العودة المستحيلة
في رواية "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي" للطاهر وطار
د. أحمد منور *
تحمل هذه الرواية الرقم 9 في مجمل أعمال الطاهر وطار الروائية ، ويلفت نظرنا فيها ، منذ اللحظة الأولى هذا العنوان الطويل والغريب بعض الشيء : " الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي "، ويذكرنا مباشرة بفكرة العودة في مجموعة الكاتب القصصية "الشهداء يعودون هذا الأسبوع" (التي صدرت سنة 1974) ، كما يحيلنا العنوان على أجواء الأولياء وعوالم الصوفية ، ومن هنا تكتسي فكرة العودة دلالة خاصة في هذا العمل، كما تأخذ الأجواء الصوفية بعدا روحيا غير عادي .
حقا ، إننا إذا حاولنا أن نربط بين دلالة العودة في مجموعة "الشهداء يعودون هذا الأسبوع "، ودلالتها في رواية "الولي الطاهر .." فإننا نجد بالفعل قاسما مشتركا ، بحيث أن فكرة العودة في كلا الحالين تتخذ معنى رمزيا ، يحمل طيه معنى العودة إلى الأصل ، أو المنطلق الأول ، أي المبادئ والقيم التي قامت عليها ثورة التحرير (في مجموعة"الشهداء..") ، أو القيم الروحية الصافية للإسلام في عهده الأول (كما هو الحال في رواية "الولي الطاهر" ) ، ومن هنا تأخذ العودة في كلا العملين معنى الملجأ أو الملاذ الذي يحتمي به الإنسان حين تختلط الأمور ، وتقع الانحرافات ، وتغيَّب الحقيقة ، ويدنس المقدس .
غير أنه لا يفوتنا أن نوضح هنا أن فكرة العودة لا تمثل الموقف الفكري للمؤلف نفسه، ولكنها تقرر واقع حال شخصيات الرواية ، وهذا ما قاله في المقدمة بشكل مباشر "إنها حالة يقرأ بها الفنان التاريخ" (ص9) ، كما قاله بشكل غير مباشر في إهداء الرواية إلى المفكرين العربيين حسين مروة ومحمود أمين العالم ، وخاطبهما بقوله : (( قد نتحايل على النهر فنحصر ماءه ، وإن في بركة ، ونستحم فيه مرتين، ولكن لن نستطيع الاستضاءة بنور الشمعة الواحدة مرتين)) ، فهذا القول يحمل نقدا واضحا لفكرة العودة ، سواء بالنسبة لليسار الذي يفسر انهيار الحلم الشيوعي بالأخطاء التاريخية التي ارتكبها قادة الاتحاد السوفياتي السابق ، ومازال يداعب مشاعرهم أمل في إمكانية العودة إلى الحلم من جديد ، وذلك بنقد الذات ، وتجاوز أخطاء الماضي ، أو بالنسبة للحركة السلفية الإسلامية التي ترى بدورها أن ضعف المسلمين اليوم يعود إلى ابتعادهم عن نبع الإسلام الصافي، في عهده الأول ، وأنهم لن ينهضوا من جديد إلا بالرجوع إلى ذلك النبع ، وهو ما لخصه الشيخ عبد الحميد بن باديس ، الذي كان يقود الحركة الإصلاحية الدينية في الجزائر في سنوات الثلاثينيات ، في شعار "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها". ولعلنا بهذا التحديد نكون قد وضعنا أيدينا على المفتاح الرئيسي لفهم هذا العمل الروائي وتأويله، سواء من الناحية الفكرية أو من الناحية الفنية .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الرواية هي الرابعة بالنسبة للكاتب التي يتناول فيها ظاهرة "الإسلام السياسي" ، بعد رواياته "عرس بغل " (1975) و "العشق والموت في الزمن الحراشي" 1978 ، و "الشمعة والدهاليز" (1995) ، بحيث تعكس كل رواية مرحلة من مراحل تطور الظاهرة في الجزائر ، أي من مرحلة الإعداد في سنوات السبعينيات التي برزت فيها الحركة الإسلامية كقوة سياسية نشطة تعمل في الخفاء ، وتعارض التوجه الاشتراكي للرئيس بومدين ، وهذا ما عبرت عنه رواية "العشق والموت.." إلى مرحلة العلن أثناء حكم الشاذلي ، حيث أصبحت قوة سياسية مهيمنة ، ولا سيما بعد سنة 1988، وهذا ما عكسته رواية "الشمعة والدهاليز " ، إلى المرحلة الأخيرة التي أعقبت الانتخابات البرلمانية في 26 ديسمبر 1991 ، التي أدى إلغاؤها إلى حالة انسداد سياسي كلي ، وإلى المواجهة المسلحة ، وهو ما عبرت عنه "الشمعة والدهاليز" ، والرواية الأخيرة "الولي الطاهر ..".
وعليه فإن رواية "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي " ، تتناول أحداث العنف السياسي الذي عاشته الجزائر طوال السنوات السبع الماضية ، وبالخصوص في المرحلة الأخيرة ، حيث نجد إشارات واضحة في الرواية على سبيل المثال إلى المفاوضات التي جرت بين الجيش الوطني الشعبي والجيش الإسلامي للإنقاذ (الصفحات 125، 127) .
غير أن الرواية لا تقف في معالجة الظاهرة عند حدود الجزائر وحدها، وهذه ميزة مهمة فيها ، لأن الكاتب لا ينظر فيها إلى الأمور نظرة مجزأة ، ولا يعالج المسألة بمعزل عن الإسلام السياسي في البلاد العربية الأخرى ، والإسلامية بصفة عامة ، إذ يتناول ، حسب ما جاء في المقدمة التي كتبها المؤلف لروايته ((حركة النهضة الإسلامية بكل تجاربها ، وبكل اتجاهاتها وأساليبها )) (ص8) ، بدء من حركة محمد بن الوهاب ، التي ينظر إليها الكاتب على أنها بداية حركة الإسلام السياسي في العصر الحديث ، وهي الحركة التي اتخذت من اجتهاد بن حنبل وفتاوى بن تيمية الأساس الذي تقوم عليه دعوتها في محاربة الخرافات والبدع (ص65) ، وانتهاء بالحركات المتشددة في العصر الحاضر التي أدى بها التشدد إلى محاربتة الفكر والمفكرين ، وهذا ما يستنتج من حادثة محاولة اغتيال نجيب محفوظ التي يتعرض إليها المؤلف في ثنايا الرواية ، ويحاول من خلالها أن يستبطن بكل براعة نفسية القاتل ، وأن يبين ، عبر حوار داخلي مركز بين القاتل ونفسه ، الدوافع التي جعلته يقدم على فعلته الشنعاء ، فقد استحق الكاتب الكبير القتل في نظره لأنه كما يصفه ((قرأ الفلسفة ، وسكنه من سكن السهروردي ، فعاد إلى كتبه الأولى يبحث عن جذور الوثنية في تجاويف الوديان والأهرامات ، ثم سوى بين الإخوان المسلمين والملاحدة والشيوعيين ، وراح يستنطقهم في أعمال كثيرة ، ثم سجن الله في حارته ، وجعل الأنبياء فتوة العهود المتخلفة . فهمه النصارى واليهود فكافؤوه ليكون رمزا وقدوة ونصبا لمخنا الفاسد)) (ص56) .
وتأتي مجازر أولاد علال والرايس وبن طلحة في سياق هذا المنطق الغريب الذي يبيح قتل الأبرياء بدون تمييز ، فيخصها المؤلف بعدة صفحات يصور فيها مشاهد فظيعة لعمليات القتل البشع التي تعرض لها سكان تلك الأحياء والقرى من قطع الرؤوس ، وبقر البطون ، وحرق الأطفال والنساء والشيوخ أحياء ، مقدما وصفا في غاية الدقة ، أشبه ما يكون بكاميرا تجوب الشوارع وتصور كل تلك الفظاعة تصويرا حيا (الصفحات من 97 إلى 106) .
ويتضمن هذا الوصف ، بالإضافة إلى إظهار مدى الوحشية التي يمكن أن يصل إليها الإنسان ، نقدا شديدا للحركات الإسلامية المتشددة التي يرى أنها لا تقدم الحلول لمشكلات الفقر والتخلف ، والآفات الاجتماعية ، وإنما تقدم القتل كبديل (في حديث لجريدة الخبر بتاريخ 14 سبتمبر 99) ، ولا تقدم للجماهير في أحسن الأحوال إلا نموذج العودة إلى سيرة السلف الصالح ، التي لا تغري الناس ـ حسب تعبيره ـ بترك ما في أيديهم واتباع ما هو غائب عنهم ، وغير ملموس .
ولا يكتفي المؤلف بالواقع المعاصر للعرب والمسلمين ، ولكنه يعود أيضا إلى التاريخ يستنطقه ، ويعود إلى حرب الردة في عهد الخليفة الراشد أبي بكر الصديق ، ليتخذ من حادثة مقتل مالك بن نويرة الأسدي على يد خالد بن الوليد ، منطلقا لمعالجة معضلة "الديني والسياسي" في الإسلام ، ويقدم حادثة مقتل ابن نويرة على أنها ـ فيما يبدو أول قتل في الإسلام باسم الإسلام ـ ومن ثمة يطرح إشكالية كبيرة ظلت قائمة منذ عهد الخلفاء الراشدين ، ألا وهي إشكالية تكفير الخصم المسلم ، واستباحة دمه باسم الدين ، ويسوق المؤلف كمثال على ذلك اختلاف أبي بكر وعمر في النظر إلى المسألة ، فقد رأى أبو بكر أن خالد بن الوليد قد "اجتهد" في حكمه على بن نويرة ، في حين خالفه عمر في ذلك ، ورأى أن خالدا قد أخطأ ويجب إقامة الحد عليه (ص48).
ويبدو الكاتب ميالا إلى وجهة نظر الفاروق ، ويمكن الاستناد في هذا إلى مسألة تباين وجهتي نظر أبي بكر وعمر (ض) في حد ذاتها حول ما فعله خالد ، كما يمكن الاستناد أيضا إلى التساؤل الذي جاء على لسان "بعضهم" (بدون تحديد من قبل الكاتب ) وهو : كيف يكون مشكوكا في إسلام بن نويرة وقد حظي بثقة الرسول (ص) ((فبعثه من جملة المصدقين من العرب ، عكرمة ، وحامية بن سبيع الأسدي ، والضحاك بن أبي سفيان، وعدي بن حاتم ، وغيرهم ، وهم صحابة عليهم رضوان الله)) (ص47) ، ومن هنا يطرح هؤلاء "بعضهم" تساؤلهم في صيغة إشكالية هي : هل يمكن الشك في إسلام مالك إلى درجة قتله ؟ (ص48) .
ولا يسعنا المجال هنا لكي نتطرق إلى التفاصيل المتعلقة بالولي الطاهر نفسه ، وبمقامه الزكي الذي يشكل المعمار الفني للرواية ، ولكن لا بد من الإشارة إلى الفتنة التي حدثت في المقام بين مريدي الولي الطاهر من الذكور ، الذين ادعى كل واحد منهم أنه مالك بن نويرة ، والإناث اللائي ادعت كل واحدة منهن أنها أم متمم زوجة بن نويرة ، وكان سبب هذه البلبلة التي حدثت هي "بلارة" ، التي يسميها المؤلف "الفتنة الأمازيغية" (ص118) ، وهي ترمز إلى الجزائر ، هذه الفتنة التي لم ينج منها حتى الولي الطاهر نفسه ، حيث أنها أغوته بسحر جمالها ، وعرضت عليه الحلول والاتحاد بالمعنى الروحي (الصوفي) ، وبالمعنى الجسدي ((آملة في نسل جديد يجسد كل الناس))، ولكن الولي تجاهل تحذيراتها المتكررة له : ((أحذرك يا مولاي من سفك دمي ، ستلحقك بلوى حز الرؤوس ، وخنق الأطفال والعجائز والعجزة ، وحرق الأحياء )) ص93 . ومنذ اللحظة التي امتدت فيها يداه لينتزع منها أقراطها ، وينتزع معهما قطعا من لحم أذنيها ، دخل الولي الطاهر في غيبوبة طويلة لم يصح منها إلا بعد امتحان عسير ، شاهد فيه كل ما حذرته منه بلارة . وحينما استعاد وعيه وجد بلارة إلى جانبه وقد تحولت إلى أتان مقطوعة أطراف الأذنين ، ومن هنا جاءت تسمية المؤلف لها بـ" العضباء "، حيث اتخذ منها "مولانا" الولي مطية يتنقل بها من مكان إلى آخر .
من جهة أخرى ، يمكن القول أن الكاتب يربط بشكل ما بين الإسلام السياسي في الجزائر والدعوة البربرية ممثلة في شخصية "بلارة "، وهي الدعوة التي اتخذت بدورها أبعادا سياسية لا تقل في حجمها عن أبعاد الظاهرة الإسلامية ، ولكن محاولة الكشف عن هذه العلاقة ، إن صح تأويلنا ، تحتاج إلى تأمل أطول ، ولا نريد أن أغامر هنا بمحاولة الدخول في متاهات قد لا نصل من ورائها إلى شيء ، ولذلك أكتفي بالقول بأنه ، لكي ندرس هذه الرواية دراسة عميقة فلابد لنا من إعادة قراءة أعمال المؤلف الأخرى التي ترصد الظاهرة الإسلامية في المراحل التي سبق أن أشرنا إليها ، لا سيما أن هناك إشارات وردت في ثنايا الروايات السابقة ، كانت قد لمَّحت إلى الإشكاليات التي طرحها الكاتب في أعماله اللاحقة ، ومنها على سبيل المثال إشارة إلى حادثة مقتل بن نويرة وردت في رواية "الشمعة والدهاليز "، ولدراسة الرواية فنيا ، لابد من العودة أيضا إلى تلك الأعمال ـ بالرغم من أن المؤلف يحذرنا من عدم جدوى العودة إلى ما فات ـ ومقارنة شخصياتها الأسطورية بعضها ببعض، ولا سيما شخصية " اللاز " في رواية "العشق والموت في الزمن الحراشي " الذي يتحول هو الآخر إلى ولي صالح ، وشخصية علي الحوات في "الحوات والقصر " ، وشخصية "الحاج كيان " في "عرس بغل " ، مع شخصية "الولي الطاهر " في هذه الرواية الأخيرة ، وذلك على مختلف المستويات ، اللغوية ، والأسلوبية ، والرمزية ، مع العناية على الخصوص بمسألة استعمال الخطاب الديني في العمل الفني ، إلخ . وبالطبع ، فإن إجراء مثل هذه الدراسة المقارنة هو الذي سيمكننا من فهم أعمق لمجمل أعمال الكاتب ، وتذوق أفضل لما تنطوي عليه من لطائف فنية ، ومزايا جمالية بوجه عام .
* كاتب وأستاذ جامعي جزائري
***