قراءة لموضوع : الثورة الزراعية

قراءة لموضوع :  الثورة الزراعية

في روايتي الزلزال والعشق والموت في الزمن الحراشي

الطاهر وطار: من الواقعية النقدية إلى نموذج عربي" الواقعية الاشتراكية"

 

بقلم : تيسير نظمي

 

    الطاهر وطار، كاتب جزائري ، سبق وان قدم ملحق" الهدف قراءة اولى لرواتين من رواياته هما"اللاز" و" عرس بغل" .

الاولى تناولت الجزائر والثورة الجزائرية، في السنوات القليلة السابقة للاستقلال، والثانية جانبا من حياة المجتمع الجزائري بعد الاستقلال وفي هذا المقال عودة لموضوع يعتبر من ابرز الموضوعات الملحة وهو" الثورة الزراعية" التي تأجل الاعلان عن ميثاقها منذ الاستقلال عام1962 حتى عام 1971. وحول هذا الموضوع يقدم ابرز كاتب في المغرب العربي روايتيه" الزلزال" و" العشق والموت في الزمن الحراشي".

 

الزلزال

   بو الارواح، بطل هذه الرواية، احد ملاك الاراضي المتضررين من الاعلان عن ميثاق الثورة الزراعية عام 1971. ما ان سمع بخبر ان الحكومة ستوزع الاراضي على الفلاحين حتى عاجل بالبحث عن اقاربه ومعارفه ليكتب اراضيه بأسمائهم شريطة عدم حيازتهم لها الا بعد وفاته. وذلك تهربا من مباديء وبنود الثورة الزراعية التي كانت ضد مصالح فئة قليلة من كبار ملاك الاراضي ولمصلحة الغالبية العظمى من الفلاحين المعدمين، الذين لا يمتلكون اراضا يفلحونها. بو الارواح، الذي كان خارج الجزائر طيلة سنين الثورة والذي لم يشارك في الثورة، والذي حاز على معظم الاراضي بطرق مشروعة ايام الاحتلال الفرنسي وبطرق غير مشروعة ترتعد فرائضه، ويتمنى ان يلتهم زلزال ماحق الجزائر المستقلة وما عليها من" رعاع" يريدون مشاركته في ارضه! وهؤلاء"الرعاع" لم يكونوا سوى الفلاحين الجزائريين والفقراء الذين ناضلوا عشرات السنين ضد المستعمر الفرنسي، بدءا من الانتفاضة الوطنية بقيادة عبد القادر الجزائري عام 1830، ومرورا بالانتفاضات الفلاحية المتتالية عام 1971 وبروز الطبقة الفلاحية كقوة نضالية وسياسية هامة واصلت النضال مع الأحزاب الوطنية والحركة العمالية الحضرية إلى أن نالت الجزائر استقلالها عام 1962، ولم يبق بعد ذلك إلا أن ينال الفلاح حقه في وطنه المستقل. لكن بو الارواح يترجم على أيام الفرنسيين(!) وبمقدار ساحة اراضيه التي يمتلكها ولا يفلحها، حيث يعمل مديرا لاحدى المدارس الثانوية بالعاصمة، تمتلىء نفسه بالحقد والكراهية للمواطن الجزائري وللمدينة الجزائرية، التي انتلأت "بالرعاع" بعد ان كانت هادئة بشكل ملفت للنظر تنطلق منها العطور والحسان الاوروبيات والاسرائيليات كالحوريات يمتلأن الشوارع بهجة وحبورا"!" والصخرة التي تقف عليها مدينة قسنطينة يتمنى لها بو الارواح ان تتحرك"فتذوب بمن عليها فلا تجد الحكومة لمن تعطي الارض".

الواقعية النقدية

   تنتمي رواية"الزلزال" فنيا لروايات الواقعية، لتقدية، ونرسم شخصية حية لبطلها في حرككته،تجواله، ردود فعله، فأبو الارواح حاضر في كل صفحة. حاقد في كل خلجة من خلجاته. ينتمي ذهنيا لثقافة كان لها محتواها الثوري ضد المستعمر الاجنبي عندما نظم رجال الدين وبعض المفكرون عام 1930 انفسهم بقيادة عبد الحميد بن باديس تحت شعار" الاسلام ديني، والعربية لغتي، والجزائر وطني" وينتمي بو الارواح اجتماعيا واقتصاديا للبورجوازية المدينية- وملاك الاراضي، وكل من يقفون في صف العداء تجاه قوى التحرر الاجتماعي والتحول نحو مجتمع اشتراكي بثورة زراعية، اما هذا"الزلزال" بمعناه الوطني يعود بو الارواح الى الاولياء والصالحين(!).." ان يتطاول الحفاة العراة، رعاة الشاة في البنيان، وان تلد الامة ربتها. ان ينقلب الاسفل على الاعلى،وان لا يبقى هناك اسفل واعلى، فتلك علامة قيام الساعة. وها هي تحل..ان زلزلة الساعة شيء عظيم".

بو الارواح مقنع، بل شخصية تتمتع بملامح حية كما قدمه الطاهر وطار،وكما سبق له ولن ارتقى في روايته"اللاز" باللاز الشخصية الواقعية الى الرمز للشعب الجزائري برمته، فانه في"الزلزال" يرتقي بشخصية"بو الارواح" الى الرمز للقوى المعادية لمستقبل الجزائر وشعبها وكل ذلك بعد أن يستكمل تقديم الشخصية بشروطها وملامحها الواقعية التي تكاد تكون مع بطل"الزلزال" في نظرنا، شبه خرافية أو اسطورة.

   فالواقعية النقدية في"الزلزال" تبدو في اروع تجلياتها كمنهج فني، ربما يفوق اخفاقات الاقتراب من" الواقعية الاشتراكية" كمنهج فني في رواية" العشق والموت في الزمن الحراشي"

 

امتداد" بو الارواح"

  في نهاية"الزلزال"نلقي الشرطة الجزائرية القبض على بو الارواح قبل ان ينتحر.وفي"عرس البغل" ينتهي خريج جامع الزيتونة في ماخور، والمصلح الديني في مقبرة يتعاطى الحشيش، غير ان القوى المعادية، والمعرقلة لتقدم الجزائر تجد في كل فترة مخارجها الخاصة وامتداداتها،ففي رواية"العشق والموت في الزمن الحراشي" تقف شخصية الطالب الجامعي مصطفي كرمز ودلالة على هذه القوى التي يمثلها سي منصور"همه في ادارة الضرائب التي يشرف عليها ان يتحايل على ان لا يدفع الاغنياءالضرائب.. لانه يأخذ عليهم الرشى. استطاع وهو الموظف العادي ان يبني قصرا لا يضاهيه سوى مقر الدائرة بالمدينة، وترشخ لانتخابات القسمة وفاز قبل حمو المجاهد،اعتمد على العروشية على المسؤولية السياسية الوحيدة في القرية".

   هذا هو سي منصور، اما الطالب الجامعي مصطفي فكل همه ان  يخرب على الطلبة المتطوعين لتنفيذ برامج الثورة الزراعية،فيعمل مع طلبة مضللين لمصلحة شخصيات وقوى خارج الجامعة، لدرجة انه أراد حرق وجه جميلة المناضلة بالحامض(!) لتشويهها حيث يعتبرها من أعوان إبليس(!).

*   *   *

   " العشق والموت في الزمن الحراشي" روايته من طراز جديد بين روايات الكاتب بطولتها مسندة لطالبلت جامعيات يشاركن في الثورة الزراعية كمتوعات. جميلة،و ثريا، وفاطمة، ودليلة وسهيلة واليامنة و لطلاب جامعيين وهي الكتاب الثاني من رواية" الزلزال".... فاللاز وحمو والربيعي وبعطوش وغيرهم من شخوص رواية ما قبل الاستقلال تتابع ما الت اليه احوالهم في جزائر ما بعد الاستقلال من خلال صفحات هذه الرواية... ومن البطولة الفردية في رواياته السابقة يخطو الطاهر وطار نحو بطولة الجموع. ومن الواقعية النقدية نحو الاقتراب من " الواقعية الاشتراكية"

*  *   *

في كتابة"تاريخ الجزائر الحديث" يذكر المؤلف الدكتور عبد القادر جغلول ان الطلاب" كانوا من اول من تصدر طريق الريف واخذو يفسرون ميثاق الثورة الزراعية ويبررون تضليل كبار الملاكين العقاريين ويبينون" الخطوط العريضة"، مفسرين ضرورة التعاونيات والاتحادات الفلاحية. كما لم تكن الطبقة العاملة غائبة عن حركات التطوع: تطوع الجماهير والمشاركة في بناء القرى الزراعية وتنظيم التعاونيات. فساعدت الطبقة العاملة ماديا المستفيدين واطلعتهم على تجربتها في تنظيم".

*   *   *

   غير أن هذا ليس مبررا كافيا لغياب الفلاحين تقريبا عن الرواية، و حضور الطلبة،الذي هو حضور للمثقفين وغياب للجموع التي جاء من اجلها ميثاق الثورة الزراعية. حتى حضور اللاز،جاء في الكتاب الثاني باهتا، وبعد ان كان في الجزء الاول وايام الثورة بطلا يجمع بين الواقع و الرمز،جاء في الجزء الثاني كما لو انه ولي،من الاولياء، او معتوها من معتوهي القرى، انه لم يصح من الصدمة بعد(!) منذ ان شاهد ذبح ابيه زيدان من قفاه على يد مجاهد من مجاهدي الثورة قبل الاستقلال وحتى تمر تسع سنوات على الاستقلال،يبقى اللاز غائبا عن الوعي، لا يفيق من الصدمة الا عندما يوشك المشهد المأساوي ان يتكرر، وهو فعلا تكرر عندما هجم مصطفى على جميلة يحمل الحامض لتشوية وجهها...! هنا تكرر الصدمة فيتذكر اللاز ما حصل لابيه زيدان، والذي كاد ان يحصل لجميلة، فيستيقظ ليواصل خوض المعركة، مع الرجعية المحلية،ويبدأ بالاستفسار عن ما حدث طيلة السنوات التي قضاها غائبا عن وعيه، وكأنما استعاد الشعب الجزائري وعيه،بأن النضال ضد المستعمر- العدو القومى- انتهى وان النضال ضد العدو الامبريالي والرجعي قد بدأ، ولا بد من ان يحسم.

في الصفحة 35 من الرواية نقرأ: " ترددوا كثيرا فبل ان يسجلوا انفسهم في قوائم المستفيدين من الثورة الزراعية. لقد راجت الريف الجزائري بسرعة فائقة بعض الفتاوي الدينية مفادها ان الاستفادة من الارض حرام، ذلك ان هذه الارض مستولى عليها بالقوة، وهي عند الله شاء العبد لم ابى،ملك لاصحابها الاصليين، ثمرتها حرام والاستفادة بها كفر" وفي الصفحة التالية نقرأ التالي:

   "ثم ان السلطات المعنية بتسجيل الرغبين في الارض نفسها. كثيرا ما تقوم عائقا هاما في ذلك.ولا غرابة فمعظم الموظفين في البلديات والدوائر، هم ملاكون عقاريون،او من منبت اقطاعي. تبدأ الصعوبة اولا وقبل كل شيء في التسجيل. عد مرة اخرى. الموظف المختص ليس هنا. لا انت لا تستحق الاستفادة،فقد بلغنا انك تملك عنزة،نحدذرك من الان. ان السكن منعدم، وان الاجر لا يتعدى.. وهناك مسجلون كثيرون قبلك فعليك بالصبر الطويل".

*   *  *

   مثل تلك المباشر مع الميل المستمر للتجيليله،خلخلا بنية الرواية، التي تحاول ان تصل الى مستوى الرمز. وجه جميلة المناضلة، انما هو وجه الجزائر،وصحوة اللاز، انما هي صحوة الشعب الجزائري، والاقتراب خطوات من "الواقعية الاشتراكية" رغم اخفاقات الخطوة الاولى، هو اقتراب لادب المستقبل، فالطاهر وطار اليوم،وهو الكاتب الجزائري الذي يكتب بالعربية،ليس مالك حداد الثورة الجزائرية، الذي كتب بالفرنسية محروما من لغته العربية، ولا كاتب ياسين ولا غيرهم،انه واحد من ابرز الروائيين العرب الذين عرفهم القارىء العربي في سبعينيات هذا القرن له ما يميزه من الكتاب العرب في اسلوبه ووعيه الفني بشكل الرواية الذي كان حكرا على فئة معينة من الروائيين العرب، مثل نجيب محفوظ، وجبرا ابراهيم جبرا... وغيرهم فالطاهر وطار اسم يعرفه القارىء العربي اليوم في وقت عرف به اسماء اخرى من كتاب الرواية العربية الجديدة، صنع الله ابراهيم وجمال الغيطاني في مصر وغائب طعمة فرمان من العراق واميل حبيب من فلسطين، واسماء كثيرة اخرى ما يزال القارىء العربي يجهلها.

الوطن الكويتية 6/10/1981