وانما قالوا ان فلانا عين علي رأس الاذاعة فقط كما لو كان المنصب شاغرا. وانا مسرور بهذا، يعني انني لم اخن ضميري وانا مراقب عام يقف مع الجبهة ولم اخن ضميري وانا مدير عام للاذاعة.
هل كان عندك احساس ان طريقة في الحكم تبدلت. الاصلاحات (السياسية والاقتصادية) توقفت او شيء من هذا القبيل؟
افتح ملفا آخر، ملف الوصاية في الجزائر. عندما يكون المدير العام للاذاعة او التلفزة او المسرح الوطني.. الخ معينا من رئيس الجمهورية أي بمرسوم رئاسي فتأتي الوصاية التي هي الوزارة وتنصب مقابل كل مديرية مديرا لها: مديرا للاخبار ومديرا للصحافة المكتوبة ومديرا للمالية مهتما بالمالية في الاذاعة وهكذا.. وانت لا تتصل بالوزارة اصلا في هذا الشأن وانما تتصل بالمخطط في وزارة المالية ولا صلة لك بالوزارة. مديرية التكوين وانت عندك مديرية التكوين. وتصير كل يوم تدخل من الوصايا في شؤون احيانا تافهة وبسيطة. وانا شخصيا كنت ارفض هذا. وكنت اعيد التيليكسات والفاكسات الي اصحابها واقول هذا يخصني. والتكوين في هذا البلد او ذاك مسألة تخص مسؤول التكوين في الاذاعة وأنا شخصيا لا أتدخل في ذلك. نعم تغير كل شيء وعادت الأمور الي المركزية. وبصراحة، بالنسبة للدولة، الاذاعة فقط هي منصب. يأتون بمدير يضعونه لينال نصيبه من الدنيا ولا يهتمون بالاذاعة اصلا. وهذا شيء سيئ. الاذاعة التي تبث علي عدة قنوات ولغات ومحطات ويمكن ان تصل للمواطن في اية لحظة، بالنسبة اليهم شيء تافه. التلفزيون هو الاهم. وانا حمدت الله اني خرجت في الوقت اللازم، اذ لو بقيت شهرا اخر لتسببت في مشكلة وانقلاب علي النظام والحكم.
الم يكن لك اتصال مع مولود حمروش بعد خروجك من الاذاعة، ولو علي سبيل المجاملة؟
لا. انا يتصل بي شقيق حمروش، محمود وهو صديق قديم. وعندما صرحت يوما أن رئيس حكومة سابق كان يغنجق بالفرنسية وهو لا يحسنها عاداني حتي سي مولود. أنا لم ارتح لمولود حمروش. ولم اكن في يوم من الايام في خدمة احد. ولم اكن في يوم من الايام الا شخصا مستقلا تمام الاستقلالية. كان عندنا في جبهة التحرير اربعة كومندانات وكولونيل وكانوا يغازلونني الواحد تلو الاخر. اترك كل واحد منهم يشبع كلاما ثم اقول له انا في خدمة البلاد فيستاء. انا لا احسن التقرب. ولم اكن ارتاح لمولود حمروش كمحلل سياسي وكرجل يطرح نفسه زعيما مع احترامي له. ولا اعتبر انهم اعطوني الاذاعة هدية او انهم اكرموني. لا، انا استحق اكثر من الاذاعة. وانا اعتبر ان الشاذلي بن جديد والعربي بلخير ومولود حمروش كلهم دوني كفاءةً، وبالتالي اتعامل معهم كشركاء. لم اتقاض أي مليم من الاذاعة حتي لا احرج أو أذل.
بعد سقوط الحكومة في حزيران (يونيو) 1991 واعتقال شيوخ جبهة الانقاذ، عادت الامور وكأنها رجعت الي نصابها. يعني بدأت السلطة تحضر الانتخابات واعلن الاسلاميون انهم يشاركون فيها. هل كنت تشعر كأديب سياسي ان الامور كانت اصطناعية او غير ذلك؟
ما عدا اثناء الحملة الانتخابية، استغربت جولات غزالي وبعض المسؤولين. لفت انتباهي ان هناك امرا يدبّر في الخفاء. اما في الاول فكنت احس بما يجري الان مع مندوبي عروش القبائل، ان هناك اضطرارا واجبارا للسلطة علي سلوك معين، وانها غير متماسكة الي الحد الذي يمكنها من وضع سيناريو بعيد المدي. وما حدث اثناء الحملة الانتخابية ونتيجة الانتخابات غريب، حتي اننا نسمع في القناة الأولي الجزائرية ـ ولم اكن اثناءها مديرا ـ ان هناك نظام حكم معينا سيقوم وان حديثا عن الخلافة، واسمع تونسيا يتحدث عن الخلافة في الجزائر.. الخ. استغربت وقلت ان هذه مؤامرة.
هل كنت متأكدا من نتائج الانتخابات؟
نعم، لان الناس لم ينتخبوا كلهم مع الجبهة الاسلامية للانقاذ. انتخبوا ضد النظام وضد جبهة التحرير الوطني. وانا اعرف اناسا غير متدينين ولا يقيمون الصلاة ولكنهم انتخبوا لصالح الانقاذ. ولو اعيد الانتخاب لما نالت الانقاذ ما نالته لأن الناس استيقظوا.
هل كنت واثقا حقاً من نتيجة الانتخابات؟
لم اكن واثقا. لو ان هناك عقلا لاعيدت الانتخابات بعد ستة أو سبعة اشهر. كان يمكن حل البرلمان واعادة الانتخابات. انما المسألة كلها كانت قصد تغيير نظام الشاذلي بن جديد.
هل كان الخطر يكمن في الجبهة الاسلامية للانقاذ ام في توقيف الانتخابات؟
هو الخطر من استمرار النظام. لو كنا وجها لوجه مع الانقاذ أو جبهة القوي الاشتراكية او أي حزب اخر، لكنا سنواجهه كشعب بوعي وبصيرة. اما ان تواجه الامور بتحايل فلا.
يعني كنا سنتلافي هذا العدد من القتلي والخسائر المادية؟
ما في ذلك شك. علي فرض انفراد الانقاذ بالحكم. هذا افتراض، بينما كان ما يحدث هو ان هناك برلمانا فيه اغلبية وأقلية. ثم اننا لم نستفتَ نحن علي نظام الحكم. نحن اجرينا انتخابات تشريعية وكفي. لو انفرد الانقاذ او غيره فهناك ما يسمي بضرورات الحكم. الجزائر محاطة بعدة دول، بمالي، بالنيجر، بتونس والمغرب وليبيا. الجزائر لا تستطيع ان تشتري قنينة لبن دون ان تمر علي بنك فرنسا. وبالتالي لا يمكن ان يكون في الجزائر نظام حكم بري متوحش. هذا محال. ثم ان طريقة حكم الانقاذ شاهدناها في البلديات. ادخلت اصلاحات ولكنها لم تخرج عن الطور وكان يمكن لرئيس الجمهورية ان يحل البرلمان بعد ستة اشهر أو سبعة ثم تعاد الانتخابات. وكان يمكن ان تجري الامور مثلما جرت في الاردن.. انما توقيف الانتخابات والقاء القبض علي الناس، ولا اقول علي الشيوخ، وارسال 40 الف شاب الي المحتشدات واراقة الدماء وخطف الناس من بيوتهم، هذه عملية انقلابية اخري. بالنسبة لي صندوق النقد الدولي ومصالحه هي المسؤولة عما جري.

الجيش ام المخابرات

هل تعتقد ان المسؤول عما جري في الجزائر هو الجيش ام المخابرات ام المجتمع ام هو نوع من المعارضة السياسية؟
عادة اتجنب الحديث عن المؤسسة العسكرية لانني اخاف منها صراحة. واعرف ان المؤسسة ملفات تتواصل، فيمكن القول ان قادة هذه المؤسسة الذين كانوا مسؤولين ايامها وهم معروفون اخطأوا التقدير، او طلب منهم، للمصلحة العليا للبلاد، اتباع هذا الأسلوب. لان احداث أزمة الموت في الجزائر ـ سهلت، ما نسميه اليوم الاصلاحات الاقتصادية ـ ما كان ممكن اطلاقا ان تنجز لولا هذه الأزمة. وكأنها جاءت من اجل هذا. لقد سهلت هذه الازمة حل الشركات الحكومية وطرد العمال. وبالتالي لا اعتقد أن الأمر قرار جزائري محض.
لكن هناك مسؤولون جزائريون يقولون اليوم انهم هم يتحملون مسؤولية توقيف الانتخابات، ومنهم اللواء خالد نزار في مذكراته؟
نعم، ولكن بأوامر مَنْ وبأفكار مَنْ. هل خالد نزار مفكر؟ خالد نزار عسكري.
هل تغيير الامور في الجزائر: أزمة المديونية، برنامج التسوية الهيكلية، حل الشركات، تسريح العمال..الخ، هل كانت الجزائر بحاجة الي 200 الف قتيل ليحدث هذا التغيير؟
لا، لم تكن حاجة الي هذا اطلاقا. ولكنه سوء التقدير من المسؤولين. سألت مرة مولود حمروش، قلت له هل لمصالحنا واجهزتنا قدرات علي استطلاعات الرأي؟ قال لي لا والله. كنت مرة واقفا مع ضابط مخابرات امام الجاحظية وكنا نتحدث في هذا الموضوع، فقال نحن لم نكن نعرف. قلت لهم انتم لا تعرفون حقيقة الا الشيوعيين لانكم تتابعونهم في الحانات. اما الاسلاميون فتجهلونهم لانكم لا تذهبون الي المساجد.
هل تذكر ان الرئيس الشاذلي بن جديد قال ان دراسات سبر الاراء هي التي غلطتني؟
انا اتهم من استعمل سيد احمد غزالي. غزالي بالذات. هذا الرجل ظهر مرتين في غير موجب: مرة وهو رئيس حكومة. ورئيس الحكومة المفروض ان يكون حياديا، ذهب يقوم بحملة انتخابية لصالح الاحرار ويندد ويشوه صورة جبهة التحرير الوطني. ومرة قام بزيارة الي عين تيموشنت وبني صاف بعد زيارة بوضياف مباشرة. ولا يليق هذا لا بروتوكوليا ولا سياسيا ولا اخلاقيا. وهذا لا يحدث الا كنذير ازمة. بوضياف يخرج من تيموشنت ووهران علي امل ان يذهب الي عنابة فيقوم رئيس الحكومة بزيارة لنفس المكان في زيارة رئاسية بالشرطة والكشافة والعسكر. انا كملاحظ استخلصت ان هذا الانسان هو عبارة عن مأمور وكان طامعا: في الأول ان يقيلوا الشاذلي وينصبوه في مكانه. ولكن الأمر لم يسر كما يشاء. وفي المرة الثانية ان ينصبوه مكان محمد بوضياف. وهذا ما لم يحدث. ومن يدخل في مثل هذه اللعبة بهذه السهولة لا يستحق احترام من يستعملونه.. ولا يثقون فيه. ومن هنا يمكن القول ان كل عملية الانتخابات كانت عبارة عن حركة وهمية لانجاز مشروع ضرب الجبهة الاسلامية للانقاذ والتراجع عن التعددية والديمقراطية والتراجع عن اشياء عديدة.
كيف تري موقف نخبة المجتمع، هل لم يكن في مستوي ما كانت تعيشه البلاد من احداث؟
هذه ازمتي مع ما تسميه النخبة. هذه نخبة من كارتون. نخبة سطحية، بمن في ذلك الماركسيون. انهم مساكين، نخبة لا تفهم المجتمع ولا تفهم التاريخ. ولا تفهم النظرية. نخبة لا تفهم مسارها هي نفسها. نخبة كانت بالامس تعيش الحياة السرية وتصبح اليوم متضامنة مع جلاديها في الغاء عمل منسوب الي الديمقراطية. اكثر من 99 بالمئة من هذه النخبة مفرنسون ويسمون انفسهم حداثيون، بمعني انهم يحبون فرنسا وحياةً بدون عروبة وبدون جزائر. هذه النخبة اخجل ان انتمي اليها. مصطفي الاشرف، وانا كنت اثق فيه وفي كتاباته، وجد نفسه، وهو مفكر، في موقف واحد مع سعيد سعدي ورضا مالك.
اتضح ان الاجهزة الجزائرية تسيطر علي الكثير من العقول وتتحكم فيها. كما لفرنسا ولاحزاب فرنسا دخل فيما يجري في الجزائر.
3

ارسل هذا الخبر الى صديق بالبريد الالكتروني

 الالكتروني

الطاهر وطار: الكاتب والتجربة (الاخيرة)

صبرت وعانيت واحلت علي المعاش وانا في سن السابعة والاربعين باعتباري يساريا
انا مسرور كوني لم اخطئ.. وسأكون شقيا لو قال التاريخ اني عارضت الديمقراطية
حوار: محمد بوازدية وعابد شارف


في الحلقة الاخيرة من هذا الحوار المثير الذي اجرته القدس العربي مع الطاهر وطار، يتحدث عن ازمة النخبة الجزائرية اليوم، وعن معاناته من المؤسسة الجزائرية وقادة جبهة التحرير الوطني. فنظافته جلبت عليه الكثير من المشاكل، وتعرض للاستغلال والضيم مما جلب عليه الكثير من المعاناة التي لم يكن لها اي طائل. ويقدم وطار رؤيته الخاصة حول انهزام الفكر اليساري امام معاول الرأسمالية. وفي نهاية حواره يتحدث وطار بتشاؤم عن مستقبل العرب بشكل عام وموقفهم من المشروع الصهيوني بشكل خاص. وطار في كل الحوار كان صريحا، وقدم اراء واضحة وقد تكون حادة عن العديد من مجايليه او نظرائه، ولكن ما قاله هو في النهاية شهادة علي زمنه وابداعه وكتاباته التي وثق فيها، رسم من داخلها، اعطي عبرها دفقاته الحارة رؤية عن الجزائر التي خرجت من رحم الاستعمار لتقع اسيرة في يد العسكر.
القدس العربي



موقف النخبة الجزائرية

الذي حدث ان هذه النخبة انقسمت الي قسمين: نسبة كبيرة وقفت موقفا هو الاشرف. وقسم اخر هو هذا الموقف الذي تنتمي اليه. هل هذا صحيح؟
هناك النخبة الظاهرة، الصارخة، المتحركة.. هؤلاء موقفهم واضح وكلهم مفرنسون ما عدا واسيني الاعرج ومن دار في فلكه. وهم ايضا مأمورون. هؤلاء كلهم وقفوا مع العسكر وركبوا الدبابة، ووضعوا علي رؤوسهم الخوذات. ونخبة اخري صامتة لم يبق منها سوي الطاهر وطار يتكلم.
هناك اخرون في الخارج مثل حربي والهواري عدي، ألست منهم؟
والله لا اعرف موقف حربي بالضبط. اعرف ان لمحمد ديب نفس الموقف.
هل نستطيع القول انك اقرب الي موقف حسين آيت احمد وعبد الحميد مهري وحتي مولود حمروش من غيرهم.
ما في ذلك شك، وآيت احمد بصفة خاصة في الرؤية للمؤسسة الحاكمة وفي الاجراءات التي يمكن ان تتخذ للخروج من الازمة. انا مسرور كوني لم اخطئ، لاني كنت شقيا اذا ما قال التاريخ ان وطار اتخذ موقفا ضد الديمقراطية.
ما رأيك في الأزمة الحالية ببلاد القبائل، علما انها اول مرة نسمع جزائريين يتكلمون عن تقسيم الجزائر؟
في سنة 1988 ألقيت محاضرة ودعوت فيها اخواننا المعرّبين والمثقفين الجزائريين للانتباه الي المسألة الامازيغية. وقلت بالحرف الواحد: علينا ان نستبق المسألة قبل ان تتحول الي عواطف قومية. هؤلاء يسكنون منطقة جغرافية واحدة، اقتصادهم متشابه، لغتهم المستعملة يوميا واحدة، ملامحهم واحدة. بمفهوم ستالين لمعني القومية، هم يشكلون قومية. هناك تداخل البربر مع باقي الجزائريين. هم موجودون في كل مكان. القبائل ماتوا من اجل الجزائر وليس من اجل تيزي وزو أو عزازقة، فقامت ضدي حملة بشعة تعرضت لشخصي مدة سنتين، في كل يوم تكتب جريدة الشعب في الصباح وجريدة المساء في المساء. ما يحدث الان ليس ازمة القبائل، هو ازمة السلطة، ازمة ضعف السلطة. الشرطة اصبحت اشبه ما تكون بسلطة الحبشة ايام هايلاسي لاسي. هذا ما استخلصه انا، والا فان علي السلطة مسؤولية. اما ان تدرس وضع جهة معينه هذا شيء اخر. ولكن غير مسموح لاي مواطن ان يقول اسحبوا الدرك الوطني او ان يحرق العلم الوطني، ذلك غير مسموح لسلطة تحترم نفسها. هناك اللعب علي تعفين الوضع وعلي لا ادري ماذا. قد يكون هذا علي العبث سلاح ذا حدين.
هل اطلعت علي قائمة مطالب (مدينة) القصر؟
لم اطلع عليها في جملتها، ولكن اعرف ملخصها كما صدر في الصحافة.
هناك من يعتبرها مطالب سياسية لا علاقة لها بالمطلب الامازيغي الضيق، وانما هي مطالب تدافع عن كل الجزائريين وتطالب بفصل السياسي عن العسكري واولوية المدني علي العسكري وخضوع كل الهيئات الامنية للمنتخبين؟
هناك ما عدا قائمة مطالب القصر. هناك ما يجري في بلاد القبائل من بونديتيزم ـ صعلكة ـ، قذف رموز الدولة، اعتراض سبيل المواطنين الذين يعبرون المنطقة وغير ذلك. هذه ليست ازمة القبائل بل هي ازمة السلطة في الجزائر. كما قلت سابقا، لم يكن لنا الوقت الكافي ونحن ننشئ دولة، ان نعالج الامور الحاسمة كلها في وقت واحد. ربما نضطر في يوم من الايام الي نظام فيدرالي. ما هو الاسوأ؟ الاسوأ في كل الحالات هو الا يرفرف العلم الجزائري فوق كل الجزائر. الاسوأ ان تقوم حرب اهلية بين عربي وقبائلي وشاوي وعربي وشاوي وقبائلي.. اما اذا ما دخل العقل وعالج القضايا فلا خوف علي الجزائر. انا اطالب بتغيير السلطة جذريا. الخروج مما اتي به 19 حزيران 1965 الي اليوم. يجب ان نخرج منه نهائيا. ينبغي ان يكون هناك حكم مدني يعالج فيه المنتخبون والمفكرون والمجتمع المدني قضاياه. والاجهزة الاخري تحترم نفسها وتحترم المجتمع المدني وتحترم الشعب.

ان تكون شيوعيا في الجزائر

ما معني ان تكون شيوعيا بالجزائر في تلك الظروف، خاصة كمسؤول في جبهة التحرير الوطني؟
في الستينات والسبعينات والثمانينات، ان تكون يساريا، يعني ان تعاني، خاصة ان تكون في الصف أي ان تكون داخل النظام، مثلما كان الشأن بالنسبة لي.
انا شخصيا تعرضت لصدمات كثيرة. أولا، وقبل كل شيء، كنت اُرسَل لمهمات في الدول العربية ومعي دائما شخصان يكون احدهما مسؤولا عني حتي وان كان دوني مستوي، بينما اُكلف انا بانجاز العمل. اسأل لماذا تختارونني فيجيبون: لانك لا تباع ولا تشتري ولوكنت تباع وتشتري لاشتريناك نحن. هكذا يجيبني محمد الشريف مساعدية مسؤول الحزب آنذاك.
ثانيا ان تمنع من كل ترقية واعتبار في عملك. اذكر انني ذات مرة نجحت وكنت الاول في مؤتمر اتحاد الكتاب فمُنعت من ان اكون الامين العام للاتحاد باعتباري يساري، أي شيوعي . قبل ذلك، كل ما جاء مسؤول جديد داخل جبهة التحرير الا وشتم اليسار والشيوعيين ونظر اليهم بارتياب واشار لهم بأصابع الاتهام. فما عليك الا ان تصبر. اذا كنت ذكيا عليك ان تصفق لتذيب الجليد. وقد حدث لي اكثر من مرة مع قايد أحمد ان صفقت فتراه يستريح وينظر الي اصحابي الذين يوشون بي ويقول: هناك اناس بيض كالحليب وانتم تحمرونهم.
ان تقدم تقريرا في اجتماع رسمي، معلومة عن ان رئيس الاتحاد الفلاني او الفلتاني منحرف يكتب تمائم و يرقي الناس في مقر الحزب فيجيبك محمد الشريف مساعدية بانه خير من الشيوعيين. ان تقترح (مثلا من اتحاد كتاب افريقيا واسيا) لجائزة اللوتس فيتدخل مبعوث الاتحاد الذي هو مبعوث الحزب، وانا مراقب في الحزب، ليقول لا والله ان الجزائر ترشح توفيق الحكيم مثلا. فيعود هذا الممثل ويتبجح بانه اتخذ هذا الموقف. ان يطرح اسمك، مثلا رئيس تحرير لمجلة اللوتس لنيل الجائزة، وعندما يأتي هذا الاقتراح رسميا يجيبهم امين الاتحاد العربي الزبيري بانه يقترح مولود عاشور، فيجاب بان اتحاد افريقيا واسيا اقترح الطاهر وطار لانه معروف في روسيا ومعروف في الجمهوريات الاسيوية ومعروف في العالم العربي. امضي بالحروف الاولي تعاقدا مع التلفزة الجزائرية لانتاج الزلزال انتاجا مشتركا بين الجزائر وسورية، ويأتي مدير الانتاج لطفي لطفي من سورية ونذهب لزيارة قسنطينة ومكان التصوير ونوقع العقد مع احمد بجاوي ايامها، وباسم الحزب، يأمر الامين العام لاتحاد الكتاب، حراث بن جدو ، بان وطار شيوعي فما عليكم الا ان تبحثوا عن احد غيره، وهكذا يذهب الفيلم ادراج الرياح. وغير هذه الامثلة كثير. ولكن لحسن الحظ ان اعصاب الانسان من حديد فلا يهرب الي الخارج ولا ينفعل فيكسر الزجاج ليسقط علي رأسه. لقد صبرت وعانيت. احلت علي المعاش وانا في سن السابعة والاربعين باعتبار انني يساري.
صحيح ان موقف جهاز الحزب من اليساريين كان في فترة ما عدائياً، ولكن في فترة اخري تغيّر واستغلهم لمصلحته وحساباته؟
انا اتكلم عن جبهة التحرير منذ نشوئها الي التعددية او بالاحري الي ازمة الظاهرة الاسلامية، وقبل ذلك تعرفون ان الكثير من الشيوعيين ذُبحوا اثناء الثورة ومنهم العيد العمراني وقد كتبت عنه رواية اللاز .

تفسيري لنهاية الشيوعية

موقف بومدين من الشيوعيين كان كذلك عدائيا، ولكنه استغلهم هو الاخر ليقيم بهم توازنا معينا؟
لا. بعد تأزم الوضع عليه وبعد ان اعلن الاصلاح الزراعي، أي ما سمي الثورة الزراعية. الثورة الزراعية كانت دائما مطلبا من مطالب اليسار. وكانت اللجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني اقرت هذا المشروع في سنة 1964 او 1965 علي ما اذكر، وهو مشروع قديم جاء في ميثاق طرابلس وتراجع عنه انقلاب هواري بومدين علي بن بله. وبعد ضغط كبير، عندما لم يجد بومدين مهربا، قرر الاصلاح الزراعي وسماه الثورة الزراعية. الحزب تحت قيادة قايد احمد ضد الاصلاح، الكوادر ضده. لم يبق لهواري بومدين سوي اليسار يتكئ عليه ويستعين بالطلبة ليخرجوا الي الفلاحين متطوعين ليس اكثر. وبومدين نفسه استعمل لاول مرة الاخوان اليساريين الاخوان الشيوعيين. وكان ايامها في المنافي والاقامة الجبرية وفي السجون الكثير من المناضلين ومنهم بشير حاج علي وحربي ومحمد زهوان. لاحقا اطلق سراحهم وجعل البعض منهم يدخل ولايات اخري ممنوعة عنهم. ويقول بالحرف نحن مع الفلاحين، وهو يعلم ان الفلاحين لا يستطيعون ان يكونوا يساريين.
كيف كانت علاقتك بحزب الطليعة الاشتراكية (الشيوعي)، هل كنت منخرطا في صفوفه؟
جماعة الطليعة كانوا اصدقائي. وسؤال الهيكلة في الحزب لم يحن تاريخيا الاجابة عنه، ولكن اؤكد انني ناضلت في حركة المقاومة الشعبية نضالا صامدا.
هل كان كل المناضلين من اليسار؟
لا، كان فيهم من لم تكن له علاقة باليسار.
من هو اليساري الذي كان اقرب لك من الناحية الفكرية والادبية؟
انا لا يهمني الزعماء. انا تعرفت علي ماركس من خلال نقاده، من خلال نقد الماركسية.
هل قرأت كتاب رأس المال ؟
قرأته، ولكن رأس المال لا يقرأ وانما يدرّس في الاكاديميات والخلايا، وانا لم ادرس هذا في الخلايا. وعرفت القيمة وفائض القيمة من الامريكيين الذين كانوا يسبونها. بالنسبة للكتّاب السوفييت والروس، كنت احس بالقرب من امثال مكسيم غوركي وشولوخوف وتشيخوف وكل هؤلاء.
ومن هم الكتاب والزعماء الذين كانت لهم تفسيرات اعتبرت رسميا مارقة مثل تروتسكي وغرامشي؟
لا يوجد قول كثير عن التروتسكية والتشيغيفارية. انا افسر هزيمة الاشتراكية في البلدان الاشتراكية ليس ببيروقراطية الاحزاب ولكن اعيد هذا الي الامكانيات الضخمة التي كانت تتوافر عليها الرأسمالية، ومن ناحية اخري ما كانت تمثله الكثير من الدول النامية من عالة علي العالم الاشتراكي، فبقي الاتحاد السوفييتي وحده وتقلصت مقولة لينين عن الدولة المنطلق. علي عكس ما كان يدعو اليه تروتسكي وهو الثورة الدائمة في جميع انحاء العالم، فالامكانيات التكنولوجية للدول الرأسمالية تطورت بشكل لم يكن في الحسبان، ولم يكن في استطاعة الاشتراكية ان تفعل أي شيء.
وهناك ايضا الحصار، بل والحرب الدموية التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية، حرب مات فيها ثمانية ملايين في اندونيسيا ومات فيها ناس من باكستان، حرب تساهم فيها حتي السعودية لمنع الحزب الشيوعي في ايطاليا بحيث خصصت ايامها 45 مليون دولار حتي لا ينتصر الحزب الشيوعي، هناك الحرب التي لم تتوقف في الهند الصينية... كل هذا جعل الاشتراكية لا تستطيع ان تتخطي حاجز ما قبل الثورة التقنية الي عهد الثورة التقنية. فعدنا من جديد الي دورة الرأسمالية.
هل هذا هو تفسيرك لخروج الدولة اليسارية من التاريخ؟
نعم، هذا هو تفسيري.
والاشتراكية؟
وجهة نظر كارل ماركس وهي ان الاشتراكية هي العلم وهي التطور، هي ادخال المعرفة في كل شيء. وهذا رأي لينين ايضا. ولكن المعركة ايضا ستظل والدائرة ستدور. لا يمكن ان تبقي الرأسمالية وحدها في العالم. ساعتها سيكون موتها انتحارا ذاتيا. وانا اتوقع هذا الانتحار. ولعل بوادر الشراسة الامريكية في الفترة الأخيرة دليل علي ذلك.
هذا العالم يموت فيه سنويا اكثر من ثلاثين مليون شخص جوعا، ما معني ان نكون اشتراكيين في هذا العالم؟
الاشتراكية، كما افهمها، انا كفنان وكأديب ومبدع وكسياسي، ليست نظرية تمليك وسائل الانتاج للعمال والتوزيع العادل للثروة. هي ما قبل ذلك، هي العدل بين البشرية منذ نشأتها. والرأسمالية في جوهرها هي امتلاك القليل للكثير وفقدان الكثير حتي للقليل. والانسان حيوان وكائن اناني مثله مثل أي حيوان اخر. كائن يطغي علي من حوله ويستعمل قوته ليستولي علي مقومات الحياة للاخر. الشجرة الكبيرة تستولي علي ما لدي الشجرة الصغيرة. والحيوان الشرس يستولي علي الحيوان الضعيف. ودور الاشتراكية والديانات هو كبح جماح هذا الكائن الاناني. الديانات السماوية تدعو الي ما هو احسن وبدون تنظيم، بينما الاشتراكية انما ترجمة لما جاء في احلام ومطامح الخلاقيين عبر التاريخ. وهي تنظيم بالحزب او الدولة. في ظل هذا التناقض الموجود لا يمكن ان يقوم مجتمع عادل دون بداية الانسانية من الصفر. لو ان الاتحاد السوفييتي لم يخض الحرب العالمية الاولي والثانية ولا كذا وكذا من احداث وحروب وامتلك ما امتلك من امكانات الولايات المتحدة الامريكية، لما جرت الامور كما جرت عليه. الرأسمالية مغرية والانانية باستمرار مغرية. ويبدو لي ان علي الاشتراكية مهمة كبيرة وهي تحطيم الرأسمالية واعادة بنائها من جديد.
الولايات المتحدة الامريكية تفرض علي العالم اراءها وقراراتها ومنهجها بقوة السلاح وبقوة الايديولوجيا وبقوة المؤسسات الدولية. هل الطاهر وطار اليساري متفائل بمستقبل الانسانية في ظل هكذا صورة؟
الولايات المتحدة الامريكية استعانت بالخونة والاساتذة وبالفلاحين المتخلفين ذهنيا. استعانت بكل الشرائح والمغريات وخاضت حربا حقيقية. ولا نقول الولايات المتحدة فقط، بل فرنسا في عصر ما وبريطانيا وتل أبيب. الولايات المتحدة هي قائدة هؤلاء ضد ايديولوجية الجماعة. بقي لهم الان الاسلام وهو دين الجماعة. وهكذا كانت السوريالية وكانت التجريدية وحتي الوجودية تدخل في هذا الاطار. اما كوني متفائلا او لا فانا اؤمن بحقيقة ابدية وهي ان التاريخ لا يعود الي الوراء. يتعطل ويتوقف قليلا ويدور حول نفسه، ولكن ينطلق الي الامام باستمرار. ما حدث في العالم ويحدث الان هو تمهيد لمرحلة قادمة. انا اعرف انه مهما بلغ طغيان الطاغية ومهما كانت شراسته، فان البشرية ستتغلب عليه وستضع لها حدا وستصنع افاقا زاهرة لمستقبلها. لو سألنا أي عامل في معامل النسيج في القرن الماضي هل انت متفائل، لا ندري ماذا كان سيجيبنا. نحن الان في ذلك الوضع، ولكن نري ان هذا الاضطهاد لم يدم في التاريخ اكثر من فترته الحتمية.
لما انهار الاتحاد السوفييتي طفقت الاحادية القطبية تخلق عدوا هو الصين والاسلام كذلك، وبدأ المفكرون الأمريكيون يتكلمون عن صراع الحضارات. هل تؤمن بصراع الحضارات وما يقال من حوله؟
هذا وهم. كون الولايات المتحدة كانت في حاجة الي الاتحاد السوفييتي او طرف اخر. لدي مخططي الرأسمالية استراتيجية وآفاق بعيدة المدي وهي الان تتعطل. وقبل انهيار الاتحاد السوفييتي كانت هناك سيناريوهات ماذا سنفعل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ؟ ما كنا سنفعل لو لم يكن هناك اتحاد سوفييتي؟ اما الحديث عن صراعات الحضارات، فهذه من تفكهات الفلاسفة والمتحذلقين. السؤال الحقيقي ماذا يريد صاحب الشركة متعددة الجنسيات؟ الي ماذا يطمح؟ يطمح الي ان يبيع سلعته في جميع انحاء العالم بدون جمارك وبدون رقابة وبدون مزاحمة. اما كون هذا المصنع امريكي او ياباني فلا يهم. وقلت في السابق ان هذا نموذج يتمناه اليهود والصهاينة منذ وجدوا. ازدهار المال. الاسلام عائق كونه يعطل الاستهلاك ولا يساهم في خلق مجتمعات استهلاكية. صلح (الاسلام) لمقاومة الشيوعية باعتباره ايديولوجية توحيدية والماركسية شاع عنها، عن حق وعن باطل، تبجح منظريها بالالحاد ونكران الله، بينما القضية الاساسية ليست قضيتهم، وهي قضية الاستغلال والصراع الطبقي وليس الامام في المسجد او المصلي في الجامع.
ما يلحق المسلمين الان من اذي مما كسبت ايديهم وانما هي دعوة مجيب الرحمن والعيد العمراني وعبد الخالق محجوب وكل الذين ماتوا علي يد الحكام. الحكام العرب والمسلمين يستعملون الاسلام لاضطهاد غيرهم وينالون اليوم الجزاء. اردوا عالما ليس فيه غيرهم فاذا بهم اليوم لوحدهم خدما عند الامريكيين.
وسبب انحطاط العالم العربي، هل يمكن ترتيبه في هذا السياق، ام هل يعود الي الاستعمار ام الي وجود البترول ام الي شيء اخر؟

عالم العرب مجرد قبائل وعروش

انا لا اعترف بانحطاط العالم العربي. العالم العربي يعيش حقيقته، وحقيقته هي انه اصلا متخلف. مجموعة من القبائل ما ان بدأ العصر الحديث يتيح للانسانية كلها ان تتقدم حتي فوجئوا بقوة من الغرب تسيطر عليهم وتساعد علي تخلفهم وتشتيتهم وعلي تقسيمهم. والان هناك امكانية دخول التاريخ ولكن ليس بهذه السهولة. يمكن ان تدخل مجموعة من المثقفين ومن النخبة ومن الحكام او مجموعة من العساكر يتدربون علي قيادة الطائرات واطلاق الصواريخ... ولكن هذا لا يعني ان هذه الشعوب او ان هذه الامة خرجت من التاريخ ودخلت فترة تاريخية اخري. لا، التقدم عند الأمم هو تقدم جماعي، تقدم حضاري يشمل جميع المتساكنين في منطقة معينة. العالم العربي يعاني منذ نشأته انعكاسات جغرافية وهي كونه بيئة صحراوية تفرض عليه التكتلات الضيقة المحدودة. تفرض عليه القبلية والعروشية والخوف علي المنطقة الواحدة. وتفرض عليه التنقل ايضا. وتفرض عليه ان لا يحس احساس الوطنية. يفكر فقط في الجماعة التي قد تنزح من هذه الجهة الي الجهة الاخري اذا شحت الارض وقل الكلأ. وهذا يحتم عليها ان تستعمل القوة للاستيلاء علي مناطق سكان اخرين. هذا ما حدث ويحدث بشكل او بآخر. مرة كنت في سفارة عربية هي سفارة العراق فوجدت نفسي في منتهي الحرج. حضرت الي هذه السفارة لأخذ كمية من مجموعتي القصصية الاولي الشهداء يعودون هذا الاسبوع وقد طبعت في بغداد. كنت محرجا كيساري وكان العراقيون ايامها يضطهدون اليساريين، وكمسؤول في جبهة التحرير الوطني وهؤلاء بعثيون قلت انهم سيأكلونني. ما ان بُلْغ سعادة السفير بقدومي حتي طلبني فقال لي انا من تكريت ابن بلد حسن البكر رئيس الجمهورية. فضحكت وقلت بيني وبين نفسي هذا بعثي ولم يُرسَل حتي غربَلتْه خلايا البعث وغربله الفلاسفة.. قلت كما قال ابو حنيفة: الان حق لابي حنيفة ان يمد رجليه.
تحدث الان بأرض فلسطين احداث رهيبة. هل هي اخر مرحلة قبل الزوال التام للصهيونية ام هي بداية التمكن التام لهذا الجسم الغريب في قلب العالم العربي؟
انا متشائم جدا. اذا سلم اليهود، ولا اقول الصهيونية، بوجود دولة بجنبهم لها امتداد في الداخل وتكون دولة مساوية ولها الاف وملايين اللاجئين ينتظرون العودة، فاعتقد انهم لن يكونوا يهودا في هذه الحالة. سيكونون يهودا منحرفين.
كنا نأمل ان يقوم العرب بهجمة مغتنمين فرصة تشتت الجيش الاسرائيلي في الاراضي المحتلة. يقومون بهجمة بالطيران في الفجر وبحطمون كل مقومات اسرائيل التي هي الطيران والصواريخ. العرب يملكون ما يقرب من مليون طائرة. يضربونها في الصباح الباكر وماذا سيحدث؟ ستحتج امريكا وقد تضرب مكانا ما بقنبلة ما ثم ينتهي الأمر. لا يمكنها ان تقتل 200 مليون عربي. وحتي اسرائيل لا تستطيع الضرب بالصواريخ النووية لأنها لا تملك عمقا استراتيجيا يقيها الضربات التي تنطلق من عندها. هذه فرصة العرب الاخيرة.


بطاقة شخصية

ولد الطاهر وطار في 15 اب (اغسطس) سنة 1939 بضواحي مدينة سدراتة بولاية سوق اهراس باقصي الشرق الجزائري.
تلقي نصيبا من التعليم الابتدائي والثانوي بمدرسة قرية مداوروش التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ثم بمعهد عبد الحميد ابن باديس بمدينة قسنطينة ثم بجامع الزيتونة بتونس. ولكنه يحب ان يقول عن نفسه انه عصامي، ذلك انه لم يتلق تعليما جامعيا او اكاديميا.
التحق بالعمل الثوري في صفوف جبهة التحرير الوطني سنة 1956، بعد عامين من انطلاق حرب الاستقلال.
وفي سنة 1962 أسس جريدة الاحرار ، وهي اسبوعية سياسية اوقفتها السلطة بعد سبعة اشهر من الصدور.
انتقل بعدها من قسنطينة الي العاصمة واعاد اصدارها بعنوان الجماهير ولكنها ما لبثت ان اوقفت بدورها.
عمل من سنة 1963 الي 1983 بحزب جبهة التحرير الوطني (الحزب الواحد) كاطار سام ثم احيل علي التقاعد في منتصف الثمانينات وهو لم يتجاوز السابعة والاربعين.
ألف حتي الان ثماني روايات وثلاث مجموعات قصصية ومسرحيتين هي، حسب الترتيب الزمني لصدورها.

الروايات:
اللاز ، الزلزال ، الحوات والقصر ، رمانة ، عرس بغل ، العشق والموت في الزمن الحراشي ، تجربة في العشق ، الشمعة والدهاليز ، الولي الطاهر يعود الي مقامه الزكي .

القصص:
دخان من قلبي ، الطعنات ، الشهداء يعودون هذا الاسبوع .

المسرحيات:
الهارب ، علي الضفة الاخري .

ترجمت بعض اعماله الي حوالي عشر لغات اهمها الروسية والانكليزية والالمانية والفرنسية والبرتغالية والفيتنامية واليونانية والاوزبكية والاذرية والعبرية.
وحولت بعض اعماله الي انتاجات سينمائية ومسرحية.
وطار متزوج وله بنت واحدة ويرأس جمعية الجاحظية الثقافية منذ 1989.
3