الشمعة والدهاليز
رواية 1995
الإهداء: إلى روح
الشاعر والباحث يوسف سبتي الذي كان يتنبأ بكل ما يجري قبل حدوثه.
ط.و.
قبل أن أدع القارئ يلج
الدهاليز التي وجدتني أخرج منها بعد انتهائي من كتابة هذه الرواية, أود أن أبدي
بعض ملاحظات, أرى ضرورتها.
أولا :
استعنت ببعض خصائص ومميزات
شخصية لأصدقائي ومعارفي في وضع شخوص الرواية, ولكن هذا لا يعني أبدا أنني كتبت
سيرة أحدهم.
لقد اكتفيت بما تجلى من
مأساوية وملحمية في هذا الشخص أو ذاك, انطلاقا مما وقفت عليه من ملاحظات ولم
يساررني أحد بدخائله.
ثانيا :
على خلاف باقي رواياتي, في
هذا العمل, لم أستطع الالتزام حتى بجزء من المخطط الذي وضعته له.
وجدتني أخضع لجدلية العلاقة
بين الشكل والمضمون, فما إن تبلورت الأحداث في ذهني, حتى وجدتني في دهليز يفضي إلى
دهاليز, سواء أكانت وقائع, أو حالات نفسية , أو ما يثيره كل ذلك من أبعاد متممة.
ولربما اضطررت في الأخير, أن
أحد من مساحة هذا الدهليز أو ذاك, تخفيفا على بعض القراء, فوضعتها في شكل لوحات,
مفصولة بنجمات, أشعر أحيانا كثيرة أنها مقحمة.
ثالثا :
الزمن ليس زمنا تاريخيا
متسلسلا, أو ممنطقا ومحسوبا. إنه زمن أهل الكهف, زمن التذكر , والتنقل من هذه
اللحظة, إلى تلكم, ومن هذه الواقعة إلى تلك. ولقد تعمدت حينا واضطررت حينا آخر,
إلى طي الزمن, وجعله وقتا حلميا, يقع في مناطق مظلمة ومناطق مضاءة, مناطق واعية
ومناطق موهومة, الإحساس بها يغلب طولها أو قصرها.
إذا كان هناك تاريخ حقيقي
يمكن أن أصرح به, فهو هذا الذي سيكتشفه القارئ الكريم.
وقائع الشمعة والدهاليز,
الروائية تجري قبل انتخابات 92 التي خلقت ظروفا أخرى لا تعني الرواية في هدفها
الذي هو التعرف على أسباب الأزمة وليس على وقائعها وإن كنت وظفت بعضها.
ها إنني لا أستطيع لحاق ما
يجري في الجزائر, لا لشيء آخر, إلا لأنني جزء لا يتجزأ من هذا التاريخ, أؤثر فيه
وأتأثر به, وأبذل كل عمري محاولا فهمه.
لعل هذا هو المهم.
الطاهر
وطار
إنما إبليس رفض الاعتراف
بالتعددية, فتشبث بأن لا
يسجد لغير الواحد. وبذلك
أعطى للصفر قيمة تضاهي
قيمة الواحد, بل أكثر من
ذلك, جعل الواحد يفقد
قيمته إذا انعدم الصفر
وتحول كل ما عدا الواحد إلى
صفر, وكل ما عدا الصفر
إلى واحد.
ط.و.
دهليز الدهاليز
استيقظ الشاعر مرعوبا, على أصوات تمزق
سكون الليل المجروح بالأنوار المنبثة في الشوارع, متفاوتة القوة والتقارب من شارع
لآخر.
تساءل بصوت عال, رغم وثوقه من أنه لا
يوجه سؤال لأي شخص آخر غيره, ذلك أنه وبكل بساطة, لا يشاركه أحد في سكنه الكبير
هذا, وذلك منذ منح له, كسكن وظيفي, من طرف المعهد الذي يدرس فيه.
لم تكن الأصوات لمدافع, لا ولا حتى
لدبابات ومجنزرات كما جرت العادة, منذ سنتين أو يزيد.
إنه هدير بشري, قوي, يشبه ذلكم الهدير,
الذي ينبعث من التلفزة, خلال كل عيد حيث تعرض الصلاة, من البيت الحرام. إلا أن
هناك نشازا, بينا, مصدره أصوات منبهات السيارات, تنطلق في إيقاع الهدير البشري
نفسه تقريبا.
أصاخ السمع لحظات, ثم نهض وشق النافذة
المشرفة على الشارع, وراح يطل من الفرجة الصغيرة, يستوضح ماذا هناك, بالطريقة
نفسها التي تعود اتباعها كلما سمع منبه سيارة يتكرر أكثر من مرة, ذلك أنه الوحيد
من ضمن الجيران الذي لا منفذ لداره, سوى الباب الخارجي, ولا طريقة أخرى يعلن فيها
زواره القلائل جدا, عن تواجدهم الخجل, ينتظرون استقباله لهم.
استقبال بين قوسين ضيقين جدا.
إنها طقوس الشاعر, تكاد تتحول, إلى
حركات تعبدية, يستلذ ويستطيب أداءها, ويشعر بالزهو, وهو يؤديها. ذاته تتحقق من
خلالها, وضميره يستريح ويتطهر, حسب الصورة التي رسمها لنفسه, منذ أمد بعيد :
أنا هذا المجرم الذي تتمثل جريمته في
فهم الكون على حقيقته, وفي فهم ما يجري حوله قبل حدوثه, أتحول إلى دهليز مظلم
متعدد الجوانب والسراديب والأغوار, لا يقتحمه مقتحم, مهما حاول, وهذا عقاب, لجميع
الآخرين, على تفاهتهم.
على تفاهة اللعبة في يد اللعب.
أكون أحد أضرحة بني أجدار بتاهرت :
"عندما يدخل الداخل من الدهليز يجد قبالته ثلاث قاعات مفصول بعضها عن بعض,
بدهليز طوله بضعة أمتار ويتفرع من أولى هذه القاعات عن اليمين وعن اليسار دهليزان
متشابهان يفضيان إلى هيكل ثان متركب بدوره من خمس قاعات تربط بينها دهاليز, وتحيط
بالهيكل الأول الذي يحيط به بدوره هيكل ثالث دهاليز تنطلق من مدخل الضريح, ويشتمل
على ثماني قاعات كبيرة وأربع صغيرة كائنة بالأركان ويربط بينها دهاليز."
الأصوات تتعالى, غامضة مبهمة الكلمات,
لكنها واضحة اللحن.
نعم.
اللحن يعرفه جيدا, كما يعرفه الشعب
الجزائري كله, فقد ظل طيلة هذه السنوات, ينبعث, من كل ساحات الجزائر, من آلاف
الحناجر, التي أصحابها في حالة وًًٌٌُُِدر صوفي متناه يقف الباحث النفسي
والاجتماعي, تجاهه محتارا, يتساءل, أية نار حامية, غلت فوقها, عواطف هؤلاء الشباب,
وهل في هذا العصر, المتميز بالفردانية والانعزالية, والنفعية, يمكن العثور على حشد,
مضبوط على موجة واحدة, وعلى درجة حرارية واحدة, إلى هذا القدر والحد, ضبطا آليا
راقيا جدا ؟
هذا العصر, قدر الشاعر ومعه علماء
اجتماع عديدون كما يعتقد, من خلال تصريحاته في مناسبات مختلفة, دهليز كبير. ورغم
ما نعتقده من أنه منار, بشتى أنواع المعرفة, فإنه مظلم, مظلم, وغامض.
غامض مخيف.
ذلك أن القضايا كلها فيه, تحضر في الآن
الواحد, وتشكل ما يشبه زوبعة متواصلة, تطلسم كلما ازداد إلحاحنا على تأملها, لأنها
لم تعد كما كانت هذه السنوات, قضايا عامة كلية.
إنها تفاصيل التفاصيل,
ادخل القضية, أو المسألة الواحدة, حيث
ملايين, إن لم تكن ملايير القضايا, دون تحليلها والوقوف عليها كلها, لا تجد بابا
في دهليز القضية التي أنت بصدد اقتحامها. بل إن سراديب, تنفتح أمامك, فتروح تنزل
مدفوعا بقوة ما لا تدري ماهيتها, وكلما اقتحمت سردابا, وجدت نفسك في دهليز آخر,
ينفتح على سراديب, تمتصك, فتنزل, وتنزل, لا إلى مكان, بل إلى دهاليز, وسراديب
ممتصة أخرى.
ضريح آجداري, مهمل.
لقد عرف الشاعر هذا, وعرف أنه لا مطمح
له, لاقتحام هذه الدهاليز والسراديب, ويكفيه أنه أدرك أن قومه, ومعظم الأقوام
المحيطين بقومه في ما يسمى بالعالم الثالث أو النامي, أغنام, إن حاولوا اقتحام
الدهليز, تاهوا إلى أبد الآبدين.. ولأنهم لم يدركوا هذه الحقيقة, ولا هم حاولوا
إدراكها, فقد عاقبهم, بأن تحول هو نفسه, إلى دهليز, لسراديب لا متناهية العدد
والغور.
لم لا, ونحن نمتص, كما لو أننا قش هشيم وسط زوبعة متواصلة.
وقد صارح أحدهم عند مدخل مسجد بهذا,
فأجابه على الفور. مثنيا على رأيه بأنه لهذا السبب, ولغرض تجاوز محنة الظلموت.
ينبغي قيام الدولة الإسلامية. الإسلام هو الشمعة الوحيدة القادرة على إنارة كل
الدهاليز والسراديب.
الإنسانية في ظلمها الأخيرة, والظلم
أيها الأخ الكريم, هي الليالي الثلاث الأخيرة من القمر –وشمعتها الوحيدة, في
انتظار إهلال الهلال من جديد, هي الإسلام. إذا قامت دولته, هنا, فستقوم, في كامل
المنطقة, وسيكتشف الناس في مختلف أنحاء العالم, أن الطمأنينة وسط الدهاليز
والسراديب, كما تقول, هي الاستنارة بنور الله. نور السماوات والأرض, مثل نوره,
كمشكاة فيها مصباح, المصباح في
زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دريُ يوقد من شجرة مباركة, زيتونة لا شرقية ولا غربية
يكاد زيتها يضيء.
اسمع أيها الأخ الكريم, إن علماءنا
يفسرون الشجرة المباركة التي ليست بالشرقية ولا بالغربية, بأنها الجزائر. بلدنا
العزيز هذا الذي ليس شرقيا ولا غربيا, سواء من الناحية الجغرافية, أو من الناحية
الثقافية والحضارية. الجزائر شمال, بالنسبة لمالي والنيجر والدول الإسلامية
الإفريقية, وهي مغرب أوسط بالنسبة للدول الإسلامية الشرقية, وهي جنوب, بالنسبة
للدول المسيحية. وهي شرق بالنسبة للمغرب الأقصى.
تقبل الشاعر الرأي القاطع هذا, بكثير من
الحذر, ولو لم يكن فيه تأييد صريح لمقولته لرفضها, بطريقته الخاصة, بالعودة إلى
الحديث عن رأي آخر يضعه جانبا, خارج المحاضرات التي يلقيها, في مناسبات كثيرة,
والمتمثل في "السيد والمسود, والإنسان المفترس, والإنسان المزارع, والإنسان
الحداد, ثم الإنسان الآلي."
هذا الذي خلق الدهاليز, وجعل الأبواب,
تنفتح على السراديب.
الله نور السماوات جائز, بل, ولربما
واجب, وحتى إذا ما لم يكن المرء مؤمنا, فبالإمكان التأويل, فالنور في أول الأمر
وآخره, ليس سوى مادة, وبها, بهذه المادة يسود الإنسان الآلي, على الكون, وعلى غيره
من البشر.
أعاد إغلاق النافذة, وقرر أن ينزل إلى
المدينة, أو بالأحرى أن يتتبع مصدر الأصوات, ليعرف ماذا هناك. ماذا يجري بالضبط.
فالمسألة مهما كان الأمر, تعنيه, منذ قرر أن ينغمر, ويخوض مع الخائضين, بسببها,
حبيبة الروح, شمعة دهليزه, الشمعة الوحيدة, التي انبثق نورها في دهليزه, والتي
يتمنى أن لا تنطفئ, والتي وثق من أن نورها أقوى من جميع الأنوار, ذلك, أنها من
نوره هو, نور السمات والأرض.
وها هو الضريح المنغلق منذ أزمان, ينفتح
ليدب فيه النور والنبض.
لم يكلف نفسه التثبت من الوقت, فذلك
يكلفه الخروج عن طقوسه, وإيقاد النور, ثم إنه لا داعي إلى ذلك في هذه اللحظات, فما
يهم هو معرفة ما يجري في الخارج, ثم إنه, وهو هناك, قد يسأل أحدهم عن الوقت, وقد
يستخرج ساعته الجيبية, تحت نور مصباح قوي, ويتعرف على الوقت.
هذا إذا كانت هنالك ضرورة فعلية لذلك.
-بالتأكيد, إن زمن ما يحدث حاليا, ابتدأ
قبل الآن, ولربما قبل الليلة...زمن ما يجري في المدينة, وثبة طويلة شرع فيها منذ
وقت بعيد, وما يحصل, هو بلوغ الطرف الآخر من الهوة.
إنه وقع قدمي الواثب.
والمهم, هو زمن الوثوب, وليس زمن
النزول. فما ذاك سوى محصلة لإرادة نفذت.
ظل الشاعر, يقرر في نفسه, بصيغ مختلفة,
وهو ينزل الدرج في الظلمة, ويتخطى إطارات عجلات السيارة التي تركها قريبه الوصي
عليه, عنده, لتنشف قبل أن يستعملها, ولم يجد ضرورة لإزالتها, من الطريق, فما دامت
مؤقتة, وما دام المرء بإمكانه المرور, دون الوقوع, خاصة, وأن القدم التي تروح
وتغدو, محدودة جدا. فما الداعي لإضاعة الوقت في الاهتمام بها.
فتح الباب, فداهمه نور خافت, من أنبوبة
بعيدة تركها أحد الجيران, لسبب ما, متقدة. سحب الباب خلفه بقوة, وانحنى يغلق أولا
القفل السفلي, ثم رفع قامته قليلا, وعالج القفل الأوسط, ثم صعد الدرج وتطاول وأغلق
القفل الأعلى، ونزل يقطع المسافة القليلة بين باب الدار, وباب الحديقة الصغيرة
المهملة من جميع الوجوه, كان بابها دون قفل, وكان يكتفي بإغلاقه, أحيانا بسلك
وأحيانا أخرى بخيط صبار, وأحيانا بحجيرة صغيرة يسندها في الأسفل, والحق أنه لا
ضرورة للقفل ولا حتى للباب, ذلك أن سياج الحديقة, إذا صحت تسميته بالسياج, يمكن أي
واحد من اقتحامه, من جميع جهاته, والحديقة, لا غرس فيها سوى شجرة واحدة برية, لم
يهتم أحد بها ليعرف اسمها أو ليعطيها اسما, أما الأرض فهي البور الحقيقية المتجسدة
لمن لا يعرفها.
أزاح السلك, ثم أعاده مع ذلك, كأنما في
هذه الليلة بالذات, شعر بضرورة الائتمان على داره.
ألقى النظر, على الجيران الذين يحتلون
الجزأين السفليين الأيمن والأيسر, بالنسبة إليه وهو داخل أو خارج, والذين لا يعرف
أسماءهم, ولا عدد أفراد أسرهم, ولا ماذا يفعلون في هذه الحياة.
لم يرد على تحية أحدهم, ولم يقل لأحدهم
في يوم من الأيام السلام عليكم, أو صباح الخير, أو مساء الخير, لقد أعتبرهم من أول
يوم, ممن ينبغي أن يشملهم العقاب, بالتدهلز التام. تجاهلهم.
هم بدورهم, اهتموا بأمره قليلا, في أول
الأمر, ثم محوه من قائمة الموجودين في المنطقة, فلم يدعوه مرة لعرس أو حفل ولم
يقدموا له طبق حلوى في عيد من الأعياد التي يحلو له أن يقضيها في الداخل والنوافذ
جميعها مغلقة. ولولا ما يثور في نفوسهم من حسد, أو بالأصح من تمن مشروع, لما كان
لوجوده بينهم أي وجود.
هذا السكن المكون من طابق كامل لفيلة
كبيرة, محتكر من قبل شخص واحد, بينما هم يقتسمون الطابق السفلي, وعددهم يتكاثر
يوما بعد يوم, حتى إن بعضهم تجرأ يوما, فاقترح بطريقة غير مباشرة وبعيدة عن جميع
الشبهات, التصفية الجسدية لهذا المخلوق, وكان رد أحدهم أيضا, بالأسلوب التلميحي نفسه, بأن الدار, ستحتل من طرف
غيرهم, أحبوا ذلك أم كرهوه.
إنها ملك للمعهد, وسيمنحها لأستاذ آخر,
والأفضل لهم أن يحتفظوا بشيئهم هذا.
استعمل تعبير الشيء بنبرة متميزة, الأمر
الذي أثار ضحكهم, والذي أثار بالإضافة إلى شفقة متحفظة تجاهه, خاصة. كما أضاف
الرجل, أن هذا الشيء لا يخلط, ولا يقسم, لا بنت له ولا ولد. "تبيب, لا جار
ولا حبيب".
-وهل في إمكانه أن يخلط أو أن يقسم ؟
تساءل أحدهم, فأثار زوبعة من الضحك
الشامت, لقد فهموا جميعا أن المقصود من التساؤل, هو هل أن الشاعر متمكن جنسيا من
معاشرة النساء.
وهذا السؤال, طرح أكثر من مرة, خاصة من
طرف البنات والنساء, بشكل تقرير في الحقيقة, وليس بشكل سؤال. فما عدا أخت الشاعر
التي تأتي من حين لآخر من البلد, والتي تفتح بعض الثغرات في الحصن الذي أقامه
أخوها حوله, وتتحدث إلى النساء ببعض ما قد يوحي بهذا الرأي أو ذاك, ما عدا ذلك, لم
تدخل امرأة أخرى هذا المنزل. لقد نصبوا في الأسابيع الأولى, ثم في الأشهر الأولى,
ثم في السنوات الأولى حراسات متنوعة مختلفة التوقيت, غير أنها كلها انتهت إلى
نتيجة واحدة.
قال الرجال :الرجل يحترم نفسه ويحترم
جيرانه. وقالت النساء, الرجل, أمره أمر, وشأنه شأن.
ولربما ساعد على هذا الاستنتاج, ما فاهت
به أخته للجارة من أنها بلغته رغبة أمه الملحة في الزواج, فقال لها محتارا إن
الزواج يلهيه عن قراءة الكتب.
لو كان يصلي معنا في الجامع لقنا إنه
أحد أولياء الله.
***
قطع
الطريق غير المعبد, والذي لا أمل أبدا في أن يعبد ذات يوم, لا لشيء سوى لأنه لا
يستعمل إلا من طرف حفنة من السكان, انزوت في ضيعة سابقة لمعمر فرنسي, وحولتها إلى
حي قروي صغير.
عندما استدار شمالا, وقابلته يمينا
أسيجة المعهد, ويسارا, الحي السكني للطلبة, ثم الساحة الصغيرة المقابلة للحي والتي
تناور فيها حافلات النقل كي تستقبل الطريق الذي أتت منه, والذي يحاذي سجن الحراش
المشهور, أحس بنوع من الاطمئنان, وتمنى من صميم قلبه, لو أن أحدهم يخرج من الحي,
ويرافقه في الطريق, فيسأله عن الوقت.
كانت الأصوات تتعالى, آتية من بعيد,
وقدر أنها تنتشر في أماكن كثيرة, وليس في موضع واحد, ربما من هنا من الحراش, وعلى
مسافة اثني عشر كيلومترا, حتى وسط المدينة حتى طرفها الآخر.
إن الزغاريد المنبعثة من النوافذ
والسطوح بدأت تأخذ حيزها ضمن الهدير الأعظم, ذي الإيقاع الترتيلي.
المسألة فيها فرح, أو فيها موت إذن. لكن
ليس هنالك أصوات رشاشات ومدافع, وما شابهها. فرح عظيم ما في ذلك ريب, قال في نفسه,
وراح يحاول أن يستحضر عبارات اللحن, كما كانت تتردد لأول مرة. لا إله إلا الله
محمد رسول الله عليها نحيا وعليها نموت وعليها نلقى الله".
كانوا في ساحة أول ماي, التي أطلقوا
عليها اسم ساحة الدعوة, آلافا مؤلفة, يرتدون قمصانا بيضاء, ويضعون على رؤوسهم
قلنسوات بيضاء متساوية الأحجام, مثلما هم متساوو السن والقامات, واللحى المتدلية,
لا يدري المرء إن كانت اصطناعية أم طبيعية, يتشبثون بمواقعهم أمام الغزو المتتالي
لقوات الشرطة التي تقذفهم بقنابل الغاز المسيل للدموع.
كالموج, يتقدمون.
يتقدمون, ثم يعودون بالسرعة نفسها إلى الوراء,
بينما أصواتهم تتعالى في نبرة واحدة, "لا إله إلا الله محمد رسول الله. عليها
نحيا وعليها نموت وعليها نلقى الله."
تمنى لو يدخل وسطهم, ويندمج في جذبتهم
مفسحا المجال, للدهليز المظلم في أعماقه أن يتنور, ولو للحظات قصار, إلا أنه أحجم.
سراديب كثيرة انفتحت في دهليزه, انبعثت
منها قضايا ومسائل ونظريات ويقينيات كثيرة جعلته يحجم, ويكتفي بالوقوف مع جدار
بناية في منجى من قنابل الغاز والرصاصات المنبعثة مغردة من حين لآخر, متأملا ملامح
الشبان واحدا فواحدا, وهم في مدهم وجزرهم والعرق يتصبب منهم. غارقا في تساؤلات
عديدة.
هؤلاء جماهير, جماهير كادحة, وسواء
أكانت على خطأ أو على صواب, هل يجوز لمثقف ثوري مثلي, كرس حياته لخدمة الجماهير
والدفاع عن قضاياها, أن يقف ضدهم ؟
ماذا يفعلون ؟ بصدد ماذا هم الآن ؟
هكذا نزعوا سراويلهم, وارتدوا الجلابيب,
وأطلقوا اللحى, واستسلموا لسرداب من سراديب الماضي يمتصهم.
هؤلاء الذين زار معظمهم أوروبا, بل إن
الكثير منهم يحلم بأن يظل يروح ويجيء إلى أوروبا يبيع ويشتري, ولربما يرتكب
الآثام, هكذا ودون مقدمات, دون أي تنظير, أو مقدمات, يولي ظهره مرة واحدة إلى
الرجل الأوروبي, فيتنكر لمظهره تمام التنكر.
كما لو أنهم خرجوا أجمعين من هذه
المدينة, ومن هذا العصر, واستخلفوا مكانهم قوما آخرين, ربما أتوا بهم من أقصى
البلدان, وربما من أقصى الماضي. يقين أنهم ليسوا أجدادهم, فأولئك لم يكن لهم مثل
هذا الحماس, وهذا التصميم, وهذه الرغبة في التمايز, ربما لأنهم لم يكونا مهددين من
الآخر, بهذا الشكل. أو ربما لأنه, لم يكن بينهم من يحكمهم في شكل الآخر.
ها ها.
هنا بيت القصيد. إنك تفتح أيها الشاعر
المنبهر, بهذا الموج, أحد سراديب الدهليز, الذي أوصلك إلى ما أوصلك إليه من حالة
ووضع.
حركة التحرر الوطني, ورغم أن وقودها كان
الجماهير الشعبية من الريف والقرى الصغيرة, ومن فقراء المدن والناس, إلا أن
قيادتها, كانت من النخبة التي تثقفت في مدارس ومعاهد وجامعات الاستعمار, ورغم ما
أنجزته في طريق القطيعة مع الاستعمار, فإنها, لم تعر المسألة اللغوية ما تتطلبه من
اهتمام, وكما لو أنها تعتبر الشعب الجزائري كله مجسدا فيها, وما دامت هي لا تعرف
لغة أخرى غير الفرنسية, ولا تشعر بالنقص, لأنها لا تقصر في حق معاداة الاستعمار,
فلا خوف على هذا الشعب. لا خوف عليها.
يكفيها ويكفي الشعب الجزائري, أنه في
حياته اليومية, وبصفة حضارية عامة, عربي, وبشكل ما مشرقي. له تقاليد وطقوس يحيا
ويموت, يفرح ويحزن بها. أعراسه تختلف عن أعراس الفرنسيين, كذا جنازاته, حتى طريقة
أكله, تختلف تمام الاختلاف, ففي حين يستعمل الفرنسي الطاولة والمقاعد, يستعمل
الجزائري المائدة والخوان, ثم إن النساء عموما يلتحفن سواء بلحاف أبيض أو أسود,
مثلما هو الشأن بالنسبة للشرق الجزائري.
يكفي الشعب الجزائري, الاحتماء
بالإسلام, وقد ظل خطباء الحركة الوطنية يتقربون إلى الشعب بالخطاب الديني. حتى
إنهم سموا المناضلين من أجل الاستقلال الوطني مجاهدين, وعنونوا جريدة الثورة,
بالمجاهد. نعم تجرءوا وغيروا العنوان من المقاومة إلى المجاهد, كل ذلك انتسابا,
إلى هذا الشعب, وإلى ماضيه.
إنما أغفلوا عنصر اللغة.
لم يتعربوا هم كقادة, ولم يفرضوا على
الإدارة التي ورثوها من المستعمر, أن تتعرب. وبينما راحت الروح الوطنية تشحب, راح
روح التقليد للسيد السابق يقوى من طرف المسود، وراح الشعب بفئاته المختلفة, يرفض
أن يكون مرة أخرى مسودا للسيد نفسه. أو بالأصح لسد مزيف.
ربما أدرك قادة الحركة الوطنية, بحدس
ما, وليس نتيجة تحليل ودراسة, أن الشعب الجزائري, على خلاف باقي أشقائه في المشرق
والمغرب, افتقد, ومنذ عهد الأتراك, الذين فرضوا عليه أن لا يتعدى مرحلة الإنسان
المزارع, وبالتالي أن يبقى محصورا في الريف, يفلح الأرض ويرعى القطعان, ولا يسمحون
له بالتواجد في المدن, إلا بقدر ما يحتاجونه من مهمات معينة, من خدمات يستنكفون هم
كسادة من القيام بها, مثل السقاية وبعض الصناعات الخفيفة, والتجارات الضرورية
لحياتهم, مانعين شؤون التسيير والقيادة والإدارة, حتى عن أبنائهم من غير الأمهات
التركية. هذا الشعب, الذي لا يمتلك مدينة واحدة مشعة ثقافيا بعد قرن ونصف من
استعمار استيطاني وثقافي آخر. ليس هناك القاهرة ابنة الأزهر الشريف, ولا تونس بنت
جامع الزيتونة الأعظم, ولا دمشق ولا بيروت, ولا بغداد.
كل ما هنالك, بقايا جدران تشكل عمارات,
متصاقبة أو متقابلة, تشكل في مجموعها مدينة تشكل في ذاتها مقبرة هجرها سكانها من
الفرنسيين واليهود والأسبان والمالطيين, وتفرق ما بقي فيها من جزائريين, لهم بصفة
أو أخرى مهما كان مستواهم الاجتماعي والثقافي, تقاليد وطقوس مدينية, على الأحياء
العصرية موزعين في الفيلات, هنا
وهنالك, ليستأنفوا من جديد حياة جديدة, التقاليد فيها والثقافة فردية, لا تمت إلى
المجتمع بصلة من الصلات.
وهاهم الأعراب يدخلون المدن, متنكرين
بلؤم وخبث, في تعرية الرأس وارتداء "البوطويل" ورباطة العنق, وحلق
الشوارب واللحى مخفين حقيقتهم, فراح كل شيء في العمق يتريف ويتريف, بينما الجانب
الآخر السيد أو مساعد السيد يتغرب ويتغرب, يتفرنس ويتفرنس, ليجيء الأبناء
والأحفاد, كاشفين عن الإشكالية الخطيرة.
في بلدنا شعبان.
شعب سيد, لا يجد وسيلة لفرض سيادته غير
الأوراق والأوامر, وشعب مسود, قرر أن لا داعي للخضوع والامتثال لأقلية لم ترضه ولم
تلب رغباته وطموحاته في أي ميدان من الميادين.
لم يتمكن الأعراب من الاستمرار في
النفاق, كثيرا. إذ لم تمر ثلاثة عقود على تمدينهم حتى انفضحوا. فضحتهم بذورهم هته.
استعادوا اللباس الذي انتزعه آباؤهم,
كما استعادوا الشوارب واللحى التي حلقوها قبل الميعاد, وغطوا الرؤوس الحاسرة,
وتوجهوا إلى السادة يحدقون في أعينهم ويطلبون منهم بصرامة وإصرار, التنحي, وركوب
البحر والالتحاق بالسادة الأوروبيين. سكارى هادرين : لا إله إلا الله محمد رسول
الله عليها نحيا وعليها نموت وعليها نلقى الله.
هذه هي الخلاصة التي خرجت بها منذ بدء
ظهورهم, وبصفة أو بأخرى كان قادة الحركة الوطنية, يعلمون, أن الشعب الجزائري, ليس
له سلاح ثقافي سوى دينه. به استعان الأمير عبد القادر, وبه استعانت الثورة
التحريرية. وبه قاوم الفلاحون الفقراء خلف دوناتيوس الرومان.
قرر الشاعر في نفسه, وانسحب, يردد في
خجل وتحفظ : "لا إله إلا الله محمد رسول الله عليها نحيا وعليها نموت وعليها
نلقى الله."
***
اقترب من مدخل الحراش, عندما تجلت
الهتافات الممزوجة بالزغاريد وصيحات منبهات السيارات. وقد كاد يترنم معها, عندما
توقفت سيارة إلى جانبه, وراح جماعة من الملتحين داخلها يركزون النظر فيه.
كان نحيفا, طويل الوجه, بارز الوجنتين,
غائر العينين, قاسي الملامح جاف النظرة, يرتدي جاكيطة بنية بلا بطانة, وسروال جين,
يتسع لاثنين مثله.
كان الملتحون, مسلحين, وكانت فوهات
الرشاشات الأتوماتيكية موجهة إلى صدره ورأسه.
شعر بالضيق الكبير, خاصة من منظر
البنادق, التي لم يكن يتمنى أبدا, أن تكون بين أيدي أمثال هؤلاء الشبان الذين
ترتسم على جباههم زبيبات قال فيها تعالى : " سماهم في وجوههم من أثر
السجود".
كالعقارب بين أيديهم.
فكر وراح يتأملهم, بينما كانوا هم
يتفحصونه بدقة, مطمئنين, إلى أنه لا يوحي بالخطر, رغم أن لحيته القصيرة المدببة,
تستفز, أكثر مما توحي بالاطمئنان.
لماذا لم ترد عن السلام عليكم.
ابتسم, ابتسامة جد صغيرة, وسألهم :
- وأنتم من تكونون ؟
اخوة في الله.
كلنا اخوة. إنما هذه العقارب بين
أيديكم, لا يحملها عادة إلا الزبانية.
اطمئن. لم يعد منذ اليوم, هنالك زبانية.
ماذا يجري ؟
لقد قامت
من؟
الدولة الإسلامية.
الجمهورية الإسلامية.
الخلافة الإسلامية.
الحكم الإسلامي.
ارتسمت ابتسامة عريضة على شفتيه, فانعكس
أثرها على وجوه الشبان الملتحين, وعرضوا مساعدته باصطحابه معهم في السيارة, فابتسم
مرة أخرى, وتقدم نحوهم مرددا :
- على شرط, أن تخفوا هذه العقارب, لا
أحب منظرها,
- من تكون ؟
- أنا شاعر.
- فقط.
- ومنكم.
جبهتك خالية من آثار السجود.
ربما لأن وزني خفيف جدا.
وزنك أم إيمانك.
إذا سمحتم أفضل النزول هنا.
قد تكون نغرت.؟
حرك أحدهم رشاشه, فتلامس ورشاشا آخر,
وأحدث قرقعة, لفتت الانتباه, غير أن ذلك, لم يؤثر في شيء, مما قرره الشاعر, أو مما
يشعر به.
تواعدت هنا مع أخوة آخرين. شكرا لكم.
لقد وصلت.
توقفت السيارة, راح يبحث عن قفل الباب
في الظلمة, فمد أحدهم يده وفتحه.
السلام عليكم.
قال الشاعر, فبادر الثلاثة برد التحية
بصرامة, وكأنهم عساكر, يلبون أمرا, بينما قال الرابع, في لهجة لينة متعاطفة,
وكأنما يقدم للشاعر رجاء :
ماذا تقول لنا ؟
أقول لكم ولغيركم, إن هذا الحلم ينبغي
أن لا يتحطم, على الأقل, بهذا الشكل الغبي.
وهل ترانا نحطمه أيها الشاعر غريب
الأمر.
إن البنادق تحدث في النفس العزة, والعزة
تتلف الحكمة, وتخلف الحمق.
قفز الشاب صاحب السؤال, واثبا خارج
العربة, وقصد الشاعر الذي تراجع إلى الخلف عدة خطوات, يستعد لمحذور ما.
امتدت يد الشاب, تطلب المصافحة, فامتثلت
يد الشاعر, كعادتها بتردد, معلن عنه, وكأنما تشعر بلا جدوى هذه الحركة النفاقية
المحضة. مع ذلك, راحت يد الشاب تضغط بحرارة, وراحت يد الشاعر تحاول التسلل, وتنتظر
بفارغ الصبر, انتهاء هذا الرسم.
-أنت رجل محترم. ويندر أن يصادف المرء
مثلك, وإذا لم تخب ظنوني فيك, فإنك واحد ممن تحتاج إليهم دولتنا الفتية, نحن في
حاجة إلى علماء مؤمنين, ويبدو أنك عالم, وهذه الشجاعة لا تصدر إلا عن رجل قوي
الإيمان, قوي الثقة بالله وبالنفس. إنك لا تنتظر أحدا أليس كذلك ؟
لقد أزعجني أصحابك, ليس بفضولهم, إنما
بإثارة مخاوفي.
استدرجه الشاب الملتحي, ليفصح له عن المخاوف, بطرق شتى, إلا أن
الشاعر اقتصر في كل مرة على الحديث, عن العصر وسمته, والدهليز, والأبواب التي
تنفتح عن السراديب, وأن من جملة السراديب, الزعم بامتلاك الحقيقة, من طرف واحد.
لقد استطاع شخص واحد, هو الإمام أحمد بن
حنبل, أن يجابه بتحد عدة خلفاء, والناس جلبت, على الخضوع الظاهر والتحدي المستتر.
ثم إن أكبر دهليز, تواجهه الفلسفات
والأيديولوجيات, هو الطبيعة البشرية.
يا صاحبي, هل تعتقد أن الإمام عليا كرم
الله وجهه, كان محقا, عندما فرق كل ما بين يديه من مال, وغسل بيت مال المسلمين
بالماء, كي لا تبيت ملوثة بوسخ الدنيا, على حد تفكيره. المسألة وما فيها, هي
الفهم. وفي رأيي أن الفهم يعسر في العصر الحالي. يجري الحديث, عن الديمقراطية, وما
الديمقراطية, عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الاتحاد السوفياتي, والجمهوريات
الاشتراكية الأخرى, كما لو أن الذين أقاموا هذه النظم, لم يكونوا من أول يوم,
يتحدون الديمقراطية الليبيرالية. إذا لم يفهم المحلل والمتتبع للأحداث, أن سلاح
السيد في العصر الحاضر, هو الآلية, ففي رأيي أنه لم يفهم أي شيء. وليضع المرء نفسه
مكان غورباتشوف, حتى يقدر حق التقدير, حجم ما حتم على الرجل أن يقدم على ما أقدم
عليه. المسائل ليست بالسهولة التي تبدو بها.
كان ذلك, بعض ما فهمه الشاب من تلميحات
الشاعر, التي ينمي بها الفكرة, بتكرارها في كل مرة بشكل مغاير وقد أثارت هذه
الطريقة إعجاب الشاب, وحماسه, فسمح لنفسه بوضع يده على كتفه.
سحبه ليتمشى معه بضع خطوات.
كانت ملامح الشاب, تتميز, تحت النور
شيئا فشيئا, لونه يميل إلى السمرة, عيناه سوداوان مشعتان, أنفه بين القصر والطول,
يميل قليلا إلى الفلطحة, بينما خنابتاه ممتلئتان بشكل بارز, مما يدل على بقايا من
خلاسية بعيدة, يعزز ذلك, بعض الاكتناز الذي يطبع الشفتين. قامته طويلة, منكباه
عريضان.
لاحظ الشاعر كل ذلك, وأحس بأن هذا الوجه
ليس غريبا عنه, وتساءل أين رآه قبل اليوم.
آه, إنه هو, في التلفزيون, وقد كان
يتعاطف معه. شعر بالتجاوب معه, ووجد في بقايا الخلاسية هذه, ما يوحي بأصالته
كجزائري, فيه شيء من كل شيء. إفريقية, على أبيض متوسطية, عروبة على بربرية. فقرر
في نفسه, أن يتجاوز حدود التحفظ مع هذا الشاب, وأن يرفع قليلا الستار الحديدي لباب
الدهاليز, وود لو يسأله, عمن يكون, وعما يفعل في الحياة, وما هي رتبته في القيادة,
إن كانت له رتبة ما، غير أن الشاب أغناه عن كل تلكم الأسئلة, فراح يتحدث في طلاقة
وعفوية, عن نفسه, كأنما يعرفه منذ دهر طويل.
في الثلاثين, منهدس في النفط, قيادي في
الحركة, يناصر العقل والاعتدال, ويبغض الجهل والتطرف, اسمه الحركي عمار بن ياسر. وهو
جد مسرور بملاقاته للشاعر ويتمنى لو تتوطد العلاقة بينهما, ويستعينان بعضهما ببعض,
وهؤلاء الذين معه. هم من المكلفين بحراسته.
عرفتك. وإنني لجد مسرور بملاقاتك. أنت
رجل متزن.
- وأنت ؟ هل أنت شاعر وكفى ؟
لقد أكثرنا من الحديث عن أنفسنا, وكان
المفروض أن ينحصر كله فيها. الدولة الإسلامية.
وماذا تفعل في الحياة غير الشعر ؟
أراك مصمما !
أكثر من تصميمك, على التمنع من الحديث
عن نفسك.
ليكن إذن, شاعر باللغة الفرنسية, ومهندس
أدرس علم الاجتماع وأحب كل ما يمتن لغتي العربية أما ما عدا ذلك, فلا أهمية
له.
الحركة في حاجة إلى أمثالك.
أتتحدث جادا ؟ فبعض الحركات, ينبغي أن
تستغني عن العقل, في مرحلة من مراحلها. لو يركن الناس باستمرار إلى العقل, لتوقفوا
عن صنع التاريخ. لقد قال أحدهم, يخطط لها الحكماء, وينفذها المجانين...
أكمل جملتك. يستولي عليها الجبناء.
أنت قلت. سنرى.
هذه المرة, تنجز بإذن الله سبحانه
وتعالى, ثورة إسلامية حقيقية, ثورة ربانية, تخالف كل ما أنجزته المعتقدات الوضعية
ننجزها إن شاء الله, شجرة مباركة لا شرقية ولا غربية.
لقد كان المغرب الأوسط باستمرار, يحقق
المستعصيات. الخوارج لم يستطيعوا إقامة دولة لهم إلا هنا, فكانت الدولة الرستمية,
والشيعة لم ينجزوا حلمهم, إلا عندنا, فكانت الدولة الفاطمية,
وستوقد شمعة الخلافة إن شاء الله رب
العالمين, من هنا. من المغرب الأوسط, كما تقول, من جزائرنا الحبيبة ليعم نورها
العالمين.
أقول إن شاء الله, وأنا أتصور أنك تطمح
إلى اقتحام دهليز خطير والتعرية على سراديب لا متناهية.
هذا ما يعجبني فيك. الجمع بين الشعر
والحكمة. هيا معي.
إلى أين ؟
نواصل الطريق. لقد ضايقوك عن غير ما
قصد. إنهم شبان متحمسون, استثارهم النصر المبين, فتجرءوا على إزالة الحواجز معك،
أعلم أنك لا تنتظر أحدا, ثم إنني في حاجة إليك. لنتصادق أيها الشاعر الفيلسوف.
ألا يكفي أننا أخوة, في الله وفي الدين
والعقيدة ؟
بلى. ولكن.
ليطمئن قلبي, كما قال سيدنا موسى في جبل
الطور.
يده ما تزال على كتف الشاعر. ضغط قليلا
يدعوه للعودة إلى السيارة, فامتثل, مغتبطا أشد الاغتباط في داخله, قائلا لنفسه,
إنه سيرضي فضوله, وسيتحقق مباشرة من جميع فرضياته الكثيرة. ثم إن هذا الشاب لطيف,
وعلى جانب كبير من الثقافة والرصانة, إنه جاد, ولقد لبى رغبة قوية لدي, في التعرف
على عنصر من هذا النوع في الحركة كنت أفترض وجوده دائما, إنما الباقي هو ما مدى
تأثيرهم, وفعاليتهم, ذلك أن الوجوه التي أبرزوها لا تقنع سوى العوام.
قوى أحدهم, لعله السائق, من صوت
المذياع, فتساءل عمار بن ياسر, عن مصدر تلاوة القرآن هذه, ذلك أنه يعرف كل
التسجيلات التي معهم, وهذه التلاوة جديدة. فأجابه السائق : الإذاعة, سيخطب الشيخ
عما قليل.
فكر الشاعر أن يسأل, كيف تم الأمر بمثل
هذه السرعة, لقد كانت كل الفرضيات تستبعد حدوث هذا, لكن ها هو يحدث. وها هي الدولة
الإسلامية, تقوم, دون دوي مدافع, ولا سيلان دماء على ما يبدو, فهؤلاء العابرون
الذين خرجوا له من الظلمة, كما لو أن القدر هو الذي أرسلهم إليه, يبدو أنهم
مطمئنون جدا على أنفسهم, وعلى مشروعهم, ولولا هذه الرشاشات, لما كان هناك أي شيء
يوحي بأن العملية على هذه الدرجة من الجدية.
لكن خضوع الجماعة أمام رهبة الصوت
المنبعث من المذياع, جعله ينكفئ على نفسه, واضعا رأسه بين ركبتيه.
***
ما الذي أوصلني أنا شخصيا, إلى هذه المواصل ؟
هل الذئب. لا. عبارة الذئب, في غير موقعها هنا. الأصح السبب.
نعم.
هل كانت هي السبب ؟
وتجلت له بعينيها الدعجاوين, اللتين
تحمل نظراتهما إيحاء متواصلا باستغاثة وطلب نجدة, من وحدة وعزلة قاتلتين, وظمأ مزمن
للحنان والعطف. بقوامها الطويل الرشيق, تتسربل ثوبا عسلي للون, وتغطي رأسها بحجاب
أبيض. تجلت شمعة تتوهج في قلبه نورا.
ابتسم.
أهي السبب ؟
لم يحب قبلها امرأة, هكذا يقول. لكنه لا
يدري ما إذا كان أحب ذات مرة أم لا.
لا يعرف الحالة, ولم يسبق له أن أعارها
اهتماما. وفي الحق, لا يذكر أنه كان لديه وقت كاف لمثل هذه الفسحات الروحية.
منذ صباه, كان عبارة عن مهر ملجم تركبه
المصلحة العامة.
***
غادر الكبار المنازل, بعضهم في الليل,
قاصدين الجبال ملتحقين بالثورة, وبعضهم أخذ عنوة في النهار, إلى السجون والمنافي
والمحتشادات, وبقي النساء والأطفال. وكان هو أكبر أطفال الدوار.
فكر في الأول, أن الله خلق المرأة عبئا
على الرجل, فلولا وجود النساء لالتحق الأطفال بدورهم بالثورة, ولكان الجبل الكبير
سكنهم الكبير, ولما كانت هناك كل هذه الأعباء, وهذه الإهانات التي يلحقها عسكر
فرنسا بهم كلما خرج في حملة تمشيطية. إلا أنه عدل عن رأيه, عندما صارح عمه المختار
به, وأقنعه بأن المرأة تساعد الثوار في أمور كثيرة, فهي التي تنجب الرجال وتكبرهم,
حتى يقووا على حمل السلاح, وهي التي تحافظ على رائحة الأوكار, فيظل الرجل يتشمم
تلك الرائحة ويحن إليها ويعمل كل جهده ليعود إليها. وما تلكم الرائحة إلا الشرف
الذي يدافع عنه الرجال في كل زمان ومكان. واقتنع أكثر, عندما شاهد نساء الدوار
يقمن بكل ما كان الرجال يقومون به, من حرث وزرع وحصاد, بالإضافة إلى تموين الثوار
بالألبسة التي يصنعن جزءا مهما منها في المنازل, وبمختلف أنواع التموين.
وفوق كل هذا وذاك, فقد التحقت ابنة
خالته العارم بالجبل, مصطحبة معها سلاحا انتزعته من قائد دورية عسكرية كانت تجوب
المنطقة.
العارم.
اللهم بارك العارم.
كانت جميلة, بضة, حمراء, مكتملة, في
العشرين من عمرها. راودها عسكري هام بها, وهي في الوادي مع بعض الأطفال, تغسل
الصوف. قدرت أن قدرها أن تستسلم, أو أن تنتحر. أن تتنازل عن الشرف الذي أوصاها به
زين شباب الدوار المختار خطيبها, أو أن تجد سبيلا آخر.
قررت أن تخوض من الأول المغامرة, لم
تمتعض, ولم تبد أية ممانعة, بل نهضت من مكانها, نشفت يدها, ومدتها له تصافحه.
"فاتمة ...فاتمة"
كان ذلك كل ما يعرف من العربية, فراحت,
ترد عليه بالكلمة الوحيدة التي تعرفها, دون أن تدرك معناها.
"صافا. صافا."
أمسك يدها فتركتها تستقر في راحته,
تنبعث منها الحرارة والرعشة.
اقترب منها, فراحت تقوده نحو الشعبة,
مبتعدة به عن رفاقه. تناول خصرها بذراعه, فالتصقت به أكثر.
كان الطفل يرقب المنظر من بعيد, وكان
يشعر بالاغتياظ يأكل قبله, ويتساءل عما يجب أن يفعل.
هل من المعقول أن تستسلم العارم بمثل
هذه السهولة ؟ هل من المعقول أن يهدر شرف المختار, وشرف الدوار, وشرفه هو كبير
الدوار, بعد أن رحل الرجال ؟
الرومي الذي يحتضن خصر العارم الآن, شاب
في مقتبل العمر, في طول وعرض عمه المختار, على كتفه شارات رتبة عسكرية, وبندقية
رشاشة. ويبدو أنه قائد الدورية, ذلك أن المجموعة التي تصطحبه, لم تجرؤ على
منافسته, في هذه الغنيمة الرائعة, واكتفى البعض بالهتاف: يا له من حظ, إنه يوم ليس
كباقي الأيام. سنطالب بإقامة مركز عسكري في هذا المكان الطيب.
عاد مسرعا إلى أمه وخالته. أخبرهما بما
يجري في الوادي, فاستنطقتاه مليا, طالبتين منه التوقف عند كل التفاصيل.
هل كان الذعر يبدو على وجه العارم ؟
هل كان يجرجرها أم كانت تمشي معه بطواعية
؟
هل لحقه أحد زملائه ؟
تفردت به.
انتبه إلى تعبير تفردت به, فتساءل بدوره
عما تعنيان, فاكتفت خالته بالابتسام, وطلبت منه أن يسرع فيخبر جميع أهل الدوار
بضرورة الهروب إلى الغابة, إلى أن تمر هذه الزوبعة. أراد أن يستفسر أكثر, فنهرته
أمه, قائلة إن فضوله أطول وأعرض منه بكثير.
انطلق ينفذ الأمر, مستغربا, لماذا لم
يسأله أحد عن السبب.
استبطأ بقية أفراد الدورية ضابطهم,
فراحوا أول الأمر يتبادلون النظرات التي تحمل معاني شتى, بعضها, يقول : "هل
تطلب منه الأمر, كل هذا الوقت ؟" بعضها, يعني, "لقد استطاب
المقام". بعضها, يفصح عن التخوف. لقد قيل لنا, إن كل العرب خارجون عن
القانون, وهذه الجميلة, إن هي في آخر الأمر, إلا واحدة منهم. سترون.
أخيرا نطق أحدهم :
في الأمر سر ما.
ينبغي أن نتفقده .
لنناده أولا.
فكرة. بول. بول.
بول. بول.
هيا بنا يا رجال.
اتخذوا حذركم, فقد يكون هناك كمين منصوب
لنا. العاهرة ابنة العاهرة, أبدت من الليونة ما يثير كل الشكوك. كيف لم ننتبه إلى
ذلك.
انطلقوا نحو الشعبة, بينما النداءات
تتواصل.
بول. بول.
بلغوا الشعبة, وراحوا يجيلون أبصارهم,
في أسفلها.
الشعبة تبدو أعمق مما كانوا يتصورون.
إنها واد جاف, ينحدر من الجبل الذي تنحدر منه. أين أخذته اللعينة ؟
أسرعوا إلى سيارة الجيب وإلى الراديو,
وانطلق صوت أحدهم, يتصل ببقية القافلة التي خلفوها في القرية على بعد عشرين
كيلومترا, وبقيادتها بالذات.
"حضرات , لقد اختطف الملازم الأول
"بول", ولا نستطيع ملاحقة من اختطفه. أوامركم."
***
تعمد "بول" باقتراح من
العارم, أن ينزلا إلى الأسفل منزلقين. دفعته إلى ذلك بإحدى يديها وسبقته, فأعطى
الحرية لقدميه تقودانه نحوها, وهو يقهقه
جذلا.
ارتمى عليها يحتضنها, فبادلته قبلة
عجلى, ثم أشارت إلى شجرة وقادته. استسلم.
كان في منتهى السعادة.
ظلت ترقبه, وتتساءل من أين جاءتها هذه
الجرأة, وهل يسمح لها المختار, عندما يعلم, أن أول من قبلها كان روميا, عسكريا
فرنسيا, جاء يبحث عنه وعن زملائه ليقتلهم.
بلغا الشجرة, فجلسا, في ظلها. كانت
عيناه الزرقاوان, تمتلئان رغبة, رأت فيهما عيني ذئب يحاصر نعجة, قررت أن تعمل على
تهدئته, أولا وقبل كل شيء. لمست منه استجابة لذلك, بعدما تناولت يده, ووضعتها بين
ثدييها. لاحظت أنه يلين بشكل عجيب. لم تدر لماذا تناولت رأسه عندما اقترب منها,
ووضعته على صدرها, بينما راحت أصابعها, تعبث بشعره الأصفر. ربما كانت شمعة غريزة
الأمومة, تتقد في دهاليز قلبها, تناديها باغتنام لويحظات إنسانية رائعة, أو ربما
غريزة الدفاع عن النفس, تقودها, إلى إغراق هذا الذئب بحنان الأمومة.
سالت دمعتان من عينيها. ترقرقتا على
خديها, ثم نزلتا على جبينه.
رفع عينيه فاحمر وجهه. انفتحت كل دهاليز
أيامه الفارطة فجأة, فتمتم :
-أحبك.
فهمت العبارة الفرنسية. بلغت أعماقها.
أحست بأنه يستسلم لها, ويغور في سراديب عميقة. بعد أن تخلص من بندقيته الرشاشة,
وضعها جانبا بعيدة عن متناولها, فظلت
ترقبها, وتبحث عن الكيفية التي يمكن أن تختطفها بها, في رمش عين.
سوت رأسه على ركبتها, بعد أن تزحزحت
قليلا من مكانها, كما لو أنها تعدل جلستها, ثم راحت تتناول أزرار سترته وتفتحها
واحدا فواحدا, وعندما فرغت مررت يدها بلطف على صدره أكثر من مرة, ثم راحت تعالج
حزامه العسكري الغليظ, وعندما استعصى عليها, أشارت إليه أن يفعل ذلك. امتثل, وسوى
وضعه جيدا على فخذها, ثم رفع عينيه نحوها, وطلب منها مبتسما أن تنحني. امتثلت, فضم
رأسها بين يديه, ورشف من شفتيها قبلة مطولة.
كانت عادية تماما, وإن كانت لا تدري, لم
تمتلئ عيناها بالدموع الساخنة.
رفعت رأسها, وأجلسته قبالتها, وهي
تتناول طرفي سترته وتجذبهما نحوه.
استسلم, قال, إنه سيطلب منها بدورها أن
تتعرى. ستكون لحظات حب سرمدية, مع هذه القروية الجميلة.
مدد ذراعيه إلى الخلف, يساعدها على
انتزاع السترة, ولم يدر كيف لوت على زنديه بحزامها الصوفي, وراحت توثقه.
حصل ذلك في لحظات قلائل وكما لو أنه في
حلم, تجري فيه الأحداث بلا زمان. حاول أن يخلص ذراعيه, ويستعيد المبادرة, إلا أنه
لم يفلح.
كانت قد قفزت وتناولت الرشاش, وطعمته
بخرطوشة, وأمرته.
-قدامي. عند المختار يا ولد الزانية.
رفعت رأسها مع الشعبة, فقابلها ابن
خالتها يرقب ما يجري خلف صخرة.
اسبقني, وأخبر عمك المختار بما يجري.
أعطيه لي. سأوصله.
قال واستظهر خنجرا في نصف طوله.
لا. اركض وأخبر عمك المختار.
كانت في كل مرة, تستعمل عبارة أخبر, كما
لو أنها مسرورة بنجاتها من نتائج اللعبة التي خاضتها باستهانة كبرى. لقد قامرت,
دون أن تكون واثقة من النتائج, فماذا لو بطحها العسكري في الوادي كالسبع, وراح
بمساعدة زملائه يفترسها. بل, ماذا لو أنها عندما انزلقا من أعلى الشعبة, وقعت,
فوقع فوقها, واستغل الفرصة؟
كنت أعلم أنني سأغلبه, ما أن استسلم
وتبعني إلى الشعبة.
حينها أدركت أنني سأفعل معه ما فعله
الرجل بالجني, حين طلب منه أن يدخل القمقم, وما فعلته الجميلة مع الضبع, حين طلبت
منه أن يعطيها يديه لتحنيهما, فلما أسلمهما لها, كتفته.
"الرجال," تقول أمي عندما
تكون غاضبة, "لا فرق بينهم وبين الضباع." إلا أنها عندما تكون مسرورة
تقول إنهم أسود العرين. لكنها في الحالات العادية تقول إنهم كالخيول ينبغي أن يحسن
ركوبها.
لكنك بكيت.
الحق, لا أدري لم بكيت.
"الزين يغيض," يقول الناس.
ربما تذكرت أمه, وكنت قبل أن أهتدي إلى
وثقه بحزامي, عازمة على قتله.
لقد قبلته من صميم قلبك.
وما يضير؟ إنه يشبه المختار, وجدي يرحمه
الله كان يقول, إنما الأعمال بالنيات.
كنت أنوي قتله, وكنت كالقطة التي تلعب
بالفأر قبل أن تجهز عليه, وتأكله. سيسر المختار للنتيجة, حتى وإن قبلته أمامه,
فيوم علمني استعمال البنادق, قال لي, إن الشرف لا يغسل إلا بالدم. وها إنني أحضر
له, فداء لشرف لم يمسس, عجلا بكامله.
استسلم الشاب ضابط الصف لها, كما لو أنه
يجد لذة في ذلك.
في الأول, ظن أنها ستطلب منه نقودا, أو
أنها سترحل معه هاجرة, إلى غير رجعة, دوارها وأهلها, ثم عندما أحس بالرعشة في
ثدييها, وببرودة الدمعتين, أحس بالشفقة نحوها. لست وحشا مع ذلك. أنا عسكري فرنسي,
في جيش يحارب ليل نهار, لكنني مع ذلك, ولد باريس وولد السوربون. مهما رمتني وإياها
الأقدار في هذا الدهليز المظلم, فهناك بقايا ضمير, صقلتها خمسة قرون من رقيق
الشعر.
حين كانت تعبث بشعري, لم تكن لا عربية
ولا مسلمة, ولا أجنبية عني جئت أقاتل أهلها. كانت فقط, أصابع رقيقة لمخلوق حنون.
في هذه الغابة, في هذه القطعة من الكرة الأرضية, وفي خضم هذا التناهك بين بني
البشر, تمددت, وداعبت أصابع عذراء, لا تعرف لغتي ولا أعرف لغتها, شعر رأسي,
وقبلتني. من حقها أن تقتلني, أن تأسرني, أن تفعل بي ما تشاء بعد ذلك, فقد عشنا
للحظات قصار كل ما في بشريتنا من غرائز الحب والبغض, وإنني لفخور بذلك.
لتفعل بي البدوية الجميلة ما تشاء.
استحثته على السير بأن ضربته بحصاة,
مشيرة إليه بيدها, وهو يلتفت, أن يسرع. فهمها, فلبى رافعا بصره إلى فوق, ليلحظ
الطفل صاحب الخنجر الطويل, وهو يثب كالأرنب من مكان لآخر, صاعدا نحو الأعلى,
وليلحظ كذلك , مجموعات من السكان مكونة من النساء والأطفال, تنتصب في الشعبة,
وتتجه بدورها إلى فوق. إنه استنفار عام.
كيف علم هؤلاء الناس بما جرى في الوادي,
وقرروا في هذا الوقت القصير, أن عملية تمشيط كبرى ستجري بحثا عني ؟ هذه عادتهم,
يتخفون لأيام في الغابات الوعرة, وينتظرون انفراج سحب غضب الجيش الفرنسي, ثم
يتسللون عائدين عائلة فعائلة, وكثيرا ما يجدون دورهم وأكواخهم قد أحرقت عن آخرها,
فيعيدون كالنمل لم شتاتهم, واستئناف الحياة.
يقين أنهم تعودوا هذه الوضعية, منذ
دخولنا إلى هنا. الهدوء بالنسبة إليهم مؤقت, واليوم والشهر والسنة والعشر سنوات
تتساوى, ما دامت الحرب والأزمة منتظرتين.
يا لها من مناعة لدى الشعوب من
الاستسلام النهائي.
التفت نحو العارم, التي كانت حاسرة
الرأس, إذ فضلت أن تنتزع منديلها وتحتزم به, على أن تظل تسير كالنفساء, كما قالت.
كان شعرها يتدلى طويلا أحمرا على صدرها, العرق يتصبب من جبينها, أنفها ينفتح
وينغلق كلما تنفست, بشرة وجهها الحمراء علتها صفرة شحوب خفيفة , صدرها يعلو
وينخفض, كلما تقدمت إلى الأمام صاعدة, ينم إلى جانب ركبتيها القويتين على الإصرار.
لم تكن في نظرته أية عداوة أو كراهية
وحقد, لا ولا حتى شعور بالذل. كان مستسلما لقدره, كأنما كان ينتظره منذ دهر طويل.
انفرج ثغره عن بسمة إعجاب. فحدقت فيه
بعينيها الشهلاوين , وهي تسوي بنانها على الزناد. أمرته, بكلمات لا يفقهها:
روح يا ولد الزانية, قبل أن تلحقنا
طائراتكم رووح.
***
-عمي مختار, أصارحك.
قال, وهما في طريق استقبال العارم وأسيرها,
بعد أن وجده كعادته بسرعة خارقة, حيث أنه يعرف جميع المسالك, التي تؤدي إلى مقر
الوحدة الذي يتغير عدة مرات في النهار.
بم تريد أن تصارحني, يا واحد الشيطان.
أحبها.
من ؟
وأريد أن أتزوج منها.
من المحظوظة هذه ؟
العارم.
انتظر حتى نستقل, ونتزوجها معا. سأعطيك
نصيبك منها.
قال المختار مقهقها, ثم تناوله وألقاه
على ظهره.
لقد قبلت الرومي.
ولكنها أسرته, كما تقول.
قبل ذلك قبلته.
ربما تحتم عليها ذلك.
قال, وهو يشعر بالحسد والغيرة, إذ طالما
رجاها أن تقبله, لكنها في كل مرة, كانت تصده, متذرعة بأن ذلك عيب ولا يصح من قريب
هي مخطوبة إليه.
كانت طريقتها في تقبيله مريبة.
لا شك أنك تغار عليها.
نعم, خاصة منك. أريد أن تتخلى عنها لي.
سأفعل, إذا قلت لي ما الذي جعلك تحبها
هكذا فجأة ؟
طريقة تقبيلها للرومي.
فقط ؟
ولأنها ضحكت على ذقنه, أيضا.
***
تراءت مرة أخرى في ثوبها العسلي
الرجراج, وخمارها الأبيض الذي يلف رأسها ويغطي عنقها الطويل, ثم ينحدر على كتفيها,
فيجعلها شبيهة بشمعة متقدة, يسيل الشمع على جوانبها.
في نظرتها استغاثة واستفسار, وفي بسمتها
تودد وانكسار, وفي حركاتها تثن يشي بمفاتن تعمل جاهدة على دفنها.
ربما أحببت قبلها.
وهي ؟
هي بالذات شمعة دهاليزي وسراديبي. هي,
هل أحببتها حقا ؟
صعدت من ساحة أول ماي. ساحة الدعوة,
يومها, والهتافات تملأ أذني, "لا إله إلا الله, محمد رسول الله, عليها نحيا,
وعليها نموت, وعليها نلقى الله." مهموما, مغموما, روحي أقل من أن يحملها
جسدي. يعذبني سؤال محير, بدأ يطل على مثيرا مستفزا منذ مدة طويلة.
هل يمكن أن تكون بيني وبين هؤلاء الناس
صلة ما ؟ هل ينبغي أن تكون بيني وبين هؤلاء الناس صلة ما ؟
الآخرون.
الطرف الآخر, أولئك الذين دخلوا دهليز
الثقافة الفرنسية, ونمط الحياة الغربية, وأغلقوا على أنفسهم يحتمون بالظلمة,
رافضين أن تتقد أية شمعة حولهم. قرروا فيما بينهم وبين أنفسهم, أن هذا البلد انقسم
مرة وإلى الأبد, إلى قسمين : الماضي
والمستقبل.
الماضي البعيد والقريب, يتوجب الانسلاخ
منه, بكل ما فيه تماما مثلما يفعل الثعبان, وهو يتخلص من جلده.
المستقبل, هو إغماض العينين في الدهليز,
والاستسلام لوهج نور موهوم, لشمعة تقود إلى العصر.
الآخرون. الطرف الآخر, أعرفهم.
في مدرسة القرية, كانوا يتساءلون عما
ألزمني بمتابعة الدروس, وأنا في تلكم الحالة المزرية : حذائي مرقع من كل جهة, ومع
ذلك, لا يمانع من إفساح المجال للمياه تقتحمه, من حيث شاءت. سروالي بدوره, صمد عدة
سنوات, ثم راح يستنجد بالإبرة والخيط, وأصابع أمي. قميصاي الأسود والأزرق, تشبث
لوناهما بالبقاء سنوات, ثم تساويا في لون واحد, لا هو بالأزرق ولا هو بالأسود, ولا
هو أي لون آخر. أما سترتي, فقد كانت أفضل حالا من جميع ما لدي, إذ كان لها وجهان,
وجه من القماش السميك, الذي يمنع مرور الماء, ووجه من جلد خرفان, صوفها بنية.
أتحايل على الطقس, فأقلب السترة كذا مرة في اليوم, غير مبال لي بالنظرات الفضولية,
خاصة من طرف التلاميذ الجزائريين.
مدرستنا, ليس فيها فقير غيري. كلهم
أبناء موظفين في الإدارة الفرنسية, بمختلف فروعها, من السكك الحديدية, إلى البريد,
إلى الشرطة ؛ ومن تجار القرية, وكبار فلاحيها.
قلت لأبي, "إنك تقحمني في عالم
غريب عنا تماما," فقال بحماسة قوية, نعم. عالم جد غريب. ولا يمكنك, أن تستمر
فيه, إلا إذا شمرت لمهمتك, وأغمضت عينيك عن كل ما حولك. ما دام المدير قبلك على ما
أنت عليه, وما دام المدرسون لا يرفضونك من القسم, فلا يهمك الباقي. تقتات كامل
النهار بـ "دورو" تمرا, وفي الليل, إذا أعطتك الولية ابنة خالة أبي رحمه
الله عشاء, أكلته, وإلا فلا.
الدنيا حرب, والمعيشة وعرة, وينبغي أن
لا نحرج أحدا.
عندما صعد جميع الرجال القادرين على حمل
السلاح, أو الذين يمكن أن يلقى عليهم القبض, وبقيت رجل القرية ولد الحادية عشرة,
عرضت على أمي الانقطاع عن المدرسة, فرفضت رفضا قاطعا. أبوك وعمك المختار, يلحان
على أن تواصل القراءة. الاستقلال آت, وعليك أن تعد نفسك لتكون أول
"قايد" في عرشنا. استحضرت صورة قايد الدوار قبل أن يذبحه المجاهدون,
ببرنسيه "السوستي" الأبيض و"الملف" الأحمر, وعمامته الحريرية
الصفراء المحوطة بخيط وبر مطرز, وخيزرانته ذات اليد الفضية. كان كلما حل في مكان,
التف حوله عدة أعيان, وكلما قال كلمة صدقوه, أو ضحكوا متعجبين.
لا.
قلت, أريد أن أكون "قصابا" في
الأعراس.
"يا فضيحتي."
قالت, ثم راحت تقهقه وتقيس بشبرها صدري,
زاعمة أن النفس الذي يختزنه لا يكفي حتى لمزمار صغير. ثم قالت بصرامة, "
القصبة حرام يا ابني. الشيطان هو الذي ينفخ فيها, وهو الذي يخرج الألحان التي تغوي
وتضل".
لكن المجاهدين يكرهون القياد. إنهم
يقتلونهم, كلما أمسكوا بهم.
أولئك قياد الاستعمار, أما قياد
الاستقلال, فسيعينهم المجاهدون أنفسهم.
في الحق, لم تقنعني أمي. ولقد كانت
أمنيتي, وما تزال, أن أكون قصابا. حينها, كنت أريد استفزاز البنات, من الصياح إلى
المساء, بألحاني الراقصة, حتى أنسيهن لباسي وحالتي الرثة, فقد كن الأكثر انشغالا
بي. لا يكتفين بالنظرات الساخرة, بل يشرن بأصابعهن إليً, ويسمعنني, كلما اقتربن
مني, الشتائم حتى في قالب شفقة لئيمة.
"لو كنت قصابا," أقول في
نفسي, "أعزف لحن "مراوح الخيل", وأعزف, حتى أرقصهن كالمهرات, إلى
أن يسقطن من التعب.
يقولون عندنا: القصاب يتعب, والرقاصة لا
تتعب. لكن سأتعبهن. أما الآن فأتمنى أن أكون قصابا في مبغي. أقيم العرس في الصباح,
وفي الزوال, وفي المساء, وفي الليل. وكلما رأيت الصانعات مستريحات, أرقصتهن.
قررت, من تلقاء نفسي, أن ألتحق
بالثانوية "الفرنسية الإسلامية" بقناعة داخلية بضرورة الإطلال على دهليز
مظلم, يسلط عليه الفرنسيون الظلمة, ويحاول شيوخنا وعجائزنا, دون جدوى, في كل مرة
إيقاد شمعة ما, للاستنارة بها. مرة يتحدثون عن السيد عليًَُُ, ابن عم رسول الله
(صلعم), ومرة عن السيد عبد الله, وأخرى عن فاطمة الزهراء, أو عن رأس الغول, الذي
شق السيد علي رأسه بضربة من سيفه البتار. تارة يحرمون كل شيء وتارة يحللون كل شيء.
كل المسائل بقيت قياسا, فذات عام, أفتى الإمام في القرية, بجواز نحر المرأة للبقرة,
إذا رأتها هالكة لا محالة, لكنهم عادوا يقولون إن سيدي خليل, لا يجيز ذلك.
"من لا يثور فضوله لمعرفة ما سيطر
على عقول أجداده طوال خمسة عشر قرنا, أبله."
قررت في نفسي, واقتحمت " الفرنسية
–الإسلامية", وقد زكى أبي وعمي المختار ذلك, عندما التقيت بهما.
قال أبي, "معرفة الدين
واجب.", وقال عمي,"نحن في حاجة إلى قضاة إسلاميين, فقانون فرنسا لم يعد
صالحا لحل مشاكلنا. ثم إن الاستقلال على الأبواب, ولن تعود الفرنسية تنفع
أحدا."
قررت القرية والدوار أن تجمع لي المبلغ
اللازم لشراء الجهاز العجيب. كان واضحا أن تشكيلته أعدت في القرن التاسع عشر,
لأولاد الأمراء والإقطاعيين.
كذا لحافا, وكذا غلاف وسادة, وكذا
مريولا داخليا, ومثله تبانات, وجوارب, وأحذية, وعدة مآزر سوداء, ومناشف وجه,
ومناشف حمام, ولباس رياضة وغير ذلك. كل ذلك مطرز عليه رقم أعطتنيه الثانوية, وكل
ذلك, فوق ذلك, مجموع في حقيبة.
يوم جمعنا كل تلك الأشياء, ظل الناس
يتوافدون على منزلنا, ليروا هذا العجب العجاب.
مجانين الفرنسيون
قال أحدهم, فعلق آخر :
لا. حمقى.
سيرث أولادك بعض الكسوة.
سينال أحفاده بعضها.
ظللنا نضحك, خاصة وأن المراويل
والتبانات, لم يستعملها أحد في دوارنا, ويقال, إن القايد الذي ذبح كان يرتديها,
وقد سرقت منه, وظل العسكر يقلبون تحت السراويل بحثا عنها, كاشفين في كل مرة على
أعضاء الناس.
حاول أن تحملها.
أمرني أحدهم, ولما وقفت إلى جنب
الحقيبة, ثارت القهقهة.
الأفضل أن تضعه داخلها والسلام.
تكفي لأن تكون سريرا ينام فوقه.
الأحسن أن ينام داخلها, ويقلق غطاءها.
ستقيه البرد.
حملنا الجهاز على حمار حتى القرية,
ومنها ركبنا حافلة أزواو, الذي اغتالته فيما بعد السلطات, لتظل حافلته تروح وتجيء
من وإلى قسنطينة في أمان, ذلك أن باقي الحافلات تعرضت لكمائن ينصبها المجاهدون,
فإما أن يحرقوها, وإما أن يفرضوا غرامة مالية على صاحبها, مما أدى إلى انقطاعها,
جميعها, ولم تبق سوى حافلة آزواو الزرقاء هذه.
كان يصطحبني قريب من القرية, نطلق عليه
اسم بابانا آدم, كلف, بالإضافة إلى حمل الحقيبة العزيزة, بإيصالي إلى بيت قريب آخر
لنا في قسنطينة "المدينة" كما يسميها الجميع حتى اليوم, وبالاتصال
بإدارة الثانوية, لإتمام ما قد يكون هناك من إجراءات أخيرة.
في الحافلة, صادفت مدير المدرسة, فسلم
علي بحرارة بالغة, وأبدى سروره الكبير, بأن يراني ألتحق بالتعليم الثانوي.
تجرأت ورحت أسأله :
إذا ما سمح لي سيدي المدير المحترم وجهت
إليه سؤالا.
تفضل.
لربما أحرجكم يا سيدي المدير.
أبدا لا. يزعجني أن لا تتمم موضوعك,
وتظل تتخابث. لقد عودتكم الصراحة.
وهذا ما شجعني على التفكير في مثل هذا
السؤال.
هاته .
كيف سمحت لكم نفسكم بالسماح لفقير مثلي
أن يدخل مدرستكم البالغة النظافة.؟
ابتسم مربتا على كتفي, وقال : عندما
تكبر تفهم. العساكر أغبياء, وإلا ما كانوا يواجهونكم بالسلاح. هذا شأنهم في كل
مكان وزمان. لكن "دوغول" يدرك اتجاه ريح التاريخ, كما يقول, رغم أنه
عسكري.
إن عبقرية مثلك حرام أن تحرم من شمعة
العلم, التي أوقدتها فرنسا في هذا البلد. ولقد كتبت رسالة خاصة لمديرية الثانوية
التي ستلتحق بها, أوصيهم فيها بأن يعاملوك معاملة خاصة, وأن يراعوا ظروفك مثلما
فعلت, وإنني لواثق من أنهم ليسوا في غباوة العساكر الذين طردوا أباك وعمك إلى
الجبل.
انتفضت.
لا شك أن وجهي لحظتها احمر. أدرك
اضطرابي, فابتسم مرة أخرى يطمئنني, ثم راح يغير الحديث شيئا فشيئا. "إنك الآن
الوحيد في دواركم الذي باستطاعته أن يقرأ ويكتب بالفرنسية, وغدا يوم تستقلون. لا
تندهش. إنني أومن مثلكم, بأنكم, طال الزمن أو قصر,ستستقلون. غدا يوم تستقلون,
ستكون أحد أعمدة الإدارة الجزائرية, وستكون مدخل بلدكم نحو العصرنة. ستتذكر دائما
وأبدا أن فرنسا, مهما قست, قد علمتك. وإذا ما كنت في سلك التعليم, فستوقد في بيوت
عديدة شمعات العلم والمعرفة. ستعيد بناء ما هدمه عمك وأبوك.
ألست فرنسيا ؟
تجرأت مرة أخرى, فأقدمت على إحراجه كما
بدا لي.
بلى. ولكني فرنسي يحب فرنسا. إن ديغول
بفكر بالطريقة نفسها التي أفكر بها, ويرى ما أراه, بل إن هذا التفكير لهو تفكيره,
وعليكم معشر المسلمين أن تثقوا في هذا الرجل, وأن تعينوه كي تخرجوا من المأزق.
رفعت حاجبي استغرابا, فرفع كتفيه قائلا
:
-هكذا. كل حرب تنتهي إلى سياسة.
عندما اقتربنا من المدينة فتح حافظة
نقوده, وأخرج منها ورقة بخمسة آلاف فرنك, وراح يحتم علي أن أتقبلها.
قد تحتاج إليها. المدينة ليست مثل
القرية. ثم إنك ستضطر لشراء بعض الكتب والأدوات. ماذا يقول الناس ؟ معلمك, هو أبوك
الثاني. ربما يأتي يوم أكون فيه الأب الوحيد.
ابتهجت مع ذلك للورقة النقدية التي
وضعتها في جيبي, إلى جانب ورقة أخرى بألف فرنك تبقت من نقود الجهاز. أحسست باعتزاز
غريب بما في جيبي, وعبرت عن امتناني وشكري لمدير المدرسة بأجمل التعابير التي
تعلمتها, وكأنما أردت مكافأته. بادرته :
- إنني أكتب شعرا.
جميل. عندما تأتي في العطل تقرأ لي بعضا
منه.
وفي الحقيقة تستهويني القصة.
قهقه من أعماقه.
لهذا لم يقتله المجاهدون, بل لقد أوصوا
به خيرا. إنه يحب العرب كثيرا.
قال قريبي. فلم أعلق بشيء, ورحت أفكر في
الورقتين النقديتين, بينما واصل قريبي," إني أتساءل عما إذا كان عطف بعض
الفرنسيين يكفي لمحو الضغينة التي نمت طوال قرن وربع القرن تقريبا؟ هل يأتي يوم
ننسى فيه الجرائم الوحشية التي ارتكبوا, عساكر ومدنيين؟ يكون شهداؤنا وموتانا مجرد
جسر عبرناه من حالة نحو حالة أخرى ؟ من وضعية استعمار إلى وضعية استقلال؟".
لم أكن أفقه كثيرا في السياسة, لكن كما
يقال, الدوام يثقب الرخام. ثلاث سنوات ونصف من الحرب, والحديث المركز عن الحرب,
وربط كل ما في الحياة بالحرب, جعلتني أستطيع استخدام فكري بعض الشيء وأتابع ما
يقوله قريبي.
"يقول ستعيد بناء ما هده عمك وأبوك."
قلت لقريبي, عله يشاركني الحيرة, فنخرج بنتيجة مشتركة. إلا أنه راح يتحدث عن أعمدة
الهاتف وأعمدة الكهرباء المقطوعة وعن الجسور المنسوفة والسكك الحديدية التي تخرب
من ليلة لأخرى وحقول الكرم التي تقتلع في ضيعات المعمرين.
لقد قال حقا, فمن تريده أن يعيد غدا
بناء الجزائر ؟ أم هل نستبقيهم بعد كل هذا "العيب" الذي حدث بيننا ؟
طبعا لا.
كان قريبي يقارب السبعين, يفهم اللغة
الفرنسية, ويتحدث بها مكسورة ملحونة. تعلمها في الجيش الفرنسي حيث خاض عدة حروب
بدءا من حرب أربعة عشر – ثمانية عشر, إلى حرب الشام, إلى الحرب العالمية الكبرى,
إلى حرب الفيتنام, التي فقد فيها ذراعه اليسرى, ومنح بدلها راتبا شهريا دائما,
وعدة نياشين يضعها في جيبه, ويستخرجها عند الحاجة ليعلقها على صدره.
تزوج, يقول, في المغرب وفي تونس وفي
كولن بألمانية, وفي حلب, وفي سايغون, وله في كل هذه الأقطار أولاد. يقول لعمي
المختار كلما التقى به, ويبدو أنه يلتقي به كثيرا, "يوم يعوزكم الرجال,
أخبروني, كي أستنفر نسلي من جميع الأنحاء." سمح له وحده بشرب الخمر,
وبالاقتراب من الفرنسيين, وبالمشاركة في حفلات الرابع عشر من جويلية وعيد الميلاد
ورأس السنة.
بالمقابل, كان الخيط الرابط بين كثير من
حلقات الثورة في المنطقة, وأحيانا يكلف بالاتصال بمناطق نائية, فيغيب أياما أو
أسابيع, وعندما يعود ويسأل أين كان, يقول إنه كان عند زوجته الشاوية في باتنة, أو
القبائلية في تيزي وزو.
أنا الوحيد ربما, الذي يعرف أسراره, فقد
كنت بدوري, خلال العطل, أكلف بمهام محلية من تبليغ رسائل, إلى إيصال حصيلة
الاشتراكات إلى المجاهدين, إلى ربط اتصالات بين الأقسام.
"وهذا الشيطان أثق فيه كل
الثقة," يقول عمي المختار, "بسبب حيله ومكره أيبسه الله هكذا مثل
الثعلب."
يعلق ضاحكا. وكم مرة بلغت لقريبي نفسه
أوامر ينفذها بامتثال بالغ.
"نوشك أن نصل"
قال, فرحت أتطلع من زجاج الحافلة
الأمامي المغبر إلى المدينة التي تروى عشرات وعشرات من الحكايات والأساطير عنها,
وعن باياتها, وعن الجبال المحيطة بها, وعن جرف كاف شكارة العظيم, وعن جسورها
المعلقة بخيوط الحديد, والتي كثيرا ما تلقي البنات المخدوعات بأنفسهن منها, وعن
اللصوص, الذين يعترضون في الليل سبيل كل عابر, وينتشلون في النهار النقود والساعات
من جيوب الفلاحين الوافدين من البوادي والقرى, بالإضافة إلى عمليات النصب
والاحتيال المختلفة.
اليهوديات جميلات في هذه المدينة.
قال قريبي كأنما يوصيني بهن خيرا, فاحمر
وجهي, وقلت له, إنني لا أراها مع أنه يقول إننا وصلنا. فقال, " إنها تختفي
وراء سفح الجبل هذا. هذه المدينة, بفضل أوليائها الصالحين : سيدي راشد وسيدي
الأخضر وسيدي مسيد, وغيرهم كثيرين, محجوبة. ورغم أنها تقع في قمة جبل, لكنك لا
تراها إلا حين تدخلها. وسواء جئتها من الشمال مثلما نفعل الآن, أو جئنها من الجنوب
أو الشرق أو الغرب, فإنك لن تتكشف عنها, ولن تتبدى لك, إلا حين تكون بين أحضانها,
الشاي لله يا سيدي راشد. تعلم أنني طفت العالم أجمع, وتركت في كل أقطاره زريعة, مع
ذلك لم أر أجمل وأبهى وأسحر من قسنطينة, ومن بناتها, ومن أكلها, ومن لباسها."
كانت الحافلة تلهث في العقبة متعبة,
وكان العرق يتصبب منا, فرغم أن الفصل خريف, إلى أن الحرارة كانت شديدة, كما لو أن
هناك تسخينا ما. أوقفنا فجأة حاجز العسكر المنتصب في المنعرج, فأخرج قريبي حزمة
نياشينه, وعلقها بسرعة عجيبة.
أمرنا بالنزول والاصطفاف واستظهار
هوياتنا, وتصاريح السفر, فامتثلنا, ورحنا نتقدم واحدا واحدا , لنتعرض إلى تفتيش
دقيق, قبل أن نؤمر بالالتحاق بالحافلة.
بادرت كعادتي بالتحدث بالفرنسية الطليقة
فابتهج العسكري الذي كان يتأهب لتفتيشي تحت حماية رشاش زميله المصوب إلى صدري,
وسألني إلى أين اذهب, وابتهج أكثر عندما أعلمته بأنني ألتحق بالثانوية. لم يكتف
بعدم تفتيشي, بل ربت على كتفي وتمنى لي حظا سعيدا.
على يسارنا سيدي مسيد, وبعيدا عنه
الحامة, وعلى يميننا عوينة الفول. ما أن تنتهي العقبة حتى ننزل عند سوق الخضار,
ومن هناك نقل "كليشا".
كانت العربة تشق المدينة متوجهة إلى
أسفل, يتباهى حوذيها بأنه حصل على زبائن في هذا الظرف الصعب, وذلك بإصدار أمر إلى
حصانه يستحثه على الإسراع, بينما هو ينوي, كما يتضح, عكس ذلك تماما.
كيف الحال عندكم ؟
كالعادة المعارك, والتمشيط.
وعندكم ؟
البارحة, الحملاوي نفذ الإعدام في آغا
بالمقهى الكبير ؟
ومن قال إنه الحملاوي ؟
فكرت أن أسأله إذا كان يعرفه, ثم بدا لي
أن مثل هذا السؤال قد يثير سخريته, فالرجل, رغم أنه لم يصافحه وهو يركب ويأمره
بإيصالنا إلى وادي الرومان, يتحدث معه كما لو أنه معرفة قديمة. بل هو, أكثر من
ذلك, يتحدث معه في قضايا لا يتحدث فيها المرء عادة إلا مع الثقة. لا يمكن أن يدخل
بابانا آدم هذه المدينة والنياشين على صدره, إلا إذا كان مطمئنا على نفسه.
قلت, وأنا أزداد إعجابا بحكمة قريبي
وحنكته, وقررت أن أستفيد منه, إلى أقصى حدود الاستفادة.
حاصرت وحدات من الجيش السويقة, من أولها
إلى آخرها, وراحت تنقب عنه, لا أقول لك بيتا فبيتا, بل في كل ركن من أركان كل بيت.
حتى "دار الفساد" قلبتها غرفة غرفة وسريرا سريرا, وسط احتجاج البنات
وشتائمهن.
الحملاوي فحل. الله يحفظه.
آمين.
تأكدت من أن بابانا آدم يعرف الحوذي, بل
إنه هو أحد الخيوط التي يرتبط بها في المدينة. أكثر من ذلك, فهمت أن صلة ما تربط
الرجل بقريتنا, وبدوارنا بالذات, وأنه يسكن بدوره وادي الرومان, فقد سأل من نقصد
هناك, واستفسر تلميحا عن قصدنا, خاصة وهو يستغرب أمر الحقيبة الجديدة الثقيلة التي
تربض عند ركبتي.
أول من يدخل الثانوية من الدوار. المختار عمه.
الله يبارك. يبدو صغيرا.
"شارف
تحت الجلد". خصاله عظيمة. أليس كذلك, يا أنف الثعلب ؟ سيحتقرونك في الثانوية.
أخطأ في هذا التنبؤ, فرغم أني كنت أبدو,
جسديا, من أصغر التلاميذ, في الصف, إلا أنني في السن, وفي التجربة, كنت أكبرهم.
يعود ذلك إلى أنني دخلت المدرسة متأخرا ثلاث سنوات, ومع أني قفزت سنة كاملة بقرار
من المدرسين ومن المدير, إلا أن فارق السن ظل كبيرا. إذ أن سنتين في عمر الطفل, لا
يمكن إخفاؤهما.
تمكنت في وقت قصير من فرض وجودي, رغم كل
شيء.
نعم. كل شيء, بدءا بطريقة حلق شعر رأسي
الذي كنت أقرعه بالموسى في رحبة الجمال, كل ثلاثة اشهر, حتى لا أضطر لإضاعة الوقت
في مشطه عدة مرات في اليوم, وإلى قصه باستمرار. وذلك ما أكسبني من يومها, لقب
غاندي, إلا عدم ارتدائي للمئزر الأسود الذي أحتفظ به في محفظتي الكبيرة, إلا في
القسم. الأمر الذي يضطرني إلى الالتجاء إلى المكتبة, منكبا على المطالعة, كلما كان
هناك فراغ, حتى لا أبدو مثل خروف وسط جديان سود, إلى مئزري نفسه, الذي كان فضفاضا
إلى حد كبير جدا – لقد اخترته كذلك حتى يواكب معي, هو وباقي الثياب, سنوات الدراسة
كلها.. أما المراييل والتبانات خاصة, فقد أقسمت أن لا ألبسها إطلاقا, نكاية في
الذين اخترعوها, ما داموا لا يفتشوننا داخليا. فالمسألة تعنيني أنا قبل غيري, إلى
انزوائي المتواصل, كلما أتاحت لي الفرصة ذلك.
أما أقرأ وإما أكتب الشعر.
ضايقني مرة شاب فرنسي في السنة
النهائية, فهمست في أذنه, "إنك لا تريد أن تذبح من طرف "الفلاقة"؟
لم أستعمل عبارة الذبح, لكن حركة إصبعي التي مررتها جيئة وذهابا على عنفي جعلته يفهم جيدا أن
المسألة تتعلق بالذبح.
أشاع ذلك وسط كل زملائه, فصار أحدهم,
إذا ما التقى بي في مكان خال, يطلق ساقيه للريح وهو يلتفت يمنة وشمالا.
قبل ذلك, سبقته إلى القيم العام,
فأخبرته بكل ما جرى.
كان القيم العام شخصا ضخم الجثة إلى حد
خارق للعادة. طوله يتعدى المترين, بالإضافة إلى غلظة عظامه. ينعته الجميع, بما في
ذلك المدير, بالعملاق, حتى إنه لا أحد يتذكر اسمه أو لقبه. من أصل كورسيكي. يبغض
أن ينسب إلى الفرنسيين, وفي كل مرة يصحح, "لا. أنا كورسيكي, ولست
فرنسيا."
بشكل ما كان صديقي, وكنت أقرأ عليه من
حين لآخر أشعاري, وأناقشه في آخر كتاب قرأته. لفت انتباهي إلى كتب قال إنها مهمة
وقيمة, فكان أول اتصالي بالفكر الماركسي, وتعرفي على الاشتراكية.
ترانا نمشي في ساحة الثانوية جنبا إلى
جنب, كل منا بخصائصه, فتسمع ملاحظات من هنا وهناك, وترى غمزات وابتسامات, خاصة من
لدن أولاد الذوات الذين كانوا يبصقون كلما مررت قربهم لسبب لا أدريه.
ذات مرة سألني عما إذا كنت أعرف الثوار.
قلت له أعرف أحدهم, فقال, "أوصلني إليه." "وما تريد عنده."
أعرض عليه معونتي."
- "هو ذا أمامك."
- أنت ؟
- نعم أنا
- منذ متى ؟
- منذ بدأت
لست أدري ما إذا كنت شجاعا أم أحمق أم
واثقا فيه إلى هذا الحد ؟ لكن كان رأيي, منذ ذلك اليوم, أن بعض الصداقات لا بد لها
من ثمن, أقله الثقة.
- "وكيف لي أن أصدقك ؟"
- "سنرى."
اتصلت بالحوذي, الذي أوصلنا بالعربة,
السنة الماضية, أنا وقريبي بابانا آدم. حملته رسالة شفوية إلى عمي المختار, فجاء
الرد بعد يومين. اصطحبه معك.
"وكل ما يفعله الولد سليم,"
قال لهم عمي المختار, عندما حذروه من أن أكون مخدوعا."العفريت لا يمكن أن
يتصرف خطأ."
اصطحبته في عطلة الربيع إلى القرية, في
حافلتنا العزيزة, التي بدأت تهرم, ثم إلى الدوار, على حمارين أحضرهما بابانا آدم.
في الليل, داهمت دارنا دورية من
المجاهدين, فيها أبي وعمي المختار. سهرنا حتى الفجر. كنت أترجم أسئلة عمي الكثيرة,
وأجوبة العملاق المطولة. الجنرالات غاضبون على دوغول, والمؤكد أن دوغول سينتصر
عليهم. إنه يماريهم حينا, ويجاريهم حينا آخر, لكنه في كل مرة يطلق ما يوحي بأنه
كره هذه الحرب القذرة – مع أنه مثلهم, لا يستعمل عبارة الحرب, ويكتفي بأحداث الجزائر-
وما يوحي باعترافه بوجود شعب آخر في الجزائر, ليس فرنسيا, بل جزائري. هذا مهم لكن
بالنسبة إليكم, دوغول لا يعني كذلك الرجل الطيب. إنه ينظر إلى بعيد, إلى مصلحة
فرنسا في المستقبل, كرجل محنك يعلم أن زمن الاستعمار المباشر ولى, وحل محله
الاستعمار الجديد.
كانت ترجمتي لهذه الجمل تكاد تكون وضعا
من عندي, فقد تناقشت والعملاق كثيرا حول هذه القضية, وتعرفت على رأيه بدقة.
إننا مسرورون أن يكون في صفوفنا فرنسي
مثلك.
لا لست فرنسيا. أنا كورسيكي. وأحذركم من
الفرنسيين الذين يلتحقون بكم, أو يعملون معكم.
لكننا لا نتعامل إلا مع من نثق بهم.
لا أقصد ذلك. إنما ما سيمثلونه في
المستقبل من جسر بين قومهم وبين أصدقائهم. سيأتي يوم يكون فيه الفرنسي الواحد
عبارة عن فيلق كامل.
هذا أكثر شيطنة وخبثا منك.
قال لي عمي المختار بالعربية, ومع ذلك
ترجمت الجملة للعملاق, فضحك من أعماقه لأول مرة منذ خروجه من قسنطينة, وبعد هنيهات
أكد :
عادة ما لا تنتهي الحروب حين تبدأ. إن
ما يتوقف هو المعارك المسلحة, أما المعارك السياسية من أجل المصلحة التي لا حدود
لها فتبقى. العصر عصر الاستعمار الجديد.
لم يفهم أحد غيري ما يعني العملاق, فقلت
له, بأنه ربما يستبق الأحداث, فأكد أنه يعلم ذلك, لكن من المفيد أن يتنقل مثل هذا
الكلام بين المحاربين, وبين القادة بصفة خاصة.
قل له, هل يتفضل فيكتب لنا تقريرا, في
هذا الكلام, نرسله إلى قيادة الولاية.
بكل سرور. عمك حكيم يا غاندي.
عمي المختار لم يكن يقرأ كثيرا, فقد حفظ
في صغره ربع يس في الكتاب, وفكر جدي في إرساله إلى جامع الزيتونة, ونفذ فعلا
رغبته, بأن جهزه وأرسله بصحبة مجموعة من الطلبة الذين يمرون علينا قادمين من بلاد
القبائل, إلا أنه, بعد شهرين أو يزيد, بعث رسالة من فرنسا, يخبر فيها بأنه في أحسن
حال, يشتغل في البناء.
كانت الرسالة مرفقة بحوالة مالية ذات
قيمة محترمة مكنت جدي من شراء بغلة, فلم يغضب, واكتفى بالقول, "وما تشاءون
إلا أن يشاء الله رب العالمين."
لا يشبهني ولا يشبه أبى إطلاقا, إذ كان
على عكسنا, أبيض يميل إلى الحمرة, أزرق العينين, طويل القامة, عريض المنكبين,
ميالا إلى الفكاهة, يأخذ الدنيا من جانبها الهزلي. "الموت فيها فيها, فلم
الحزن والتضايق؟" يقول, ويضيف, "لا بد أن يذوق الفقير من جميع ما يأكل
الغني, طال الزمن أو قصر, ولا بد أن يذوق الغني, من جميع ما يصيب الفقير, خاصة
المرض والموت." يضيف ضاحكا.
كان يشبه جديي في كل شيء, أما أنا وأبي
فنشبه جدي, وبقية أفراد الدوار. ذلك أن جدتي, من دوار آخر, اشتهر ناسه بالجمال
وبقوة البدن.
خطبها جدي, وتوسل بجميع الوسائل
والمعارف, إلا أن أهلها رفضوا . وأصروا على الرفض بحجة أنها "مسماة" على
ابن عم لها انقطعت أخباره منذ حرب الشام, ورغم أن بابانا آدم يؤكد لهم في كل مرة
أنه دفنه بيده, فقد فضلوا الانتظار قائلين, إن الغائب ففي حكم الله.
ما كان من جدي إلا أن تنكر في هيئة بياع
متجول على حمار, وطلب المبيت في دار أهلها, الذين استيقظوا في الصباح, فلم يجدوهما
معا.
"مقادير رب العالمين. العظام تنادي
بعضها والمكاتيب تلاقي."
أجمع الجميع بعد ستة أشهر من التخفي,
وتمت المصالحة.
***
وقف أما باب الحديقة والهتافات تملأ
أذنيه, "لا إله إلا الله, محمد رسول الله, عليها نحيا, وعليها نموت, وعليها
نلقى الله." وكان مهموما, مغموما, متعبا, روحه ورأسه أثقل من أن تحملهما
ركبتاه, يعذبه السؤال المحير, الذي تجدد مثيرا مستفزا.
هل يمكن أن تكون بينه وبين هؤلاء الناس
صلة ما ؟ هل ينبغي أن تكون بينه وبين هؤلاء الناس صلة ما ؟ انفتحت آلاف الدهاليز
في رأسه, وذلك ما جعله يقطع مسافة سبعة عشر كلمترا أو يزيد, بين ساحة أول ماي وبين
بيته في أقصى ضواحي الجزائر, راجلا.
توقف قليلا يلتقط نفسه, ثم انتزع السلك
وأعاد وضعه بعد أن دخل. ينبغي أن لا يعلم أحد, كائنا من كان أنني هنا.
صعد الدرجة. تطاول يدير المفتاح في
القفل الأعلى. نزل, وأدخل المفتاح في القفل الأوسط, ثم انحنى وعالج السفلي.
تعود أن يلقي نظرة تفقدية, حالما يدخل,
على جميع المحتويات الصالحة وغير الصالحة.
نعم هناك محتويات عديدة في البيت غير
صالحة, لكن من يدري, فقد يأتي يوم وتليق فيه لغرض ما ! ثم إنها ما دامت لا تضايق
أحدا, فبقاؤها هنا أحسن من وجودها في مكان آخر.
الأحذية القديمة هنا. قطع غيار السيارة
الجديدة والمستعملة هنا أيضا. الأقفال المكسورة التي بدلها السنة قبل الماضية
بدورها هنا, هي ومفاتيحها. آلة الغسيل المعطلة, مع قطعها المفككة في مكانها. مصاص
الغبار الكهربائي المعطل بدوره في مكانه. العجلات, وهذا هو المهم, لم تمسس. المدخل
كله على ما يرام. بقي الفوق.
صعد الدرجات الرخامية المغبرة. المعلقات
كلها في مواقعها. اللوحة الزيتية التي تمثل فرسا إنجليزيا شامخ الأنف, في إطار
خشبي رائع, هنا. الملصقة الملونة التي يبرز منها حصانان أشهبان, يلاعب بعضهما
بعضا, فيبدوان كأن الواحد منهما نسخة أو ظل للآخر, بدورها لم تتحرك. الرسم الذي
حاول وضعه لأحد أضرحة بني آجدار, على ضوء وصف "بلا نشير" له, هنا كذلك.
انتهت الدرجات. تعود أن يعدها في كل
مرة, فيجدها عشرين, إلا أنه هذه المرة أغفل فعل ذلك.
لا شك أن عددها لم يزد ولم ينقص.
الطاولة في المدخل العريض بما عليها من
كتب وأقلام وأدوات مطبخ, ها هنا مع كرسيها الحديدي. على اليمين بابانا : واحد يؤدي
إلى بيت الحمام, والثاني إلى المطبخ. الثلاجة هناك تئز محتجة على عدم انفتاحها
كامل النهار. قبالتها, بابان أيضا: واحد لغرفة متسعة تحوي جهاز تلفزة, وسلسلة
موسيقى ستيريو مغبرة, وسخنا غازيا, وصندوقا عريضا به أدراج مغلقة, وزريبة صغيرة
عليها وسادة. الباب الآخر لرواق عريض به خزائن جدارية, ويؤدي يمينا إلى غرفة
التلفزة, وشمالا إلى غرفة متسعة بها سرير عريض من الواضح أنه غير مستعمل, وبها عدة
أغراض ملقاة كما اتفق. شمالا, هناك ثلاثة أبواب " واحد ألصقت عليه ورقة كبيرة
عليها علامة الطريق, ممنوع المرور, وهو لمرحاض. الثاني لغرفة تتكدس بها, في فوضى,
آلاف الكتب باللغتين العربية والفرنسية, وبعض صور لكتاب وفنانين, وأصداف بحرية
متآكلة, وبقايا أعشاب ملتقطة من مناطق مختلفة, تنتظر الترتيب والتصفيف. وقد ألصقت
عليه ورقة بها رسم تخطيطي آخر بأقلام ملونة لضريح آجداري يبدو في شكل دوامة
لولبية. الثالث لغرفة بها سرير لشخص واحد, ومئات الكتب والمجلات, ومكتب تنتظم
عليه, على خلاف باقي الأشياء المبعثرة, أوراق مسودة وبيضاء وأقلام وعدة قواميس.
لكل الغرف نوافذ تطل على الخارج, وبلاط
موحد ذو نقوش ملونة جميلة. وفيها أنبوبات نور تتدلى عارية ضعيفة القوة إلى حد
كبير.
عادة ما يعلق, في قلبه.
العالم كله يتحرك إلا عندي, وحسنا يفعل.
لكن هذه المرة, اكتفى بإلقاء نظرة خاطفة
ليسرع إلى الغرفة اليسرى, فينزع ثيابه ويلقيها على الكرسي وراء المكتب. السترة غير
المبطنة, والقميص الذي لا رقبة له وكأنه قميص ماوتسي تونغ, والسروال الجينز
الفضفاض تخلص منها كلها, واتجه نحو الحمام ليغتسل بالماء البارد.
سرعان ما ادلهمت الظلمة, فلم يبال. هناك
في الثلاجة بقية من لوبيا بيضاء, مطبوخة من يومين أو ثلاثة. يسخنها, ويضيف إليها
قليلا من زيت الزيتون, وإذا ما كانت لقست فعلا, فهناك خبز شعير يابس يغليه, كعادته
كل صباح, في الماء ويصب عليه إما الزيت وإما الحليب, ويكون قد تعشى عشاء الملوك.
قطع المسافة بين الحمام وبين الغرفة ذات
السرير العريض, عاريا. تناول من على السرير قميصا أبيض طويلا. ارتداه, وراح يفتح
حقيبة قديمة زاملته منذ أيام الثانوية, وربى نحوها عاطفة خاصة, وهي الوحيدة التي
يصبحها أو يمسيها, ويحييها كلما قابلته.
إنها الشيء الذي فلت من دهليز الماضي,
ولم يعتره تغير, سوى تآكل طفيف في أحد أركانها نتيجة الترحال المتواصل.
فتحها.
استخرج برنسا صوفيا ابيض رقيق النسيج
قدمته له العائلة هدية سنة حصوله على الأهلية. لقد قضت أمه وخالته أم العارم
الشتاء كاملا معه. كانتا مرة تغزلان الصوف, ومرة تنسجان, مع ما يصحب العملية من
أغان وتهاليل حزينة مثقلة بالفجائع تارة, ومتفائلة طافحة بالخيرات تارة أخرى.
لكنها كلها تجمع على الآمال العريضة المعلقة على الرجل ولد الرجال.
نادرا ما يولي اهتمام خاص لنسج برنس أو
قشابية, فالعملية جد عادية, وتتواصل طيلة السنة. لكن هذا البرنس بالذات, ليس ككل
البرانس. إنه لرجل عظيم يستعد لأن يكون سيد كل القوم في المستقبل الآتي. لقد تجاوز
مستوى القائد والخليفة والحاكم, وهو, يقول المختار, في مستوى البريفي.
يا أختي! الولد من صغره, كبير.
احتزم, ثم ارتدى البرنس, واتجه إلى غرفة
التلفزة. قلب ضمن أشرطة عديدة, واستخرج شريطا حشاه في المسجلة. ضغط على زر, ورفع
الصوت إلى أقصى حد, وانطلق يرقص على اللحن الفولكلوري, الذي تجسده أساطير عدة
تتحدث كلها عن الفارس الفازع والاستفزاع.
لعله فارس واحد, ولعلهم فرسان عديدون.
الحكايات تختلف. لكن التركيز يقع على سرعة الاستجابة, وعلى استماتة الخيل في
الركض.
كان يطوي الغرفة جيئة وذهابا, ذهابا
وجيئة, يلهث, والعرق يتصبب منه وجناحا البرنس يتطايران.
لم يكن هنا في هذه الغرفة.
كان هناك, هناك, بعيدا في الزمان
والمكان, في قسنطينة البهجة, في الثانوية الفرنسية الإسلامية, التي تقع في ساحة
صغيرة جنب مقهى النجمة وجسر المصعد, مطلة على وادي الرمال المنهمك, على عمق مئات
الأمتار, في قضاياه الخاصة, كما كان يعبر عنه في شعره. يحاور الحمامات المتعددة
الألوان التي تبدو من فوق, في قرارها ذاك, أشبه ما تكون بذكريات من الماضي السحيق,
وهي تحوم كواقع, لكن ليست سوى سراب يظهر ويختفي. يلوح ويروح. همها الابتعاد كلما
تأملناها.
إنما تظل منارة خافتة ترسل إشاراتها عبر
الضباب لسفننا كي لا تتيه.
تقرر أن تقام حفلة اختتام السنة
الدراسية, وبدأ الإعداد لها قبل ثلاثة أشهر. كان بعض يتدرب على أداءات موسيقية,
وبعض آخر يتدرب على مسرحية لراسين, ورغم أنني اخترت لأداء دور العجوز المرابي, إلا
أنني قررت أن أقدم عرضا خاصا بي.
عرضت المشروع على صديقي العملاق, فقبله
دون تردد, نعم الثانوية فرنسية – إسلامية, وينبغي أن يعرض فيها شيء يخص فولكلوركم.
سيكون هذا لأول مرة.
أقنع بدوره المديرية, التي لم تتعمق في
درس المسألة على ما يبدو. قال لهم إن المسألة وما فيها رقصة أهلية فولكلورية
يؤديها طالب مجتهد.
بقيت الموسيقى. لا أحد في الثانوية يحسن
العزف لا على القصبة ولا على الزرنة, ولا أحد يعرف إيقاع اللحن. جزائريون صوريا.
أولاد أغنياء, وأولاد موظفين من مختلف الرتب والدرجات في الإدارة الفرنسية. لا شيء
فيهم جزائري, عدا شعورهم بالتضايق من ارتباطهم العرقي بنا, وعدا جلد الذات المستمر
بالانتقاد اللاذع.
لا تعرفون كيف تلبسون ولا كيف تأكلون.
لا تسوقون الطائرة ولا تستطيعون صنع إبرة. بقر الله في زرع الله.
كانوا يضحكون مني ومن العملاق هازئين
بالفكرة التافهة هذه. إنزال المستوى في حفلة واحدة, دفعة واحدة, من موسيقى
"دي بيسي" إلى فولكلور الشاوية ؟
يثور ضحك أحدهم, مصطنعا, عندما يسأل هل
يحسن العزف على القصبة أو الزرنة أو هل يحسن الضرب على الدف ؟
أنا ؟
يقول بالفرنسية, ويضيف :
أمجنون أنت يا مهاتما غاندي ؟
وجدتها طريقة سهلة لاستفزازهم, فرحت
أولا أنفرد بهم واحدا واحدا, ثم رحت أتصيدهم جماعات صغيرة أو كبيرة, فأختار أكثرهم
تشبها بالأوروبيين, وأقول :
أنفك أنف قصاب. ألا تحسن لحن مراوح
الخيل ؟
تثور ثائرته, ويبلغ به الأمر حد تهديدي,
فأتمادى.
عجبا, لم كل هذا الغضب ؟ أليس الفولكلور فنا ؟ ما الذي يثيرك من سؤالي هذا
؟ ألا ترى أن في المسألة بعض عقد لا مبرر لها ؟
هذا فولكلور فلاحين ورعاة, فهل ترى في
الفلاح أو الراعي ؟
أبدا لا, ولكن لا شك أنك من أصل فلاحي,
شأننا كلنا.
في إحدى الحلقات, أحسست بنشوة عظيمة
للانتصار الذي حققته بلعبي.
انبرى يهودي, من رحبة الصوف بقسنطينة,
يبدي إعجابه باللحن. قال :
تدربت عليه أسابيع عديدة, ومع أنني أحسن
العزف على الزرنة, وأحفظ ألحانا كثيرة, إلا أن هذا اللحن بالذات, استعصى علي. قال
لي ماسياس, الذي كان يصاحبني بالدف, "كي يؤدي المرء هذا اللحن, ينبغي أن يكون
في الوقت الواحد, قاتلا ومقتولا. ظالما ومظلوما. فارسا وفرسا. ليس مجنونا فقط بل
هو الجنون ذاته. إنه صرعة وليس لحنا, ولكي يتمكن منه المرء ينبغي أن يكون هو اللحن
بالذات. هذه بعض مقاطعه كما أحفظها : طيطا. طيطا. طيطا. طيطا. يا طيطا. طاطا. يا طاطا.
طيطا.
لقد تعامل بموضوعية مع الفن.
كلا. تعاملت بذاتية كبرى. هذا اللحن
يحب. ومن لا يحبه, فهو عديم الإحساس. سأرقص معك يا مهاتما غاندي.
لا. في هذه أستسمحك. أريد أن أركب
المهرة وحدي.
ضحك الجميع, بعضهم من أعماقه, وبعضهم
مجاراة, وآخرون على مضض.
تدبرنا الأمر بعد أخذ ورد, وبعد
استشارات مختلفة. هل نحضر عازفا محترفا ؟ هل نطلب من ثانويات أخرى إذا كان بين
طلبتها من يحسن العزف, خاصة ثانوية "أومال" ذات التقاليد العريقة في
الوطنية, والتي أعطت للثورة مناضلين وقادة ؟
اشترينا أسطوانة, واستعرنا من اليهودي
الحاكي, ورحنا ننتظر الليلة الموعودة, ومن حين لآخر كنت أقوم بالتدرب أحيانا بحضور
العملاق, وأحيانا بحضور اليهودي الذي كان يشاركني الرقصة, فأصحح أخطائي من طريقة
أدائه.
الرقصة تتطلب الخفة والرشاقة وحفظ اللحن
حتى يفور الدم ويغلي ويفيض به, وليس كسر الأذن إلى الحاكي أو العازف, واتباع ما
يفعله. ينبغي أن يحس العازف أن الإيقاع الحقيقي يأتيه من الراقص, الذي ينبغي أن
يتحول إلى فرس وفارس حقيقيين.
"المسألة مسألة ودر حتى الفناء,
وليست مسألة أداء أيها اليهودي الفنان."
كنت أقول في نفسي, عندما أفتح عيني
المغمضتين فألحظ محاولاته الشاقة.
والآن.
من البعد الزمني هذا ومن خلال ما رأيت
وعشت, أعلم أنه يصعب على أي كائن آخر أن يكون جزائريا. ولد جميع الشياطين وجميع
الملائكة وجميع الجن. ولد البحر والبر. ولد الساحل والسهل والتل والصحراء.
البربري, العربي, الفينيقي, الروماني, الوندالي. الأبيض, الزنجي, الأصفر. ولد
الحماقة والحكمة. ولد الوطنية والخيانة. القاتل. المقتول. الجرح والجريح السيف
الجارح. خير الدين بربروس يركب فرسا, والأمير عبد القادر يركب بارجة. فاتح
الأندلس, وباني المعزية, وقاتل عقبة بن نافع. دونات القديس الثائر, وأوغيستان
القديس المحافظ.
كي يكونه أحد, ينبغي أن تتمكن منه جميع
اللعنات. أن تنفذ فيه دعوة تينهينان ملكة الهغار, إلى جانب دعوة الملك يوغورطة
المخدوع, إلى جانب دعوة عقبة بن نافع المقتول, إلى جانب دعوات البحارة الذين
أغرقهم في الأطلنطي وفي المتوسط.
كي يكونه, ينبغي أن لا تكون هناك حدود
بين طيبته وشره, بين جنونه وتعقله, بين جيبه وبين يده.
المجنون ولد المجانين. الحكيم ولد
الحكماء.
يلهث. يروح يجيء. يثب فوق, ثم ينحني.
رغم أن عينيه مغمضتان, إلا أنه يحفظ حدود الغرفة مثلما يحفظ اللحن, مثلما يحفظ
دهاليز الزمن.
يجيء يروح. يلف يمينا, ويرسم دائرة. يلف
شمالا, ويرسم زوايا قائمة أو حادة.
فرس مجنون في حقل ضيق. فارس مزهو في عرض
الصبايا.
جاءت الليلة الموقوتة. امتلأت القاعة
الضخمة بأولياء التلاميذ في الصفوف الأمامية. معظمهم جزائريون في ألبسة تقليدية
تتباهى بالنعمة والمحظوظية. برانيس سوداء, وحمراء, تكشف عن برانيس بيضاء أسفلها.
عمامات صفراء, وبيضاء, محاطة بخيوط وبر بعضها مطرز بالذهب, مثل البرانيس. قليل من
الأوروبيين أولياء التلاميذ يصطحبون زوجاتهم, ومن السلطات الرسمية بعضهم بلباس
عسكري أنيق يتلألأ مع الأنوار, إلى جانب الأساتذة والأستاذات طبعا. في الصفوف
الخلفية, تلميذات ثانوية الكدية المدعوة, وفوقهن مباشرة أولاد ثانويتنا.
انتهت المسرحية, فكانت بحق مملة لم
يتجاوب معها جمهور المبرنسين, ثم عزف اليهودي عزفا منفردا على الكمان. عزف في
الأول القطعة المبرمجة, ثم ارتجل لحنا فولكلوريا لأغنية سجلها راؤول جورنو,
"طهر يا المطهر, صحة لاإيديك. لا تجرح وليدي لا نغضب عليك".
كسرت الرتابة, وأثارت تصفيقات التلاميذ
والتلميذات, العرب والأوروبيين, فقد كان اللحن شائعا جدا.
ثم انفتح الستار عن الجوق.
علت التصفيقات, خاصة من طرف أولياء
التلاميذ, الذين راحوا يبدون إعجابهم بأبنائهم في لباسهم الموحد.
الجميع في سراويل "غولف"
رمادية, وسترات سوداء, وقمصان بيضاء مزدانة برباطات عنق فراشية الشكل سوداء اللون
بدورها. على رؤوسهم جميعهم "بيريهات" باسكية سوداء.
ارتفعت مسطرة أستاذ الموسيقى قائد
الجوق, إلى فوق, فانبعث لحن النشيد الوطني الفرنسي, " إلى السلاح مواطني.
شكلوا فيالقكم العلم المدني ارتفع. ليس سوى الدم الفاسد يغسل خنادقكم."
نهض جميع من في الصف الأمامي, وجميع من
في صف البنات المدعوات, وشذت صفوف أولاد ثانويتنا, حيث سرت عدوى عدم النهوض. بعضهم
لا مبالاة, وبعضهم تحديا لأمر ما, فقد كان الشعار الرائج بيننا : ما جعل النظام
إلا ليخرق, بينما بعضهم الآخر كان موقفهم وطنيا.
تأكدت من ذلك فيما بعد, عندما جاء دوري.
إليكم الآن رقصة فولكلورية عنوانها رقصة
الفرس.
أعلن المقدم, بعد مقدمة مطولة, كأنما
تبرر تقديم مثل هذه الرقصة. الثانوية فرنسية إسلامية, تسعون بالمائة من تلاميذها
مسلمون, تخرج منها قبل عشر سنوات كذا وكذا, وفي سنة كذا وكذا وكذا إلى غير ذلك من
الأرقام, التي أجلت على غير العادة إلى رقصتي.
كان هناك شعور بالذنب أو بتخوف ما عند
أحدهم, لعله المدير, أو أحد مساعديه, أو جميعهم.
انطلقت كل الأنوار, وبقي كشافان اثنان
ينصبان على الحلبة.
انبعث اللحن من الحاكي. طيطا. طيطا.
خرجت.
أمسك جناحي البرنس بيدي, أرفع أحيانا
اليمنى قليلا, وأحيانا اليسرى. كل ذلك حسب حركات الركبتين والصدر الذي يعلو
وينخفض, والكتفين اللذين يتقدمان ويتأخران بالتناوب.
علت التصفيقات, واستمرت لحظات طويلة حتى
من طرف محتلي الصف الأمامي, إلى جانب تصفيرات حادة, وزغرودة كررتها صاحبتها عدة
مرات. مكنتني من التغلب على بعض الوجل الذي شعرت به وأنا أقتحم الحلبة.
امحي, في هنيهات قلائل, كل من كان
هنالك, حتى الزمان والمكان. فقط . كان البرنس يتطاير يمنة وشمالا, يعلو وينخفض,
والرأس المغطى بعمامة بيضاء عليها خيط وبر, وضع في شكل لجام يهتز في حركات رشيقة.
يروح ويجيء. يرسم دائرة. يرسم زاوية.
العينان مغمضتان.
العارم تخاتل الضابط في الشعبة. تمتص
شفتيه. تداعب شعر صدره بأناملها اللطيفة. عندما بلغت النشوة ذراها انتزعت حزامها,
لا لتنام معه, بل لتوثقه, وتقوده أسيرا إلى خطيبها المغوار المختار.
المختار وأبي ومن معهم, في حمأة وطيس.
الدبابات تنفث, من تحت, نيران مدافعها. العسكر يصعد الجبل, متسلقا المتر وراء
المتر. الطائرات, من فوق, تقذف قنابل النابالم, وترسل توجيهاتها للدبابات
وللزاحفين.
كي يتوقف القصفان, العلوي والسفلي, لا
بد من الاشتباك.
يتداخل الجمعان, النيران تنطلق. القنابل
اليدوية تنفجر. الصيحات تتعالى. الله أكبر. إليها أيها الرجال. انتبهوا أين تطلقون
النيران. الطائرات تنخفض إلى حد يصم الآذان. النار تشتعل في إحداها, فتولي الأدبار
مخلفة وراءها دخانا أسود.
الليل يهبط. الصاعدون, بقاياهم يتسللون
نازلين. النازلون يتسللون يمينا شمالا قاصدين موقعا آخر تواعدوا فيه كشأنهم إثر كل
اشتباك. غدا يتكرر الحصار والتمشيط, فلا يجد الزاحفون سوى بعضهم.
أمه. أخته. خالته. كل نساء الدوار
وأطفاله وشيوخه ينطلقون, مع الفجر, هاربين إلى المناطق المعاكسة لمنطقة المعركة.
يعلمون علم اليقين أن الصبح سيتنفس بدبابات وشاحنات تملأ الدنيا ضجيجا وأغبرة.
تتوقف أولا وقبل كل شيء عند الدوار, تقلب هذا البيت وذاك بحثا عما قد يدلها على من
كان أمس يشتبك معهم. سيسألون إن وجدوا مريضا أو نفساء, أين المختار, أين الحواس
أين محمد ؟ لقد أكلوا هنا. لقد مروا من هنا. متى رأيتموهم آخر مرة ؟ قد تحرق
المنازل بعضها على الأقل. منزل المختار, ولربما غيره.
أحدهم يتعثر. إحداهن تقع. من تكون ؟
الهمسات تتواصل. من هنا. من هنالك. الوادي قريب. لازموا ضفته حتى المنعرج. هنالك
نحط الرحل. إحداهن تتوجع. جاءها المخاض. أتستمر أم تتوقف ؟ أتبقى وحدها أم تبقى
معها إحدى النساء ؟ يبقى الجميع معها والاتكال على الله.
اصبري يا امرأة بعض الشيء, فإننا نكاد
نبلغ المقصد. يا رب. يا أخوتي.
قسما بالنازلات الماحقات/والدماء
الزكيات الطاهرات/والبنود اللامعات الخافقات/ في الجبال الشامخات الشاهقات/نحن
ثرنا فحياة أو ممات/وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر. فاشهدوا.
لا إله إلا الله محمد رسول الله. عليها
نحيا وعليها نموت وعليها نلقى الله.
يروح. يجيء.يرسم دائرة. يرسم زاوية.
العينان مغمضتان. الصدر يعلو وينخفض.القلب يهتز مهتاجا بالعواطف العنيفة.
رجل هنا في الغرفة المظلمة. رجل هنالك,
في القاعة المهتاجة بالتصفيقات.
المكان منعدم. الزمان منعدم.
ليس هناك سوى الشاعر, سوى مهاتما غاندي.
ليس هناك سوى الجزائر. فليرقص. ليرقص. ليرقص. ليرحل عبر الأزمنة والأمكنة, خاطرة
تاريخية. ها هنا جمال القبائل الصحراوية المغيرة يربض تحتها المحاربون البربر,
وهاهنا خيول الوندال النافرة من رائحة الجمال. ها هنا المحنة الأبدية لهذا الشعب
الذي لم يسترح يوما. ها هي عيون الذئب المطاردة عبر القرون تحدق في الفريسة بعد أن
انهارت.
ها هنا الجزائري ابن الجزائرية.
شمعة في الدهليز.
لتمح الذات, وليمح كل ما هو تافه, كل ما
هو عارض. ليبق الجوهر. الشاعر المستوعب لكل شيء, السيد الذي لا يسوده أحد, العالم
بمحتويات الدهاليز وسراديبها.
اللحن ابن اللحن.
الجنون ابن الجنون
الجزائري ابن الجزائرية.
وقع مغمى عليه, ولم يدر ما الذي حدث بعد
ذلك, لم يسمع الهتافات التي انفجرت في القاعة : تحي الجزائر حرة مستقلة. ترددت
الأصوات, من أركان مختلفة, باللغة الفرنسية. لم يسمعها. حملوه إلى سريره فاقد
الوعي, كما هو شأنه الآن.
ها هو وسط غرفة التلفزة جثة هامدة,
واللحن ينطلق وحده, طيطا. طيطا. طيطا. طاطا. طاطا.. ياطاطا. طاطا. طاطا. ياطاطا.
طيطا طيطا.
***
أيقظه عمار بن ياسر, متسائلا :
أين كنت أيها الشاعر الحكيم ؟ فأجابه,
متسائلا بدوره, "وأينني الآن؟
في الخضم.
كانت الأصوات تتعالى, مرفوقة بالزغاريد.
الإيقاع نفسه الذي استيقظ عليه, يتكرر في رتابة تبعث الخدر في النفس, ولولا
الزغاريد, التي تكسر الرتابة من حين لآخر, لكان الوضع أشبه بالجنائزي منه
بالابتهاجي.
كانت الأصوات قوية عنيفة هادرة منطلقة
من جانبي الطريق بتناوب, جهة تلهج بمقطع, وجهة أخرى تكمل المقطع الثاني. وكانت
السيارة تواصل سيرها البطيء, بلا مبالاة, رغم التحايا التي توجه لعمار بن ياسر من
حين لآخر.
كيف قامت ؟
تساءل ما أن توقفت السيارة, في انتظار
أن يفسح لها الحشد الهادر بحياة عمار بن ياسر, وقد تعرفوا عليه, مجال المرور.
لا أحد يعلم كيف قامت, إنما ها هي
قائمة. إن ينصركم الله فلا غالب لكم, وسبحان من نصر عبده, وهزم الأحزاب وحده. يوم
كنا مسجونين مطاردين منفيين في أعماق الصحاري, استعصت علينا.
كان هناك طرف يقف ضدنا. كان هناك بو,
تشم الناقة الثكلى رائحته فتدر حليبا, ويوم خيل إلينا أننا انهزمنا, وبدأ اليأس
يدب إلى قلوب رجالنا, وراحت الفوضى تدب شيئا فشيئا في صفوفنا, قامت.
لا أحد درى كيف قامت, ولكن ها هي قائمة.
لقد أصيب جسد هذه السلطة الغاشمة, منذ سنوات طويلة بفقدان المناعة, إنما حرارة
الروح كما يقال, والتشبث بالمصالح الخاصة للفئات المنتفعة, جعل عروقا هنا وهنالك
تأبى الاستسلام لقضاء الرب سبحانه.
لم يعودوا يعرفون ما يفعلون. انفرط
العقد, فلم يقووا ولن يقووا على جمع حباته وإعادة تركيبه. لقد فقدوا كل المبررات.
قدموا من خلال قناة الحزب الواحد, خطاب
كل الأحزاب. تحدثوا باسم الاشتراكية. تحدثوا باسم الرأسمالية. تحدثوا باسم الإسلام
والإيمان. تحدثوا باسم اللائكية والإلحاد. حاولوا أن يجعلوا من بلدنا الآمن قاعة
كبرى في مستشفى, جمعوا فيها كل المرضى, وراحوا يحقنون كل مريض بالدواء الذي يلائم
مرضه.
هكذا هيئ لهم, لكن المرضى تبينوا أنهم
مصابون بمرض واحد, هو هذا الخطاب الكاذب. هذا النفاق الذي فقد كل مذاق وطعم له.
قال الاشتراكيون, كفى. إما أن نتمركس
وإما أن نترسمل. قال الرأسماليون كفى. إما أن تحررونا, وإما أن تقضوا علينا
نهائيا.
قال الإسلاميون, إما مساجد, وإما
خمارات.
قال اللائكيون, كيف تعلمون أبناءنا أصول
الدين في النهار, وتقدمون لهم في الليل الأفلام الغربية الخليعة الفاجرة.
قال المدافعون عن العربية, إما عربية
وإما فرنسية.
قال المتفرنسون, إما جزائر فرنسية, ,إما
لا جزائر أصلا. نفقرها. نجوعها. نفككها. نسلمها للأجنبي.
من هؤلاء الناس, الذين يلعبون
كالبهلوانيين, بكرات عديدة, بعضها في السماء, وبعضها بين أيديهم, بعضها يعلو,
وبعضها ينزل, يشدون نفس المتفرج, وبصره, فلا هو بين هذه ولا بين تلك. لا هو مع
الطالعة ولا هو مع النازلة.
لم هم كذلك ؟ هل فقط لأنهم ليسوا أصلاء,
لم ينبثقوا من حزب واحد ومن فكر واحد وعقيدة واحدة ؟ أيكفي ذلك لكل هذا التذبذب ؟
أم هل لأنهم أنانيون إلى حد تقمصهم لكل الفئات والشرائح, والأحزاب. يتقمصون في
الآن الواحد الفقير والغني, المؤمن والملحد, المعرب والمتفرنس, الشيوعي
والرأسمالي.
كان عمار بن ياسر, يتساءل, لا يدري كيف
يجيب الشاعر عن كيفية قيام الدولة الإسلامية, هذه التي نزلت من السماء بإذن ربك,
دون ما انتظار.
وما أن انعرجت السيارة إلى نهج خال
مظلم, وانطلقت, حتى استسلم لأسئلة تنام في أعماقه. طرحها, مدة عشرين سنة, على
أبيه, فلم يقنعه جوابه, ذلك أنه ليس جوابا , بل خطاب عاطفي لا يقنع أحدا.
أبوه, اسماعيل ذكره الله بالخير, أحد
قادة الثورة المسلحة. خاض معارك عديدة, وقام ببطولات مشهودة, وبلغ رتبة عسكرية
عالية. واكب الحركة الوطنية منذ صباه, وتفرغ لها, يعمل مع الشهيد مصطفى بن بولعيد,
رحمه الله, على بث الروح الوطنية وتنظيم خلايا المناضلين, وجمع الأسلحة. تعرفه قمم
وروابي وشعاب الأوراس, كما يعرفها, ويعرف أشجارها, وسكانها. نجا من الموت مع ذلك,
لكنه يؤكد أنه, بالنظر إلى ما مر عليه وإلى استشهاد معظم الإخوان من الرعيل الأول,
محظوظ جدا. لم يكن الموت يأتي من جانب الجيش الفرنسي فقط, إنما كان يأتي أيضا من
تحت رجل الإنسان. من مناورات الأخوة التي عرفتها المنطقة لأسباب عديدة, والتي ذهب
ضحيتها كثيرون, حتى انتهى به المطاف إلى تونس, ونظرا لوضعيات كثيرة أيضا وخطى
موريس وشال المكهربين المحروسين ليل نهار. ثم نظرا للتغييرات التي تدخل على قيادة
الولاية باستمرار, لم يتمكن من العودة, وبقي يعمل في مكاتب المنظمة المدنية لجبهة
التحرير الوطني.
برز اسمه بعد الاستقلال, ثم انطفأ بسرعة
خارقة, رغم ضجة قامت حول اسمه إثر الحرب المغربية الجزائرية, التي أكلت كثيرا من
شباب أبرياء, منهم ابنه الذي حاول أن يرثيه بكتاب, يحمل عنوانا غريبا, إلا أن كل
شيء ولى مع الماضي بسرعة خارقة. انطفأت الضجة, واقتنع الضابط السابق سي إسماعيل,
شأنه شأن باقي الأحياء, بأن "من ولى على الجرة تعب", وأن المثل
الذي يقال على لسان الذئب "
اللي تتلفته اجريه", فيه كثير من الحكمة والصواب.
دهر كامل من الحرمان والشقاء, وسبع
سنوات من الحرب الضروس, يكفي ليلتفت الناس إلى شؤونهم وشؤون أهليهم, والشعب
الجزائري, لو أراد ذات يوم أن يلتفت إلى الوراء, للزمه توقف كامل, فهذا الوراء
جبال وكتل من الآلام والجراح والمتاعب, من البطولات والانخذالات والانكسارات, تبلغ
أحيانا كثيرة حدا لا يصدق الإنسان أن طاقة بشرية ما تتحمله.
ها الاستقلال بين أيدينا. ها كل شيء صار
لنا, فلنواجه المستقبل غاضين النظر عما قد كان.
نعم.
وليكن قاطع الطرقات السابق محافظ شرطة
الآن, يحمي أمن البلاد والعباد, وليكن قاتل الأرواح, في الماضي, إمام مسجد الآن.
لقد خرج الفرنسيون وباقي الأوروبيين
واليهود, وكل ما كان بين أيديهم عاد لنا. كل ما كانوا يمتلكونه ينبغي أن نمتلكه
نحن, السكنات ومحلات التجارة وحتى الصناعات الصغيرة والكبيرة, ومختلف الوظائف في
الإدارات.
علينا جميعا أن نتواطأ فنغض الطرف عما
نعرفه بعضنا عن بعض في الماضي القريب والبعيد. ليكن هذا الجيل كله جيل تواطؤ, جيلا
يلاحقه الإحساس بالذنب والإثم حتى آخر حياته.
الإسلام يجب ما قبله, كما لو أننا نلنا
غفرانا شاملا, وأسلمنا من جديد.
تم اقتسام التركة دون كتابة فريضة,
بتواطؤ غريب. استولى المتفرنسون, من شارك في الثورة منهم ومن لم يشارك, على
المناصب الإدارية, كل حسب محسوبيته, وليس حسب كفاءته.
استولى المعربون على التعليم, خاصة على
مراحله الابتدائية, وعلى بعض مناصب في المجال الإعلامي : إذاعة, صحافة, على
محدوديتها, وكذا على بعض المناصب الإدارية في مكاتب حزب جبهة التحرير, الذي لم يكن
ممكنا أن يكون سوى معرب, وعلى بعض المسؤوليات ذات الطابع الجماهيري, مثل المجالس
البلدية, والمجالس الولائية, والبرلمانية أيضا, من كان ماضيهم مشبوها, استولوا على
الأسواق, يتاجرون في الخرداوات وقطع الغيار وكل ما فيه مضاربات واحتكار, ويؤدي
بطريقة ما إلى الانتقام من هذا الزبون الذي يفترضون قبل أي شيء آخر, أنه خصم وعدو
لدود.
ذوو الماضي البسيط, أولئك الذين لم
يخونوا, أو لم تنكشف خيانتهم لأحد, وظلت سرا بينهم وبين من تعاملوا معه وبين ربهم,
ولم يساهموا في العمل الثوري, لم يلتحقوا بالجبال, ولم يقوموا بأي عمل فداء في
المدن, ولم يطلبوا في اشتراك, أو مزقوا تواصيلها, فإنهم استولوا على المتاجر
الكبرى, والواجهات العصرية في المدن وفي القرى, وقد ارتبط الكثير منهم بشكل من
الأشكال خاصة برباط النسب, مع متنفذي الأمس, ومتنفذي اليوم.
الواحد منهم يتباكى كلما سئل عن سلعة
مفقودة : تلك كانت بالأمس, أما اليوم, فكل شيء مفقود.
تسأله : وبالأمس, يوم كان هذا المتجر
الكبير في هذه المدينة الكبيرة بين يد الفرنسي أو اليهودي, أنت بالذات أين كنت,
على أي حمار كنت تبيع التوابل وأواني الفخار والطين ؟.
يصمت, بعد أن يمرر يديه الاثنتين على
بطنه التي يحس بثقلها. يوليك ظهره ويروح يفتي, مبديا معيدا مع زبون آخر, منتقدا
النظام الاشتراكي, والاستقلال الذي أوصلنا إلى هذه الحالة السيئة.
الفلاحون الذين ساهموا في الثورة
التحريرية, خص لهم العصب الحساس؛ الجيش والحزب, وما يتبع هذا الأخير من المنظمات
الجماهيرية, باستثناء النقابات, التي تشكل نشازا في هذه السمفونية العجيبة, ذاك أن
العمال يرفضون التعيين من فوق, ولا يهمهم في من ينتخبونه سوى قدرته على الدفاع عن
حقوقهم.
ولقد كانت هاتان المؤسستان شعبيتين بأتم
معنى الكلمة, وبمعنى آخر, فإن الأفراد الذين كانت تتكون منهم هم الشعبيون, الذين
رغم انتمائهم لهيكل صارم الانضباط, إلا أنهم يجدون منافذ عديدة لممارسة كل ما
يمارسه الشعب من مضاربات وصفقات, بواسطة أقارب ذوي ماض مشبوه, أو بواسطة أصهار
اكتسبوا شرعية ثورية بتزويج بناتهم
من أبناء الثورة, فكانت الصفقة مربحة للجميع. الأصهار, فتحوا نافذة على المال
والثروة ورد الاعتبار, والأزواج على نوع من المعيشة المدينية, لا تستطيع توفيره
الزوجات الأولى الفلاحات اللائي طلقن دون رحمة ولا شفقة, حالما استقلت البلاد,
فضاعت أحلامهن التي نسجنها طوال الظروف الشاقة. ضاع جهدهن, إذ كثير منهن ناضلن
نضالا بطوليا.
ضاع كل شيء. في أشهر قليلة, عرفت البلاد
آلاف المطلقات, أضفن إلى آلاف نساء أرامل الشهداء. لم يبق سوى حقدهن الذي رحن
يزرعنه في أفئدة أبنائهم وبناتهم, وسخريتهن من البطولات الزائفة التي لم تستدع
الصمود في وجه إغراءات بنات الأغنياء الخونة, كما يقلن, وظلت دعوات الشر تنطلق من
أعماق أعماقهن, تغسل دعوات الخير, التي كانت, بالأمس القريب, تحمي الأبطال في
الجبال، ربنا نجه ونج كل من معه. ربنا انظر إلى أنا الولية الفقيرة وإلى أطفاله
الأبرياء هؤلاء. رب اجعل ملائكتك تحميه من رصاص العدو وشظايا قنابله أينما كان.
كل تلك الدعوات انقلبت إلى ضدها. (رب
انزع الشبع من قلبه. رب اكشف جميع عوراته, وأذله مثلما أذلني, وأذل أبناءه
الأبرياء هؤلاء. رب اجعله مضحكة بين الناس, كبارا وصغارا, حقيرين وشرفاء, أغنياء
وفقراء, مجاهدين وخونة, كما جعلني وجعل أبنائي, مضحكة بين بنات الخونة. رب اجعل
المال الذي يكسبه يتحول إلى عطش دائم, والهناء الذي ينشده, يصير شقاء خالدا.
رب اجعل هلاكه على يد النسل الذي ينجبه.
لم يتمكن أبي من أن يكون سوى واحد منهم.
كان التيار قويا فانساق في الدهاليز المظلمة, يمتصه سرداب ثم يقذفه لسرداب آخر.
انكب على مشاكله وقضاياه الخاصة, واحتفظ
بلقاءات دورية مع بعض قادة الثورة شبه المهمشين. يلعن الحاضر, ويتغنى بالماضي,
ماضيه الشخصي ليس غير, ويتشاءم من المستقبل الذي يراه مدلهم الظلام, لا لشيء إلا
لكونه ليس وزيرا أو واليا أو سفيرا.
حصل في كل مدينة كبيرة على محل أنشأ فيه
تجارة وضع فيها شريكا أو أجيرا. هنا مقهى, هناك خمارة, أو كشك لبيع التبغ
والجرائد. بين هذه المدينة وتلك, رخصة لنقل المسافرين مع حافلة. معمل في هذه
الناحية لصناعة البلاط أو الطوب الإسمنتي, وآخر في الناحية الأخرى للنسيج, أو
للحلوى.
دشن حياته التواطؤية بتطليق أمي, بعد أن
وضعني جنينا في أحشائها.
رفضت أن تكون ضرة, قائلة, إن صبرها معه
ونضالها إلى جانبه يعطيانها الحق فيه كاملا, فتذرع بالشرع, ومثنى وثلاثة ورباع.
أخواي الكبيران, أحدهما استشهد رحمه
الله, والثاني التحق بالجيش, وبقيت أمي مع ثلاث بنات, تعاني العزلة والمرارة وضيق
ذات اليد, فما كان يدفعه لها قليل جدا, وكثيرا ما كان ينسانا عدة أشهر.
كان مجيئي إلى الدنيا سهلا.
تقول أمي, "نمت فاستيقظت بك, دون
تعب ولا معاناة مخاض." تدرجت, كما يتدرج كل الأطفال الجزائريين؛ الكتاب, ثم
المدرسة, ثم الثانوية, ثم الجامعة.
منذ التقيت به, وكنت في التاسعة, قررت
أن أواجهه.
حملني في السيارة إلى المدينة, حيث
زوجته الثانية مع عدة أطفال. قال لي, أخوتك وأخواتك. لم أتأملهم. رفضت أن يكونوا
أخوة لي على حساب معاناة أمي وشقائها.
عندما انفردت بزوجته سألتها, "هل
تعرفين أمي ؟" فأجابت بالنفي, ثم سألتني عما إذا كانت في مثل جمالي, فأجبتها
بأنها أجمل مني بكثير, وبما أنها أمي فلا يمكن أن يتطرق الشك إلى أنها أجمل النساء
على الإطلاق.
أنا أشبه أبى, أما أخي الأكبر فيشبهها.
مقادير رب العالمين, ومكاتيبه. ولكنك
تعلمين أنها تقاسي. أعلم, وأتألم لها. لو لم يتزوجني أنا لتزوج غيري. كانت تلك حمى
من عادوا من الجبال, ولا ذنب لا لأمك ولا لي. ثم إن المكتوب على الجبين لا بد أن
تراه العين.
لقد ثاروا على كل شيء, حتى على أنفسهم
على ما يبدو. كانت لطيفة, على عكس ما كنت أتصور وما هيأتني أمي لأتصوره, غير أنني
لم أستطع أن اهضم أن يكون لي أخوة لم تلدهم أمي, لذلك لم أستطع الانسجام معهم.
رفضت أن أنسجم معهم وفاء لأمي, ورفضا للأمر الواقع الذي فرضه علينا أبي.
في طريق العودة, أشبعني بالحديث عن
بطولاته في المعارك التي خاضها, وعن مشاريعه, وقال إنني أكبر الأولاد الذين جاءوا
في الاستقلال, وإنه ينتظر أن يستعين بي في أعماله الكثيرة ومشاريعه العديدة. يقسم
البلاد إلى ثلاث مناطق, يعين كلا من أخوتي على منطقة, ويجعلني منسقا عاما عليهم,
أعينه في ضبط الأمور وفي خلق مشاريع جديدة. لقد عانينا أيام الكفاح المسلح التعب
الشاق, ولم نعد نقوى على تحمل أتعاب جديدة.
وما الذي جعلك لا تقنع بما يكفيك
ويكفينا ؟ سألته, فانزعج لسؤالي, ذاك.
من قال لك, إنني لا أقنع ؟ أهي أمك؟
أعلم أنها أوغرت صدوركم علي.
حاولت أن أؤكد له بأن سؤالي نابع مني,
وأن أمي لا تعلم شيئا عن أعماله, وأنها لم تحدثنا, في يوم من الأيام, عما يفعل,
غير أنه أبدى استياء وامتعاضا كما لو أنني لمست جرحا يوجعه. تعمدت استفزازه بعد أن
أيقنت أنه لن يرضى عني بسرعة, فرحت أروي له معاناتي في المدرسة من جراء عدم وجوده
معنا؛ المعلمون يحتقرونني والأولاد لا يسمونني إلا باسم أمي, ولد الطاوس أو ولد
الهجالة, وأنا دافعت, خاصمت, ثم غلبت على أمري واستسلمت. لا أحد يسمعني عندما أقول
لهم, إنك حي, وإنك بطل من أبطال الثورة.
بإمكانك, أن تنضم إلى أخوتك الآخرين في
المدينة.
وأترك أمي وحدها. قلبك قاس يا أبي !
أتعلم أنني في التاسعة من عمري, وأنني لأول مرة أتعرف عليك ؟ لم تحضر حتى لختاني.
وما تريدني أن أفعل ؟ لم يخبروني. أنت
وقح يا ولد. أمك هي التي حرضتك علي.
سررت عندما رأيته يغضب. كانت تلكم
بغيتي, وقررت من يومها أن أثيره كلما التقيت به.
غير أنه عندما أوقف السيارة قرب الباب,
استخرج حافظة نقوده, ووضع بين يدي رزمة كبيرة من الأوراق النقدية ذات القيمة
الكبيرة, ثم طلب مني أن أقبله.
عندما كنت في سنك, لم أكن أتسامح في
حقي, مثلك هكذا.
كانت عيناه الواسعتان تشعان بالحنان. مع
ذلك, ومع أنني لم أكرهه, قررت أن لا أهادنه كلما التقيت به.
فتحت أمي معي تحقيقا طويلا عريضا. أعد
على كل كلمة قالها لك في طريق الذهاب والإياب. هل حدثك عني, هل سألك أسئلة تتعلق
بي, وعن أخواتك ماذا قال ؟ هل سأل عن دراستهن, هل سأل عن أحوالهن ؟ عن انشغالاتهن
؟ هل قال لك, كم مرة تأكلون اللحم في الشهر ؟ وهناك, أين تقع دارهم ؟ هل هي كبيرة
؟ كم غرفة فيها ؟ وزوجه تلك, هل
رحبت بك ؟ كيف سلمت عليك ؟ ما كان رد فعلها وهي تراك ؟ ماذا قالت لك عني, عنا,
وأولادها الآخرون, هل فرحوا بك ؟ هل لعبوا معك, هل بادلوك الحديث ؟ في أي موضوع
حدثوك ؟ ما أسماؤهم ؟ كم عددهم ؟ أهم بيض أم سمر, هل يشبهونها أم يشبهون أباك ؟
وأثاث المنزل, أهو كثير, أهو جميل, أهو نظيف ؟ صفه لي قطعة قطعة. هل أكلت شيئا ؟
هل شربت شيئا ؟ هل أدخلوك إلى الغرف, أم تركوك في السقيفة أو في بيت
"الضياف"؟ أين اتجه أبوك عندما دخلتم المنزل ؟ وهل رشتك بالعطر وأنت
خارج ؟ اقترب كي أشمك. أم. أم. عطرها بارد. وأنت عائد, فيم كان أبوك يحدثك ؟ يكذب.
لن تسمح له المجرمة بأن يجعلك على رأسهم. يقولون إنها تقوده من أنفه كالجمل الشارف
.
آليت على نفسي, لأسباب خفية لا أدركها,
أن أستفزه كلما التقيت به, وقد صرت ألتقي به كثيرا, فعندما كنت في الجامعة
بالمدينة, أزوره كل عطل الأسبوع, وحتى عندما كنت في الثانوية, كنت أستقل الحافلة,
وأتوجه إلى المدينة, رغم أنني كنت كثيرا ما لا أجده. إنه في وهران. إنه في عنابة.
إنه بالجزائر العاصمة, إنه في الصحراء. إنه في باريس. إنه في روما.
كنت أستريح للحديث مع زوجته, فقد كانت
تشاطرني الرأي في أن هؤلاء الناس مرضى أصاب الخواء أرواحهم فصارت مثل "قلتة
فرعون". لا يملؤها شيء. راتبه كمجاهد يكفيه ويكفينا ويكفيكم أنتم, ومعمل
الحلوى وحده يعيل عدة عوائل, لكنه لا يستريح. عظام الشقاء.
هؤلاء المجاهدون, دعا عليهم داع أن لا
يستريحوا إلا في القبر.
ما شبعناه , ولا شبعتموه, ولا شبع
النوم, ولا استمتع حتى بأكلة مثل الناس. إنه هنا, وإنه هنالك.
ربما, أقول في نفسي, يحاولون تجاوز
أخطاء ما ارتكبوها. ويهيأ لي أن خطأهم الأزلي هو خطأ آدم؛ الأكل من الشجرة التي
حرم الله.
بدل أن يحافظوا على شرفهم وشرف الشهداء,
ويقنعوا بما ينالهم وما نالهم بعد كثير, ذلك أنهم لم يستشهدوا, ولحقوا بالاستقلال,
وكل حياتهم بعد الحرب, فائدة كما يقول أبي, إذا ما احتاجت إليهم الأمة في يوم من
الأيام واستنجدت بهم.
أو على الأقل بكت على صدورهم.
بدل ذلك, شمروا على سواعدهم وقالوا نحن
لها. وبدل أن يحكموا المبادئ التي ضحوا من أجلها واستشهد لها مئات الآلاف,
بالانضباط والصرامة نفسهما, ليثق الناس فيهم, ويسلكوا معهم المسلك القويم. بدل
ذلك, نصبوا أنفسهم كل شيء. الفقراء الأغنياء اليمينيين اليساريين المؤمنين
الملحدين الحكام المحكومين الثوار المتواطئين مع أذناب الاستعمار.
فقدت الثقة فيهم جميعا. كيف لا والمثل
الحي الذي يتراءى لي كل مرة هو أبي.
ربما أبالغ في التعميم. أكيد أنني
أبالغ. وأن المرارة التي لعقتها وتلعقها أمي. ولا جدوى كل ما يفعلون, كل ذلك جعلني
أبالغ في التعميم.
إنما.
إنما اقتنعت بأن عمل أبي لم يتم, وأنه
بالإمكان إنجاز عملية إتمامه. لقد ترك الحبل على الغارب, وعلي أن ألتقط هذا الحبل
قبل أن يسقط, وأن أتمم المهمة.
يوم دخلت الجامعة, كانت الجزائر في
منزلة بين المنزلتين. رئيس راحل, ملايين تبكيه وملايين تنهش عرضه. وبين رئيس قادم
يقدح في الرئيس السابق, ويستسلم لقدح الناس وانتقاداتهم, بما فيهم الأطر التي
يعتمد عليها.
أجمعوا على أن الاشتراكية لا تنفع, كما
أجمعوا على أن الرأسمالية بلية البلايا. وكان على أن أتمم ما بدأه أبي.
انسقت بسرعة لأول داعية, وتفرغت لهما
معا, الدراسة التقنية, والتفقه في الشريعة. لتكن البداية من البداية الفعلية,
إعادة الأمور إلى نصابها, العودة إلى نقطة الصفر, ثم الانطلاق.
لا.
القول بنقطة الصفر يخدم أعداءنا. لتكن
نقطة النور. النقطة التي توقف عندها المسلمون قبل انحطاطهم. النقطة التي أنارت
طريق أبي وباقي أفراد الشعب الجزائري, ليخوضوا معركة تطهير بلاد الإسلام, بالجهاد
في سبيل الله, مرددين الله أكبر لا إله إلا الله, عليها نحيا وعليها نموت, وعليها
نلقى الله. وقبل أن يتمموا الطريق أغوتهم الشياطين, واستسلموا لمكائد أعداء الله.
كانت جامعة قسنطينة وكرا للشيوعيين, وكل
الملحدين الكافرين, فجاء زحفنا, مستغلين تذبذب الدولة التي تتقرب إلى الشعب
بالتظاهر بخدمة الإسلام, فأحضرت الإمام الغزالي يفتي في المساجد وفي التلفزة
والإذاعة والقاعات العمومية, ويضرب الشيوعيين, كلما قويت شوكتهم, من طرف الحزب
الحاكم. فجئنا بطريقة أبي.
من ليس معنا, فهو ضدنا.
الموعظة الحسنة من ناحية, وقبضة الحديد
من ناحية أخرى. كلما وهنوا قوينا. كلما تأخروا خطوة تقدمنا خطوتين. الدولة تبنى المساجد
من ناحيتها, والشعب يتبارى في إضافة مساجد أخرى, ونحن ننتشر. المساجد لله, ونحن
جنود الله, ودون ما تخطيط أو تدبير ألهمنا الله إلى اتباع خطة تعاكس خطط باقي
الحركات السياسية والدينية منذ قدم التاريخ, ما عدا حركة الإمام أحمد بن حنبل رضي
الله عنه وأرضاه.
العلنية والجماهيرية.
نعلن عن أنفسنا بلباس يخصنا وحدنا,
ذكورا وإناثا. يلتحي رجالنا, يغطون رؤوسهم, ويخرجون إلى الشارع متحدين جميعا,
معلنين أننا, هنا, لا نخشى في الله لومة لائم, متأهبين لسخرية الساخرين, للموت,
للسجن, لك المصائب.
الحيلة في ترك الحيل, كما يقال. وشعبنا
مل الميوعة, ومل الوعود الكاذبة, كما سئم أن يدفع هو إلى التضحيات بينما يبقى
قادته, في الخلف, يتفرجون ويصدرون الأوامر. وشبابنا رفض حكمة شيوخ الفكر الماركسي
الكاذبة. الاستراتيجية والتكتيك والسياسة هي فن الممكن, وما إلى ذلك مما استحدثه
كسالي الحركة الشيوعية. البرجوازيون على حد تعبيرهم. أولاد المجاهدين, أولاد
الخونة, أولاد الموظفين, أولاد الأغنياء, كلهم أجمعوا على ضرورة إنجاز عمل ما في
هذا الزمن. هذا الشيء يتمثل في الخروج من حالة اللاحالة , حالة النفاق والكذب, بأن
يوقدوا شمعة في دهليز واقعهم, ويتعرفوا على أنفسهم.
من يكونون ؟ من نكون ؟
لسنا فرنسيين قطعا. لسنا اشتراكيين
قطعا. لسنا رأسماليين قطعا. لسنا مدينيين، هذا واضح. كذلك لسنا ريفيين. هذا واضح
أيضا. لقد انسلخنا منذ ثلاثين سنة عن بداوتنا, ولم نتحضر بعد.
لنعد إلى نقطة الانطلاق, ونر.
سرعان ما انتشرت الدعوة كالنار في
الهشيم.
قال أبي يعظني.
-إنكم تخلطون السياسة بالدين.
فسألته :
- ألم تفعلوا ذلك قبلنا, في الخمسينات
وما قبل الخمسينات ؟
بلى.
ولماذا تريدون حرماننا من اتباع خطاكم,
أم أنكم تخافون من تطبيق الدين ؟
لم أشأ أن أعمق معه الحديث, فأقول له,
إننا لا ننافق مثلما كانوا يفعلون. واكتفيت بالإشارة إلى ضرورة تطبيق المبادئ
الإسلامية, تلكم التي استشهد من أجلها كل رفاقه.
اسمع يا بني, أعرف فيم تفكر بالضبط. لقد
واجهتني أكثر من اللازم بتحديك هذا. وإنني لأعلم ما في تجاويف رأسك, أنت وأمثالك.
تقولون, إننا سلمنا في المبادئ واغتنينا.
رحنا نتلهى بشؤون الدنيا عن شؤون ديننا.
أنا أسألك؛ إنني لا أفقه كثيرا في أمور الدين كما تعلم, لكنني جالست وأجالس
العلماء, ولي بعض إلمام بما جرى في تاريخنا الإسلامي.
أسألك لم منع عمر بن الخطاب رضي الله
عنه الصحابة من مغادرة مكة والمدينة ؟ هل اقتنعوا بما انتبه إليه خليفة رسول الله
عليه الصلاة والسلام ؟ طلحة والزبير, وغيرهم كثيرون, هل اقتنعوا بأن الواجب الديني
أن يظلوا فقراء في المدينة وفي مكة. ؟
أقول لك لا.
نحن لسنا أفضل من صحابة رسول الله,
رضوان الله عليهم.
إنك تتحدث كما يتحدث الإمام علي كرم
الله وجهه, وأنا أقول لك, إن كلام الإمام حق وصدق, ومبادئه هي مبادئ الإسلام
الحنيف النقية, إنما أسألك أيضا لم انتصر معاوية, بدعم من صحابة كثيرين؟ لم انقرضت
الدولة الفاطمية التي قامت عندنا؟
الدين هو الدين والحياة هي الحياة.
لقد خرجنا من ديارنا, والتحقنا بالجبال,
وبين أعيننا ملاقاة الله. سلمنا أنفسنا إلى ربنا, يفعل بها ما يشاء, برهنا على ذلك
بأن دفنا الكثيرين منا, ولم نهن أو نجبن أو نتراجع, واصلنا إلى أن من الله علينا
بنصره المبين, فهل يمكن أن يشك أحد في إيماننا أو في إسلامنا ؟
إنك, إن فعلت ذلك, شككت في إيمان عثمان
بن عفان وطلحة والزبير بن العوام ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وعائشة أم
المؤمنين.
يفحمني بحديثه هذا البسيط والعفوي.
فأتخلص منه بسؤال لا يتمكن عادة من الإجابة عليه.
إلى أين أنتم ذاهبون ؟ هل أنت راض عن
الوضع الذي نحن عليه ؟
بالطبع لا.
إننا نتجه نحو الغربنة التامة, فلا نحن
تركيا, ولا نحن السينيغال, ولا نحن تونس ولا المغرب ولا حتى الهند.
من هذه الناحية أقول معك حق, لكن ليس
بهذا الأسلوب.
لكن يا أبي, هل قبلتم, يوم كنتم تخططون
للجهاد وتتدافعون إلى الموت, تدبير الجيل الذي سبقكم, جيل أبيك ومن في سنه ؟ وهل
طبقتم أسلوبهم في معالجة القضية الوطنية ؟
أبدا لا, فقد كانوا يعترضون سبيلنا,
قائلين لنا, لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة.
مثلما تفعلون أنتم الآن.
لا أبدا.
إذن دعونا نتحمل مسئوليتنا مثلما تحملتم
مسؤولياتكم. للتاريخ وحده الحق في محاسبة الأجيال.
أفحمه, فيكتفي بأن يدعو الله لي
بالهداية, فأقول صادقا آمين, رب العالمين.
وها إنني أمير في الحركة, بيني وبين
السجن شبر؛ بيني وبين الموت شبر. ترددت على السجن ثلاث مرات. في كل مرة أحشر مع
اللصوص, والمجرمين, والقتلة.
آه. لو أن الخطر يأتيني من الخصوم
وحدهم, جماعتنا بدورهم شتات, شعوب وقبائل. الجهل وضيق الأفق.
تنهد بعد طول صمت بصوت عال, فراح يستغفر
الله, ويتأمل المكان من حولهم ليتعرف على الموقع.
أدرك الشاعر حاله, تمتم:
بالشارع الموازي لساحة الدعوة. أنزلوني
هنا.
- لكن أحتاجك.
سأتصل بك في أقرب فرصة.
أخشى أن تتأخر, الأمر يتعلق بالجمهورية
الإسلامية.
بالخلافة الإسلامية.
قال الشاب الذي كان يسوق السيارة بحماس,
فتجاهله, ووجه الحديث مرة أخرى إلى الشاعر.
تعال معي إلى مكتب الحركة, نشرب قهوة,
ونتفق على كيفية تعاملنا. لن أسلم فيك أيها الشاعر الحكيم. على الأقل, ليس قبل أن
تنظم قصيدا في الدولة الإسلامية
لاحظ الشاعر أن كلمة الدولة عوضت
العبارتين السابقتين, الجمهورية والخلافة, وأن ذلك كان متعمدا, فرغم منزلة هذا
الأمير عمار بن ياسر, فإنه تفادى الخلاف مع هذا الشاب, الذي لا يعلم إلا الله من
يكون. الحركة ليست تنظيما موحدا, وإنما هي عدة فصائل, وربما هؤلاء الشبان من
الفصيل المتطرف المسلح. هته إحدى إشكاليات الحركة الداخلية.
قال في سره, ثم قرر أن يواجههم بسؤال
يمكنه من التعرف على هويتهم بدقة.
وهل هناك فرق بين الجمهورية وبين
الخلافة ؟ أليس المهم أن الدولة إسلامية ؟
سكت عمار بن ياسر, بينما انبرى الشاب
قائد السيارة :
الجمهورية كلمة مستوردة من الفرنسيين.
لقد استعملها إفلاطون قبل ظهور الإسلام
وظهور الفرنسيين كذلك.
أضاف الشاعر, فقال الشاب بنوع من
التضايق.
لم نضح كل هذه التضحيات من أجل مجرد
جمهورية. لا ميثاق, لا دستور, قال الله قال الرسول.
وانهمك يورد آيات وأحاديث محرفة مكسورة, مكثرا من عبارة إن شاء الله, ومن
الصلاة والسلام على الرسول, غير منتظر التأييد والدعم لا من زملائه الثلاثة
الآخرين, ولا من عمار بن ياسر, ولا منتظر رد أو تعليق الشاعر.
الخلافة, معناها أن يكون العالم
الإسلامي كله في دولة واحدة, وأن يعود إلى الأمة الإسلامية مجدها الذي ضاع. إذا ما
اتحد المسلمون فسيعودون إلى الفتوحات. سيكونون قوة عظمى, القوة الوحيدة في الكون,
بإذن الله عز وجل, وسيخضع لهم العالم من جديد.
كم الساعة الآن ؟
الخامسة.
بادر أحد الشبان, وكأنما شعر بان زميله
تجاوز مقام الأمير عمار بن ياسر.
إذن آتيك إلى المكتب على الساعة
التاسعة.
لا يا رجل. من هنا إلى التاسعة زمن كألف
سنة مما يعدون, يمكن أن تقع فيه أحداث خارقة. الآن ننزل, نشرب قهوة في المقهى
المجاور. سيكون فاتحا بحول الله. وإلا نعد قهوتنا بأنفسنا في المكتب. وبعدها يا
سيدي الكريم, نخوض فيما نود أن نخوض فيه, وتنصرف.
فهم الشاعر, أنه يريد أن يحدثه في موضوع
جد مهم, وأنه من أجل ذلك, لا يريد أن يخوض فيه أمام هؤلاء الشباب. ورغم الفضول
الذي أثاره فيه هذا الإلحاح, فإنه تمنى من صميم قلبه أن يبقى بعيدا عن مجريات
الأمور. يكفيه أن يحلل, أن يجمع المعطيات كعادته, وأن يقيم الإشكاليات جميعها,
ويتنبأ, لينتشي فيما بعد وهو يرى نبوءاته تتحقق واحدة بعد الأخرى.
باسم الله الرحمن الرحيم.
هنا إذاعة الرحمن من الجزائر.
نداء إلى الأخوة الشيوخ الأشاوس, أعضاء
المجلس الأعلى للحركة.
سيعقد المجلس, بإذن الله تعالى وحوله,
اجتماعه الأول في ظل الدولة الإسلامية المباركة, اليوم على الساعة الخامسة بعد
الزوال, بمسجد السنة, بباب الوادي, لينظر في مسائل ذات أهمية بالغة بالنسبة لمصير
دولتنا وأمتنا, ويتخذ القرارات الضرورية في شأنها, فعلى جميع أعضاء المجلس, أينما
كانوا أن يتوافدوا وأن يعلموا هاتفيا بأماكن تواجدهم, قبل انطلاقهم.
قال تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, إذا
جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بالحمد ربك
واستغفره إنه كان توابا. صدق الله العظيم.. انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم
وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. صدق الله العظيم.
ستشكل الحكومة ما في ذلك شك.
قال عمار بن ياسر, فسأله الشاب الذي
يليه :
وهل ستكون كحكومات النظم الأخرى؛ وزراء,
وكتاب دولة وما إلى ذلك ؟
لا يأخذنكم الغرور. فلسنا أول من أقام
نظاما إسلاميا. هناك إيران, وهناك السودان, وأخيرا أفغانستان. لسنا وحدنا في
الكون, حتى نبدع نظام حكم لا يراعي ضرورات الحياة المعاصرة. ثم إن هي إلا تسميات والمهم
في الجوهر.
يقين أن مشاكل إيران والسودان والأفغان
تعود إلى الانسياق وراء الأشكال الوضعية للحكم. حكم الله هو الذي سنه الرسول
الأعظم عليه صلوات الله, وخليفتاه, أبو بكر وعمر بن الخطاب عليهما رضوان الله.
وإذا قرء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا
لعلكم ترحمون. صدق الله العظيم.
أنهى عمار بن ياسر النقاش المبتور, الذي
يبدو بلا بداية ولا نهاية, بلا ذراعين ولا قدمين, لافتا الانتباه إلى أن المذياع
يبث آي الذكر الحكيم.
اقتحمت السيارة الأنهج غير مبالية
بالاتجاهات المباحة والممنوعة, وغير مبالية بالحشود المهللة المكبرة المتناغمة
كأنها تسجيل على اسطوانة أو على شريط, والتي يتضح, بشكل جلي, أنها لا تتكون إلا من
عناصر الحركة, إذ ليس هناك غير الملتحين والمجلببين. أما باقي الناس, فيكتفون
بالوقوف في الشرفات, في ألبسة داخلية حتمتها حرارة الطقس, ومن حين لحين تنطلق
زغرودة من إحدى الشرفات فتثير عدوى في الشرفات الأخرى, وتستجيب معها لتهدأ من
جديد, ولا تبقى إلا ترانيم الأسفل, تحاول أن تحافظ على إيقاعها, ونفسها.
ها قد وصلنا.
قال عمار بن ياسر, في سرور وابتهاج
واضحين, كأنما كان يخشى أن لا يصل.
توقفت السيارة. وثب الجميع بما في ذلك الشاعر
الذي اضطر إلى القفز اضطرارا, فقد كان منصرف البال كعادته.
كان الشارع عامرا بذوي اللحى والقمصان
والقلنسوات من كل نوع وكل لون وكل زركشة, ومزدانا بأعلام من مختلف الألوان
والأحجام. هنا علم الجزائر, إلى جانبه علم السعودية, إلى جانبه قطعة قماش خضراء,
إلى جانبها علم إيران, إلى جانبه, علم الصدام حسين تبدو عبارة الله أكبر فيه,
طاغية على ما عداها. تتخلل هذه الأعلام المختلفة لافتات عليها عبارات مكتوبة بخط
يتراوح بين الجودة والرداءة, هي في الحقيقة, كلها أو جلها بالتعبير الأدق, آيات
قرآنية, والباقي أحاديث نبوية, وشعارات بنت الساعة, مثل تمجيد بعض القادة, أو
إدانة الحكام السابقين والمطالبة بمحاسبتهم وإدانتهم وصلبهم.
ارتفعت الأصوات تحيي قدوم عمار بن ياسر,
فأحنى هذا رأسه, ووضع يده اليمنى على شفتيه, ثم على رأسه, ثم على صدره, وتخطى
الشارع ثم عتبة المدخل واضعا يده على كتف الشاعر, كأنما يخشى أن يفلت منه.
- ماذا لو تعفيني فألف الشوارع قليلا ثم
أعود ؟ أعدك بالعودة بعد ساعة أو عدة ساعات.
هل لك مقصدا آخر ؟ في الحق لم أسألك.
وهذا ظلم من جانبي, أستغفر الله العلي العظيم منه ؟
في الحق مقصدي الوحيد, عندما خرجت من بيتي, هو أن أعرف ما يجري, لأن
لي فرضيات كثيرة لا بد من التأكد من صحتها أو من بطلانها.
مثل ماذا ؟
قيام الدولة الإسلامية بهذه السرعة لم
يكن في فرضياتي, ولا بد من معرفة كل تفاصيل وعوامل قيامها. المسألة ليست بهذا
التبسيط. والتسطيح. إن هناك نظاما سقط وآخر يقوم, وهذا لا يحدث دون إجراءات
معروفة, هي إما العنف الدموي, وإما التواطؤ المشبوه, وإذا كان العنصر الأول
مستبعدا كما رأينا وكما علمنا, يبقى العنصر الثاني, والسؤال هو من المتواطئ ولصالح
من ؟ لنعد إلى السقيفة, فأول جملة أطلقت فيها هي؛ منا أمير ومنكم أمير. ثم لنتتدرج
من سقوط خلافة إلى قيام أخرى. ومن سقوط نظام إلى قيام آخر.
يا صاحبي, هناك قوانين تتحكم في سير
التاريخ لا ينبغي تجاهلها, ولا بد من الاستفادة من دروس التاريخ.
لقد قتلت الخيزران الأم البربرية, ابنا
لها لتولي ابنا آخر على رأس الحكم. هارون الرشيد, إنما جاء محمولا على ذراعي أمه
ملطخة اليدين بالدم.
دم الابن الآخر.
وهل كنت تفترض انهيار الإمبراطورية
السوفياتية ؟
فقط كنت أفترض, وفي الحقيقة لا أفترض,
بل أتلمس معالم قيام حضارة جديدة. لا رأسمال. لا اشتراكية. لا ولا.
وها هي الحضارة الإسلامية تعود. تظهر
كما افترضت, أو تصورت أو لمست.
الحضارة التي أتصورها, يغيب فيها السيد,
بينما تبقى السيادة, ويبقى المسود. إنها حضارة الإنسان الآلي, والديانات ظهرت في
عصر الإنسان المزارع. ألا يقال إن كل الأنبياء رعوا الماشية.؟
أنت تذهب بعيدا بعيدا أيها الشاعر,
وأخاف عليك من كثرة تحكيم العقل. على الأقل في الأيام الأولى هذه.
كانا قد دخلا المكتب, وسط تحيات أخوة من
هنا وهناك, في مختلف الطوابق والدهاليز والمكاتب. كان الحديث يجري بينهما في حوار
متقطع, لكن في صراحة قرر الشاعر أن يفرضها من الأول, حتى لا يفهمه فهما خاطئا ثم
يصدم فيه. كما قرر أن يضع أساسا وقاعدة للحوار الذي سيجري بينهما, فكأنما فهم أن
عمار بن ياسر عجل بوضع ثقته فيه, وأنه ربما يؤهله للقيام بدور ما.
أقول لك الصح. لقد اطلعت تقريبا على جل
ما كتب بالعربية والفرنسية وما ترجم من اللغات الأخرى إلى العربية أو الفرنسية.
ولا يشغلني لا ولد بنت ولا امرأة ولا أي هم من هموم الدنيا. وقتي اقضيه هكذا, إما
أقرأ وإما أستعيد ما قرأت, أحلل وأناقش, وأطبق, وأفترض.
ضيفونا بقهوة النصر أيها الأخوة الكرام.
لدينا ضيف محترم, سيكون له شأن في دولتنا المباركة.
ولقد جئت إلى الحركة, من أبعد السبل..
أراد أن يضيف الشاعر, غير أنه, أعاد على
نفسه, سؤالا طالما انطرح عليه.
ما دور الخيزران, في توجيهه هذا التوجيه
؟ أهي حقا الشمعة التي أنارت دهاليز في أعماقه ؟
***
الشمعة
ومض البرق.
أطلت, في مخيلته, بوجهها الغلامي, ذي
العينين المنتصبتين, في طرفي وجهها,
بحيث تبدوان, كأنهما لمومياء فرعونية, لنفرتيتي, أو لكيلوباطرة, أو كأنهما لغزالة,
لهما مضاء حاد, لهما تودد سخي, أنفها رقيق بفطسة تتناسب تمام التناسب مع شكل الوجه الطويل, منخراه
صغيران يروحان يهتزان كلما تنفست. خنابتاهما ممتلئان بعض الشيء فوق فم صغير رقيق
الشفتين, يحلو لها دائما أن تصبغه بأحمر شفاه وردي باهت خافت. ذقنها الدقيق, تزينه
فلجة رقيقة تكبر وتصغر حسب حالتها الصحية, يتراوح لونها بين بياض وسمرة وزرقة,
وذلك ما يجعلها تبدو, في الوقت الواحد, آسيوية إفريقية.
ما إن رآها, حتى قال؛ هي.
لأول مرة يقول ذلك. يتسنى له أن يقول
ذلك. يجبر على أن يقول ذلك.
سحر بها لا يدري من أين, أو بماذا.
حين يستغرق في تفاصيل وجهها, لا تبدو
خارقة الجمال, بل على العكس من ذلك, تبدو أحيانا, عادية تماما, لكن حين يأخذها
جملة, فإنها تبدو في منتهى الروعة متفردة في شكلها. الصورة التي لا مثيل ولا نظير
لها إطلاقا, مع ذلك, يقول كلما رآها, إنه عرفها قبل اليوم. رآها في مخيلته, في
قصيد ما, أو في عبارة ما, لعلها لامرئ القيس أو لكعب بن زهير, أو للمتنبى أو لأبي
فراس الحمداني, أو تعرف عليها في دهاليز ألف ليلة وليلة, أو كليلة ودمنة, أو إحدى
مقامات الحريري. إنها تستيقظ من مخيلته وليس من الواقع, لذا يحس بوجوده يتحقق كلما
رآها. هذا الثوب الفضفاض الذي يشوق النفس إلى معرفة ما يخفيه, والذي ينتزعها من
واقع النساء العاديات, اللاتي يعرضن في واجهات مبهرجة كل محتويات أجسامهن, مضيفات
إلى أوجههن المساحيق والأصباغ, متسولات النظرات المعجبة من أي رجل يصادفنه, أو
يتبجحن على أية امرأة يقابلنها. ثم هذا المنديل الأبيض الذي يلف الرأس ثم ينسدل
على الظهر والكتفين مهزوزا بعقيصة لشعر لا يدري المرء ما لونه وما شكله.
لو أن فنانا, كلف بأن يختار لباسا
يلائمها, لأضاع نصف عمره دون أن يهتدي إلى هذا التناغم البديع بين الشكل والمحتوى.
أكيد عرفها قبل اليوم.
رآها قبل أن يولد. في أعين أحدهم. نقلها
في صورة فنية بديعة, ولم يتمكن من التحدث عنها في شعره قبل اليوم.
نعم.
كان يتفادى التحدث عن المرأة, إلا بما
توحي به اللغة الفرنسية التي يكتب بها, والتي يحس أنها لا تستطيع أن تتنازل لملامح
أمه أو خالته أو حتى العارم. لأن عليه في الآن الواحد أن يستحضر وأن يستبعد
المخزون المترسب من لامارتين وراسين ومونتيسكيو ورامبو وفيكتور هيغو, يستحضره لأنه
قرأه وأحبه ورسب في ذاكرته, وتشكل وجدانا تجريديا في أعماقه. تطل أزميرالدة,
العبارات التي سكنتها أزميرالدة, وهو يتخيل العارم, فلا ينطبق الوصف على الموصوف,
ولا الرسم على المرسوم. فيعدل عن ذلك, ويتجنب الحديث عنها, ليغرق في الحديث عن
ذاته, عن رؤاه وأحلامه, عن الأخيلة الملونة, وعن الدهاليز المظلمة ذات الفوهات
المؤدية إلى سراديب موغلة في أعماق السواد.
حاول أن يكتب باللغة العربية, أن يقول
على غرار شعراء المعلقات وفحول شعراء الغزل, لكن الانغلاق في لغة القاموس, التي
يتلقاها في شكل متخلف جدا بالنسبة للغة الفرنسية, جعله يعدل, ينتقم من أستاذ اللغة
العربية, الذي يكلفهم بكتابة إنشاء ثم يطلب من كل واحد منهم أن يعرب ما كتب, من
أول كلمة إلى آخرها, والويل لمن أخطأ والجميع يخطئ بلا استثناء. يصب جام غضبه
عليهم واحدا واحدا, ناعتا إياهم بمختلف نعوت الجهل والكسل والغباوة, ثم يأمرهم
بحفظ قصيد مطول, استعدادا لإعرابه في الأسابيع القادمة. وهكذا تضيع السنة الدراسية
في المبتدأ والخبر والنعت والمنعوت والجملة وشبه الجملة, البدل والحال, ومقول
القول, فلا يبقى من القصيد المسكين ومن الشاعر الذي أبدعه ومن الصور الفنية التي
يتضمنها, غير ما قننه الخليل بن أحمد.
ما أن يفكر في لفظ العبارة الأولى في
البيت, حتى يوقظ كل وعيه, ليتعرف على الفاعل والمفعول, وعلى التفعيلة, وعلى
القافية, إذا كانت دالا, وجب عليه, أن يحضر كل الكلمات العربية التي تنتهي بالدال,
حتى وإن لم يكن في حاجة إلى تلكم الكلمة.أحب قافية إليه هي النونية فقد فتح ابن
زيدون في بكائيته لولادة "أضحى التنائي بديلا من تدانينا/وناب عن طيب لقيانا
تجافينا", إمكانية كبيرة لقصيد مطول, دون الاضطرار إلى كلمات بعينها, فيكفي
الشاعر أن يعتمد على المضاف والمضاف إليه إلى آخر ما في اللغة العربية من مفردات.
حاول أكثر من مرة, ونظم أكثر من قصيدة, إلا أنه تراجع نهائيا, بعد أن أحرق ما كتب.
كان كلاما صاحيا واضحا, كأنه موضوع لوصف
مادة علمية أو حالة موضوعية, ليس فيه لا ودر, ولا استسلام لطيران بأجنحة حريرية,
ولا أحلام ملونة. لا يختلف عن قول القائل "علم الحساب علم رفيع, به تشتري وبه
تبيع. ما ضاع درهم قط بحساب وبلا حساب ألوف تضيع", حتى شعر المعاصرين, الذين
كان لهم صيت, فقد كان أشبه بالحديث اليومي, بالسلام عليكم وعليكم السلام, فهذا
محمد العيد آل خليفة الشاعر الفحل الذي يعجب الطلبة والأساتذة به, يصف قنبلة
هيروشيما قائلا : تفجرت قنبلة في هيروشيما فتركت كل شيء هشيما. ويتحدث عن المرأة
وواجباتها السياسية, فيقول : "يا بنات الجزائر, كن للاستعمار ضرائر.
يضحك, من أعماقه, كلما قرأ شعرا من هذا
النوع, شعر السلام عليكم, كما يقول, وعبثا يحاول أن يعثر على الشعر المشرقي
المعاصر, خارج شوقي وحافظ إبراهيم, ومعروف الرصافي, وبعض شعراء المهجر, الذين أحب
نثرهم وحفظه عن ظهر قلب, ولا يجد في شعرهم الودر والجنون وعشق البرق لأعين
العاشقين, يرسل إليها بسمات من ثغور الأحياء.
رآها في الطريق تستحث السير, فأنخطف
بها.
لاحظت أنه يوليها اهتماما ليس عاديا من
رجل غريب, أو من عابر سبيل أعجب بها. كاد أن يوقفها ويسلم عليها.
كان في نظرته تفاجؤ من يعرفها أو من هو
قريب منها, وصادفها بعد غياب طويل.
لاحظت ذلك, فأرسلت إليه نظرة تودد
واستغاثة وامتنان في الوقت نفسه, وواصلت عبورها كالبرق لا تلوي على شيء.
تبعها. وجد نفسه مجبرا على أن يتبعها. كانت
هناك قوة من خلفه تدفعه إلى أن يستحث خطاه وراءها, كما كانت أيضا هناك قوة
مغناطيسية تجذبه. عاوده حلم اليقظة, الذي يحلو له أن يستحضره كل ليلة قبل أن ينام.
يقف على رأس جرف بالغ العلو, لا يرى في
الأسفل سوى الضباب. يتلون الضباب شيئا فشيئا بلون وردي, حتى يتجسد حريرا منفوشا.
يغمض عينيه ويلقي بنفسه. ينحدر ببطء وينحدر. يسبح كما يحلو له, في بحر الحرير
الوردي. ينزل, ينزل, ثم يقرر أن يصعد, فيصعد. يصعد كما يحلو له, متحكما في حركاته.
يميل يمينا, يسارا يتحول إلى حمامة بنية اللون في عنقها قلادة بيضاء. يتحول
المنحدر الذي يسبح فيه إلى وادي الرمال, فيروح يتأمل المياه التي تندفع في المنحدر
غير مبالية بما يعترض سبيلها, وبما يجري فوق. هناك في الماء, سمكات صغيرات ما تلبث
أن تتحول إلى مخلوقات صغيرة مجنحة تمرق من الماء, وتطير نحوه, تمسك بيديه, وتروح
تراقصه في الفضاء الحريري الوردي, فيظل هنالك. ينام ليستيقظ دون موعد.
ركبت الحافلة رقم ثلاثة, فركب خلفها. لم
ينتظر. لم يتردد. لم يعتره الشعور بضرورة التدهلز كعادته, فسألها وهو يقف جنبها عن
حالها, فردت عليه ببساطة وعفوية. الحمد لله, عائشين صابرين.
وهل أنت جزائرية ؟
من الأب والأم.
يخيل لي أنني أعرفك, ألا تعتقدين أننا
التقينا قبل اليوم.
ربما الدنيا واسعة وعريضة, ويخلق من
الشبه أربعين.
لم تلحظ فيه ما يخيف, خاصة وأنه كبير
السن في مثل عمرها مرتين أو يزيد, يبدو عليه الوقار والجدية, يؤكد ذلك المحفظة
المثقلة بالكتب والأوراق التي يحملها.
لا. ليس بالشاب المراهق المغتر بعضلاته
هذا الذي يعاكسها. رجل محترم فتح باب الحديث معها, فلتتحدث. لتفعل ذلك. وفي
إمكانها في أية لحظة, إذا ما لاحظت منه ما يمكن اعتباره خروجا عن النطاق, إيقافه.
لقد تعودت مواقف محرجة خرجت منها, بشخصيتها القوية وببساطتها وذكائها, قوية مظفرة،
تعرف كيف تضع حدا لأي متطفل في الوقت اللازم, فشوارع الجزائر وحافلاتها ومحلاتها
العمومية مدرسة عريقة للانحراف بمعاكسة شبان وكهول وحتى شيوخ للمرأة, غير مفرقين
بين الصغيرة والكبيرة, بين المنهمكة في شقائها وهموم حياتها وبين المتسكعة.
لا. هذا المخلوق ليس من ذلك النوع.
هل كان طريقك من هنا. إنني دائما أستقل
هذا الخط, ولم أرك.
أقول لك الصح, لا. أول مرة أسلك هذا
الخط, ثم إنني أستعمل عادة القطار في اتجاه الحراش, حيث أسكن في المنطقة وأشتغل
بها.
ابتسمت, وسألته, " إذن, ركبت صدفة
؟"
لا, ليس صدفة, بل عنوة. لقد تبعتك, إذ
خيل لي أنني أعرفك, أو ربما أكون وجدتك. لا أدري. ربما رأيتك في بطاقة تذكارية
أرسلها لي أحدهم من مصر, أو لربما رأيتك في لوحة زيتية بمكان ما. اعذريني, فإنني
لا أدري ما أقول, ولا ما أريد. وأصارحك بأن هذه أول خطيئة أرتكبها. ربما نتعارف
أكثر فتدركين بنفسك صحة ما أقول. كي ألخص لك الحالة, هاك ما يلي: أنا أستاذ
بالجامعة, وشاعر, وبسبب انشغالي بالمطالعة لم أتزوج, ولن أفعل ذلك على ما يبدو.
أقول لك الحق, لا أحتقر المرأة كثيرا كثيرا. في الرابعة والأربعين من عمري, ويظهر
أن القطار قد فاتني, وأن مهمتي في الحياة تختلف عن مهمات جميع الناس, فحول العجول
المعدة للتناسل. أضاف ضاحكا. أكتفي بهذا في هذا الوقت, وربما أضفت إليك معلومات
أخرى فيما بعد إن سمحت.
كان يتحدث بشجاعة خارقة, وبعيدا عن
كبرياء تحضره عادة كلما كان, في المدرج, يلقي الدرس وينفتح باب حوار بينه وبين
إحدى الطالبات.
- وهل تبعتني لتقول لي هذا فقط ؟
قالت بينما أنفها الأفطس يصعد وينزل,
متمسكا بوقار ابتسامة فلتت منها, أو أطلقت لها ما تريد من عنان.
أحس بأنها جد قريبة منه, أقرب مما كان
يتصور. لقد خرجت الجيكوندة, حبيبة جميع الناس, من لوحتها, لتترجم ابتسامتها المبتورة
إلى كلمات إنسانية رقيقة, في صوت رقيق يميل إلى الانطلاق من الأنف قليلا, فيضفي
ألفة عائلية.
أعجب شديد الإعجاب بطلاقة لغتها
العربية, وبابتعادها كلية عن أية مفردة فرنسية, وثار فضوله كعالم اجتماع ليعرف من
أية منطقة هي أو أهلها. شعر بسعادة عظمى واعتراه سرور كبير, وعبر لها عن ذلك. قال
لها :
اسمحي لي أن أصارحك أيضا بأنك أول
جزائرية لا تضطر لاستعمال اللغة الفرنسية. إنني كثيرا ما أصطدم بإحداهن تتحدث,
وكأنها إحدى يهوديات رحبة الصوف بقسنطينة, بفرنسية مقحمة على عربية سمجة, بصوت
أخن. يتأملها المرء فيقول, ربما تتوهم بشكلها القبيح هذا أنها أوروبية شقراء,
ولربما هي من سلالة الخادمات في بيوت المعمرين, أولئك اللائى كان الأطفال يتدربون
بهن على ممارسة الجنس. كم هن مقززات, خاصة عندما يضعن على وجوههن أرطالا من
المساحيق والمراهم, فتبيض وجوههن بينما رقابهن وصدورهن المفضوحة تفضح لونهن
الحقيقي.
ربما لهذا تحتقرهن.
لكن بالتأكيد, لهذا لم أحتقرك أنت.
لو تحدثت معي باللغة الفرنسية لأجبتك
كذلك.
لو أنني سمعت كلمة واحدة منك بهذه اللغة
لأوقفت الحافلة ونزلت.
ضحكت.
بانت أسنانها. لم تكن بيضاء. كانت
صغيرة, مسوسة, لكن منسجمة مع فمها, ومع لثتها ولثغتها القصيرة المحمرة.
من تكونين ؟
وما يهمك من معرفة من أكون ؟
كي تكتمل معرفتي بك.
الحق أقول لك, لا شيء, واحدة من بنات
الجزائر الكثيرات. أختلف عنك تمام الاختلاف. فدراستي توقفت في السنة التاسعة
المتوسطة. عبثا حاولت بواسطة التعليم المعمم إتمامها, لكن تصميمي على أن أتوقف
عنها وأجد عملا ما, منعاني من مواصلتها. حصلت على شهادة في الرقن, وتدريب على
معالجة النصوص بالكمبيوتر, ولا أشتغل. أخت لثلاثة ذكور ولخمس بنات, أنا أصغرهن.
والدي تاجر صغير, لكن مستورون والحمد لله. أرأيت أنني أستحق بدوري قليلا من
الاحتقار.
أضافت ضاحكة, فبادرها.
أبدا لا. بالعكس, كل العكس. المرأة
عندنا تتعلم ولا تتثقف. تتعلم نمط حياة ولا تتعلم كيف ترى الحياة, وهذا هو النوع
الذي ربما أحتقره قليلا.
استغرقت الرحلة وقتا طويلا لم تفرضه المسافة
البعيدة وحسب, بل فرضته كذلك الزحمة التي تكتظ بها شوارع الجزائر يومي الأحد
والأربعاء, لأسباب لم يبحث عنها أحد, وتمنى لو أن هذه الرحلة العجيبة في حياته
تطول أكثر, ولم تشعر هي بمرور الوقت فقد كانت مستغرقة في الحديث, كما لو أنها
تتعامل مع كتاب أو مع جهاز التلفزيون.
أتدرين لمن تشبهين ؟
لا.
قالت متحفظة, كأنما خشيت أن تتمادى في
الانسجام مع هذا الغريب, غريب الأمر.
للخيزران.
شكرا لك على هذا التشبيه الرائع, لو قلت
عمود التلفون لكان أحسن.
قالت تبتسم دون أن تخفي امتعاضا ما, فقد
أحست بأن هناك نوعا من الشذوذ خافته منذ اللحظة الأولى, فبادر.
أتدرين من هي الخيزران ؟
عصا جدي. طبعا. أعرفها.
ضحك ضحكة محتشمة لكنها شامتة, فقد تمكن
كعادته من إثبات تفوقه العلمي أمام محدثه, يعلم أنها نقطة ضعف كبيرة فيه تمنعه من
اكتساب مودة الناس, مع أنها تحدث في النفس زهوا ورضى, ولطالما قاومها إلا أنها مع
الأسف الشديد تطغى عليه من حين لآخر, ولو أنه هذه المرة أقسم في داخله أنه لم
يتعمد, ولم ينو, تحدي هذه الآية, كما قرر.
لا أبدا. لم أقصد ذلك. لهذا السبب
امتعضت. كلا. الخيزران هي فتاة بربرية سبيت من الجزائر, وأخذت إلى القصر العباسي,
لتنجب هارون الرشيد. أتعرفين هارون الرشيد ؟
طبعا, وأعرف أبا نواس أيضا, كما أعرف
زبيدة.
لكنك لا تعرفين الخيزران. أرأيت ؟ لقد قتلت أحد أبنائها, لتولى الآخر. كانت
أما عجيبة.
وهل تراني أشبه القاتلات ؟
أبدا لا, لكنك طويلة رقيقة جميلة مثلها.
مع الأسف لم يهتم بها الباحثون والدارسون. لا المؤرخون ولا علماء النفس ولا
السياسيون. بالتأكيد أهمل شأنها, لأنها من أصل بربري. إنها إحدى الاشكاليات في العلاقة بين العرب وبين الشعوب
الأخرى, والجزائريون منساقون بالمنهج الذي يضعه لهم الباحثون المشارقة.
تصوري أنني, كلما استيقظت في الليل,
تصورت أن الخيزران ابنة خالتي أو ابنة عمتي, وأنني قصرت في حقها, فالدم يفرض على
الدم واجبات. "إذا لم يحن يكندر", يقول المثل الشعبي.
قدرت أنه, بشكل من الأشكال, ليس سويا
ولا عاديا. إنه أحد المثقفين الذين تعرفت عليهم, والذين لا يتورعون في آخر أمرهم
عن أن يسألوها ما إذا كانت عذراء, إلا أنه على عكسهم يبدو أكثر طيبة وأكثر صدقا,
ولطفا.
داعبته.
لم لا تكون هارون الرشيد ؟
يحتمل, لو أنني ألبس غير هذا اللباس.
ولو أنك كنت أكبر مني لتضعيني على رأس الخلافة.
سلامو عليكو, لقد وصلت.
ألا يزعجك أن أراك من حين لآخر ؟
أبدا لا. إنما في النطاق.
توقفت الحافلة. تثنت في تصميم وإصرار,
واتجهت نحو الباب. نزلت, واستقبلت طريقها. قررت أن لا تلتفت وراح يرقبها, ويتمنى
لو أنها تفعل ذلك... تلتفت, ليملأ عينيه من وجهها الحبيب.
قرر ذلك.. حبيب.
قبل أن تنطلق الحافلة, وقبل أن تستدير
هي مع الشارع, تصورت أنه هارون الرشيد فعلا, فأرادت أن تتأكد مما إذا كان رأسه
يستطيع تحمل التاج.
التفتت فوجدته يتأملها من النافذة.
ابتسم. ابتسمت.
المنتهى.
قال سائق الحافلة بلغة فرنسية ملحونة,
فتقدم من القابض وسأله عما إذا كان ممكنا أن يذهب إلى الحراش من هنا.
استغرق القابض في شرح الطريق وأرقام
الحافلات ومواقعها, ولما لم يفهم الشيء الكثير قال له؛ الأفضل أن تعيدني إلى
العاصمة, ومن هنالك استقل القطار.
-"خذ بنت العمومة ولو كانت بايرة,
وخذ الطريق المعلومة ولو كانت دايرة".
قال القابض, وهو يلمح إلى السبب الذي
جعل هذا الغريب يتواجد في هذه المنطقة, وهو تلك البنت التي طالما تبعها شبان وكهول
من مختلف الأنواع والأجناس والطبقات والأعمار, لكنها صدتهم جميعا مرة باللين ومرة
بالتي هي أغلظ.
"لقد مل عاشقوها ومفتونوها
الانتظار وصعود الحافلة ونزولها واستجداء ما هو أكثر من تبادل الكلام, فتنازلوا
واستسلموا لليأس, كما سيفعل هذا المعتوه الأبله."
قال في نفسه, وطلب ثمن التذكرة, وأمره
بالتقدم إلى الأمام ليفسح المجال لغيره من الركاب.
جلس على مقعد, وكعادته, كلما أتيحت له
الفرصة, فتح حقيبته فاستخرج كتابا في الفلسفة الألمانية المعاصرة. فتحه على الصفحة
التي توقف عندها, واستعد لمواصلة القراءة غير أنه ما أن قرأ السطر الأول, حتى وجد
نفسه خارج الصفحة, خارج الكتاب, خارج الحافلة.
معها.
وجد نفسه يسترق النظر إلى عينيها, يقرأ
فيهما ذاكم النداء الاسترحامي الذي يأتي من بعيد, وبصوت جد خافت. أهي مريضة تشتكي
وجعا ما ؟ أهي تعاني مشاكل ما ؟ قد تكون مضطهدة في منزلها, وقد تكون في حاجة إلى
حنان الأبوين ؟ ربما تستغيث من وحدة ما ! العكس, ربما ترجو أن تترك وشأنها في أمن
وسلام. ربما ملت المطاردات. ربما ملت السحابات الكاذبة. قد تكون تنتظر فارس أحلام
جادا.
ربما, ربما.
أخت لخمس أخوات. لم أسألها, ما إذا كانت
أخواتها متزوجات أم لا. يصعب في هذا الزمن أن تتزوج خمس بنات من بيت واحد, اللهم
إلا إذا كن بنات شخصية متنفذة تستطيع ضمان سكن للعروسين, وتوفير وظيفة محترمة.
بنات أمثال هذه الشخصية يمكنهن أن يتزوجن ويطلقن ويعدن الزواج متى شئن, وهي، أبوها
تاجر صغير, وتقول؛ مستورون والحمد لله. في البدء قالت, عندما سألتها عن
أحوالها," عايشين وصابرين". مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن شخص يتعذب ,
يعاني أمرا ما.
في الحق.
ولربما هي لا تعاني أمرا خاصا بها, ولا
تتعذب لا بدنيا ولا معنويا في الحق.
هي واحدة من أغلبية هذا الجيل الذي ولد
في السهولة, وتربى في السهولة, وشاهد السهولة تغمر أهله.
سكنوا دون تعب ولا إرهاق. اغتنوا في
أسرع وقت. امتلكوا أرفه الأثاث وأفخر السيارات. تولوا أعلى المناصب دون كفاءة أو
شهادات. سافروا وجابوا أقاصي البلدان. حجوا واعتمروا قبل الموعد, واكتسبوا شرفا
دينيا أضافوه إلى شرف المساهمة في الثورة التحريرية, بحق وبغير حق. وزعت عليهم
الأراضي وبنيت فيها قرى سكنية فخمة. ذرعت أعمدة الكهرباء كل أريافهم, وشقتها
الطرقات, وقامت فيها المدارس والثانويات والمعاهد والجامعات والمستشفيات
والعيادات, ونصبت وسائل الإعلام نفسها محاميا جريئا عنهم, تطارد كل نقيصة لتعممها
على الدنيا كلها. لا ينظرون إلى جنباتهم, وإلى الشعوب التي يماثلونها في التخلف أو
يفوقونها, إنما فقط, وفقط, ينظرون إلى فرنسا وهي مثلهم الأعلى, وكل هذا الكون ليس
فيه سوى فرنسا, والجانب الإيجابي فقط من فرنسا.
ينزل الواحد ممن قضوا أربعين أو خمسين
سنة في فرنسا نازحا من ريف موغل في البداوة والتخلف, دون أن يكلف نفسه عناء تعلم
حروف يملأ بها استمارة الدخول والخروج.
ينزل ضيفا عابرا على بلده, فيرجمها بهذه
العبارة؛ هناك عندنا الوضع يختلف.
يقولها يعني بها المطار. يقولها يعني
بها الاستقبال. يقولها يعني بها الطريق. يقولها يعني بها كل شيء بما في ذلك الشمس
والهواء والليل والنهار.
وفجأة.
فجأة. اكتشف الأبناء أن خيرات الوطن
استنفدها الآباء ولم يبق لهم سوى ذكريات عن دلال تمتعوا به في صباهم.
بعض منهم أصيب بالبله. يكفيه أن يسند
ظهره إلى جدار ما, ويروح يتأمل أنواع السيارات والبنات التي تمر أمامه. ينام معظم
النهار, ويقوم معظم الليل.
إذا وجد قرصا مخدرا غاص في جنة الخلد,
وإذا لم يجده انهمك يلوك غيظه في عمقه.
البعض منهم أصيب بشيخوخة مبكرة, فقفز
على جميع مراحل العمر, ليجد نفسه في حالة تصوفية غريبة.
يعتزل الحياة وما فيها, وينهمك في
الاستغفار من ذنوب لم يأتها, منكرا كل مظهر من المظاهر التي ربما كانت السبب في
تشوه أبيه وأهله ومجتمعه.
البعض الآخر راح يتمظهر كما لو أنه
اللعنة التي لحقت والديه. المظهر الخارجي والسلوك أوروبيان.
يقضي ليله في الملاهي والمراقص, ويقضي
ما تبقى من نهاره في السيارات المكيفة, وفي الطائرات المحلقة.
بعضهم, الذي رزق – بهذه الصفة أو تلك,
بالوساطة, أو برشوة جمال خارق- بوظيفة أو بشغل ما, لا يمكن إقناعه أبدا بأن
المطلوب منه أن يبذل الجهد مقابل ما يحصل عليه.
كل الخلق يرزقهم الله, من حيث لا
يحتسبون, فلماذا أنا بالذات يطلب منى أن أبذل جهدا. لو كانوا فعلا يريدون جهدا لما
وظفوني بهذه الصفة. ثم إن من أدخلني هنا بإمكانه أن يدافع عني ويحميني, ولقد أوصى
بي خيرا ما في ذلك من شك.
القاسم المشترك بين هذا الجيل هو
الانفصام عمن سبقه, والانفصام عن الزمان والمكان.
ثم اللامبالاة.
الجميع واثق من أن كل ما حدث في هذا
البلد عارض, زائف, وأن الطريق مع ذلك مسدود أمام تغيير نافع.
لكن, هناك ومضات ضوء خافت, ترسله شمعة
ما في منارة ما في دهليز ما, تجتذب نحوها أناسا آخرين معظمهم من الشباب,
فتجعلهم أشبه ما يكونون بسمك السلمون,
لا يبالون, في صعودهم نحو النبع, بالموت الذي يرافقهم في كل قطرة ماء والذي
ينتظرهم حال الإخصاب.
إن رحلة تجاه النبع الذي ولدنا الأجداد
فيه تجري, وإننا لنحاول تجاوز الآباء بذلك على خلاف سمك السلمون الذي يفقد آباءه
حال اقتحامه للحياة.
"لقد اصطبغت الثورات التلقائية,
التي اندلعت حينذاك من دون رابط يربطها, بصبغة الصراع الطبقي, ولم تكن تعبيرا عن
حقد جنسي. فلم يثر الفلاحون البربر في وجه الرومان بوصفهم رومانا, بل ثاروا في وجه
كل من اضطدهم كائنا من كان, وخاصة البربر المتشبهين بالرومان.."
لا يمكن للمنطق أن يسود كل شيء, فالله
لم يمنطق حاجته إلى العبادة, حتى يخلق الجن والإنس ليعبدوه ؟
والسلمون لا يقدم مبررا لموته سوى
الشعور بالحاجة للعودة إلى النبع ليتجدد. لا يقول شيئا, وعبارة التجدد مجرد تفسير
لا غير.
في الحق.
لو لم تكن متفردة في كل شيء لما أثارت
اهتمامي. لما بانت لي شمعة في دهاليز الضريح البارد.
لا أريد أن أراها في غير لباسها هذا.
***
مساء الخير يمه.
تخلصت من حذائها متأففة, ومدت يدها تنزع
الخمار بعصبية من على رأسها وهي تتوجه إلى أمها الجالسة تتفرج على التلفزيون.
قبلتها من وجنتيها مرسلة صوت التذاذ
وحماس, ثم استلقت على السرير واضعة رأسها في حجرها.
-تعبت يا يمه تعبت. كل يوم أقول اليوم
أنهي المسألة, لكن عندما أهبط المدينة أجد الحياة فيها قطعة كبيرة من الحديد أو من
الأسمنت المقوى, لا منفذ لها إطلاقا. ماذا تريدين عند المسؤول ؟ إذا كان الأمر
يتعلق بالشغل, فلا شغل. عندما يتوفر منصب نعلن عنه في الجرائد. هم يكذبون. يكذبون.
فحتى إذا ما أعلنوا في الجرائد, فإنهم يعطون المنصب بالمحسوبية وما تبعها. كل من
توظف أو منح شغلا, فبالوساطة.
أينما تحركت يا يمه العزيزة, قيل لي؛ لو
كنت تعرفين أحدا ! مللت. مللت. وإذا ما قابلت مسؤولا قال لي كلاما آخر. لماذا
ولدتني بنتا يا يمه العزيزة ؟
لو أتممت دراستك مثل أخواتك.
لقد حسمنا هذه المسألة يا يمه, ولا فائدة
من العودة إليها، تعرفين غلظة رأسي وعنادي, فلا فائدة من اللوم, ثم إننا في العام
الثامن من انقطاع هذه الدراسة "المحنونة".
انهضي يا ابنتي, فخذي توجعني, ثم إنني
لم أصل العصر بعد. غيري ثيابك واستحمي.
أتدرين من قابلت اليوم يا أمي ؟
وكيف لي أن أدري ؟ لقد دخلت ساخطة
ناقمة, كما لو أنك تنامين في الشارع. احمدي الله على صحة أبيك الذي يغدق علينا كل
الخيرات, وانتظري مثل باقي البنات مكتوبك. ولعله يكون تاجرا كبيرا أو من يدري. لقد
صبرت ابنة خالتك شريفة حتى يئست, وقلنا إن مكتوبها نسيها. لكن في الأخير أتى لها
بمهاجر في فرنسا يقال إنه يملك عدة تجارات.
كانت تتحدث وتتأهب للصلاة, بينما كانت
الخيزران تنزع الجلباب, وتعوضه بمئزر لفته على خصرها, لتسرع إلى الحمام وتفتح
المرش ليصب على جسدها ماء باردا غزيرا أعاد إلى روحها الحبور وإلى جسدها النشاط
والحيوية, وأنساها الشغل والبحث عنه والحاجة إليه تماما.
المهم.
المهم, أن لا يضيع هذا الجسد. أن لا
يبور. أن يجد رجلا محترما لا يشرب الخمر, ولا يسرق, ولا يأكل المال الحرام. لا يهم
أن يكون غنيا أو فقيرا, تاجرا أو موظفا, مقيما أو مهاجرا, في طول مناسب, وفي سن
مناسبة. لا يبدو قزما إلى جانبي ولا أبدو طفلة إلى جانبه.
حتى لو كان هارون الرشيد.
وحاولت أن توقفه إلى جانبها في المرآة
التي تنتصب أمامها, لتتأكد من طول قامته التي لم تعرها اهتماما, فما خطر ببالها
إطلاقا إطلاقا, أن هذا البئيس الذي يكابد محفظة مثقلة بالأوراق, قد يكون في يوم من
الأيام مكتوبها.
تجلى وجهها في المرآة دون مساحيق, أزرق,
على عكس باقي بشرتها التي تضرب إلى بياض مؤكد, وبانت بعض خصلات من شعرها المصبوغ
بالأحمر سوداء بينما تبدت خصلات أخرى حلساء يتنازعها اللونان, الدخيل والأصيل.
لم يكن الشعر لا بالناعم السلس ولا
بالكث الأحرش.
ينسدل جسدها في تناغم تام. الرأس, بشعره
وبالوجه الذي يحمله, متناسب الحجم مع الكتفين العريضين, فوق صدر يشكل مثلثا منتصبا
على خصر رفيع طويل, على حوض ممتلئ في غير ما سمنة, على فخذين ما شاء الله طولا
وسلاسة واستقامة, على ساقين كأنهما مهرة أصيلة يغطي هذه البضاضة غير المتسيبة زغب خفيف يضفي بعدا جماليا على اللوحة
الرائعة.
العيب كل العيب في هذا العنق, فرغم أنه
جيد جدا, بطوله وبانصبابه على الكتفين, إلا أنه يلتصق بالذقن بواسطة جيب فضفاض,
يتدلى كما تتدلى قردحة الديك الرومي. ربما كان السبب الأول الذي ألجأ الخيزرانات الخمس
الأخريات إلى الحجاب بتخطيط صارم من الحارسة الأمينة الموجهة للمصائر, أمنا
الحبيبة. إنه جزء من الشرف الموعود, تقول.
ساعد على الزواج السهل لدنيازاد من
طبيب, والزواج الطيب لرجاء من مهندس, وإن شاء الله, تتم شاهيناس دراستها في معهد
الرسم ويكون مكتوبها مديرا أو سفيرا, أو وزيرا, ولم لا ؟ فنفسها عالية جدا جدا, تعود إلى نسل
سلالة الأتراك التي ننحدر منها من حيث جدة جدتي, تليها باليمن والسعادة, العالية,
عندما تنتهي من ليسانس الآداب, ثم شريفة التي تستعد لليسانس العلوم السياسية,
والتي لا تؤمن إطلاقا بدور الحجاب في الزواج.
"اخرج لربي عريان يكسيك."
تقول لأمي, ولنا جميعا.
راق لي الحجاب في الأول, لأنه وضعني –
أنا الصغرى, المتخلفة عن قافلة التعليم, والمحرومة من كل سر تبوح به الكبريات
بعضهن لبعض, باعتباري لا أفقه بعد في شؤون الحياة- في مقامهن كلهن. وفي جميع
الثياب التي نتبادلها, إذ ما أن تضعها الواحدة مساء حتى تصبح على جسد الأخرى, أبدو
أجملهن, وأكثرهن رشاقة وسحرا.
اللهم بارك.
دنيازاد ورجاء تتسارران فيما بينهما,
ومع شاهيناس. العالية وشريفة تتبادلان الأسرار بينهما, وتسارران شاهيناس.
شاهيناس, محط جميع أسرار العائلة, ومركز
البيت كله. أما أنا فينساني الجميع, عدا أبي الذي لا يخفي إعجابه بصراحتي وشجاعتي.
باهيت بالحجاب مدة. تطاولت به حتى.
احتميت به في الشارع وفي الحافلات من اعتداءات الوقحين, وفجأة قلب حياتي رأسا على
عقب.
سألني أحدهم كان قد اشترك معي في حديث
حول الطقس والحر, أن أرافقه إلى المسجد لأداء صلاة الظهر.
كنت متعبة جدا يعذبني الحذاء, فقلت
أستريح قليلا. دخلت. اتجهت صوب جناح النساء. كان خاويا. خفت. تشجعت. اعترتني
الرهبة, ورحت أتذاوب. أحسستني روحا أملأ كل المكان. صليت. بكيت. صليت. صليت
بالسورتين الوحيدتين اللتين تبقتا في ذاكرتي, الفاتحة والنصر. تبعت الإمام في صلاة
العصر, ثم صليت وحدي مرات أخرى. عند مدخل الباب, استقبلني الشاب مبتسما :
تقبل الله صلاتك أيتها الأخت المؤمنة,
مع أن المسجد كان ممتلئا, إلا أنك كنت فيه وحدك. إنها صلاة الرحمن.
وتقبل صلاتك أيضا.
أردت أن أقول له, إلا أنني لم أجده. لقد
اختفى. انتظرته بعد ذلك أياما وأياما لكنه ظل مختفيا.
وعندما رويت الحكاية لأمي, قالت, لا
يكون سوى أحد جدودك, من الأب, طلع لك من الساقية الحمراء.
إنه جدك سيدي بولزمان, حفيد رسول الله
عليه الصلاة والسلام. زامن السيد البخاري والسيد عبد القادر الجيلالي وصلى
بالأولياء والصالحين. لا أحد يعرف مدفنه ولا تاريخ موته, ولا ما إذا كان ميتا
فعلا. يتحدث عنه نسله جيلا إثر جيل, الحديث نفسه, وينتظرون تجليه من جيل لآخر.
ومع أنه لا يبخل في الظهور, إلا أنه لا
يظهر إلا لمن أحبهم الله من ذريته, ولا يظهر إلا على حافة الزمان.
حافة الزمان يا ابنتي والله أعلم, هي
التي تقع بين عصر وعصر.
لقد ظهر في قرية أبيك, غداة اندلاع
الثورة, لأكثر من واحد ومنهم أبوك.
يقود الواحد منهم إلى المسجد, وفي
الطريق يقول له؛ انتظروا الجمع والتقصير.
يظهر مرة شابا يافعا, ومرة كهلا, ومرة
شيخا هرما.
إننا يا ابنتي على حافة الزمان. تأملي
ما يجري. لقد نزع الرجال السراويل, واكتحلوا واستاكوا وتعطروا, ونزلوا إلى الساحات
يهتفون بالإسلام. لا شك أن جدك بولزمان هو الذي تجلى فيهم جميعا. بالأمس القريب,
قبل سنوات قليلة, كانت المساجد فارغة لا يؤمها إلا الشيوخ والمرضى, وفجأة امتلأت
بالشباب من الجنسين, ولكأنما ضاقت المساجد, فتحولت الساحات إلى مصليات يعبد الناس
فيها ربهم, ويرجمون بعضهم.
ألسنا يا ابنتي على حافة الزمان ؟ ألا
يحق لجدك بولزمان الظهور.
دون أخواتك سيكون لك شأن وأيما شأن.
ربما تزوجت وزيرا, أو غنيا في الخارج. ربما ورثت أملاكا وتجارات ومصانع. ربما
أنجبت رئيسا أو ملكا.
ابن هارون الرشيد.
تمتمت باسمة, وهي تسوي سروال المنامة,
وتلقي النظرة الأخيرة على وجهها الذي يعطيها, بلا مساحيق, ملامح غلام سمح.
غادرت الحمام. ائتزرت. انتظرت انتهاء
أمها من الدعاء الذي تكرر منذ سنوات طويلة إثر كل صلاة وبالصوت العالي.
اللهم احفظ أبا العيال من كل سوء. لا
تسق إليه إلا من يخافك. وابعد عنه في بيعه وشرائه في غدوه ورواحه, كل أحمق وكل
شرير. اللهم ارزقه بما يسترنا أمام عبادك أجمعين.
اللهم أطل عمره حتى تنهي شاهيناس
والعالية وشريفة دراستهن ويأتيهن مكتوبهن, وحتى يرزق الباهي بالعمل الثابت وبابنة
الحلال التي لا تنغص على صفائي, ويعود الصادق من الخدمة العسكرية ويجد شغلا
محترما, وينجح بؤبؤ عيني "قريد العش" الوافي في دراسته وحياته.
اللهم احفظ دنيازاد وأعدها وزوجها من
الجلفة إلى الجزائر. اللهم احفظ رجاء وزوجها وولديهما, وأبعد عين الحاسدين عنهم.
اللهم وفر أسباب النجاح لشاهيناس أعقل
وأرصن بناتي كلهن, وأيقظ الحماسة في قلبها, واجعل العالية تنجو من كيد الكائدين,
وتصل إلى ساحل النجاة, وأبعد كل أذى عن الطاهرة النقية شريفة. اللهم اهد زهيرة إلى
ما فيه خيرها وخير عبادك وعجل بمكتوبها, حتى تنجو من كل سوء. إنها منقطعة عن
الدراسة وتكثر من اللف والدوران في المدينة.
أمين يا رب العالمين.
صلت العصر بسورتيها, ولم تدع كعادتها
بأي دعاء. ذلك أن الله كما تقول, يعرف بالضبط ما في قلبها وما في رأسها وما في
جيبها.
ولا يوجد في القلب وفي الرأس سوى حب
الخير. الخير لها. الخير لجميع الناس, المؤمنين والمؤمنات, وغير المؤمنين
والمؤمنات.
لم تقصي على ما فعل الله اليوم. !
طرحت السؤال ا لذي طرحته أول ما طرحته
على دنيازاد منذ ثلاثين سنة, عند أول خروجها إلى الحياة ملتحقة بالمدرسة.
مولى البيت رزقه الله, فترك العربة التي
يظل طوال النهار يدفعها في الحارات والأحياء محملة بالخضر وهو ينادي تحت الشرفات
غير مبال بالطقس وحالته.
جاء أحدهم, أحد الأقارب البعيدين الذين
لا يظهرون إلا عندما تحتم عليهم حاجتهم ذلك, وطلب منه أن يخلفه في نصبة الخضر
بالسوق الوسطى, حتى يفرغ من أمر متاجر غادرها الفرنسيون وبقيت شاغرة.
لم يعد القريب, وسوت البلدية الوضع, ومن
يومها, لم يعد مولى البيت مولى البيت.
يخرج في الساعة الثالثة صباحا قاصدا سوق
الجملة. يعود بعدها إلى النصبة, يغسل الخضر ويسويها مبرزا محاسنها مصارعا الزبائن,
كل زبون يريد أجمل ما عندي ناسيا غيره. بعضهم يطلب ذلك بلطف, وبعضهم يحاول فرضه
بعنف. يصبر المرء. يصبر, إلا أنه لا يدري كيف ينفجر ويخرج عن طوقه.
يعود مع الليل سكرانا بطريقته الخاصة.
تتسع عيناه الكبيرتان حتى يمتلئ وجهه بهما. ترتسم بسمة على شفتيه, وتسكن هناك.
أفزع إليه لأنجده, فينهرني بأنه على
أطيب ما يرام. كل ما هنالك أنه غسل بقنينات بيرة "دمار العرب".
كل من تتحدثين إليه ناهية عن المنكر,
يقول لك, ألا تعرفن من أنا. كلهم..
هم.
مجاهدون، محكوم عليهم بالإعدام, مسؤولون,
ضباط, شرطة محافظو شرطة.
أنا فقط, ووحدي, الشعب الذي عليه أن لا
يغفل إطلاقا عن إرضائهم.
تفوه.
لحسن الحظ, أنهم لا يبالون بالأسعار.
بضاعة الألف يدفعون فيها الآلاف ولا يهمهم, "الزيت من الزيتونة والحوت من
البحر."
الرزق وافر. ما على المرء إلا أن يغرف.
تريدين وظيفة ؟ هاهي الوظائف اختاري. التعليم. الشرطة, السلك الديبلوماسي,
الإدارة. لا يهم من التعليم إلا ما يستر العيب, الشهادة الابتدائية أو ما قاربها
بالفرنسية, وربع يس أو أقل بالعربية. لا تقرئين ولا تكتبين أصلا. في هذه الحالة
تكونين وزيرة أو ضابطة. تريدين متجرا في أحسن مكان, هاهو اختاري.
اطلب يا عبدي أعطيك.
لو أنني لم أصب بالعماء وأتزوجك, ودخلت
في لعبة قريبنا مولى النصبة, وطلبت يد إحدى بناته, لكنت على الأقل واليا أو رئيس
دائرة.
لكن الحياء والقناعة وسيدي بولزمان,
"الشايلله به"
خرجت من الخمارة مستقيم الحال, كما
ينبغي. كنت أدندن بما لا أدريه, قاصدا الشقة التي فتحتها منذ أيام, وأنا لا أدري
هل أجدني فيها من جديد, أم أجد شخصا آخر يحتلها. هل أجدها هناك أو أجدها تحولت إلى
عمارة أخرى في منطقة أخرى.
تهالكت على السرير الفاره الذي اكتسبته
مع الشقة, ليوقظني مع الفجر.
بين النوم واليقظة, بين الحلم والحقيقة,
ظهر لي في هيئة شيخ هرم. نصيبك الفجر. قدرك الفجر. هيا معي.
أمك بالقرية, تمسك يد عروسك وتنتظرك.
لقد زوجتكها, ابنة خالتك وردية, وملأت
طريقكما بالصالحين والصالحات, والطيبين والطيبات. وستغرف من الشرف الذي يصيب البلد
قدرا وافرا.
وعدت بك.
لو لم تكن تلك إرادة سيدنا الشايلله به,
لما كان أحد من أهلي يرضى بك وأنت ما أنت, حتى اليوم.
يكون حينها قد نام.
ينام دون عشاء. يقول إنهم يعطونهم مع
البيرة أكلا بالمجان. يومها كانت الرحمة سائدة بين الناس, وكان الخير مبعثرا.
رغم أن معظم الرجال كانوا يتعاطون الخمر
أيامها, إلا أن الهدوء كان يسود الحياة, والعرائس لا يعدن إلى بيوت آبائهن إلا
نادرا, وهداية الله كانت قريبة.
يكفي أن يستيقظ ضمير الواحد, حتى يتوب
مثلما جرى مع مولى البيت.
عاد ولم يجدني. حملت رجاء بين ذراعي,
وطلبت من دنيازاد, أن تتبعني ملتصقة بي, وكانت شاهيناس في الشهر الرابع ببطني,
وقصدت دار خالتي، غاضبة مصممة أن لا أعود حتى يقضي سيدي بولزمان أمرا كان مفعولا.
قلت, أساعد الوعدة, التي وعدت بها سيدي
بولزمان بموقف صارم.
علم من الجيران مقصدي, فقصدنا لتوه.
طارت السكرة قال. استثير فطارت السكرة.
مولى بيتي لا يعرف كيف يغضب, والبنت
شاهيناس نسخة منه.
يسكت. يتلون وجهه. يعود إلى نفسه. يؤجل
الأمر حتى يرى, وإذا ما رأى, ولو بعد أيام, فلا راد لرأيه.
لكنه هذه المرة رأى بسرعة فائقة. رأى أن
يستعيدنا إلى البيت على وعد قاطع. الحق الحق, وفى به.
من يومها بدل الخمارة بالمسجد, ونفد أمر
سيدي بولزمان, الذي ذبحت له في القرية عجلا أطعمته للفقراء كما وعدت.
الشايلله يا سيدي بولزمان, الذي ننتظر
بثقة وأمان تحقيق إرادته فينا.
ما إن تتالت البنات, حتى أوكل إلى أمر
البيت.
لا أستطيع أن أكون هنا وهناك يا بنت
عمي. خذيه افعلي به ما تشائين.
لم يبق له من دور, في البيت, سوى فرض
هيبة غامضة, تساعدني في مهمتي التي لم تكن وأيم الحق بالشاقة, فالبنات جميعهن,
لينات العريكة, سهلات القيادة, الكبرى قدوة للصغرى, كأنهن بنت واحدة, أو كأنهن
أمهات لبعضهن
حتى اليوم, ورغم تقدمهن في السن, الله
يبارك. لا تتردد الكبرى عن فتح رسالة جاءت باسم الصغرى. ولا يمكن لهذه, أو حتى
يخطر ببالها أصلا, أن تحتج.
كلهن هن, وكلهن أنا, عدا زهيرة التي
قالت, أريد أن أشذد عنهن. أن أكون
أنا دون الخروج عن النطاق. حاسبوني إذا أخطأت. وشريفة التي رفضت الحجاب خجلا من أن
تبدو مثل الباقيات.
إنك جعلتنا نتشابه مثل قناني اللبن يا
أمي. دعنني أكن كيس لبن على الأقل.
في قلبي, أقول لا يهمني الكيس, ولا
تهمني القنينة, لكن يهمني اللبن. كن لبنا يا بنات, في بياضه, في صفائه, في بركته
ونفعه, وافعلن ما تشأن. أعلم أنكن حينها لن تفعلن سوى ما يرضي الله, ويحقق وعد سيدي
بولزمان.
لقد زوجتكما, ابنة خالتك وردية, وملأت
طريقكما بالصالحين والصالحات, والطيبين والطيبات. وستغرف من الشرف الذي يصيب البلد
قدرا وافرا.
كل يوم, أتلقى منهن جميعا, بل وحتى من
أبيهن, عرضا مفصلا عما فعل الله بهن في الزنقة. ماذا قرأت البنت. مع من تحدثت. أين
تغدت. مع من.
كن
يروين لي جميع التفاصيل, فكانت ثقتي فيهن هي الحصن الحصين لجميعهن عن الزلل. لقد
فقهت الكبرى الصغرى, في كل أمر,, فشيدن لأنفسهن حصونا من الفولاذ ضد أولاد الحرام.
الرجل
الذي يريدهن فعلا, هاهي الدار قدامه. يتقدم للخطبة, ونحن لا نشترط سوى طاعة الله,
والشايلله يا سيدي بولزمان. الثقة كل الثقة فيك.
الرجل
رجل. ذئب ابن ذئب. والمرأة امرأة. حمل لا مناص لها من أن تلتقي الذئب. لكن من
واجبها, أن لا تذهب هدرا.
هكذا
علمتهن, وهكذا علمت الكبيرة الصغيرة, وهكذا يتصرفن,, والحمد لله.
لم تقصي على ما فعل الله بك اليوم يا بنت يا زهيرة. هاهو
التقرير المفصل, يا حضرات . خرجت الساعة التاسعة من هنا.
الحافلة
الأولى ملأى. الثانية ملأى. الثالثة كذلك..
التاكسيهات
سعرها لا يساعد كما تعلمين.
حامت
حولي مرسيدس, ثم ب م, ثم رونو أربعة.
جاءت
الحافلة وراحت. رفضوا فتح الباب. قيل هناك سرقة, وقيل معطلة.
وقف
عند رأسي شاب ليس من "الحومة". همس بكل وقاحة في أذني "كانش ما
كان", فرددت عليه حالا, "كاينة يماك يا واحد الشماتة." انصرف
كالكلب.
توقفت
سيارة فخمة فيها كهل أصلع. قال اركبي. ركبت. بادرته بأن شباب هذا الجيل عديم
الذوق. قصصت عليه قصة كانش ما كان. كنا وصلنا إلى ساحة أول ماي. قلت له :
-
وصلت.
استخرجت
ورقة الدنانير العشرة التي أعطيتنيها, وخزيته بها. احمر وجهه, وقال إنه موظف سام,
ولا صلة له إطلاقا بما فهمت.
أمل أن نلتقي.
إن شاء الله.
قلت.
استعملت إن شاء الله التي تستعملها شاهيناز وتعني بها؛ مستحيل.
كانت
الأمواج البشرية تهدر, كأنما في عرفات. مررت. أفسحوا لي الطريق فمررت. قصدت أولا
المدرسة التي تعلمت فيها معالجة النصوص. سألت عن الديبلوم, فقيل لي إنه لم يحضر
بعد. حكيت قليلا مع صديقة لي هناك. جاءت الثانية عشرة.
خرجت.
لكت
ورقة الدنانير العشرة, بين أصابعي.
أكل
ولا أكل. ماذا تستطيع هذه المغبونة أن تشتري ؟ قلت وقصدت دار الصحافة.
كثير
من الصحافيين باللغة العربية هناك, يعرفونني ويرحبون بي. شهيتهم تتفتح عندما
يكونون على المائدة معي, كما يجمع الكثير منهم, ورغبتهم في سرد مآسيهم تجد لها
منفذا.
أحدهم
يتألم لأن زوجته اكتشفت علاقته مع صحفية مبتدئة, كان يعلمها المهنة فغادرت المنزل
مصطحبة ولدين.
أحدهم
يقول, إنه اختلف مع صديقة له في طبيعة العلاقة. هي لا تضع نصب عينيها سوى الزواج,
بينما هو يسعى إلى إقامة علاقة إنسانية خالية من أغراض الدنيا التافهة.
تصوري.
في
أوروبا. الإنسان هناك تجاوز كل هذه الإشكاليات, فالرجل يعيش مع المرأة دهرا, وقد
ينجبون ذرية دون زواج.
البنات
عندنا أفسدهن التعليم, وأجهزت عليهن الأمهات.
إنني
أحاول أن أكون ابن عصري. لا أبالي بالإشكاليات والقيود التي يفرضها المجتمع.
هل
أنت بكر بعد ؟ إذا كان السؤال لا يحرجك ؟
الآخر
يقضي الوقت كله, بين دخول المطعم وطلب الأكل والانتهاء منه, في الحديث عن شقته
التي حصل عليها بعد جهاد طويل, وأثثها على مدى سنوات, ولم يصادف بعد بنت الحلال
التي تملأ عينيه فتملؤها. كم أكون سعيدا لو تتفضلين بزيارتها وتعطينني رأيك فيها
وفي محتواها, وفي صاحبها أيضا. ها ها.
إن
شاء الله.
أجدني
مضطرة للقول, فيمتلئ حبورا ومسرة.
بعضهم
ما إن يدفع فاتورة الغداء, مستظهرا قيمة ما استخرجه من نقود, حتى يعلمك بأن سيارته
التي كانت عند الميكانيكي, استخرجها أمس, وأنه مستعد للقيام بجولة معك إلى سيدي
فرج.
وعليك
يا يمه في جميع الحالات, أن تتصرفي وأن تتخلصي.
"شوفي"
يا يمه. إن أحسن وقت تلتقين فيه بالصحافيين المعربين هو وقت الغداء.
يكونون
جد كرماء وأسخياء على البنات.
الواحد
منهم مستعد مقابل أن يباهي ببنت في المطعم, أن ينفق كل ما يملك.
فقط,
قولي له على مسمع من زملائه, إنك قرأت العمود الأخير الذي كتبه. ستصادفين فيلسوفا,
وحكيما, وعبقريا, ومحللا, ولا أكبر محللي الدنيا, إنما خذله رئيس التحرير الذي
يخشى أن يستولي على منصبه, فحذف الجزء الأهم من عموده.
"شوفي"
يا يمه. كلهم يكره الحكومة من قلبه, لكنهم كلهم ينتظرون من الحكومة أن تعطيهم شيئا
ما. إنهم يا يمه, لا يحقدون عليها, وإن كانوا يشتمونها في أحاديثهم وبعض كتاباتهم.
في
الأخير, تغديت مع عزيز, وصرفته بنفس الوقاحة التي يتصرف بها.
بادرته,
قبل أن يبادرني, بالحديث عن ابنه والمدرسة وأبغض الحلال عند الله..ولم أعطه الفرصة
ليكرر على الدوافع الموضوعية والذاتية والحضارية التي تدفع بأديب مثله إلى تصرف
ربما يراه بعض ذوي الثقافة المحدودة أو التربية المتزمتة أو ممن يجهلون الحداثة
ومتطلباتها أو قليل الإدراك للعملية الإبداعية في حياة المجتمعات, شاذا.
إنني
أحفظ عن ظهر قلب تقريبا, خطاب كل واحد منهم. خاصة خطاب أمثال عزيز المسكين.
لقد
روضته يا يمه على قبول الأمر الواقع.
ّقصرة
عامة وطبق."
من
هته الجريدة إلى تلك.
ما
هو مستواك. التاسعة. فقط فقط. لكن أحسن العربية وأرقن جيدا. وهل اشتغلت قبل اليوم ؟
مع
الأسف لا.
قد
نحتاجك في المستقبل. عودي يوما آخر. المدير ليس هنا, ثم إن التشغيل متوقف. تعلمين
أن المتقدمات للعمل الآن كمعالجات للنصوص لا يقل مستواهن عن الليسانس.
لكن
أعلم أنكم لا تشغلون جماعة الليسانس, لأن أجورهن مرتفعة. إنهن يقبلن بأي ثمن.
البطالة ضاربة أطنابها, والخريجون كثروا, والله غالب.
عودي
مرة أخرى. المدير غائب.
أعنت
صديقة لي بالجريدة, حدثتك عنها, في صف مقال وتدربت ما يقرب الساعة, ثم قصدت الله
عائدة إليك بهذا التقرير الساخن.
فقط.
لا. لقد التقيت بهارون الرشيد.
هارون الرشيد دفعة واحدة..؟
-
هارون الرشيد. راش. نحيف هزيل. رأسه أكبر من صدره, وأنفه أكبر من فمه. يرتدي ثياب
المتسولين, ويحمل محفظة مثقلة بالكتب. أستاذ يقول الشعر, وغير متزوج, وفي الأربعين
من عمره ولطيف. لطيف جدا.
-
عن أية مصيبة تتحدثين يا ابنتي ؟
-
لكن استلطفت الحديث معه يا يمه. أقول لك لطيف. لطيف جدا.
-
كيف اصطدمت بهذا العجوز ؟
-
ركب معي الحافلة. شبهني بمصرية قرأ عنها شيئا في كتب التاريخ.
***
طوى
الكتاب, الذي لم يكن ليقرأ فيه حالما توقفت الحافلة, وأسرع إلى القطار.
ظل
يطل من النافذة, وظلت تملأ بصره. لا يرى قطارات تسير في الاتجاه المعاكس, ولا
مقطورات متوقفة هنا وهنالك, ولا دور بلكور المهدمة في انتظار أن تقيم فيها الشركات
المتعددة الجنسيات فنادق وبنايات خدمات, بدل مقر رئاسة الجمهورية, كما كانت رغبة
مولى الرغبات الأول, لولا نصيحة ناصح بأن الخزينة خاوية, وأن أزمة السكن خانقة,
ولا يصح يا صاحب الصح.. ولا المباني الأرضية وقطع الأرض المهملة, بدءا من العناصر,
مرورا بحسين داي, حتى الحراش. والتي كان, كعالم اجتماع, يعلق عليها كلما عبر
الطريق, وكثيرا ما كان يعبره, غاديا رائحا بهذا الرأي أو ذاك, حسب المزاج.
عيناها.
عيناها
الدعجاوان, الواسعتان, المنتصبتان, في طرفي الوجه, كأنهما لظبية.
عيناها
فقط تملآن الفضاءات.
حالة
عابرة وتزول.
خط
في كراس مذكراته الذي لا يلجأ إليه إلى عند مستعصيات الأمور والأحداث.
واستغرق
يشرحها, هذه الحالة العابرة.
لقد
اخترق الضريح, وتكشفت دهاليزه. إنها بداية الاختراق. ولقد اتقدت شمعة، نورها كنور
الشمس.
هل
هي بداية لحالة حب ؟
أيمكن أن تدب الحياة في ضريح مثلي؟ قلت شعرا كثيرا،
وتحدثت عنه، الحب. تحدثت عنه على لسان الآخرين. كما عاشوه. كما استطابوه، كما
اكتووا بناره، كما كذبوا في شأنه، كما اشترى أحدهم قنينة عطر لحبيبته، ولم يقل لي
أحد أن الطعم الذي يجده في شعري لا يختلف عن الطعم الذي يعرفه.
ما هو؟ من الناحية الفيسيولوجية، الحب؟
أهو رائحة خاصة يفرزها كائن لكائن، توقظ فيه خلايا
معينة، تستجيب لنداء معين، كما هو الشأن لدى الثدييات الأخرى؟
أهو إشارات تحملها ذبذبات كهربية، تربط كائنا بكائن؟
هل كل ما يقال عن التعلق هو حب؟
لماذا يغوينا ما ننعته بالجمال؟ هذا الجمال الذي يرتبط
عادة بصفات ما نشتهي أكله؟
هل هناك علاقة في تقييمنا للجمال بغريزة أكل اللحم فينا؟
الوجه القبيح، لا يستهوي حتى صاحب الوجه القبيح الآخر،
لماذا؟
كباحث اجتماعي سأقترح على الهيئات الطبية الخاصة، وعلى
المنظمات الدولية الصحية والاجتماعية، على مؤتمر الإسكان بصفة خاصة، البحث عن
كيفية نزع جينات الغريزة الجنسية لدى الإنسان، هذه التي تلازمه ليل نهار، فتجعله،
يعمر الكون بلا حساب، وتعويضها، بغريزة حيوان ثديي آخر، متزن. تلك التي تثور من سنة
لأخرى، أو حتى أكثر.
ستثور الثائرة.
ولكن أيهما أفضل، إسقاط الأجنة من الأرحام، أم كبح جماح
غريزة التواصل الجنسي التي لا تتوقف لدى الإنسان من دون الكائنات الأخرى. (موضوع
بحث.. التعرف عن الدورات الغريزية لدى باقي الكائنات الأخرى بدءا من الأرنب والقرد
اللذين يقال إنهما أكثر الحيوانات ممارسة للجنس). ربما يحتج بأن أسرار الاختراعات،
وأسرار التفوق، وحوافز تعمير الكون، والميول الشعرية والفنية عموما، تعود إلى آلام
الكائن الجنسية وإلى غريزة الحضور لدى الرجل بصفة خاصة طوال الوقت.
إنها تباريح الامتداد في الزمان والمكان. غريزة البقاء.
سيرد آخرون.
إنها إرادة الله في خلقه، فكيف الاعتراض على إرادة الله.
سيقول آخرون ممن قالوا ذلك عن الحجر الصحي في القرن الماضي بأنه فرار من قضاء
الله.
إنما الأرض امتلأت. امتلأت، وعليها أن تتوقف عن الامتلاء
أو أن تنفجر. ما ستكون عليه الكثافة السكانية، بعد قرن آخر، إذا استمرت وتيرة
التزايد على ما هي عليه؟
لنفرض أن إفريقيا، انقرض سكانها، مجاعة، مرضا، حروبا،
هجرة. لكن هناك آسيا، التي ستجعل من الكرة الأرضية كلها آسيا.
لا شك أن الإنسان يومها، وهذا في أحسن الحالات، سيعود
إلى الحالة الكارنيفولية، وسيقتات من بعضه.
يقتات القوي من الضعيف. الكبير من الصغير. ستأكل الأم
باستطابة لحم ابنها، هاربة به عن بقية الذكور.
أعطانا الله العلم، وبالعلم، نتدخل وننقذ مسلولا وأي
معلول آخر، وبالعلم، ينبغي أن ننقذ الإنسانية من الحيوانية.
وبالضبط، ما حالتي؟
أهي غريزية؟
هل تكون أم العيون الفاتنة، أيقظت في صدري، أحاسيس أن
أتكرر، في الزمان والمكان؟ ولماذا هي بالذات؟
"سبة ووالتها حدور" كما يقال.
لقد واجهت غريزة الجنس، بحذر وحكمة. إغلاق الباب، على
جميع المهيجات والمثيرات. لا خمر. لا قهوة، لا فلفل، لا تفكير.
حتى النساء، لا أنظر إليهن إلا على أنهن رجال خلقوا
للولادة. وإلا ما معنى، أن تكون مجرد فوارق فيسيولوجية، تتدخل فيها من حين لآخر
مباضع الجراحين فتقلب وضعها. الرجل يصير امرأة، والمرأة تصير رجلا، مثيرة لكل هذا
الغموض والوهم؟
الإنسان يستهويه سحر نفسه حتى بالكذب عليها.
أكانت ثمرة الشجرة التي أكل منها آدم وحواء، لعنة أبدية
بالغواية؟ بتفكير الآخر في الأخرى والأخرى في الآخر المتواصل على أن يعود كلاهما
إلى الآخر؟.
قد يذهب العقل أبعد مما ينبغي في هذا الزمن، والأفضل
الاقتصار على مقولة إن الله العزيز الحميد، خلق الداء وخلق الدواء. وأن الإنسانية
مقبلة على أحد أمرين. إما حرب مدمرة تعيدها إلى البداية، إن بقي منها باقية، وإما
انفجار سكاني نملي، يصير فيه أكل البشر مثل أكل لحم أي كائن آخر.
يا أيها الإنسان إنك هنا، ولا مفر لك من أن تكون هنا. من
أن تبقى، حتى وإن توجب عليك أن تأكل جزءا منك؟
ما دمت تقتل بعضك، فلا مانع من أن تأكل نفسك.
(هذا كلام جديد، توحيه الحالة التي أنا عليها، وهو أشبه
بخواطر غريبة يوحيها تأثير مخدر ما فهل أنا سكرت. هل بدأت أدر؟ هل ودرت فعلا؟ أكون
في حالة الكلب الذي يشم رائحة كلبة في حالة استعداد للإخصاب، فيجن. نعم يجن الكلب
المسكين. يسكر. يدر. يظل واحدا وعشرين يوما، فترة انبعاث الرائحة، لا يعي غير
الاستجابة للرائحة).
يا إلهي، إنك تصنع العجب العجاب بمخلوقاتك، فألهمني،
ألهمني، الآن إلى ما صنعته بي. فمن خلال عيني، جعلتني أفقد وقاري، وأتبع غرة
غريرة، أركب الحافلة وراءها، وأجد الشجاعة فأفتح الحديث معها، وأجعل الحديث ينم عن
إعجابي بجمالها، وعن وضعي الاجتماعي.
يا إلهي، لئن كنت لا أراك كما يراك العوام، ولئن كنت
أراك كما يراك ابن عربي، والسهروردي، والخيام والعدوية والحلاج، نور السماوات
والأرض مثل نورك كمشكاة. فإنني يا إلهي أعجز عن فهم بعض مشيئاتك، فألهمني إلى فهم
هذا الحصار الذي تضربه علي عينان سوداوان، حتى صارتا النور الذي يعم كياني.
الشمعة صغيرة يا إلاهي. الدهاليز كبيرة يا إلاهي. لكن
النور قوي.
(اللغة التي أستعملها الليلة، والوجد الديني الذي تصطبغ
به مفرداتي، كل هذا جديد، فهل يعني هذا أنني أقع تحت وطأة "عليها نحيا وعليها
نموت وعليها نلقى الله؟" أليس كل هذا تبريرا لتوجه ما بدأت أتوجهه؟).
نعم. نعم.
من ينكر، عندما يرى الله نزل على الأرض وملأ الساحات،
بهدير الشباب، المفتوح الصدر على الرصاص الحاصد، من ينكر، ضرورة إعادة التفكير في
أمره؟
ليكن ما يكون. فهؤلاء الناس يحتكمون إليه. وأنت، كنت ما
كنت، مع حد أدنى من صدق النفس، يتوجب عليك أن تنظر في المرآة للتعرف على نفسك.
وكائنا من تكون، أنت كائن بالآخرين.
أنت واحد منهم أو أنت لا شيء.
والآخرون في هذا البلد، في هذا الزمن، آخرون على مر
الأزمان. بربر ورومان ومترومنون. بدو يحقدون على الحضر، وحضر لا يتذكرون البدو إلا
في آخر الأمر.
نخبة تستكين للفرنسية وللسلطة وللمال، (أنا بإمكاني أن
أبقى من ضمن هذه النخبة لو كانت لدي مصلحة شخصية ما، ولو لم آت من حيث أتيت. لو لم
تكن العارم ابنة خالتي، ولم يكن المختار عما لي، ولم تكن أمي هي أمي).
أكيد أني أخلط الأمور خلطا عشوائيا.
أبدا لا.
إنها رقصة مرواح الخيل. مع الصعود، مع النزول، مع
الانحناء، مع الاستقامة، مع الغضب، مع الرضا، مع السرور، مع الاستياء، مع التيهان
في تصور الحالتين، حالة الفزع من الغازي، وحالة الاستبشار بالمنجد. مع هاته
الحالات كلها، هناك وعي لا واع، بإيقاعات اللحن.
ها مفترق الطرق، أمامك.
ها أنت في هذا المفترق. هوية تضيع. شعب جديد، لا هو
بالمالطي ولا هو بيهود في بلد مستعمر. ولا هو بالموريسكي، في آخر زمان
الموريسكيين.
هذا الشعب يولد من زمن عاقر.
على يدك على
أجنحة شعرك، على يد المديرين، على أيدي الأمهات الهاربات إلى اللغة الفرنسية، على
أيدي كل من أخصبت فيهم البذرة الاستعمارية، على أيدي كل من فعلت فيهم الهزائم
العربية فعلها، على أيدي المترومنين الجدد والقدامى.
يولد، سينيغال أبيض في هذا البلد. يولد سانغور، يقول
الشعر بالفرنسية، لكنه لا يصلي مثل سانغور السينيغال، في الكنيسة. سانغور، بلا دين
ولا ملة. لا يصلي ولا يصوم ولا يؤمن بأي إله.
في الميزان أنت.
ومع الله الذي يحتل الساحات، ماذا ستفقد؟
قلها بصراحة. قلها ومت دونها. ما يخيفك أكثر؟
فقدان العقل.
يموت الجاحظ. يموت واصل بن عطاء. يموت ابن رشد. يموت ابن
الهيثم. يتربع أحمد بن حنبل من جديد على العرش. لا يقول شيئا سوى أن الله أراد
ذلك، أو أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك.
تموت أنت.
أي نير
سيزول من على كتفيك، أو أي نير جديد سيوضع عليهما؟
هب أن ماركس يقف في الركن الذي تعودت أن تقف فيه في ساحة
أول ماي. ماذا سيقول، بم سيأمر، لا شك أنه سيجد منفذا طبقيا لما يجري، ويعيد
قولته، كان المنطق عند هيغل يقف على رأسه، فجعلته يقف على رجليه.
سيقول ماركس، أولا إن ما يجري هو أحد مظاهر إفلاس
البرجوازية في أن تنجز التحول الطبقي، إما إلى الاشتراكية وإما إلى الرأسمالية، ثم
سيضيف، أنه حيثما وجد شباب وعمال، فهناك تطلع إلى التغيير، وعلى العالم أن يتنبأ
طبقا للمعطيات العامة باتجاه هذا التغيير، وعلى المناضل أن يجعل نصب عينيه، اكتشاف
إمكانية جعل هذا التغيير، لصالح طبقته.
هب أن لينين، فلاديمير لينين، صاحب خطوة إلى الأمام
خطوتان إلى الوراء.
هبه هنالك في الساحة، يتأمل، يرى ويبصر ما يجري، أتعتقد
أنه سيقف مكتوف الأيدي، أو أنه سيكتفي بالتحسر على الخطأ الأيديولوجي الذي وقعت
فيه الجماهير. ويملأ الصفحات بعبارات الظلامية والرجعية والأصولية، والعودوية
ويكتفي بالإدانة وبالمماحكات اللفظية؟
سيبادر فلاديمير لينين إلى القول بأن الله، كان دائما
وأبدا حليف الفقراء والمساكين والمضطهدين، وإنه من حق، ومن واجب هؤلاء، أن يلتجئوا
إليه، طالما ضيقت البرجوازية عليهم الخناق، وكلما عجز المناضلون عن إحداث التغيير
السياسي، أو عن تحقيق ما وعدوا به.
إن رفض الواقع، بأي منطق كان، وفي ظل أي حكم كان، حتى
وإن كان حكم حزب الطبقة العاملة، من طرف الفقراء والكادحين، هو شكل من أشكال
النضال. والمهم في هذه الحالات، هو معرفة عدو الجماهير، قبل التعرف على منطلقاتها.
يضع خريطة للمناطق التي تمظهرت فيها الظاهرة، بسوريا،
بمصر، بالجزائر، وسيكتشف بسرعة أنها المناطق التي ضحكت فيها البرجوازية الوطنية
على ذقن الجماهير بالتطبيق الكاذب والمشوه للاشتراكية، حلم الناس الذي سيظل
يراودهم إلى يوم الدين. ثم يستخلص أن الظاهرة تجلت إثر عمليات الانفتاح، ومصاحبة
لها، وهي بالتالي رفض للعودة إلى اقتصاد ترك الحبل على الغارب، كما سيضع خارطة
للمناطق التي لم تعرف الظاهرة، وسيقرر أن الفقر ليس هو الدافع الحقيقي، لها، بل
الخوف من العودة إلى الفقر.
ثم.
ما يضير،
إذا كان قطع خطوة إلى الأمام مستحيل، العودة إلى الوراء ومحاولة الذهاب إلى الأمام
من جهة الخلف.
المهم هو عدم الاستسلام للشلل الذي تحاول البرجوازية
الوطنية حليفة الرأسمال المتعدد الجنسيات، فرضه.
ثم،
في هذا البلد، ظل تاريخ ثورات الجماهير الشعبية مرتبطا
بالقديسين ورجال الدين، من عهد دوناتيوس، إلى عهد المحاربة التي لا يعرف لها اسم
آخر غير الكاهنة، إلى عهد المرابط عبد القادر الذي نصب نفسه أميرا.
وفي آخر المطاف تتحقق مقولة القائل "إن جميع
الأسرار التي تقود النظرية إلى الصوفية، تجد حلها العقلاني في الممارسة الإنسانية
وفي فهم هذه الممارسة".
هل تتصور أن لينين أو كارل ماكس، يتخذان موقفا ضد
الجماهير، خوفا على الليبرالية الغربية. هذه التي أنفقت ملايين الدولارات، كي لا
تكون الديمقراطية في التشيلي، وقتلت ثمانية ملايين شخص في أندونيسيا دفاعا عن
الديكتاتورية والفاشية؟
السؤال الذي سيطرحه فلاديمير لينين، هو هذا:
ماذا ستخسر الطبقة الكادحة إذا ما انتصر الفقراء وشيوخهم
باسم الله؟
تخسر فقط حزبها، الذي قد يمنع أو يضطهد بهذا العنوان أو
ذاك. لكن هل أن حزب الطبقة العاملة، في وضع يمكنها من قطع أية خطوة إلى الأمام،
وإن كانت قصيرة؟
لا أبدا، إنه أسير، تفعل به البرجوازيات الوطنية، ما
تريد. أضحى في مقدوره أن يفعل أي شيء عدا قيادة الطبقة العاملة.
ماذا ستربح إذن؟
تربح وقوف الله إلى جانبها. تتساوى مع الجميع، كأسنان
المشط، وتمد يدها إلى حقها.
إذا ما رفض لها هذا الحق، فستعيد غضبها، ولو كان باسم
الشيطان هذه المرة.
من سيخسر في العملية؟
سيتساءل فلاديمير لينين، وسيأتيه الجواب سريعا سريعا،
أعداء الأغلبية، الذين ينهبون في الظلام.
سيكتشف لينين المعادلة التالية: أيديولوجية محافظة، (لا
يمكن سوى افتراض أنها محافظة)، بقيادة محافظة، (لا يمكن أن يكون الشيوخ، إلا
محافظين، وهم يفتخرون بذلك)، وبدعم من الفئات والطبقات التي ترتبط مصالحها بهاته
الأيديولوجية وقادتها، لكن في طرف المعادلة الآخر، قواعد ثائرة من الشباب المهتاج
ومن العمال، المحتاجين.
سيختل التوازن وستقطع الجماهير المحرومة، خطوة إلى
الأمام، من الجانب الخلفي.
ولا مناص
من المحاولة، مادام ذلك، هو اللسبيل الوحيد في هذا العصر. عصر اختلاط المصالح
الطبقية, بحكم تغيير الرأسمال لجلده عند كل أزمة اقتصادية.
الخضار الذي يستعجل قيام الدولة
الإسلامية, معلنا عن ذلك بدفع التبرعات والصدقات, لحركتها, وبإلصاق لافتة على زجاج
شاحنته تحمل اسم الحركة الدينية التي ينتمي إليها, يجد نفسه, في الصف المعادي
لحركته من حين لآخر يلتصق بمتجره الذي يكلفه الضريبة ويكلف الكهرباء, ويكلف
الكراء, ويكلف فساد بعض البضائع يوما على يوم, بأمر من الحركة, شاب ملتح, مستاك
مكتحل, بنصبه فوضوية, يبيع فيها نفس البضاعة بنصف السعر.
أهو هجوم شعبوي, على من يسمونهم
بالمضاربين والاستغلاليين؟ أهو انتصار للبطالين على حساب المكتسبين والذين رزقهم
الله بقليل من رزقه؟
مهما كان الأمر, فالعملية، فيها
إعلان عن هوية. وهي هوية لا تختلف عن هوية الاشتراكيين الخبثاء.
نفس الإشكالية التي جعلت قيادات
هذه الحركات على اختلاف مشاربها، تتخلى عن السعودية الحليف الطبيعي، وعن إيران
الحليف الشيعي المرحلي، وتناصر صدام حسين، البعثي اللائكي الذي لا تغسل عظامه، ألف
ألف حجة ومليون مليون توبة.
يستخلص لينين بعبقريته، أن
إشكاليات الحركة، تحتم عليها، أن تكون معادية للإستغلال الرأسمالي وللأمبريالية، التي
هي الرأسمال في أعلى مراحله. وأنها الكفاح الطبقي البديل في المرحلة الحالية، وإلى
أن تستقر كبرجوازية وطنية جديدة ذات مصالح فعلية مرتبطة بالاستغلال، والمستغلين،
لا بد من مساندة هذا الكفاح، وإن أدى ذلك، وينبغي أن يؤدي إلى قطع عدة خطوات إلى
الوراء. علما أن بالإمكان السير إلى الأمام، بالسير خلفا. وإنها لجدلية عدم التوقف
لتفادي مثل الانهيار الذي حدث في الحركة العمالية العالمية.
ويكفي الحركات الثورية، ما
لحقها من تشويه الشكليات التي أصبحت طقوسا بدونها لا تحسن الفعل السياسي، وعار
عليها أن تحكم على النوايا المعلنة وغير المعلنة، فالتفاعل الحقيقي، تصنعه
التناقضات، بين المصالح الطبقية.
الثابت الوحيد تاريخيا هو
الطبقة العاملة ومصلحتها.
حينئذ.
حينئذ. نسمح في العقل.
أسمح في نفسي، أفترض كل يوم أني
غير موجود، وأتأمل جثتي المحنطة، وأنتظر زمن عودة الوعي.
التاريخ لا يمكن أن يتوقف، ولا
أن يعود إلى الوراء، ولا أن يتخلى عن منطقه. ولن يطول الاضطراب الذي يعتري سيره.
(ملاحظة لا بد من إجراء بحث مع
الطلبة حول خصوصيات المرحلة الحضارية الانتقالية، من حيث العرقيات، من حيث
الديانات، من حيث الصناعات، من حيث المبادلات التجارية، من حيث الاتصال الإعلامي).
لن يطول ذلك، سيجبرهم الله، على
ركوب السؤال :
ماهذا، لماذا، كيف؟ وسيضطرون
لتجزيء ما لا يتجرأ، والتعرف على جينات النملة السوداء، والنملة الحمراء، وعلى
ذاكرة الماء، إذا كانت للماء ذاكرة، أو على الأقل، إلى التساؤل، لماذا هو، هذا
الذي جعل منه كل شيء، الماء، أبله؟
يقين أنه ليس كذلك، وأن سر
الكون كله، جميع الأسرار، الموت والحياة، المرض والعافية فيه. لا تكفي لا إله إلا
الله، عليها نحيا وعليها نموت وعليها نلقى الله. تلكم ليست، سوى وسيلة، لإنقاذ
الهوية، لاستعادتها، للكفاح باسمها، إنما الله.
الله هو العقل.
الله هو إقرأ باسم ربك الذي
خلق... إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم.
الله هو حقيقته التي بثها في
الكون وفي الكائنات.
سيسخر الشيخ الطهطاوي من الشيخ محمد
المناعي التونسي المالكي المدرس بجامع الزيتونة حين يفتي بتحريم الحجر الصحي،
«الكرنتينة» لأنها من جملة الفرار من القضاء.
الله نور السماوات والأرض، بما
في الأرض من سراديب، وكهوف ودهاليز.
ولا يخاف العبد الله، حتى يعرف
الله على حقيقة ما أبدع.
آه. عيناها تملآن الكون.
كل حرف في هذه الوريقات من سواد عينيها.
كل بياض في هذه الوريقات من دعج عينيها.
هي طريقي إليه.
بنور الشمعة تستضيء الدهاليز.
وفي المتاهات يجد كل ضال شمعته.
ولا مناص من أن يمارس الكائن
كينونته.
استلقى في السرير، بسروال الجين الخشن الذي يسع عدة
أجسام من مثل جسمه. بالجوربين الممزقين اللذين يستوجبان عمليات عديدة أقلها الغسل
والرتق، بالجاكيطة ذات اللون البني الفاتح، عديمة البطانة، بالقميص الصيني الأزرق
عديم الرقبة، بحافظة النقود التي في جيبه، بكل الهموم المختلفة التي حملها، بكل
صبر وجلد وعناد.
بين السواد والبياض، بين لمعان الأسود الصقيل، وبين
إشعاع الأبيض اللامع، بين حركة أرنبة الأنف صاعدة هابطة، ممتثلة لحركة الشفتين
الرقيقتين، في التئامهما، بين نبرات الصوت التائهة بين الحلق والأنف، بين الأنوثة
البالغة، والغلامية الطافحة، بين تثني الجسد، داخل الثوب الفضفاض، وبين انتصابه،
وكأنما هو لناقة حولية في حالة نهوضها أو قعودها.
بين، بين، بين الوردي، بين
الأبيض، بين الأحمر، بين العسجديات، بين الجياد المجنحة، بين الحمامات الطائرة،
بين الحرير، بين اليقين بين الحيرة.
بين وحشة المكان، وغرابة
الزمان، بين النصائح الضائعة لأمه، الزواج بالإضافة إلى أنه فرض وواجب، لا شك أنك
قرأت هذا، ولكن ماذا يعلمكم الفرنسيس، سوى الخروج عن طاعة الوالدين، هو، الزواج
حماية ووقاية. الزوجة تعينك في الحمام، تعينك في المطبخ، تعينك في الفراش، تمنحك
أولادا وبناتا، تجدهم في أول وآخر أيامك.
من لم يوقد شمعة الزواج يا
ولدي، ظل دهليزه مظلما والعياذ بالله. اليوم الذي يمر لا يعود، كالقرش الذي يغادر
يدك، يستحيل أن يعود. وأنت تشارف الأربعين. بعد سنوات قلائل، تجدك وحدك، كل
القوافل، خلفتك.
بين التصميم، على العزوبة
والتفرغ للبحث العلمي، وتحدي الطبيعة البشرية. ثم من يدري، هذا الضريح البربري
الذي بناه واستقر فيه، كيف يكون مصيره، إذا ما اقتحمته امرأة لا تفهمه.
كي أتزوج علي أن أهد كل بنيان
شيدته هذه أربعين سنة، وأقيم بنيانا جديدا.
لا داعي لذلك إطلاقا.
نام.
نام على مرآى من الجميع.
القديس أغيستانيوس، القديس
دوناتيوس، الأمير عبد القادر، الأمير خالد. البربر البدو، البربر المترومنون.
ماركس لينين. الأفغاني الطهطاوي. الشيخ الغزالي، الشيخ القرضاوي، القاضي أحمد بن
أبي دؤاد، أحمد بن حنبل.
نام.
***
طبيب
طبيب ما في ذلك ريب، عليك مئزر
أبيض، وعلى رأسك قلنسوة بيضاء، يسد أنفك وفمك، كمامة بيضاء، يحيط بك أشباح ملفوفون
كلهم بالبياض، الأبصار، جميعها، مركزة على يديك، وبصرك أنت مركز على المرأة الممدة
أمامك، منتفخة البطن.
لا شك أن الدور يتوقف عليك لفعل
شيء ما، فتح بطن هذه المرأة، واستخراج الجنين. إدخال إحدى يديك، ومحاولة تسوية وضع
الجنين.
أنت صاحب الأمر، وكل من حولك،
في خدمتك، وينتظر أمرا منك. كلمة أو إشارة واحدة ليهرع الجميع ملبين.
فجأة، تختطف المباضع والمقصات،
وتروح تبقر البطن العارية أمامك. ترتفع أصوات من حولك. تسمع قهقهة الجنين من الداخل،
تنهض المرأة وتتحول إلى سيغار، ما أن تشعله، حتى تمتلئ القاعة بالدخان الأسود.
لا شيء يحدث بعد ذلك. تنقضي
فترة لا مدى لها.
لسبب ما أنت بطيخة زرقاء، تعلم
أنك في حقل بالأصنام، ارتويت من ماء السد، وترعرعت، ككل البطيخات حولك. فكروا أن
يأكلوك، ثم قرروا أن يبيعوك مع باقي الحقل.
حملتك سفينة فضائية، أنت الآن
في سوق ما. بحيدر أباد، ببومباي، بلاهافان، بالفيوم، بمرسيليا، بسوق ما في هذه
الدنيا الصغيرة صغر بطيخة.
لم تنتظر، كثيرا.
ها أنك بين ذراعي، فتاة في
الثانية والعشرين، وجهها غلامي، عيناها المنتصبتان، في طرفي الوجه، تبدوان، كأنهما
لمومياء فرعونية، لنفرتيتي، أو لكيليوباطرة، أو كأنهما لغزالة، لهما ماء حاد،
ولهما تودد سخي. أنفها رقيق بفسطة تتناسب تمام التناسب مع شكل الوجه الطويل،
منخراه صغيران يروحان يهتزان، كلما تنفست، خنابتاهما ممتلئتان بعض الشيء فوق فم
صغير رقيق الشفتين، اللتين صبغتهما بأحمر شفاه وردي باهت خافت، ذقنها الدقيق،
تزينه فلجة رقيقة، يضرب لونها إلى بياض وسمرة وزرقة، ما يجعلها تبدو في الوقت
الواحد، آسيوية إفريقية. يغطي جسدها ورأسها ورق ذرة طري، أخضر.
تحس بدفء الصدر. تشعر بلمسات
الثديين المتشنجين. بعض الأنفاس العطرة، تداعبك.
فجأة يرتفع صياح غريب. ربما
اصطدمت شاحنات ببعضها، ربما وقعت طائرة من فوق. ربما حدث زلزال. تقع من بين يديها.
تتدحرج، تتكور، تتكور. تتدحرج. ها أنك في الحقل بالأصنام من جديد.
تهتز الأرض. تهتز. كأنما
انفتحت. كأنما خناجر، تشقك. كأنما الحمرة التي في داخلك تتحول إلى دم. بل إنها
لكذلك.
الدم يملأ الحقول.
لا زمان. عندما يكون الكائن في
البدء وفي المدى. ينتفي البدء والمدى. يكون الزمان واحدا، ويكتسب الصفر خصوصيته.
ما الزمان سوى العلم بما حدث أو
يحدث فيه. مالم يحدث، فلا زمان هناك.
خواء. خواء.
تخرج من خلف الخواء، تركب دراجة
صدئة. تبصرها قدامك، على بساط أخضر، يملأ كل الآفاق.
بوجهها الغلامي، ذي العينين
المنتصبتين، في طرفيه، فتبدوان، كأنهما لمومياء فرعونية، أو لكيليوباطرة، أو
كأنهما لغزالة، لهما مضاء حاد، ولهما تودد سخي. وأنف رقيق بفطسة تتناسب تمام
التناسب مع شكل الوجه الطويل، منخراه صغيران يروحان يهتزان، كلما تنفست، خنابتاهما
ممتلئان بعض الشيء فوق فم صغير رقيق الشفتين، اللتين يحلو لها دائما أن تصبغهما
بأحمر شفاه وردي باهت خافت، ذنقها الدقيق، تزينه فلجة، رقيقة، يتراوح لونها بين
بياض وسمرة وزرقة، ما يجعلها تبدو في الوقت الواحد، آسيوية إفريقية.
هي.
إثر كل خطوة تلتفت إليك، فتغمرك
ببسمة ودود. تحاول أن تلحقها. بالدوس بالرجل اليمنى. بالدوس بالرجل اليسرى، تتسارع
الدفعات. الطريق، منبسط. الدراجة في سرعة الريح. نفسك يلهث.
تلتفت. تبتسم. تلتفت. تبتسم.
كأنما هي تنتظرك. تدفع. تدفع.
تدفع أكثر. لا جدوى. المسافة هي هي.
تمد يدها. تدعوك إلى اللحاق.
تندفع ركبتاك. تنقطع سلسلة الدراجة. تقذف بها بعيدا شاعرا بالراحة منها هذه
الدراجة المسحورة. تركض. تبدأ المسافة بينك وبينها تتسع.
الخيزران.
تهتف من عمقك. من كيان كيانك.
يعم الضباب. ينمحي البساط
الأخضر. لا وراء، لا أمام، لا يمين لا شمال. لا خيزران. لا أنت.
خواء خواء.
فجأة.
تنتصب قدامك. هي بعينيها
الساحرتين، بقامتها الممشوقة. تبتسم، ثم تروح تتحول إلى صومعة، يتجلى من تحتها
جامع في عرض الدنيا وطولها. تنطلق منه أنات توجع، كأنها ملايين المكلومين.
تركب الدراجة. تتدحرج إلى
الخلف. تتدحرج. يتحول حقل البطيخ إلى قاعة جراحة، تشغل السيغار، فتعم الدنيا أدخنة
زرقاء.
***
-أراه يا يمه، أراه، أينما
اتجهت أراه. كلما فكرت فيه رأيته. يتبدى لي ببسمته اللعينة، في النهار في الليل،
في اليقظة في النوم، في النور، في الظلمة.
-من هو يا زهيرة؟
-سيدي زكريا؟ من تريدين أن يكون
يا يمة «اللي ما عندوش لحباب يزوروه
لكلاب».
-لا تقولي عنه ذلك يا زهيرة.
فمن أدراك لعله مرسل من عند سيدي بولزمان الشايلله به.
تسكت.
إنها بدورها تشك في ذلك. تتمنى
ذلك. السرعة التي اقتحم بها حياتها عجيبة حقا.
ما أن رآها، حتى تقدم نحوها،
بكل ثبات كأنما يعرفها منذ دهور. مادا يده لمصاحفتها.
لم تكن لتصافح الرجال، لكنها
مدت يدها له. أكدوا لها أن اللمس ينقض الوضوء، لكنها فوجئت في الصفحة الأربع أو
الخمس والعشرين من الثمر الداني لأبي زيد القيرواني، بكلام آخر تماما، ثم إنها لم
تكن متوضئة. اللوبياء البيضاء التي تغدتها وتعشتها البارحة، ما تفتأ تفعل فعلها.
تتحدث بجميع اللغات. "صوت العرب".
مع أنه هو الذي تقدم للمصافحة،
فإن يده كانت شديدة التردد والتحفظ. سرعان ما عادت لتنتزع المحفظة الثقيلة من اليد
اليسرى.
-أين كنت هذه ثلاثة أيام؟
-وتعد باليوم ولربما بالساعة
والدقيقة.
-أردت أن أراك، فلم أجدك، هذا
كل ما في الأمر.
-هل يمكن أن أعرف ما تريد
سيادتك، عندي؟
-لاشيء لا شيء على الإطلاق،
إنما قلت أتأكد مما إذا كنت، أنت أنت حقيقة من...
-أنا من؟
-رأيتها هذه أربعة أيام في الحافلة
وتجرأت على ركوب الحافلة وراءها والتحدث إليها.
-وهل تأكدت؟
-لن أقول لك اليوم. ينبغي أن
يحدث ذلك عدة أيام.
-بمعنى أنك ستطاردني أياما
أخرى؟
-أطاردك. لا أبدا. لا يحق لك
أيتها الفتاة المهذبة أن تعامليني، كما لو أني شاب يضايقك. في الحق أيتها
الخيزران، لا أريد سوى أن أتخلص من مطاردتك أنت.
-أنا.
-نعم أنت. بعينيك. بقامتك.
بوجهك الساحر.
-سبحان الله العظيم.
-كنت مارا أول أمس أمام مسجد
بالحراش، فاعترضت سبيلي، وطلبت مني أن نصلي العصر معا.
-أنا، فعلت ذلك؟ ! لم أخرج من منزلنا هذه ثلاثة
أيام. !
-ربما إحدى أخواتك، تقولين إن لك
خمسا.
-لا علاقة لأخواتي بالصلاة، اللهم
إلا صلاة «القياد» جمعة وأعياد.
-والبطيخة وأوراق الذرة التي
ترتدينها؟ والدراجة التي لا تتقدم إلى الأمام؟ والنفساء التي تتحول إلى سيغار. لا
تقولين إنك تجهلين كل ذلك.
توقفت. استوقفته بيدها. سحبته من
جاكيتته العريضة، تأملته جيدا، ثم همست له :
-أتؤمن بالأولياء والصالحين.
-أومن بوحدة الكون. بأن الكل واحد،
وبأن الواحد كل.
-لا أفهم.
-الشايلله يا أولياء الله.
-جدنا، المدفون في الساقية
الحمراء، أو في مكة أو المدينة. سيدي بولزمان، يخرج من زمان لزمان، ليقود أحفاده
ويهديهم، ويبشرهم أو ينذرهم. وأمي تقول، لا يظهر إلا لمن أحبهم الله، من ذريته،
ولا يظهر إلا على حافة الزمان.
-وبعد؟
-قد يكون تجلى لك في هيئتي. لقد
سبق أن دخل بي المسجد في هيأة شاب في الرابعة والعشرين. أقول لك الحق، لا أثق في
كل ما قلته، من أنك أستاذ وشاعر، ووو. ما أنت إلا سيدي بولزمان، قطعت المسافات
وجئت لأمر ما.
إنني أراك كل ليلة في أحلام لا هي
بالأحلام ولا هي بالكوابيس.
مرة فارسا تمتطي جواد يركض بك إلى
الخلف، ومرة أرضا مشقوقة، ومرة بئرا بلا قرار، ومرة ضفدعة.
-أضيف شيئا آخر.
-ترينني كل ليلة على الساعة
العاشرة.
-لا أراك، إنما أحس بأنك ترقبني.
بأنك معي، تضغط على روحي لحظات ثم تنصرف.
سترينني، كل ليلة على الساعة
العاشرة، وبإمكانك أن تقولي لي ما تريدين، فسيصلني، كما بإمكانك أن تتلقي مني
خطابات، كلاما، أشياء أخرى.
-من أنت؟
-من أنت؟
قطعنا ساحة أودان، في اتجاه البريد
المركزي، ونزلنا إلى شارع العقيد عميروش. حينها استوقفني وسألني، هل لي مقصد خاص؟
-لا. قلت.
- لنتمش على البحر إذن، كلما كانت
هناك فسحة، توجب أن لا نفرط فيها.
استدرنا، قطعنا سكوار صوفيا، هبت
نسائم محملة برائحة البحر، وبالنقاء. انطلقت عيوننا في الفضاءات الرحبة، ممتطية
زرقة البحر، وأجنحة النوارس، والأمواج المنكسرة على بعضها.
-إذن لم تكوني في الحراش البارحة.
-لا أبدا.
-ولم تصلي العصر هنالك؟
-كلا. قلت لك.
***
قد يكون المرض عاودني.
قال في نفسه, وانهمك يستعيد أيام المحنة الكبرى.
خواء..
خواء. يأس. قنوط. قنوط.
بذلك عاد
من زيارة لبلغاريا, ضمن وفد لم ير من خلال السكر ما رآه. كل شيء يتفسخ. الشعر ينسل
ويتساقط. الجلد يتقشر. اللحم يتحلل. العظم يتفتت.
ما أن يلوح
دولار واحد في الأفق حتى ينهار الإنسان, الذي ظل يمطرك, كذبا, بوابل من المثل
والقيم اللينينية الماركسية.
الحركة هنا
تهادن الطغاة الظلموتيين. الزعيم هناك يغير الاتجاه كلية, ويستقر في بلد ملكي معاد
لبلده ولشعبه, ويتحول إلى رجل أعمال.
الحلقة
ضاقت. ضاقت, وعادت إلى رأسه كأنما هي عفريت في قمقم. عفريت غير مستسلم ولا مستكين,
إنما هو عفريت سكر بضرورة الخروج من القمقم. أقر العزم على أن يخرج.
علم الحاسة
السادسة. تجارب الروس وتجارب الأمريكان. علم النفس. الإيحاء. الإيحاء الذاتي.
اليوقا. استحضار أرواح الشهداء, من الذين كانوا مع عقبة ابن نافع إلى الذين كانوا
مع الكاهنة ومع كسيلة... من الذين كانوا على باخرة أورورا, إلى أولئك الذين
استشهدوا مع سلفادور ألندي وبابلو نيرودا, ومع أبيه وعمه المختار.
ربما قال
روبيس بيار: إن الشرف, الذي يقيد حركات البرجوازية, شبيه بعذرية المرأة, ما أن
يفتض حتى تنساه.
هذا هو شرف
البرجوازية.
ربما قال
حمدان قرمط : لكي يزول ظلم الناس للناس, على الله أن يخلق ناسا آخرين. أما هؤلاء
فقد حقت عليهم اللعنة.
ربما قال
لينين, إن الشكل من دون محتوى لا أهمية له. كذا أمر المحتوى من دون شكل.
إن التشكل
لا ينتج عفويا, وإنما تحكمه قوانين, وعلى المناضل الثوري أن يبحث وأن يعثر على هذه
القوانين. وإن السير الطقوسي في محفل الثورة, ينتهي بالمناضلين إلى خلاء تدفن فيه
جلدات الختان عند بعض المسلمين.
ربما قال
تروتسكي : لا يمكن فهم سر الكون إلا في وحدته, ولا يمكن تغيير نواميسه إلى في
وحدتها.
جدلية
التغيير الجزئي تخلق تفاعلات جزئية قد تغلب على التفاعل الرئيسي.
يقول المثل
الشعبي في بلادي : قص الرأس تنشف العروق. حلق رأسه بالموسى. مشى حافيا. ظل فترة
غير وجيزة يحدث نفسه في الشارع لاعنا كل كذب على هذه الأرض.
كتب لكل من
يعرفهم يقول لهم, إن الحياة التي بشر بها الحواريون والقديسون والشهداء والصالحون,
لا يمكن أن تنبني إلا بالصدق, وما الصدق إلا الشهادة, وما داموا أحياء فهم سفهاء.
ظل وصيه,
المكلف من طريف القرية كلها على لسان المختار, يرقبه من بعيد, إلى أن خرج إلى
الشارع دون سروال. حينها تدخل الوصي اليقظ بكل حزم وحماس, وأدخله عيادة نفسية,
ليخرج بعد يومين أو بعد شهرين, ولربما أكثر, بأمر من الطبيب لكن بتعهد أن لا يخرج
غير مسرول.
حكى للطبيب
عن كل همومه.
هنا عندنا,
حتى الذين استفادوا من الاستقلال, يتحسرون على الاستعمار.
دم الشهداء
ذهب هدرا. تضحيات المجاهدين صارت عملة صعبة ترتفع أسعارها في بورصة المضاربات كل
يوم.
الشعبية
الثورية التي سادت في الخمسينات, حجمت ووضعت في قمقم, وخلفها الحذاء الخشن,
والقبعة ذات الخيوط المذهبة وبعض نياشين في الصدر.
حفظة بعض
سور من القرآن صاروا معلمين وأساتذة. دكتور يحتل مقعدا في الجامعة, يتخرج عليه
باحثون وباحثات, وهو لا يحمل شهادة الثانوية العامة, ولا يعرف حسابات الزوايا
القائمة والحادة والمنفرجة, لا يعرف ما إذا كان المتوازيان يلتقيان أم لا, يجهل
درجة ذوبان الحديد والفضة والنحاس, وباقي المعادن. ومع ذلك فهو دكتور دولة. أستاذ
"قد الدنيا" كما يقول المصريون.
الجهل يعم.
السطحية تعم. الدجل يطغى. الفكر يتفكك, أشبه ما يكون بكبة الخيط تتدحرج من فوق إلى
أسفل, وبشمعة تحترق في دهليز مغلق مهمل.
الثورة
تهدم الثوار, وتريد أن تبني الثورة بالخونة والمضادين.
الحسابات,
حسابات الرفاق جميع الرفاق, مغلوطة. تبدأ أول ما تبدأ, على فرضية أن الصفر لا دور
له غير أن يكون صفرا, ولا علاقة له بالسالب والموجب, والتدرج, إلى الأعلى أو
الأسفل. ويبعدونه, عن كل تأثر في مقولة لينين " خطوة إلى الأمام, خطوتان إلى
الوراء", بل إنك يا حضرة الطبيب, إذا ما سألت أحدهم عن إمكانية التقدم إلى
الأمام –مع أن خطوات الوراء مضاعفة, لا يجيبك. لا يتجرأ حتى على أن يجري التجربة
أمامك, فيتعامل مع الصفر على أنه مدى له فوق, وله تحت, له يمين وله شمال, له قدام
وله خلف. مسافة قبل أن يكون رقما.
الزعماء
يلائمون بين المبادئ التي جعلتهم يهجرون وطنهم, وبين احتضان أعداء وطنهم لهم. لذا
صاروا مذنبات, هاربة من اللاشيء إلى اللاشيء.
لا صدر
اليوم, يا سيدي الطبيب, يضع عليه الشعب رأسه ويبكي. كلهم تحولوا إلى تجار ورجال
أعمال ومضاربين, إلى شعب عادي بعد أن كانوا طليعة, وقضوا على كل طليعة أخرى.
إنني لأريد
أن أبكي, أريد أن أقيم مناحة يشترك فيها كل من بقيت له ذرة من العقل.
هنا عندنا,
وهنالك في بولونيا, في بلغاريا, في الاتحاد السوفياتي حيث يباع الله بدولار ويباع
لينين وماركس وأنغلز بالورقة الخضراء. وبحبة علك أمريكية, ويباع الوطن والعالم
أجمع بسروال جينز, أو بعلبة مساحيق زينة مصنوعة في الغرب.
الكبة, يا
سيدي الطبيب, تتدحرج نازلة, والخيط ينسل بلا هوادة, والعجوز العمياء تنسج بوبر
وهمي وترتق في الهواء بإبرة لا وجود لها.
لقد أفلح
السحرة يا سيدي الطبيب, وعصا موسى جامدة لا تسعى.
استغرق في
البكاء.
التهبت
الحرارة في صدره, وصعدت بسرعة إلى حلقه, وتشنجت عضلات وجهه, ثم تولت عيناه مهمة
إطفاء الحرائق. الدموع تنهمر بغزارة خارقة. لا يذكر أنه بكى بالدموع وناح بمثل هذا
الصوت, قبل الآن. قبل اليوم.
أمسك
الطبيب بيده, وراح يضغط عليها متمنيا أن لا يفسد الرحمة التي نزلت عليه بالحديث.
وتمنى هو
لو يتمكن أحدهم فيجيبه, لماذا حكم على أبي ذر الغفاري بالسير وحده والموت وحده والبعث
وحده ؟
يا للرمز
العظيم لقضية عظمى !
لو أنه ورد في الميثولوجية الإغريقية أو الرومانية,
لألفت حوله آلاف العناوين, أشعارا و قصصا وروايات وملاحم. وأوديب تشهى أمه وكره
أباه, ففسرت حركة الكون كلها بعقدة أوديب. حتى إن كل مفكر عربي معاصر يريد أن يلج
الحداثة والتراث, ليتطفل على أوديب.
انتباهنا قاصر. بصرنا أعشى.
حتى من لفتت الظاهرة نظره, مع العلماء المسلمين لا
ينظر إلا بعينين خائفتين للشمعات المنيرة في دهاليزنا.
الشيخ عبد الحميد بن باديس, ينهى إعجابه بالسائر
الميت المبعوث وحده, بالإنحاء عليه باللائمة لخروجه على الصف, وبالثناء على معاوية
الذي وفر, ووفر للمنفي, مع أن الإجماع يتحدث عن حالة الإدقاع التي توفي عليها رحمه
الله.
لا شك أن ابن باديس في حديثه ذاك, كان على الشيوعيين
العرب الذين كانوا يتلمسون الأعذار والمبررات, في كل نور ترسله شمعة, وإن كان
خافتا من الماضي وإن كانوا لا يفهمون أبعاد الظاهرة.
لقد كان على العلماء المسلمين, أن يجمعوا بين
الحالتين : حالة علي بن أبي طالب, الذي يغسل كل مساء بيت مال المسلمين حتى لا يبيت
متسخا بوسخ الدنيا. وحالة الذي رأى فيه معلم الأمة الشبح, الروح التي لا تختلط
بالأجساد أو بالمادة. وعليهم أن يستخلصوا منهما كحالة واحدة, الجدلية الواردة في
الحديث, اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا, واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.
يخلصك علي والسائر وحده, من الإثم الأبدي, حب الحياة
والتعلق بها, وينقذك معاوية, من الاستسلام للخوف من الموت غدا.
تجد مخرجا من جدلية السير إلى الأمام خطوة والسير إلى
الوراء خطوتين.
تكتشف قيمة الصفر في كينونته الأزلية.
لم يدنه, معلم الأمة.
لم يناصره معلم الأمة
لم يتنبأ له بمستقبل غير الوحدانية معلم الأمة.
إنما وصف معلم الأمة الحقيقة.
هناك سير وتدرج نحو القدام.
هناك موت, أو بالأحرى توقف, أو بالأصح عود إلى
الوراء.
هناك انبعاث خطوة جديدة إلى الأمام. تحرك للصفر من
هذه الناحية أو تلك.
تأتي. تتحرك. لا تدوم. تعود. تعيد العملية.
لو كانوا يحبون الله أكثر مما يخافونه, لجعلوا هذا
الحديث إلى جانب حديث الدنيا والآخرة, منطلقا لفهم الدين.
الفهم الذي
يقوم على العلاقة الجدلية بين المثالي وبين المادي. بين الملائكية فينا
وبين الحيوانية.
إنه تفسير حلاجي للحالة الرهيبة, الحالة الأدبية.
بقطع النظر عن الباقي.
السير والموت والبعث وحدك.
ترى كل شيء ولا ترى. ترى الجميع ولا يراك أحد. قبل أن
يتطاير رأس الحسين بن على تندبه.
عندما تبعث, ويكونون في انتظارك يمشون معك. حولك
وخلفك, ولربما أمامك, ثم ما أن يجدوا مواقعهم حتى يتخلوا عنك, ثم ما أن يشتد أمرك
حتى يسلموك.
يتحسرون عليك, وينتظرونك, ويتحرك الصفر من جديد.
تعدني.
قال الطبيب, فرد.
أعدك.
كل ما هنالك أنني قمت ببحث اجتماعي ميداني. واكتشفت
أن المجانين يخافون الجنون أكثر من العقلاء, وأن الأحياء يخافون الموت أكثر من
الأموات أنفسهم, وأن المسلمين يخافون على الله أكثر مما يخافون منه.
***
وهل يمكن يا أمي أن يتجلى سيدي بولزمان الشايلله به, في
شكل امرأة ؟
كيف ذلك ؟
هارون الرشيد يقول, إنه التقى بي قدام جامع الحراش,
وإنني طلبت منه أن يصلي العصر هناك.
وأنت ما الذي أدى بك إلى الحراش يا زهيرة بنتي ؟
أنسيت يا أمي أنني قضيت ثلاثة أيام في البيت مريضة ؟
لا لم أنس. إنما لم تقولي لي, ما إذا كان هارون
الرشيد هذا في كامل قواه العقلية.
كنت أتابع مع جدك, أبي رحمه الله, وهو الذي جعلني
أهتم بالسياسة وبتاريخ سلالة سيدي بولزمان, أحداث المحاكمات في العراق, أيام ثورة
عبد الكريم قاسم. نسيت أن أقول لك, إن جدك رحمه الله, كان أحد المنفيين مع شباح
المكي. المكي يتحدثون عنه وحده, لم يصوروا سوى الشباح المكي, مربوطا بالحبل
ومجرورا بالحصان. في الحق, كان جدك معه من يوم إخراجه من معمل "جوب"
بالجزائر العاصمة إلى يوم الواقعة.
قال رئيس المحكمة, وإذا لم تخني ذاكرتي كان اسمه
المهدي, أو ما يشبه ذلك, يسأل المتهم :
- هل أنت متزوج ؟
- يا يمه. لقد أعدت علينا الحكاية ملاين المرات. ألا
تحفظين مما علمك جدي غير حكاية هذا الأهبل ؟.
- دعيني أتممها يا بنت..لا . قال
االمتهم.
كل من بلغ الأربعين ولم يتزوج فهو أحمق.
أكد المهدي بحزم ويقين. لكن بعد ربع ساعة ارتفعت قهقهة جدك.
الكلب. استمعي
لما يقول. إنه يستثنى الزعيم الأوحد. لا شك أن تعليمات مع توبيخ قد بلغته. أضاف
جدك رحمه الله. وقد كرر لي الحكاية مرات ومرات بعد ذلك, حتى رسخت في ذهني.
أنا أريد أن
يرسخ في أذهانكن أن من بلغ الأربعين ولم يتزوج, لا شك أنه أحمق أو أكثر من ذلك
بكثير.
هارون الرشيد
يا يمه, مصر على عدم الزواج. قال لي ذلك صراحة براحة. يخشى أن يمنعه الزواج والبيت
والتبعات من المطالعة.
وماذا يريد
عندك إذن هارون الرشيد المسود هذا ؟
لا شيء. فقط
يريد أن يتأكد مما إذا لم أكن مومياء مصرية هربت من أحد أضرحة الفراعنة.
فقط.
شوفي يا يمه.
عندما تكونين معه, يطلمسك تماما تماما. مرة يتحدث عن العرب, مرة عن البربر, مرة
أفلاطون, مرة دقيانوس, مرة عن الجن, مرة عن العقل.
شوفي يا يمه. يخفض رأسه ويروح, كأنما هو دجاجة تلتقط حبا
من الأرض, يقرأ كتبا لا أراها ولا أفقهها.
استوقفني.
قال لي أدعوك إلى طبق سمك.
فرحت وندمت على فرحتي.
مر ما يزيد عن الساعة وهو يتحدث عن الأسماك : من اكتشف
طريقة صيدها بالشباك أو بالصنارة, عن طهيها في أوروبا وفي أمريكا الشمالية وأمريكا
الجنوبية, عن الطريقة الصينية التي تعتمد فيما تعتمد إضافة السكر, عن تأثيراتها في
أساليب تفكير الجنس البشري ومستوى الذكاء. عن الشعوب البحرية, وكيف تفكر. الشعوب
الصحراوية, كيف تتصرف.
شوفي
يا يمه. عندما كنت آكل حبات السردين "المحنونة" التي دعاني إليها, كنت
أتصور أنني آكل لحم بابانا آدم. وأمنا حواء.
أريد أن أراه.
هارون الرشيد هذا.
ستقولين إنه
جدكم بولزمان الشايلله به. وإنني لأتساءل من حين لآخر عما إذا لم يكن هو بعينيه
جدي بولزمان.
خاصة وأنه...وأنه.
ابتلعتها.
لم ترد أن تتم الجملة, فتقول لأمها, إنه يلازمها كظلها
حيثما تحركت, وأنه الآن يسمعها ويراها, بل إنه, يا لسوء أو حسن الحظ, ينام معها.
ينام إلى جنبها, لا يفعل سوى أن يرضع من ثديها.
ينام وليدا مستكينا تهبش أصابع يديه, وتضرب قدماء, ويلهث
فمه.
شوفي يا يمنه. هارون الرشيد لا وجود له, وإن شئت أتيتك
به, بكل ما فيه.
سروال الجينز العريض العريض. السترة غير المبطنة. القميص
الأزرق الصيني الذي لا رقبة له. محفظته الثقيلة. رأسه الأكبر من صدره. أنفه الأكبر
من فمه.
شوفي يا يمه. أجمل ما في هارون الرشيد, شاربه ولحيته.
يحلقهما بدقة متناهية, فيجعل منهما نسخة لصورة رأيتها في كتاب ما من كتب التاريخ.
اللحية مدببة, منتقاة, نظيفة, كأنما هي موضوعة هناك. الشارب لا تتفاوت فيه شعرة عن
أختها. ولقد فكرت أكثر من مرة في نتف شعرات من اللحية لأتأكد مما إذا لم تكن
مزيفة.
شوفي يا يمه. لقد تأملته مليا, واعتراني الشك فيما إذا
لم يكن أحد أقارب الشيطان.
إنني لشغوفة
برؤيته يا زهيرة بنتي.
لا عليك.
سيقتحم علينا الباب عما قريب, وسيشبعك حديثا عن ماسينيسا, وتحويله لبعض البربر إلى
مزارعين, وعن القرى التي بناها وسيجها, حفاظا لها من غزو من ظل بدويا من البربر,
وعن الصراع بين الإنسان المفترس والإنسان المزارع والإنسان الحداد والإنسان الآلي.
لقد حفظت فلسفته في هذه المدة القصيرة, تصوري.
تكفيك عشرة أيام, كي تكوني فيلسوفة. ولكي لا تتعبي نفسك
يا يمه, الإنسان يلخص في كلمات. إنه إما سيد وإما مسود. إما متوحش مفترس, وإما
مزارع, وإما حداد.
وهذه من لا
يعرفها ؟
هو يقولها
بطريقة أخرى.
اسمعي يا بنت.
ألا تكونين تلتقين به يوميا, طوال هذه الأيام العشرة ؟ أليس له عمل آخر غير أن
يتفلسف عليك ؟
سكتت.
***
أراك كي لا
أراك.
عندما أكون أمشي في الطريق, تتمددين أمامي ظلا مجسدا
يتنقل مع بصري في كل اتجاه.
عيناك تتسعان فتحتويانني, وأروح أسبح فيهما.
بسمتك تسكرني, وتفصلني عن كل ما حولي, فأنهمك في الذوبان
فيها.
أرفع رأسي فأراك شجرة, وأراك جدار منزل, وأراك عمود هاتف
أو نور.
تلمسني نسمة, فتكونين أنت.
الصفحات التي كنت ألتهم المئات منها يوميا, ما عدت
أستطيع قراءتها. تمتلئ بك وتروح
تحدثني عنك. لا أدري من أين تخرجين. أمن دهاليز روحي, أم من الساقية
الحمراء, كما تقولين ؟ أسألك ما تريدين عندي, فلا تجيبين, وأسأل نفسي, ما إذا كنت
أتشهاك جسدا, أم أتعلق بك ذبالة متقدة في دهاليز مدلهمة.
أعود إلى كتب الحب أبغي سؤالها, فلا أقوى على قراءتها.
كل ما في ممتلئ بك.
ما مررت أمام مسجد أو اقتربت منه إلا وانتصبت, انتصبت
كيانا مكتملا حقيقيا, وليس خيالا أو ظلا أو شبحا, تطلبين مني أن ادخل فأصلي العصر.
لا تأمرين إلا بصلاة العصر, وقد تعمدت أن أتواجد أمام الجامع الكبير بساحة
الشهداء, على الساعة العاشرة صباحا, فجئت, وسلمت وسبقتني.
قلت نصلي العصر.
أردت أن أسألك أي عصر تعنين, فوجدتني وحدي في الجامع,
أتيمم وأصلي ركعتين.
أعلمك أنني أصلي. أصلي أحيانا كالقرامطة خمسين ركعة في
كل صلاة. ما يخيفني هو أن تؤدي بي صلاتي إلى الجحيم, أو إلى القتل على يد أحد
الملتحين.
ما أن أقف, حتى يمتلئ المسجد بك : المحراب, والجدران,
والزرابي, وكل فضاء في المسجد يمتلئ بك, فلا أدري ما أقول وما أفعل.
أعيد الركعة بعد أن أعيد السورة أو الآية, خشية أن أكون
قد سهوت عنها.
الله لا يتجلى لي. عيناك فقط تتجليان.
الله لا يتجلى لي. بسمتك فقط تبهجني.
وإنني لأهرب منك إلى لقياك, كي أستريح قليلا من رؤياك.
أكوي, بالصلاة, جروح الروح فلا تكتوي.
فمن أنت ؟ هل أنت عزلتي واغترابي ؟ هل أنت ترددي وحيرتي
؟ هل أنت الزمن الذي يفلت مني ؟ هل أنت الوجه الذي لم يوهب لي ؟ هل أنت العارم
ابنة خالتي انسلت روحها من ملكة الأوراس الكاهنة, أو من ملكة الهقار تينهينان, أو
من خديجة بنت خويلد, أو من عائشة أم المؤمنين, أو من زينب أم المساكين, أو من إحدى
قصائد امرئ القيس, أو من إحدى لوحات راهب طارد خياله صورة العذراء ؟
الله يتجلى في جمالك وبهائك, وليس في المسجد إلا هو.
أقهقه في الليل.
في الظلمة في عزلتي, أقهقه هازئا من نفسي, عندما أتصورني
بكل أشواك القنفذ التي صرتها, ألين مع امرأة لا لشيء إلا لأنني أحبها. أحب شيئا ما
فيها, لا ادري ما هو.
أقهقه في الظلمة, فتتحول قهقهتي إلى أنت.
أحمل العصا, وأروح أطاردك من غرفة إلى أخرى, فتتحول
مطاردتي إلى رقصة مرواح الخيل.
آه ! إنني, لأول مرة في حياتي, أشعر بالسعادة وطمأنينة
الروح, فشكرا لله. شكرا لله. شكرا لله على نعمه الصغيرة والكبيرة !
***
شوفي يا يمه. اللي يحب ربي يعملها, وحاجته يقضيها, ثم سكتت.
***
عن شريفة, المتمردة البلهاء. عن العالية, نعمة ربك التي تملأ السرير طولا
وعرضا. عن شاهيناز, دمية الشوكولاتة في القطب الجنوبي. عن رجاء, أمنا الثالثة. عن
دنيازاد, أمنا الثانية. عن ستي لالة وردية, أمنا.
الحب لا وجود له, والمرأة كالرصاصة, تخرج من بطن أمها لكي تدخل إلى بيت
عريسها. الرصاصة يا بنات مثل كلمة العيب, عندما تخرج لا تعود يا بنات. الآخرة
بالأفعال, والدنيا بالأقوال. الزواج آخرة, والحب دنيا. الأولى حق ووعد, والثانية
لا وجود لها.
عن شريفة, المتمردة البلهاء. عن العالية, نعمة ربك التي تملأ السرير طولا
وعرضا. عن شاهيناس, دمية الشوكولاتة في القطب الجنوبي. عن رجاء, أمنا الثالثة. عن
دنيازاد, أمنا الثانية. عن ستي
لاللة وردية, أمنا : الرجل كبش نرعاه, نعلفه, نعشعشه, ثم نفعل به ما فعل
الله به : وفديناه بذبح عظيم.
عن شريفة, المتمردة البلهاء. عن العالية, نعمة ربك التي تملأ السرير طولا
وعرضا. عن شاهيناس, دمية الشوكولاتة في القطب الجنوبي. عن رجاء, أمنا الثالثة. عن
دنيازاد, أمنا الثانية. عن ستى لاللة وردية, أمنا : المرأة حدأة إلى أن تتزوج.
صيدها رجل. صيد الصباح أجمل من صيد الظهيرة. صيد الظهيرة أجمل من صيد المساء. تقول
الحدأة, في الصباح خروف أو أرنب أو حتى حجلة, وعندما يقترب المساء, ويشرع اليأس في
الدبيب إلى قلبها, ويفتك بها الجوع تهتف, خنفساء أو وقيدة.
عن شريفة, المتمردة البلهاء. عن العالية, نعمة ربك التي تملأ السرير طولا
وعرضا. عن شاهيناس, دمية الشوكولاتة في القطب الجنوبي. عن رجاء, أمنا الثالثة. عن
دنيازاد, أمنا الثانية. عن ستى لاللة وردية, أمنا : المهم أن لا تبيت الحدأة
جائعة.
وهارون الرشيد ليس سوى هارون الرشيد : صفحة في كتاب أسطر في صفحة.
هارون الرشيد لعبة نارية. هارون الرشيد لعبة دموية. هارون الرشيد لعبة سيدي
بولزمان.
كلما حاولت وضعه في الخانات التي حددتها أمهاتي وأخواتي فلت.
لا يليق أبا. لا يصلح زوجا. لا ينفع خليلا. ليس كبشا. ليس أرنبا. ليس حجلة.
لا ولا حتى وقيدة.
لا يتغدى ولا يتعشى ولا حتى "يبلغم" به. قنفذ لكنه محنط تراه ولا
تلمسه. يملأ فضاء ولا يملأ في كل الحالات.
لا أستطيع التخلص منه, حتى على فرض أن فارس الأحلام تقدم وخطبني, ثم
اختطفني وألقى بي في شقة ذات ست غرف, وتأكد أنه بلا أم, بلا أخت, بلا ربة بيت أخرى
غيري.
هل يمكن نسيان هارون الرشيد أو الانفصال عنه ؟
هذا الشيء سيذوب سينتهي ؟
تبقى الحياة بلا ملح, وبلا طعم.
لمن سيتحدث عن كينونة الكون, عن مسافة الصفر في الأبعاد, عن الليل البهيم
في الوحدة الجوفاء ؟
إنك تحبينه يا بنت .
عن شريفة, المتمردة البلهاء. عن العالية, نعمة ربك التي تملأ السرير طولا
وعرضا. عن شاهيناس, دمية الشوكولاتة في القطب المتجمد. عن رجاء, أمنا الثالثة. عن
دنيازاد, أمنا الثانية. عن ستى لاللة وردية, أمنا : لا شيء اسمه الحب.
لا أحبه.
ربما, لا أتخلص منه. هو هنا. هو أنا. هو القدام. هو الخلف. هو اليمين. هو
اليسار.
هو الشيء المفتقد في الحياة, والذي ظهر فجأة.
عندما تحل الساعة العاشرة, أراه كما يحلو لي أن أراه. إنما أراه على
حقيقته.
***
أنا الآن انتهيت من ترتيب كل أموري, ولم يبق لي إلا الذهاب إلى الفراش.
إنني أتعرى. أستر عورتي ما في ذلك من شك. وحدي وحدي أستقبل برد الفراش. لكن ها أنت
تأتين معي, تأتزرين, تستقبلين القبلة, ترفعين يديك.
الله أكبر.
تتيهين في المدى. أعود فأبقى وحدي. كل أسرتك تحيط بك. أنت تغمضين عينيك.
أنزل من خلف الستار الأزرق. أزرق. إنني أراه. آخذك من يدك. نخرج. نغادر قاعة
الجلوس. ها نحن في الغرفة التي تشتركين فيها مع شريفة. أتفرج على أشيائك المحدودة
القيمة. أتعاطف معها حبا لك. أقبلك من جبينك, من السماء التي في جبينك, تلك الحفرة
المتممة للفلجة في ذقنك.
آخذك.
نطير. نطير.
الفضاءات ملأى بعشاق يتعانقون. ملأى بولدان يضحكون, ملأى بعجائز مستريحات
لا يشتكين داء المفاصل. ملأى بزهور غير عطشى.
غير خاوية الفضاءات, وأنا واحد من واحد. عندما نجتمع نشكل صفرا موليا شطر
اليمين
نتضخم كصفر حقيقي, ثم نعلن عن الحقيقة للكون.
الحب ليس أخضر, ليس أحمر, ليس أصفر. الحب حبي اللون. كالماء الزلال المنحدر
من أعالي الجبال. إذا ما تغير لونه أو طعمه لا يجوز للوضوء.
***
أسرح. تتحدث شاهيناس عن أهمية الأحجام في الأبعاد, كما هي آخر نظرية
لأستاذها المخنث.
تتحدث شريفة عن أهمية الفضيحة في الإعلام الحديث, حسب نظرية الأستاذة
المطلقة من الأستاذ زوجها. تقول العالية, نعمة ربك, إن أخشى ما تخشاه هو أن يكون
المتنبي مثل امرئ القيس, سريع الانتعاظ, سريع الإفراغ.
الوالد, يتابع أخبار العداءة بولمرقة. الأم, تنظر إلينا واحدة فواحدة.
إنها تفهم ما نريد ولا تفهم ما نقول.
وهو, هارون الرشيد, من هنالك من منفاه من قفصه, يقول لي إنه سيراني عند
منتصف النهار, وإنه من الأفضل أن لا أغادر المنزل.
عن شريفة, المتمردة البلهاء. عن العالية, نعمة ربك التي تملأ السرير طولا
وعرضا. عن شاهيناس, دمية الشوكولاتة في القطب الجنوبي. عن رجاء, أمنا الثالثة. عن
دنيازاد, أمنا الثانية. عن ستي لاللة وردية, أمنا : الرجل دهليز والمرأة شمعة.
-تشكلن مرقازات, شكلا ومحتوى.
قال, عندما تأمل مجموعة من صور الأسرة. لا شك أن ردود أفعالكن وردود أفعال
أبيك واحدة, صنعتها أمك على مر الزمن.
أمهاتي, قل. حتى أنا, أم لنفسي ولجميع البنات ولأمي أيضا.
صوت جديد في حياتي. مذاق آخر لوجودي. ربما لهذا السبب لا أمانع من رؤيته,
بل أسعى لرؤيته.
مع هارون الرشيد, حتى السردين يتخذ طعما آخر.
غدا أراه أيضا. نامت.
***
من يقصدني في هذا الوقت ؟ من يقصدني أصلا يعلمني الوالد بمجيئه أو بمجيء
أختي مسبقا. يهاتف عند القريب ويبلغه عزمه, ثم إنه لا يأتي في الليل مهما كان
الأمر. القريب له طريقة خاصة : يزمر مرتين, ثم يطفئ المحرك وينزل, هذا عندما يكون
متأكدا من أنني هنا, وهو لا يأتي إلا في هذا الحال. حاول أن يتطفل في أول الأمر,
وأن يكسر عاداتي فيأتي كما صادف, ويصطحب من صادف, إلا أنني بحركات محدودة أوقفته
عند النطاق, كما تقول الخيزران. أظهرت وجودي من خلال النافذة, ولم أفتح الباب.
انتظر قليلا. انتظر كثيرا. زمر ثم انصرف. أعاد الكرة مرة أخرى, فاتبعت معه الطريقة
نفسها, لكن بتوضيح أكثر. فتحت النافذة. أبرزت رأسي بشكل يتأكد فيه منه. تأملته,
كان يضحك ضحكة المستجدى, إلا أنني أغلقت النافذة, ورحت أغرق في كتاب الفلسفة
الألمانية.
حاول, عندما التقينا في المعهد بعد أيام, أن يلوم, إلا أنني واجهته بكل
صراحة.
تعلم أنني أرفض الاستقبال في منزلي. في الضريح, في الحالات العادية, لا نضع
جثتين معا. أعتقد أن ذلك لن يتكرر منك.
ومن يطرق في هذا الليل البهيم ؟
أطل من النافذة بطريقته الخاصة. ليس هناك أية سيارة بل هناك واحدة في
المنعرج.
نزل, تخطى الظلمة, تخطى الأشياء المبعثرة, وقف خلف الباب وقال بلهجة صارمة
:
لا يهمني من تكونون, ذلك أنني لن أستقبلكم لا ليلا ولا نهارا. تعالوا
للمعهد إذا كنتم تريدونني في أمر ما.
نراك غدا في مسجد الحراش عند منتصف النهار. لا تشغل بالك فليس هناك عجلة
كبيرة.
تصبحون على خير.
السلام عليكم.
عاد مسرعا إلى النافذة. تبعهم. ثلاثة كانوا, يرتدون جلابيب بيضاء وقلنسوات
آسيوية.
أز محرك السيارة. كانت تبدو مع النور المتسلط عليها من فانوس الشارع فخمة,
كما كان أزيز محركها ينم على أنها جديدة. هذه تفاصيل لا يمكن أبدا أن تفوتني, قال
في نفسه, وراح يذرع في الظلمة, الغرف, والدهاليز, جيئة ذهابا.
لا يراها. الخيزران لا تتبدى.
لأول مرة منذ سنوات تختفي. لا شك أنها نائمة.
حصل ما كنت أتوقعه. تتوقعه, أم تسعى إليه, أم تنتظره ؟
لاحظت أنني مراقب منذ أول يوم, منذ دخلت الجامع الكبير وصليت العصر صبحا.
كانا اثنين يتبادلان رصدي. أحدهما جلس جنبنا, وطلب السردين مثلنا, وظل
يتنصت إلى حديثنا بكل وقاحة. ترى ما كان يقول في نفسه عن الخيزران ؟ ربما كان يقول
إنها آية الله في الأرض. لو كانت متواطئة معهم لكلفوها هي بجمع المعلومات عني.
لكن من هم ؟
إنهم شيع وأحزاب. الانتهازيون يركبون موجة الدين. كل حزب يتأسس, يحاول
انتزاع البساط من تحت الآخرين. الأجهزة تنشئ أحزابها وتستعمل إسلامها. المهمشون في
الحياة يظنون أن حجة وجبة ولحية وإن شاء الله والسلام عليكم, تصنع مسلما شريفا,
وتخلق اعتبارا اجتماعيا.
لكأنما توقفا : العقل وفضول المعرفة...
لكن هذا النهر, لا بد من الاستحمام فيه.
وهاأنذا, أحد أفراد هذا الشعب تمكن من المعرفة والاطلاع, ويقال عنه إنه مثقف.
هاأنذا على حافة النهر, إما أن أنزل مع النازلين, وإما أن أظل متفرجا إلى
أن يقذفوني بالحجارة.
لا يهم لون الماء الذي يستحمون فيه أو طعمه, إنما يهم أنهم يستحمون
مستغرقين في ذلك.
وأنا لا يمكنني أن أكون مثلهم إلا إذا كنت معهم. هذه قاعدة سياسية
واجتماعية.
كيف يمكن لكوكب تابع أن يظل تابعا إذا فقد الجاذبية وخرج عن المدار؟
قد يؤيدك الفرنسيون, أو يستمع إليك الأنقليز أو الأمريكان, وقد يعجبون
بصوتك وبطروحاتك, ولكنهم سيتساءلون في كل الأحوال, لماذا هو ليس مثل الآخرين ؟ أهو
ليس منهم ؟ أهو انفصل عنهم ؟ أهو منا ولا ندري ؟ في أول الأمر وآخره, يهمنا الرأي
الآخر أكثر مما يهمنا رأينا الذي نعرفه.
بؤساء. بؤساء.
وهم ليسوا قلة حتى يمكن نسيانهم.
أطباء يعترضون طريقك كل يوم. محامون من الجيل القديم. أساتذة وأستاذات.
موظفون متوسطون, ومدراء, وإطارات دولة. كتاب ومؤلفون, كلهم ركبوا موجة الثلاثية في
المجتمع الجزائري, ونصبوا أنفسهم الجزء الثالث الذي لا يتجزأ. الجزء المفرنس, أو
بالأصح الجزء الفرنسي.
بعده الحثالة.
بربر ينقرضون, ويذوبون في العربية أو في الفرنسية. بدو يتمدينون, ويضطرون
للتفرنس كي يعيشوا. معربون يشاغبون بقلوب حانية لينة. قلوب الطماعين.
إنما هذه الخرجة... هذه التقليعة!
لا أحد كان ينتظرها, الإسلام.
إسلام.
أنت, أو لا أنت.
كل المذاهب تجمع
على أن تارك الصلاة كافر, يقتل ولا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين, وأنت لا
تصلي!
من أنت ؟ من أنا ؟ لقد علمتني ما يتوجب أن أعلم, وإنني لأبحث عن علاقتي بك!
نصوم أو لا نصوم ؟
نفتح الخمارات أو نغلقها ؟
لا يهم أن نكون شرقا أو غربا, ففي الغرب يوجد شرق, وفي الشرق يوجد غرب,
إنما من نكون ؟
هذه الحالة بين بين. تولد اضطراب النفس, وإنني لمضطرب يا أبي. لا أستطيع أن
أواصل السير معك, ولا أستطيع أن أتخلى عنك, ولا بد لأحدنا من أن يقود السير.
عذرك أنك خرجت من ليل الاستعمار, وأن هذا منعك من لغتك وأبعدك عن دينك وحجب
عنك تاريخك, ومع أنه لم يستطع أن ينصرك, فإنه دينيا حيدك... أسكن في رأسك لامارتين
بدل حسان ابن ثابت, وجان دارك بدل طارق بن زياد, والإسكندر
الكبير, بدل خالد ابن الوليد.
علق وجدانك يا أبي. انتزعك من ماضيك, ولم ينجح كلية في ربطك بماضيه. بقيت,
كما تقول أمثلته, منزوع السروال, تتستر بذكريات عن علاقات كانت به, وبأسفار إلى
مدنه وحواضره, حيث تمارس كينونة ممسوخة.
لا تصلي. لا تصوم. تشرب النبيذ, ولا تمانع في أكل الخنزير, وتقول لهم, إنك
لست منهم, وتعلمني ديني, وتربطني بوجداني.
ألا ترى يا أبي أن أحدنا زائد في هذا الفضاء؟ وبما أنني الأغلبية, فإنني لا
أجد لي مكانا آخر. وبما أنك الأقلية, فما عليك إلا أن تذوب في.
حررت البلد وكثر الله خير. وبقي عليك أن لا تعترض سيادتي على هذا البلد.
الماضي يغادر الحاضر, والمستقبل يسكن الحاضر, وإنني لهنا, يا أبي, مثلما
كنت بالأمس القريب هناك بدل أبيك.
لو أنك لم ترتكب الخطأ, بالقول بأن هذا النهر لا يشكل ماؤه ماء واحدا حتى
وإن تعددت روافده ومنابعه, ولم تقع ضحية تحليل الخطاب الذي ينكر الوطنيات
والقوميات والنعرات ! الخطاب الأممي وحيد الجانب ووحيد الرؤية ووحيد الرغبة أيضا.
تذكر أنك من قال, في 1936 عصر التهاب حركة التحرر الوطني: " نحن,
أصدقاء الدكتور بن جلول السياسيين, قد نكون وطنيين, فليست هذه التهمة بجديدة. ولقد
تحدثت في هذه المسألة مع شخصيات مختلفة, فموقفي معروف. الوطنية هي هذا الشعور الذي
يدفع شعبا ما إلى الحياة داخل حدوده الترابية, الشعور الذي خلق هذه الشبكة من
الأمم, ولو اكتشفت الأمة الجزائرية لكنت وطنيا, وما احمر وجهي من ذلك كما لو احمر
من جريمة, فالرجال الذين ماتوا من أجل طموحهم الوطني يكرمون يوميا ويحترمون, ولا
قيمة لحياتي أكثر من قيمة حياتهم. على أني لن أموت من أجل الوطن الجزائري لأن هذا
الوطن لا وجود له, فإني لم أعثر عليه, وسألت التاريخ, وسألت الأحياء والأموات,
وزرت المقابر, فلم يحدثني عنه أحد... فلا يقام البناء على الريح. وقد أبعدنا
نهائيا السحب الكثيفة والأوهام لنربط نهائيا مستقبلنا بمستقبل صنيع فرنسا في هذه
البلاد.
وليس هناك من يؤمن بصورة جدية بوطنيتنا, وما يراد محاربته من هذه الكلمة
إنما هو تحررنا الاقتصادي والسياسي.. فمن دون تحرر الأهالي لا تكون هناك جزائر
فرنسية دائمة..."
من حقك يا أبي, وأنت مزهو بتخرجك من كلية الصيدلة, أن ترى ما ترى وأن لا
ترى ما لا ترى. إنما ما هو مخجل, لأنه يخلو من أية ذرة من الأخلاقية والمصداقية,
أن تترأس بعد اثنتين وعشرين سنة فقط من موقفك هذا الذي لم يتغير, حكومة الثورة
الوطنية, لترأس بعد أربع سنوات من ذلك, الهيئة التشريعية الأولى في تاريخ هذا ّالوطن" !
ولقد رفض الأهالي.
رفضت يا أبي نصيحتك بالتحرر, لأنني كما علمت أرفض أن تكون هناك جزائر فرنسية لا
دائمة ولا مؤقتة.
.........................................
وهناك افتراء في العملية كلها ..............
أيها الأب البئيس.
أيها الأب التعيس. أيها الأب العزيز. المكان يضيق بكلينا, وما عليك إلا أن ترحل.
ترحل عائدا إلينا.
ترحل هاربا منا.
ترحل ميتا على
أيدينا.
لقد علمتني ما يحب
أن أفعل, فلماذا هذا الإصرار الكاذب.
آه يا أبتي.
عيسى جرموني,
وخليفي أحمد, والريميتي الغيليزانية, والشيخ العفريت, الشيخة طيطمة, والحاج مريزق,
والشيخ عبد الباسط عبد الصمد, وأبو العيون شعيشع. كل هؤلاء نشأت في
الحارة يا أبتي, دون علم منك على حبهم جميعا. غازلت فتيات بكلامهم, وحضرت أعراسا
على ألحانهم, وجنازات وصلوات على قراءاتهم, وفي كل ليلة, وأنا أستنطق همومي, أستمع
أول ما أستمع إليهم.
ولا يعني شيئا
بالنسبة لي جاك بريل, ولا إيديت بياف, ولا مولوجي, وحتى إذا
ما اضطررت إلى أن أستمع إلى الموسيقى الغربية, فإنني أفضل موسيقى الويستيرن,
ومايكل جاكسون, ومادونة وما شابه. تلك الموسيقى التي تستهوي الشاب
الفرنسي المعاصر نفسه.
إننا طرفان يا
أبي. وإننا على طرفي نقيض.
تستنجد بمبادئ
ومقولات لسيدك السابق.
الديموقراطية. لكن
عندما ننتخب, ترفض النتيجة التي ليست في صالحك, ولقد كان هو أيضا يفعل ذلك يا
أبتي. تذكر انتخابات 1951.
إذا لم تتذكر
فالنزهاء منهم دونوها. اقرأ التاريخ يا أبي.
تتذرع بالحرية.
أيها الأب
المسكين, إن الحرية التي لقنوك إياها تلجمها بالأجهزة البصاصة. الصحف في يدك.
التلفزة في يدك. الورق في يدك. المطبعة في يدك. القول والفصل في يدك.
تتحدث عن الحداثة.
هل أراها يا أبي
العزيز في آليات جئت لتضربني بها: طائراتك ودباباتك ومدافعك. تعلم علم اليقين أنها
لا تتحرك خارج الحدود إلا بالقدر الذي يسمح به سيدك, لكنها تتحرك بلا حدود ضدي
أنا.
كل شيء, كل أمر,
كل صغيرة وكبيرة تتعرض من حين لحين, لنسمة الرأي والنقاش, ما عدا بدلة جندك وشرطتك.
إنها رؤيتك يا
سيدي التي ليست سوى رؤية الآخر.
لماذا القبعة هكذا
؟ لماذا لون البذلة أصفر أو أزرق أو رمادي, هكذا؟ لماذا سيارات الشرطة أو الدرك أو
الجيش عموما مطلية بهذا اللون أو ذاك ؟
سيدي. أبي العزيز,
أحدنا مفتر ولا أخاله إلا أنت. وإنه ليحزنني ويسرني أن أقول لك هذا الكلام.
***
يذرع الغرف جيئة
ذهابا, والأفكار والأحكام تنساب في رأسه, كأنما أعد لها سلفا سواقي ومجاري, أو
كأنما كان يحفظها عن ظهر قلب.
نسيهم. نسي طارقي
الليل, الذين لم يلحوا. نسي أن عليه غدا أن ينتظرهم وأن يعد ما يقول لهم. على
الأقل, أن يستعد لاستقبال آرائهم والتعليق عليها, سلبا وإيجابا.
كان فلكا تتجاذبه
رياح مختلفة. إما أن يستسلم فيتيه, وإما أن يتشبث فيظل يتعذب.
يروح. يجيء. يحضره
قريبه, الذي لا يتحدث إلا بالفرنسية, ولا يحلم إلا بأن يرى المعهد, مسيرا من طرف
معهد غرونوبل بفرنسا.
تحضره السيدة خ.
أستاذة الأدب المقارن في بوزريعة. كل رسالتها في الحياة أن تثبت أن من كتب
بالفرنسية إنما يمثل هذا الشعب في نهضته. لا تعرف بن إبراهيم ولا بن قيطون ولا
المتنبي ولا القبائلية أو الشاوية, ولكنها تقارن, تقارن بين محمد ديب, وتولستوي أو
هيمنغواي أو بالزاك أو أي شيء آخر.
تحضره الدكتورة ز.
تحاول من خلال ترجمة الأغاني الشاوية, التي لا تحفظها ولا تعرف مرجعيتها, إلى
الفرنسية, أن تكتشف بذور الديموقراطية والحرية وكفاح المرأة.
يحضره, م ل م
بمفردات دارجة. يحاول أن يؤكد أن رحلة السندباد البحري, إنما كانت تجاه الغرب وليس
تجاه الشرق.
يحضره ألف ألف
واحد ممن يتبجحون بجهلهم, ممن يحلو لهم أن يبادروا إلى القول, وهم يبتسمون, إنهم
لا يعرفون اللغة العربية.
يحضره مديروه على
مر السنوات المنصرمة. فرنسيون أولاد فرنسيين, لا يرحمون وطنهم ولا يشفقون عليه.
اللهم.
أسوأ إمام في هذا
البلد يحافظ على الهوية, ولا أحسن عالم يؤدي بالأمة إلى متاهات الاغتراب... يجهز
على هته الأمة وعلى ما تبقى منها.
لا
يستطيع أن يركز على رأي أو على تصور ما. حتى هي, الخيزران, التي كانت عيناها تملآن
كل ما حوله, انمحت. بقيت مجرد شبح طويل رقيق يتجلبب ثوبا زاهي اللون, ويغطي رأسه
ورقبته وجزءا كبيرا من وجهه بخمار أبيض فيغدو, في البعد, شمعة في الظلمة تصارع
تيارات تنفثها بوغازات الهواء المختلفة.
يروح,
يجيء. فقط يروح يجيء. رأسه, صدره, بوغاز تهب فيه الأفكار والآراء والصور, دون
ترتيب ولا منطق.
لوحات.
لوحات عديدة تتضح ثم تنمحي, لتخلف مكانها للوحات أخرى.
من
صباه, من دواره, من قريته, من معركة التحرير, من ساحة أول ماي, من البلدان التي
زارها, من الكتب الكثيرة التي قرأها, من المأزق الذي يجد نفسه, شأن الأمة, فيه.
"إنك
الآن الوحيد في دواركم الذي باستطاعته أن يقرأ ويكتب بالفرنسية, وغدا يوم تستقلون,
لا تندهش. إنني أؤمن مثلكم بأنكم, طال الزمن أو قصر, ستستقلون. غدا يوم تستقلون,
تكون أحد أعمدة الإدارة الجزائرية, وستكون مدخل بلدكم نحو العصرنة. ستتذكر دائما
وأبدا أن فرنسا مهما قست قد علمتك. وإذا ما كنت في سلك التعليم, فستوقد في بيوت
عديدة شمعات العلم والمعرفة وتعيد بناء ما هدمه عمك وأبوك".
أبي
هدم. عمي المختار هدم. العارم ابنة خالتي هدمت. أنا هدمت.
لكن
ماذا هدمنا ؟ أكان يقصد بعض الأعمدة وبعض الجسور وبعض السكك الحديدية هنا وهناك ؟
أكان يقصد هذا, أم يقصد شيئا آخر ؟
يقصد
العلاقة بيننا وبين بلده. لكن هذه أيضا لم تكن على ما يرام. لقد كانت طوال التاريخ
علاقة حقد وكراهية.
ماذا
إذن ؟
لا
شك أنها الهيبة والإجلال, الذي يسود العلاقة بين الغالب والمغلوب بين السيد والمسود.
نحطمها
ماديا ونعيدها روحيا, ثقافيا وحضاريا.
القذر
ولد القذرة. حملني, حمل جيلي فيروس الاستعمار.
ومن
جديد, يتحتم علي أن أهدم شيئا ما, لكنه في ذاتي هذه المرة. أن أتحطم أنا.
قالوها
: البرجوازية كي تكون ثورية يتوجب عليها أن تنتحر.
تهالك
كما اتفق, دون أن يعير أي اهتمام للغرفة أو للفراش.
***
أيها الشهيد ! أيها الشاعر الشهيد ! أيها الوزير الشهيد ! أيها الشهيد الأول في تاريخ
الجمهورية الإسلامية.
كان عمار بن ياسر يجلجل حانقا, لا يدري أية عبارات يستعمل, وأي موقف يتخذ,
وأية جهة يتهم.
قدمه إلى المجلس, واستعرض كفاءته العلمية وعمق ثقافته وماضيه النضالي في
الحركة الإسلامية, واقترحه وزيرا للفلاحة فقبل الاقتراح بالإجماع التام.
وهاهو مسجى جثة هامدة, ممزقا بالخناجر وبالرصاص, وسط جموع وحشود تملأ
المقبرة, وتهتف, لا إله إلا الله محمد رسول الله عليها نحيا وعليها نموت وعليها
نلقى الله.
تقف عند رأسه فتاة طلبت إذنا خاصا بذلك, في الثانية والعشرين. وجهها غلامي,
عيناها المنتصبتان, في طرفي الوجه, تبدوان كأنهما لمومياء فرعونية, لنفرتيتي, أو
لكيليوباطرة, أو كأنهما لغزالة, لهما مضاء حاد ولهما تودد سخي. أنفها رقيق بفطسة
تتناسب تمام التناسب مع شكل الوجه الطويل, منخراه صغيران يروحان يهتزان كلما تنفست,
خنابتاهما ممتلئتان بعض الشيء فوق فم صغير رقيق الشفتين. ذقنها الدقيق, تزينه فلجة
رقيقة, يضرب لونها إلى بياض وسمرة وزرقة, وذلك ما يجعلها تبدو, في الوقت الواحد,
آسيوية إفريقية. عليها جلباب أبيض, وخمار أسود. عيناها لا تفارقان الجثة وكأنما هي
تقرأ صفحة من كتاب, أو تستمع إلى حديث هامس
***
من يقصدني في هذا الوقت ؟ من يقصدني أصلا, يعلمني الوالد بمجيئه أو بمجيء
أختي مسبقا. يهاتف عند القريب ويبلغه عزمه, ثم إنه لا يأتي في الليل مهما كان
الأمر. القريب, له طريقة خاصة. يزمر مرتين ثم يطفئ المحرك, وينزل. هذا عندما يكون
متأكدا من أنني هنا, وهو لا يأتي إلا في هذه الحال.
لكنك الآن وزير, وهل يزعج سعادة الوزير بمثل هذا الطرق غير المؤدي.؟
لم يكن قد انتهى من ارتداء جبته, بعد خروجه من الحمام, ولا من التساؤل, حتى
كانوا قد دخلوا.
كسروا الباب, حطموه, ودخلوا.
كانوا سبعة ملثمين لا تبدو من وجوههم إلا أعينهم. في أيديهم رشاشات وفي
أحزمتهم سيوف.
دفعوه إلى غرفة النوم, وأمروه بالوقوف, وجلسوا هم, وأعلنوا بصوت واحد :
محكمة.
بوغت, فلم يدر ما يفعل. واختلطت السيناريوهات التي كان قد وضعها منذ سنوات
في حالة ما إذا هوجم.
بالإمكان استعمال الخنجر الذي اشتراه لهذا الغرض, وأخذ نصيبه من المعتدي أو
المعدين.
يقف في زاوية مظلمة أو جانب المدخل, ويبقر أول المتجرئين.
يتناول بندقية الصيد المحشوة بخرطوشين والمتأهبة للانطلاق, ويطلق النار في
الهواء أو في صدر أحدهم, حسب الظرف.
بالإمكان التسلل من إحدى لشرفات أو النوافذ, والوثوب عند أحد الجيران
والاستنجاد من هناك.
لقد ربط حبلا بدرابزون الشرفة لهذا الغرض.
بالإمكان في أسوأ الظروف التفاوض مع المقتحمين والتنازل لهم عن كل ما
يطلبون ما عدا الكتب , لأن الكتب, التي هنا لا تليق إلا به, وسينتج عنها أمر جلل
إذا ما أطال الله العمر.
ربما هذا ما حدا به الليلة إلى الوقوف موقف المنذهل.
ربما أراد أن يجرب اللعبة. أن يمشي مع الخطر إلى أقصى حد, ليتعرف على حقيقة
علاقته بهذا الكون.
لقد سجل في إحدى قصائده , أن موتنا لا يعني غيرنا كما أنه هدد قريبه أكثر
من مرة, بأن في مقدوره أن ينتحر.
وها هو وجها لوجه مع الخطر في أعلى ذراه.
كانت فوهات الرشاشات الأتوماتيكية موجهة إلى صدره ورأسه.
شعر بالضيق الكبير, خاصة من منظر البنادق ومن سوادها الوقح خاصة.
كالعقارب بين أيدهم.
راح يتأملهم بينما كانوا
يتفحصونه بدقة مطمئنين إلى أنه لا يوحي بالخطر رغم أن لحيته القصيرة المدببة تستفز
أكثر مما توحي بالاطمئنان.
يظهر أنهم رتبوا كل شيء أدق ترتيب. يجلسون مطمئنين. يعلمون أنهم وحدهم, وأن
الحراسة, التي نصبوها عند الباب شكلية لا غير. يبدو أنهم يعرفون المكان جيد
المعرف. حتى زر العواقة الإنذارية السري يعرفون موقعه, فقد بادروا إلى إغلاقه.
محترفون هؤلاء.
ترى بم سيحاكمونني, ومن أكون ؟ دوناتوس ؟ خالد بن الوليد بعد إخماد فتنة
الردة ؟ طارق بن زياد بعد فتح الأندلس؟ موسى بن نصير؟ جان دارك ؟ نابليون بونابرت
؟ قوبلز, أو موسوليني ؟ أبوليوس في طرابلس متهما بجماله ؟ أبا ذر الغفاري متهما
بالسير وحده ؟ غاليلي متهما برؤية الأرض مكورة ؟
أنت متهم بالخيانة العظمى.
نهض الملثم الأول. استخرج ورقة مطبوعة طباعة جيدة وراح يقرأ, بتمهل :
اتصل بك أشرار, يعملون على قلب النظام الجمهوري الديموقراطي بالعنف والقوة,
يستعملون الدين ويحتكرون الإسلام, جذورهم تمتد خارج البلاد, وتتصل بقوى أجنبية
حاقدة على شعبنا وعلى قيادته.
أتنكر أنه منذ سنة, اتصلت بك فتاة هذه أوصافها : في الثانية والعشرين,
وجهها غلامي, عيناها المنتصبتان في طرفي الوجه تبدوان كأنهما لمومياء فرعونية,
لنفرتيتي, أو لكيليوباطرة, أو كأنهما لغزالة, لهما مضاء حاد, ولهما تودد سخي.
أنفها رقيق بفطسة تتناسب تمام التناسب مع شكل الوجه الطويل, منخراه صغيران يروحان
يهتزان كلما تنفست, خنابتاهما ممتلئتان بعض الشيء فوق فم صغير رقيق الشفتين, تصبغه
بأحمر شفاه وردي باهت خافت. ذقنها الدقيق تزينه فلجة رقيقة, يضرب لونها إلى بياض
وسمرة وزرقة, وذلك ما يجعلها تبدو, في الوقت الواحد, آسيوية إفريقية.
جرجرتك إلى المساجد فرحت, وأنت عالم الاجتماع اللائكي, تصلي العصر في
الصباح, وتصلي الفجر في المغرب.
وهناك في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه, انهمكت في التآمر مع
المتآمرين تعطيهم النقود, وترسل لهم الكتب في السجن, وتحملهم بسيارتك التي لا
تستعملها إلا لهذا الغرض.
أتنكر ؟
إنك طبعا لا تستطيع أن تنكر. وحتى إذا ما فعلت فسنواجهك بتسجيلات وأفلام
وصور.
لا أنكر, وأحمد الله على أنها قامت بفضل جهادي وجهاد إخواني, وبعون من الله
العلي القدير.
فكر أن يقول لهم, إلا أنه تصور أنهم سينهرونه : اخرس أيها الأحمق ! فلم يتكلم.
محكوم عليك بالإعدام برصاصة في الصدر, وبطعنة بالسيف في البطن.
جلس الملثم الأول, وللتو نهض الملثم الثاني, واستخرج بدوره ورقة في منتهى الرونق
والجمال, وراح يقرأ كلاما يبدو أنه تمرن عليه قبل اللحظة مرارا وتكرارا.
أنت متهم بالسحر والشعوذة. أغويت بنتا في زهرة العمر وريعانه, وأفسدت
علاقتها بالأجهزة التي تستخدمها, وهذه أوصافها : في الثانية والعشرين. وجهها
غلامي. عيناها المنتصبتان في طرفي الوجه تبدوان كأنهما لمومياء فرعونية, لنفرتيتي,
أو لكيليوباطرة, أو كأنهما لغزالة, لهما مضاء حاد, ولهما تودد سخي. أنفها رقيق
بفطسة تتناسب تمام التناسب مع شكل الوجه الطويل, منخراه صغيران يروحان يهتزان,
كلما تنفست, خنابتاهما ممتلئتان بعض الشيء فوق فم صغير رقيق الشفتين, تسبغه بأحمر
شفاء وردي باهت خافت. ذقنها الدقيق تزينه فلجة رقيقة, يضرب لونها إلى بياض وسمرة
وزرقة. وذلك ما يجعلها تبدو, في الوقت الواحد, آسيوية إفريقية.
كانت تتردد على دار الصحافة فتلتقي مرة بهذا ومرة بذاك, أحدهم يدعوها إلى
قهوة أو شاي أو عصير, وآخر يدعوها إلى بيتزة أو همبرق, وفي كل الأحوال يفتحون لها
قلوبهم فنعرف, من خلالها, ما يشغل بال المعرب غير المتطرف.
خرجت كالشيطان في ساحة أودان, وكنا يومها على وشك التعرف بدقة على ما يفكر
فيه وزيرنا للثقافة من خلال عزيز. ركبت وراءها دون مقدمات. رحت تستغل تفتحها الذي
نستغله نحن كذلك, وتشعرها بأنها أكثر من واحدة. هجرت التعليم في السنة التاسعة.
هذا إفلاطون. هذا سقراط. هذا هيغل. هذا فيخت. هذا نيتشه. هذا إنسان مفترس, وهذا
حداد, وهذا مزارع, وما إلى ذلك من سيد ومسود, تابع للسيد, وترهات مجانين.
حتى السردين واللوبيا البيضاء والمأكولات التي تحدث الغازات مثل المخ,
جعلتها تتعرف على أهميتها وعلى تاريخها وتأكلها بطريقة أخرى غير الطريقة التي درجت
عليها أمها الطيبة السيدة المحترمة وردية.
لقد عرفت من أين تنفذ إليها وتستولي عليها. تعيرها اهتماما ثقافيا,
فتتوهم بأنها في مستوى أخواتها الجامعيات.
إنما التهمة ليست هنا.
التهمة الأولى والأساسية هي, أنك برزت لها في هيئة شاب وسيم, وطلبت منها أن
تصلى العصر, ومن يومها سكنتها بوصفك سيدها بولزمان, ومن يومها انقطعت عن دار
الصحافة فلم نعد نعرف ما نفعل مع المعربين, كيف نقمعهم, كيف نغريهم, كيف نرهبهم أو
نرغبهم كما يقول بورقيبة.
كيف نملأ الزمن بهم.
لقد ملأت زمنها أيها الساحر, بالصلاة والتقوى والمعاصي. أتنكر أنك ترى نفسك
بطيخة بين يديها وفي صدرها ؟ أتنكر أنك تنزل كل ليلة من الستائر الزرقاء وتتسلل
إلى غرفتها؟
وهناك آه, هناك تتحول إلى وليد ينام إلى جنبها, لا يفعل سوى أن يرضع من
ثدييها !
ينام مستكينا, تهبش أصابع يديه, وتضرب قدماه, ويلهف فمه.
إن لدينا وثائق وأفلاما وتسجيلات صوتية, ولا يفيد أي إنكار منك.
بتهمة الغواية, والسحر, واستعمال الحاسة السادسة, وإفساد عمل الأجهزة, حكم
عليك بالإعدام برصاصة في الرأس, وبطعنة في القلب.
جلس الملثم الثاني مبتسما لدور النيابة العامة, الذي أداه بكل حماس, وأفسح
المجال للملثم الثالث, الذي استخرج بدوره وثيقة مطبوعة وراح, بعد أن بسمل وصلعم
وأثنى على واهب نعمة الحياة يقرأ بصوت جهوري :
في مثل هذه الليلة, منذ سنوات, دقت جماعة من عندنا عليك الباب. نزلت ولم
تفتح. قلت إنك لا تستقبل أحدا في المنزل إطلاقا, وهنا أتوقف لأقول لحضرة السيد
الرئيس إن كسرنا الباب الليلة إنما كان بناء على موقفك أنت في تلكم الأمسية, وأيضا
حتى لا نتيح لك فرصة التفكير في إتيان الإثم وقتل الروح بغير حق.
في مثل هذه الليلة منذ سنوات, دقت جماعتنا الباب, وتم الاتفاق على اللقاء
في المسجد.
ذلك كله حصل, ودخل التاريخ.
في المسجد, رفضت التحدث إلى جماعتنا. قلت إنك مفكر وباحث, وإنه لا يحق أن
تعامل كما لو أنك من عامة الناس, وقلت بالحرف الواحد, إنما فضل الله العلماء من
خلقه.
كان همك الأول والأخير أن تتأكد من أن جماعتنا, أو بعضا منها, لم تكن من
الأجهزة, ولقد أفلحت في ذلك أيها الشيطان.
لا يمكن إنكار هذه الواقعة الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. ولقد حدث
ذلك فعلا يا سيدي الرئيس في رابعة النهار.
أجال بصره يبحث عمن يكون الرئيس, إلا أنه لم يلاحظ ما يشير إلى ذلك, بينما
واصل الملثم :
توصلت حتى المجلس الأعلى, ورحت تحدث هذا بخطاب, وتخاطب ذاك بكلام, تستعين
بما أودع الله فيك من علم وبينة, وتستعين أيضا ببنت بريئة هذه أوصافها : في
الثانية والعشرين. وجهها غلامي. عيناها المنتصبتان في طرفي الوجه تبدوان كأنهما
لمومياء فرعونية, لنفرتيتي, أو لكيليوباطرة, أو كأنهما لغزالة, لهما مضاء حاد,
ولهما تودد سخي. أنفها رقيق بفطسة تتناس تمام التناسب مع شكل الوجه الطويل, منخراه
صغيران يروحان يهتزان كلما تنفست, خنابتاهما ممتلئتان بعض الشيء فوق فم صغير رقيق
الشفتين, تصبغه بأحمر شفاه وردي باهت خافت. ذقنها الدقيق تزينه فلجة رقيقة, يضرب
لونها إلى بياض وسمرة وزرقة, وذلك ما يجعلها تبدو, في الوقت الواحد, آسيوية
إفريقية.
وتوصلت إلى اقتحام عالم عمار بن ياسر بنصب كمين له وإيقاعه في شباكك
وكمائنك, وجعلته يعينك وزيرا للفلاحة, كما جعلته لا يفرق بين الدولة وبين
الجمهورية وبين الخلافة وبين الحكم. لسانه يتلعثم بين هذه وتلك كما لو أنك ترصنه
بحديد.
أنت فيروس. أنت جرثومة. القضاء عليك فريضة على كل مسلم ومسلمة, وقد حكم
عليك, في هذه الورقة وقدام الله وعباده, بالموت ذبحا.
بسم الله الرحمن الرحيم. عليه أتوكل وإليه أنيب. رازق الدواب, وخالق العقل
والصواب !
أما بعد,
قال المتثلم الرابع قبل أن ينهض, وواصل واقفا :
إنك لم تقل ما قلت, ولكنك قلته, وتشهد على ذلك فتاة مسلمة مؤمنة تقية ورعة
هذه أوصافها : في الثانية والعشرين. وجهها غلامي. عيناها المنتصبتان في طرفي الوجه
تبدوان كأنهما لمومياء فرعونية, لنفرتيتي, أو لكيليوباطرة, أو كأنهما لغزالة, لهما
مضاء حاد, لهما تودد سخي. أنفها رقيق بفطسة تتناسب تمام التناسب مع شكل الوجه
الطويل, منخراه صغيران يروحان يهتزان كلما تنفست, خنابتاهما ممتلئتان بعض الشيء
فوق فم صغير رقيق الشفتين, تصبغه بأحمر شافه وردي باهت خافت. ذقنها الدقيق تزينه
فلجة رقيقة, يضرب لونها إلى بياض وسمرة وزرقة, وذلك ما يجعلها تبدو, في الوقت
الواحد, آسيوية إفريقية.
قلت في حق أحمد بن حنبل رضي الله عنه وأرضاه, ما معناه : يموت الجاحظ, يموت
واصل بن عطاء, يموت ابن رشد, يموت ابن الهيثم, يموت البيروني, يتربع أحمد بن حنبل
من جديد على العرش, لا يقول شيئا سوى أن الله أراد ذلك, أو أن الرسول عليه الصلاة
والسلام لم يفعل ذلك.
تموت أنت.
أي نير سيزول من على كتفيك, وأي نير جديد سيوضع عليهما ؟
وأنت إنما , بهذه الزندقة, تنتصر للمعتزلة, وللقول بخلق القرآن وبحدوثه.
لكأنما السنة, في نظرك, هي سبب تخلف المسلمين !
بهذا, وبهذا وحده, يكفي أن تموت عدة مرات.
أنت معتزلي تفسر الأمور على غير ما فسرها السلف الصالح وبغض النظر عما قلته
في حق محي الدين ابن عربي, ورابعة العدوية, والحلاج.
إنك تكاد تكرر, ولعلك فعلت ذلك, ما قاله الزنديق الحلاج, من أن الشيطان
أكثر المخلوقات عبادة لله, لأنه رفض السجود لآدم.
وإنك لتتعامل مع الصفر تعامل إخوان الصفا معه.
تموت. سيدي الرئيس. يموت بالطريقة التي ترونها.
إنما يموت !
نهض الخامس.
كان متحمسا, وكان يبدو عليه الاستعجال :
أيها السادة. في الورقة التي قدامي, أن حركة الدولة الإسلامية أو الجمهورية
أو الخلافة, إنما هي في الأساس مبنية على معاداة الغرب بصفة عامة وفرنسا بصفة
خاصة.
هذا الشخص الماثل أمامكم خير دليل على ذلك, في حين كان أبوه وعمه المختار وابنة
خالته العارم يهدمون ويخربون, كنا نحن نعلمه. كانت فرنسا تعده ليكون أحد إطارات
الجزائر الحديثة, العصرية, الديموقراطية, الوفية لمثل الحرية والعدالة والمساواة
وقيمها, وينضاف إلى سلفه الذي لا يجد البر الجزائري إلا فرنسيا, بدل انضمامه إلى
الأهالي العصاة.
اسألوه, وهذا ملفه أمامي ينطق بالوقائع والحقائق, منذ مدرسة الميلية, إلى
ثانوية فرانكو ميسلمان بقسنطينة, إلى المعهد بالحراش, إلى المؤتمرات التي شارك
فيها في غرونوبل, في تولوز, في ألمانيا, في تونس, في صوفيا, في غرداية أخيرا.
اسألوه, ألم يكن همه الأول والأساسي عض اليد التي امتدت له بالإحسان. ؟
اطلبوا رأيه في معهد اللغات الأجنبية في بوزريعة. في الدكتورات خ,ز,ر.ع, ك,
ص. في الأساتذة سين وميم وتاء.
لقد طاردهم كلهم, ولقد وضع قدامهم سدا, بتأليف لم ينشر بعد وينبغي أن لا
ينشر, عنونه بهجرة الأدب المكتوب باللغة الفرنسية.
إذا كانت هناك قلاع في هذا البلد الذي ضحت فرنسا من أجله كثيرا, فهذا
المتهم الماثل أمامكم هو إحدى هذه القلاع التي ينبغي هدمها وتحطيمها.
عبارة القلاع ربما تبدو في غير محلها, ويمكن استبدالها بالبؤرة أو بدهليز
الظلام.
اسألوه لماذا تعرف على فتاة هذه أوصافها : في الثانية والعشرين. وجهها
غلامي. عيناها المنتصبتان في طرفي الوجه تبدوان كأنهما لمومياء فرعونية, لنفرتيتي,
أو لكيليوباطرة, أو كأنهما لغزالة, لهما مضاء حاد, ولهما تودد سخي. أنفها رقيق
بفطسة تتناسب تمام التناسب مع شكل الوجه الطويل, منخراه صغيران يروحان يهتزان كلما
تنفست, خنابتاهما ممتلثتان بعض الشيء, فوق فم صغير رقيق الشفتين, تسبغه بأحمر شفاه
وردي باهت خافت. ذقنها الدقيق تزينه فلجة رقيقة, يضرب لونها إلى بياض وسمرة وزرقة,
وذلك ما يجعلها تبدو, في الوقت الواحد, آسيوية إفريقية.
إنه, يا سيدي القاضي, يرى فيها كل ما يناقض المرأة العصرية المتبعة لتقاليد
الغرب ومثله وقيمه, تلكم الشجاعة التي أحرقت اللحاف واللثام في الخمسينات.
اسألوه ما إذا كان يعنيه لباسها, أو أي شيء آخر فيها.
نعلم علم اليقين عدم اهتمامه بالمرأة, وتجنبه للمأكولات والمشروبات المثيرة
والمهيجة, ففي المعهد, كنا نسلط عليه كل يوم فتاة لكنه لا يبالي.
سيدي الرئيس, لقد أجرينا تجربة في إطار متابعته وترصده, فوضعناها أمامه في
الطريق بواسطة قمرنا الفضائي وبالتعاون مع أصدقائنا الأمريكان والروس, في غير
الجلباب والحجاب فما تعرف عليها.
مر غير مبال بها وهي تبتسم.
هذه حقيقة يا سيدي الرئيس. وبإمكاننا أن نبرهن عليها حالا.
لماذا يكره قريبه الوصي عليه ؟ لماذا لا يعير اهتماما لأخت هذا الوصي
المسكينة, فيخطبها ثم يتزوجها؟ لقد بارت, ولم يلتفت إلى ذلك.
هذا الرجل مادام خطرا على فرنسا, فهو خطر على الجزائر وعلى الإسلام وعلى
الحلف الأطلسي ومجلس التعاون الخليجي والعروبة أيضا.
ولكن. لكن كل هذا لا أهمية له, ويمكن تجاوزه, فنحن لا نهتم بترهات المجانين
والسحرة.
إنما, إنما أن يقبل مناقشة رسائل الطلبة بغير اللغة الفرنسية, أن يكون
الأول الذي يفتح باب هذا الدهليز, فهذا ما لا يمكن أبدا تجاوزه.
ينسف, يا سيادة الرئيس, ما بنيناه منذ 1832 في هذا البلد المسكين.
حكم عليه بالموت بالرصاص :
عشر في الرأس, وخمس في الصدر.
نهض السادس, واستخرج بدوره ورقة جميلة :
أنت منا ما في ذلك شك, ولا تستطيع إن أردت إنكار ذلك, فقد سبق السيف العذل,
مع أنك لم تهتف في ساحة الدعوة مع إخوانك, لا إله إلا الله محمد رسول الله عليها
نحيا وعليها نموت وعليها نلقى الله. فإنك في قلبك كنت تستسيغ ذلك وتستطيبه.
لا تهمنا النوايا, فهي متروكة لعلام الغيوب وما في القلوب. إليه سبحانه
وتعالى عز وجل. لو أعلن لينين إسلامه أو نطق ماركس بالشهادتين, وأيدا قيام الحكم
الإسلامي وتطبيق الشريعة المحمدية, فلا أخال إلا أننا نقول في حقهما اللهم أعز
الإسلام بهما. "... ذلك هدى الله يهدي به من يشاء. ومن يضلل الله فما له من
هاد." صدق الله العظيم.
كتبت دراسات قيمة عن إمكانيات التعاون الإسلامي في مجالي الاقتصاد والبحث
العلمي, نقود إيران وبلدان الخليج, وأراضي العراق والسودان, وأكاديميي الجمهوريات
الإسلامية الروسية سابقا و..و..
أجرت اتصالات قيمة بزملائك في مختلف الجامعات. تحملت مسؤولية البوح بموقفك
تجاه الطاغوت.
تراسل الطلبة في سحن الحراش, وتزودهم بالكتب مع تحفظنا على بعضها. عذرك أنك
تلبي رغباتهم وحاجاتهم ولو أنه من المفروض, بصفتك أستاذا, أن توجههم وتناقشهم,
إنما الدين النصيحة. هذه مسألة أخرى.
رغم أننا لا نفهم لماذا تحجم الإسلام إلى شمعة في دهاليز العصر كما تقول.
الإسلام كان وما يزال نور السماوات والأرض, نورا على نور. رغم ذلك, نغض
الطرف, ونعتبره تعبيرا أدبيا صادرا عن أحد الذين قال فيهم تعالى "..يتبعهم
الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون.." وأنت
تؤمن وتعمل الصالحات.
ورغم أنك استعملت في مطلع قصيدك الذي تحي فيه قيام الحكم الإسلامي,
"بانت سعاد فقلبي اليوم متبول" معللا ذلك, بأنه مطلع البردة التي
استطابها كثيرا خير العالمين عليه أزكى الصلوات, واعتبارنا ذلك الشعر المثير
للغرائز فاكهة محرمة على غير المعصومين من البشر, إلا أننا تجاوزنا الأمر, وقلنا
للمؤمنين الذي أبدوا استياءهم, إنه لا بأس من التبرك بفاكهة الرسول الأعظم عليه
صلوات الله.
كل العلل والتبريرات التي قدمها من سبقني إن هي إلا ترهات في ترهات...
طوى الورقة وراح يرتجل كلاما, من الواضح جدا أنه يحفظه عن ظهر قلب.
***
ألف منظرها. العقارب التي في أيديهم لم تعد تثيره أو تخيفه. لقد تحولت إلى
"لعب في أيدي لعب". وأوشك أن يضحك عندما لمعت في ذهنه هذه الخاطرة.
ولقد استعد إلى قليل من العذاب ليستريح من عذاب أكبر, عذاب تحمل تفاهة
اللعبة.
وعندما نموت, لا يهم موتنا سوى الآخرين. بعضهم يغسل, بعضهم يصلي. بعضهم
يبكي. بعضهم يواري. بعضهم يتساءل عن التركة. بعضهم يرثي, ولكنهم كلهم يستعدون للنسيان.
يفسحون المجال للصفر بأن يتخلى عن جميع مواقعه, فيصير كما هو عند إخوان
الصفا: اللانهاية, بدل حقيقته العلمية التي هي البداية.
ليقتلوني.
ليرتكبوا حماقة إراحتي من العناء.
ليتموا إرادة الله. ليقتلوني. لينجزوا ما حاولت إنجازه قبل أن ألتقي بها.
آه. العاشرة تحل, وأنا مشغول بهؤلاء. ترى هل أتمكن من ربط روحينا ؟ أريد أن
أودعها الوصية قبل فوات الفوت.
أحاول. أحاول. أنساهم. أنسى اللعب بين أيديهم. أنسى سيوف ممثلي المهزلة.
***
تحرك الستار الأزرق. انفتحت النافذة. انغلقت. وقع الستار الأزرق كأن يدا
بشرية استلته من القضيب الخشبي المعلق فيه, وأنزلته.
ماذا يحدث ؟ تساءلت البنات. تساءل الأب. تساءل الجميع.
نظرت الخيزران إلى أمها وتمتمت, إنها العاشرة. لكن أية عاشرة هي ! ما تعودنا على هذه العاشرة.
راحت أطرافها ترتجف. يدها اليسرى. رجلها اليسرى. يدها اليمنى. رجلها
اليمنى. بطنها. صدرها. كل جسدها. أزرورق وجهها. ازرورقت شفتاها. اسود بدنها. حاولت
أن تنهض وتسرع إلى غرفتها. وقعت. أسرعت الأم. أسرعت الأخوات.
باسم الله. باسم الله. أفسحن المجال يا بنات. أسرعي بقنينة العطر. المصحف.
هاك المصحف يا يمه.
واصلت التخبط. واصلت الازرقاق والاسوداد. عيناها تتسعان وينقلب بياضهما إلى
سواد وسوادهما إلى بياض.
باسم الله. باسم الله. أفسحن المجال يا بنات. أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم.
صبي ماء باردا على وجهها يا امرأة.
ضعي مفتاحا في يدها.
باسم الله. باسم الله. أفسحن المجال يا بنات.. احضر يا سيدي بولزمان, ونج
ابنتك من السوء والمكروه. لقد كنت وما تزال راعيها يا سيدي بولزمان.
ترتفع. تنزل. تتنفس بصعوبة بالغة. زبد أبيض يتطاير من فمها.
كانت السماء تسود. يد كبرى تلتقط النجوم واحدة فواحة وتضعها في البحر
فتنطفئ, بينما الأرض تستطيل وتتحول إلى ثعبان في طول مجرة يدخل جوفها, وينفث السم
لتهوي في فراغ يشبه دهليزا لا أول ولا آخر له ولا شمعة تضيئه.
البحار والمحيطات والآبار والمستنقعات يغلي ماؤها, يغلي فيرتفع إلى عنان
السماء, وينزل ثم يحمر. يصير دما يتجلط.
تنشق. الأرض تنشق, ينفتح فمها الذي يتحول إلى بطنها, فيخرج عفريت أحمر يتقد
نارا.
ينصب عليه.
هارون الرشيد يقهقه.
قفي عند رأسي شمعة منطفئة, لكي لا يلج أحدهم الضريح المدهلز.
ينطفئ النور. هاتوا الشمع يا بنات. أينكن ؟ يعود النور. يمد هارون الرشيد
يده, للشمس, يفرغها مما فيها. يقهقه : الصفر يصير صفرا.
تستيقظ. تتأمل أمها. تسأل عن الساعة.
العاشرة والنصف.
قتلوه, تقول. تدمع عيناها.
***
أيها الشهيد ! أيها الشاعر الشهيد ! أيها الوزير الشهيد ! أيها الشهيد الأول في تاريخ الجمهورية الإسلامية.
كان عمار بن ياسر يجلجل حانقا لا يدري أية عبارات يستعمل, وأي موقف يتخذ,
وأية جهة يتهم. قدمه إلى المجلس, واستعرض كفاءته العلمية, وعمق ثقافته, وماضيه
النضالي في الحركة الإسلامية, واقترحه وزيرا للفلاحة, فقبل الاقتراح بالإجماع
التام.
وهاهو مسجى جثة هامدة, ممزقا بالخناجر وبالرصاص, وسط جموع وحشود تملأ
المقبرة, وتهتف, لا إله إلا الله محمد رسول الله عليها نحيا وعليها نموت, وعليها
نلقى الله.
تقف عند رأسه فتاة طلبت إذنا خاصا بذلك. في الثانية والعشرين. وجهها غلامي.
عيناها المنتصبتان في طرفي الوجه تبدوان كأنهما لمومياء فرعونية, لنفرتيتي, أو
لكيليوباطرة, أو كأنهما لغزالة, لهما مضاء حاد ولهما تودد سخي. أنفها رقيق بفطسة
تتناسب تمام التناسب مع شكل الوجه الطويل, منخراه صغيران يروحان يهتزان كلما
تنفست, خنابتاهما ممتلئتان بعض الشيء فوق فم صغير رقيق الشفتين. ذقنها الدقيق
تزينه فلجة رقيقة, يضرب لونها إلى بياض وسمرة وزرقة, وذلك ما يجعلها تبدو, في
الوقت الواحد, آسيوية إفريقية. عليها جلباب أبيض, وخمار أسود. عيناها لا تفارقان
الجثة كأنما هي تقرأ صفحة من كتاب, أو تستمع إلى حديث هامس.
شاطئ ابن حسين
ثلاثاء 16
أغسطس 1994.