|
|
|
جريدة الاتحاد الاشتراكي العدد 578
"ما ميز القرن العشرين هو زعزعته لتراتبية الأجناس، فبعد أن كانت الرواية في القرن التاسع عشر أقل أهمية من الشعر والمسرح، استطاعت أن تستلهم الأجناس الأخرى، فاستفادت من النقد وتحديداته، من الشعر، من الموسيقى ومن الخطاب السياسي، وانفتحت على الأسطورة، في إطار الأزمة التي عصفت بالإنسان الأوربي مع بداية القرن، خصوصا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، فظهرت أعمال أدبية ثارت على القواعد والتقنيات وانفتحت على المهمش وأدخلت الحلم والرؤى والهلوسات فكان الأدب السريالي".
يعني هذا أن التجديد الأدبي، عموما مرتبط بالأزمة. ومن هذا المنطلق سنتناول رواية الطاهر الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي. لا يعني هذا أن الطاهر وطار لم يكن مجددا من قبل، لكن التجربة هنا تبلغ الذروة وتصل الثورة على المقاييس أوجها بكتابة ملحمة فنية رائعة كان وراءها الشأن الجزائري الملغز.
يصعب تحديد الحكاية المؤطرة لأحداث هذه الرواية، إذ تبدو شبه غائبة عبارة عن مجموعة من الصور والمشاهد المتراكمة والمبعثرة، تعرض للولي الطاهر في تفاعل مع المكان والزمان. فتبدو بمثابة علامات على أحداث مفاجئة، الأحداث التي أثرت على الكل وحيرت الجميع بالجزائر وخارج الجزائر، وأثرت على الولي الطاهر ودفعته إلى البحث عن مكان وزمان آخرين، فكانت الرواية وكانت الملحمة كما أكد على ذلك وطار.
1)تجريد المكان:
نلاحظ أن الطاهر وطار اختار فضاء جديدا، باختيار مكان منقطع عن العالم ومتصل به في الآن ذاته، فضاء مفتوح بالرغم من انعزاليته، فضاء عتبة لحصول بعض الأشياء الغريبة المستغلقة على الفهم، أحداث غير خاضعة لأي منطق.
ويبدو المكان تجريديا حلميا بعيدا عن الواقع، لا يخضع للقوانين الجغرافية الصارمة، بل يتجاوزها، مكان تلغز فيه الجهات، مكان منقطع، "توقفت العضباء فوق التلة الرملية، عند الزيتونة الفريدة، في هذا الفيف كله، قبالة المقام الزكي المنتصب ها هناك على بعد ميل" (ص16) ليغدو فضاء أسطوريا بتأثيثه الغريب، ثابت ومتحول في الآن ذاته "راعه أن القصور تضاعفت على مد بصره، تتصاقب في دائرة متساوية الأبعاد، كما رأى أن الصومعة العالية، التي ترك بها مقامه الزكي، اختفت من جميعها" (ص19)، أكثر من ذلك، فالتحول والتبدل يتعلقان بالبصر، ما يتراءى للولي الطاهر أثناء عودته إلى مقامه، أو أنهما من كراماته باعتباره وليا، فيبدو المكان شبه سرابي، المسافة إليه غير محدودة، تبعد كلما اقترب منه، لا حيز له تفقد الاتجاهات فيه قيمتها الجغرافية: "غير أن الاتجاهات الأربعة فقدت قيمتها الجغرافية كما فقدت مدلولاتها" (ص22) مكان مهجور (فيف) تم اختياره هروبا من الوباء الذي عم المسلمين، فهرب معظمهم إليه كمحاولة للتجديد والبعث بعث نسل جديد.
نعرف أن الفيف مكان للجن..، وفي الرواية تفقد فيه الشخوص هويتها ويصبح الإنسان جنيا ويصبح الجن إنسانا. مكان لا يقدر على إنتاجه سوى الحلم، مكان تتساوى فيه القيم، الرقص الصوفي مع الغناء والحضرة الصوفية مع الزقاق أو العرس.
ورغم عزلة المكان فهو متصل بالواقع مما يزيد غرابته، حيث يصل إليه الوباء، لتشمل الخطيئة كل مكان، إن الفيف وبما يحمله من دلالات لغوية يشير إلى الواقع الذي ينعدم فيه الأمن، بمثابة سلة للمهملات يتصفح الولي الطاهر محتوياتها، (ص123) وليكشف من خلالها عن تناقضات الواقع، واقع سفك الدماء، ليغدو أرشيفا لما يجري من أحداث غير مفهومة، هكذا وعن طريق الفيف يتحول الواقع إلى نقيضه إلى أسطورة أو إلى ملحمة تظهر الواقع في حالته العادية وقد تأسطر، حيث تفقد فيه قيمتها وحقيقتها، ويتم تنسيب كل شيء بلغة ورؤية حليمتين، كل ذلك الإنتاج ملحمة تودي بكل شيء وأي شيء ملحمة جماعية يشارك فيها الكل ولا يعرف من ضد من.
2)الزمان كغيبوبة:
من خلال فكرة الابتعاد عن الوباء، وعن الواقع والسمو والتعالي أو التحليق بالخروج عن الزمن، يصبح الزمن زمنا صوفيا، ويتم إلغاء الزمن بالمعنى الأرسطي، فزمن الولي الطاهر متوقف وثابت: الشمس ثابتة في السماء والظل كذلك، مما سبب بلبلة للشخوص وجعلها تطرح مجموعة أسئلة، إنه زمن قيامي (نسبة إلى القيامة) "النهار مثل مقامي الزكي يتضاعف، بتوقف الميقات، ولا شك أن الليل سينتظر ألف سنة مما يعدون" (ص20)، إنه زمان صوفي يتعالى على كل الأبعاد "خف الإيقاع، ولم يكن هناك لا نور ولا ظلمة، لا بياض ولا سواد، الأعين مغمضة، والأيادي كما الصدور تعلو وتنخفض، والأرجل حافية تضرب فوق الرمل الصامت الذي لا يسمح لغباره بالابتعاد عنه كثيرا" (ص39)، هكذا يبدو التاريخ زمنا واحدا ذا بعد واحد لمن فيه ماض ولا حاضر ولا مستقبل، حضرة إذ تصير الشخوص شخصية واحدة وحوادث التاريخ حوادث واحدة، وما جرى وما يجري وما سيجري شيء واحد. وتتساءل الرواية عن بعض الأحداث التي سكت عنها التاريخ، كقتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة ولزوجه من زوجته أم متمم، وكيف اختلف في الأمر خليفتان (عمر وأبوبكر) لاشك في نزاهتهما، تجيب الرواية بأن التاريخ بأكمله هو تاريخ هذه الحادثة التي تمثل الخطيئة، فكل الشخوص أم متمم وكلهم مالك بن نويرة.
يتوقف الزمن، إذن، ليفسح المجال للقتل والذبح، ليتعرف ويظهر كل شيء، تظهر أحداث التاريخ متجاوزة وأليفة ومألوفة كأقدار يجب الخضوع لها، أفعال تجري منذ الأزل بفعل القدر.
3)الشخوص كحالات:
إذا كان الزمن ذا بعد واحد، فالشخصية حالة تعيش حالات متعددة (شخصيات متعددة متباعدة في الزمن)، تخترق جميع الأزمنة والأمكنة لا تستقر، كثيرة الحركة، دائمة السير وخصوصا الولي الطاهر وعضبائه، سير لا متناهي بدون جدوى: "الوجهة هي القصر المفترض إنه المقام الزكي، ورغم أن المسافة بين التلة وبينه لا تتعدى الميل الواحد، إلا أن السير طال، انقضى ما يزيد عن الثلاث ساعات، والمسافة هي، هي ] …[، أحيانا يهيأ أن القصر هاهنا قبالتي وأحيانا يبدو أنه على مسافة لا تتعدى الميل، مهما يكن، الوصول لا بد منه والحي يروح"، (ص23) يبدو أن هذا السير متوقف، يبقى المكان هو، هو، وكأنه سير أبدي تجوب هذا الفيف مئات السنين، فلا تعثر عن طريقك، ويوم تعثر عنه، تبدأ من البداية" (ص105).
تتغير المقاييس الزمانية والمكانية فتصبح الشخصية شخوصا مختلفة تنتقل عبر الأزمنة والأمكنة، تعيش الماضي والحاضر، فالولي الطاهر له شخصية الولي، وفي بعض الأحيان يصبح هو مالك بن نويرة بل أكثر من ذلك يصبح كل المريدين بالمقام الزكي مالك بن نويرة، والمريدات أم متمم: "كل الإناث أم متمم، كل الذكور مالك بن نويرة" (ص70)، نتيجة وصول الوباء أو السبهلة إلى المقام الزكي، لتصير الشخوص مكررة لنفسها عبر التاريخ، تعيش الماضي والحاضر، وتغيب الحدود بين الزمنين، أكثر من ذلك يحل الولي الطاهر مقاتلا في عرس الدم بالجزائر (ص32)، بالحلم وهلوساته وعبر الكرامات يخترق الولي الطاهر كل شيء.
تبقى الشخصية بهذه الصفات ملغزة وهاربة لا يمكن القبض عليها بسهولة، لأنها شخصية أسطورية دائمة السير والبحث متسائلة أسئلة كبرى، لها كرامات وخوارق تحاول أن تقدم تغييرا لما يجري.
4)أسطرة الواقع:
إن الخصائص التي تميز المكان والزمان والشخصية، كما رأينا، لا تتناسب إلا مع الأسطورة التي تحاول إيجاد تفسير لما يجري مجيبة عن بعض الأسئلة الكبرى، التي تطرح على الإنسان، أسئلة لا جواب لها، من قبيل السؤال الذي يطرحه الولي الطاهر. لكن من معي؟ مع من أحارب؟ ثم من أحارب؟" (ص98) وهناك سؤال آخر إلام سينتهي العرس الهجين في هذا المجتمع الهجين؟" بلغة ساخرة متسائلة مستنكرة، عن واقع الأحداث بالجزائر، أحداث لا يقبلها إلا الحلم، الذي يخيم على الواقع وبذلك تكون الرواية قادرة على استيعاب هذا الواقع المؤسطر بصراعه المتنامي، الصراع من أجل البقاء.
يوظف وطار بعض الأساطير كأسطورة البعث من جديد بعدما أصاب الوباء الناس أنت بدورك تتوق إلى نسل جديد، محصن ضد الوباء، ينشأ على إسلام صاف"، (ص78)، بالابتعاد عن الوباء إلى المقام الزكي وهذا يذكرنا بفكرة هروب الأنبياء بأقوامهم نجاة من أعدائهم الكفار، لكن مع الولي الطاهر الأمر مختلف إذ سيجثم الواقع على المقام الزكي وسيهجم عليه، أثناء غياب الولي الطاهر، غياب لم يدره ولم يع به ولم يعرف أين كان غائبا، فيعود إلى مقامه ويقوم بعملية حفر، ليكتشف أن المقام تلوث، وصله الوباء، التقتيل والتذبيح ليعمل على انتشال الجثث والجماجم والبقايا بقايا الزمن من المعطوب زمن العرس الذي طال، هكذا تحضر الأسطورة من خلال عنصرين.
- محاولة إيجاد تفسير للعالم والعلاقات والأشياء، وإيجاد معنى لما يحدث.
- احتراق الزمن العادي والمألوف، من خلال تداخل الأزمنة وتداخل الطبيعي مع الفوق طبيعي.
إنها محاولة لأسطرة الواقع، عبر العلم، وبالواقع نفسه، كطريقة جديدة في تناول الأزمة، بنسج مكان غريب متحيز، وزمان خارج الزمن كلحظة عدم أو غيبوبة بلغة هايدجر، تبيحها الحضرة الصوفية وشخصية دائمة السير والبحث.
![]() |
(*) الطاهر وطار: 2000، الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي، روايات الزمن، منشورات الزمن، الرباط.
زيارات
visites
منذdepuis le13/04/2001