الأبعاد الحضارية في رواية الزلزال للطاهر وطار

الأبعاد الحضارية في رواية الزلزال للطاهر وطار

إعداد : وزاني مبارك

الجيش عدد 254 – ماي 1985

 

علمنا التاريخ بأن الإنسان على امتداد كينونته كان في صراع دائم ولا يزال... تصارع مع الطبيعة ومع الكوارث والمرض ومع نفسه وغيره... وقد كبر هذا الصراع فغدا تطاحنا بين الإمبراطوريات والقوميات والأديان والحضارات وأخيرا وليس أخرا بين الطبقات..

وطوال هذه الفترة المحفوفة بعناصر الاحترام والتطاحن كان للأدب والفكر مواقفهما ووقفاتهما التي سجلها لهما تاريخ الأدب في صور فنية خالدة تعكس نضال الإنسان من أجل الحرية والعدالة والتقدم وقد كان الشأن كذلك بالنسبة لصراع الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي، حيث تمخضت عنه روائع فنية وأدبية صورت معاني البطولة أشادت بالتضحيات الجسام التي قدمها الجزائري... وعند الاستقلال الوطني تآزرت القوى وتكاتفت الجهود حول مهاما لبناء والتشييد وعلى إزالة كل اثر للاستعمار وكانت الثورة الزراعية واحدة من العمليات الثورية التي تستهدف تغيير وجه الجزائر واحلال العدل الاجتماعي والمساواة مكان القمر والظلم اللذين كرستهما أيادي الاستعمار في المنظومة الاجتماعية التي جعلها هذا الاستعمار تتحكم في مصير المجتمع الجزائري لفترات زمنية طويلة... فكان لهذه العملية ان استقطبت حولها جنود القلم وأصحاب المواهب من شعراء وكتاب ومفكرين تغنوا كلهم بمناقب هذه الثورة وأشادوا بمآثرها ومنافعها... ولعل احسن من صور أحداث وتفاصيل هذه العملية الثورية التاريخية من الكتاب الجزائريين هو" الطاهر وطار" في روايته" الزلزال"..

الرواية تحكي قصة أحد ملاك الأراضي الكبار المتشبعين بالأفكار الإقطاعية وهو يتخبط في خضم الزحف السريع والمفاجئ لمفاهيم ورؤى جديدة ويحاول عبثا انقاذ أراضيه التي شملها قرار التأميم بتوزيعها على وارثيه الذين لم تربطه وإياهم أية علاقة ود ووئام في يوم من الأيام..وقد استطاع الكاتب خلال الأحداث المتعاقبة على البطل القصة أن يسلط الأضواء على خطأ في التركيبة الاجتماعية للمجتمع الجزائري، وأن يفضح زيف الفئة الإقطاعية ووحشيتها وخططها الرامية إلى إفشال كل عمل إنساني ثوري يحقق العدل ويعيد الاعتبار للطبقة الشغيلة الكادحة... وأبدى في كل ذلك نضجا كبيرا وفنا راقيا في معالجته وفهمه للتحولات الكبرى التي بدأت تغير الفكر و المجتمع الجزائري.

تبدأ الرواية بوصول الشيخ عبد المجيد بو الارواح إلى مدينة قسنطينة قادما إليها من العاصمة وتجرى الأحداث على وصف خارجي دقيق للشوارع والأزقة التي تجول فيها بو الارواح بدءا" باب القنيطرة" ومرورا بـ "سيدي مسيد"و "سيدي راشد" و"مجاز الغنم"و"جسر المصعد" و"جسر الشياطين" وانتهاء بـ"جسر الهواء". وأمام هذا الجسر الأخير احتدم الصراع داخل نفس هذا الشيخ الإقطاعي واشتد حتى أصابته لوثة في ورشده فبات يفكر في الانتحار.

و"وطار" لم يعطي أية معلومات مسبقة عن الشخصية البطلة التي اختارت لقصته،و لم يفصح عن هوية هذا البطل ولا عن انتمائه أو أهدافه... وإنما ترك كل شيء لمجرد الأحداث التي جعلت ملامح هذه الشخصية تتضح بالتدريج إلى أن زالت عنها كل الوسائل التنكرية وكل الأقنعة فظهرت على حقيقتها وانفضحت طبيعتها شخصية متوحشة ناقمة على الوضع المستجد المؤازر للطبقة الشغيلة والفلاحين. وهنا يتضح مغزى الرسالة التي يريد أن يوصلها الكاتب عبر هذا القالب الفني إلى القارئ الذي عليه أن يستشفها من سياق الرواية فالكاتب أراد أن يقول لنا، لكن يشكل غير مباشر وبعيد عن الخطابية بأن كل شخصية من هذا النوع هي بطبعها معادية للإنسان كقيمة مطلقة ومعادية لكل تطلعات التحرر والانعتاق من كل أشكال الاستلاب لدى هذا الإنسان المسحوق الذي هو الإنسان الحق.

ففي بداية القصة لا ندرك سوى أن شخصية تدعى"عبد المجيد بو الارواح" نزلت بمدينة قسنطينة قادمة إليها من عاصمة البلاد غير أننا لا نمكث طويلا حتى تتجلى لنا حقيقة هذه الشخصية من أنها النموذج الحي للفكر الإقطاعي الذي دخل حربا مصيرية مع الفكر الاشتراكي الجديد المستند من روح ثورة نوفمبر الخالدة فتبرم"بو الارواح" بالواقع الجديد بدأ عنيفا منذ أن وطأت قدماه أرض"قسنطينة" التي طرأت عليها متغيرات اجتماعية لم يألفها ولم يقو على التأقلم معها. ومن هذه المتغيرات الزحف الريفي المذهل على المدينة و الذي تسبب في أزمات السكن والغداء والنظافة والبطالة، ثم يتأسف على ما ضيعته هذه الدينة العريقة من هدوء وسكينة زمن الاستعمار.

"لا..الحق..الحق المدينة انقلبت رأسها على عقب، زمن الفرنسيين كانت هادئة،هادئة بشكل ملفت للنظر تدب الحياة فيها مع مطلع النهار رويدا رويدا، وتزدهر بين العاشرة ومنتصف النهار... ثم تخفت فجأة الساعة الثالثة لتستأنف تصاعدها حتى تشتد بين الخامسة والتاسعة عندما يغادر التلاميذ المدارس والثانويات والمعاهد، وتتألف الأنوار، وتنطلق العطور من الغانيات الأوروبيات و الإسرائيليات اللائى يملأن الشوارع كالحوريات بهجة وحبورا.."

من هذا المونولوج تتضح علاقة التعاطف القائمة بين الإقطاع والاستعمار باعتبار أن الأول ربيب الثاني المدلل على حساب الملايين من الكادحين و المقهورين... وهذا الإحساس لا يفتأ يعاود"بو الارواح" في جميع فصول الرواية، ويعمد إلى إجراء مقارنة تلو أخرى بين ما كنت عليه المدينة زمن الاستعمار وماهي عليه اليوم... والشيخ عبد الحميد لم يكن الحاقد الوحيد على هذا الوضع، وإنما تؤازره في ذلك الحقد قوى أخرى مست الثورة الاشتراكية القاعدة الاقتصادية التي يستند إليها ترفها...فلنسمع أحد الحاضرين من برجوازية قسنطينة حين يقول((ضاقت المدينة ياربى سيدي ضاقت، خمسمائة ألف ساكن عوض مائة وخمسين ألف في عهد الاستعمار... نصف مليون ياربي سيدي نصف مليون برمته وبطمه وطميمه فوق هذه الصخرة تركوا قراهم وبواديهم واقتحموا المدينة يملؤونها حتى لم يبق فيها متنفس، حتى الهواء امتصوه ولم يتركوا في الجو إلا رائحة آباطهم)).

أن"بو الارواح"ومن على شاكلته ضاقوا ذرعا بطبقة الحرمين النازحة إلى المدينة بحثا عن العمل والتماسا للحرية والعدالة والحياة المتحضرة وقد عبر الشيخ عبد المجيد عن ذلك أحسن تعبير باعتباره غاب عن المدينة مدة طويلة،حيث قضى سبع سنوات في تونس أثناء حرب التحرير هروبا من المشاركة فيها...وقضى تسع سنوات في العاصمة كان يشغل منصب مدير الثانوية،ولم ير خلال المدة كلها قسنطينة،وكان يخالها بأنها باقية على أيام عزها وزهوها ورونقها...لكن...يا للمفاجأة حين وجد كل شيء تغير بحسب مقتضيات المرحلة، قسنطينة أصبحت كلها أحياء شعبية وأسواق عمومية لا وجود فيها لا أماكن خاصة مثلما كان يعرفها ويتصورها"بو الارواح"...فلم يكد الشيخ يصدق ما كنت تقع عليه عيناه لأن ذلك يفوق التصور...((لا حول ولا قوة إلا بالله..أحقا هذا هو"مطعم الباي" الذي علاف الاغوات والباشوات و المشائخ وكبار القوم،أصحاب الأرض والأغنام والجاه..)) 

طوال الفترة التي قضاها الشيخ عبد المجيد بالعاصمة،كانت أراضيه تخدم من طرف وكيل،ثم يرسل له ريع المنتوجات كمالك شرعي للأرض أمام الله وعباده... ولم تكن زيارته لقسنطينة هذه المرة حنينا لمسقط رأسه أو اشتياقا لرؤية أهله وانما جاء لاداء مهمة في غاية الأهمية والخطورة تتمثل في البحث عن الورثة ليقسم عليهم أرضه تقسيما اسميا بينما يبقى الوضع كما هو،هم يكدون ويعلمون وهو يجني الأرباح كمالك شرعي للأرض،وكان في ذلك يظن بأنه قد سبق الدولة ويستطيع أن يمرر عليها فكرته... غير أن المؤسف بالنسبة للشيخ أنه وصل متأخرا فقانون الإصلاح الزراعي انتشر بين الناس وتمكن من نفوسهم حين أدركوا صلاحيته ومنفعته للجماهير الريفية..

ويستمر الكاتب في سرد وقائع أحداث القصة وتتواصل معه عملية اكتشافنا لشخصية عبد المجيد"بو الارواح"كنموذج معبر عن الإقطاع سواء في ممارساته وتعامله مع المحيط الخارجي، أو من حيث الأسس التي قامت إقطاعيته عليها...فهو ناقم على الوضع متبرم بالناس،ينظر إليهم باحتقار،وقد كانت له مواقف قاسية مع المتسولين وماسحي الأحذية ممن ضاقت بهم شوارع قسنطينة...ولم يحاول"بو الارواح،أثناء تجواله بالمدينة بحثا عن أقربائه أن يخفي أو يتستر على ماضي أسرته العريق في الخيانة والولاء لفرنسا..

"أب الاغا بو الارواح، وجدى الباش آغا أخضع العباد،وأنا حاربت في المغرب،وفي الشام،وفي حلب وحمص وطرطوس، كلنا نحمل وسام الشرف.."..، وهكذا تأتي الصورة التاريخية في الرواية لظاهرة الإقطاع والبرجوازية التي نشأت في أحضان الاستعمار تأكيدا للترابط التاريخي بين الفكر والممارسة الرجعيين القديمة والحديثة، إذ أننا نجد عدو الثورة الزراعية اليوم هو ابن الآغا عدو الشعب بالأمس، والذي هو بدوره ولد الباش اغا عميل فرنسا وبائع وطنه أول أمس.

"بو الارواح"الذي حمل معه مشروعا محكما لتقويت الفرصة على قرار تأميم الأرض وطاف به مختلف شوارع وأزقة قسنطينة لم يكن واثقا كل الثقة بورثته،لان علاقته بهم لم تكن حسنة في الأيام،فأولهم أخو زوجته الأولى الذي قابله لآخر مرة عندما جاء يطلب منه فرضا لشراء لوازم الحلاقة... فأساء معاملته له وسخريته ثم طرده من داره...وثانيهما ابن عمه الذي سرق له قطعت أرض خصبة فضمها إلى ثورته وثالثهما ابن خالته الذي احتال عليه الشيخ عبد المجيد فسجل لصالحه الأرض التي تركتها له أمه...وتستمر القائمة طويلة بأسماء الذين وقعوا في شباك هذا الإقطاعي الشرس من أقربائه.

وهنا يكشف الكاتب جانبا هاما في الشخصية الإقطاعية التي بنت عالمها عن طريق الاحتيال و السرقة والغدر، ويروقها أن تبقى الأوضاع ثابتة بلا حراك أو تغيير لان كل حركة تفضح زيف هذه الفئة وتفقدها امتيازاتها،غير أن الأحوال اليوم تبدلت معها الأفكار والرؤى فغدت الجماهير تتوق إلى ديمقراطية اشتراكية تحقق العدل والمساواة لكل المواطنين... وفي خضم الطرح الثوري لعملية الإصلاح الزراعي جرف التيار تلك الرؤوس الكبيرة التي احتكرت الأرض أهانت العباد.

"...لقد بقية الإشراف قلة فلم يستطيعوا أن يصدوا غزو الرعاع،قاوموا بالاحتجاج قاوموا بالدعوات،قاوموا بالانغلاق على أنفسهم أخيرا جرفهم التيار.."

لقد واصل "بو الارواح" بحثه عن ورثته إلا أنه لم يكن مرتاحا على مصير أراضيه ككل الإقطاعيين ولم يجد ما ينفس على كربته سوى رصب جام غضبه على أولئك"الشيوعيين" الذين يأخذون الأوامر من"الروس" ليطبقوها على بلاد الإسلام وكم كانت دهشته عظيمة حين عرف بأن أفراد عائلته قد تغيروا جميعهم بفعل الحرب التحريرية التي خاضوا غمارها، فآخوا زوجته استشهد وابن عمه أصبح مسؤولا في هياكل الدولة،وابن خالته تحول إلى نقابي يدافع عن حقوق العمال ويؤلب الجماهير ضد الإقطاعية والرجعية... وهنا خاب أمل الشيخ في أرضه وفي"دولة التي تولى أمرها الرعاع، فأتجه إلى"سيدي راشد"يطلب النجدة لنفسه والنقمة على"الشيوعيين"أعداء الله، وبدأت تصرفاته مضطربة لا يكاد يسيطر عليها...

"الدكنة تعاود صدري،الحرارة ترتفع المادة السائلة تتذاوب.."هذا الإحساس الذي ما أنفك يعاود"بو الارواح"، في أكثر من موضع في الرواية يعبر عن الهزة العنيفة التي أصابت الإقطاع والبورجوازية، وعن الأمراض النفسية التي باتوا بعانونها من جراء تهديد مصالحهم الطبقية...كما أن مواقف هذا الشيخ غير المستساغة للأوضاع الجديدة والغير المنسجمة معها تعكس حقيقة عدم صلاحية الفكر الإقطاعي لهذا العصر وعدم تقبل الجماهير له...وتأتي وصف حالة العقم عند البطل السلبي"بو الارواح"صورة فنية حية تؤكد النهاية الحتمية لمصاص دما الفقراء ومستغلي الكادحين..، بل وأن إمارات هذا العقم بدأت في الظهور عند والد بو الارواح الذي كان ينجب بنات يمتن بعد الولادة مباشرة،ولم يعش له سو عبد المجيد العاقر..وهذه صورة فنية رمزية أخرى أراد من خلالها الطاهر وطار أن يقول لنا بأن الإقطاع والفكر الإقطاعي قد أخذا في الزوال تدريجيا منذ مدة غير قصيرة ابتدأت مع ثورة التحرير وجاءت الثورة الزراعية لتجهز عليه.

الإقطاع..حتى الرمق الأخير..

 

لم يكن حريا"بو الارواح" ومن على شاكلته من أصحاب الأرض والجاه بأن يصمتوا أمام ما عزمت الحكومة على تنفيذه لصالح المحرومين والكادحين،وإنما اشهروا كل أسلحتهم دفاعا عن امتيازاتهم الطبقية وحاولوا على اختلاف مراكزهم الاجتماعية النيل من هذه المشاريع أو الإطاحة بها..

يتضح ذلك من خلل مواقف البطل"عبد المجيد"، ومن مونولوجاته الداخلية التي كشفت النقاب عن بعض ما تعمد أليه هذه الطبقة لإجهاض العمل الثوري.. فبو الأرواح الذي لم يحالفه الحظ في تمرير حيلته على القانون نجده ينقم على الوضع بشدة،ولا يتورع في أن يفصح عن منطق الإقطاع فعله..

"التجار بما فيهم الخونة والمفلسون معنا مع السلف الشعب الحقيقي هو هؤلاء وليس العمال و الخماسة والرعاة..."

"ما تحدثت مع تاجر إلا ووجدته بحقد على الحكومة.."

"كنا نعمر ولا تخرب،نعمر إلا لسنة بلغة الضاد ، بلغة القرآن الكريم،نعمر الأفئدة بالدين،بالحديث،بالنسبة وما كان عليه السلف،وقبل أن تحقق مهمتها أضرموا النار في الحياة.."

"فتحت أعينكم دولة الشر هذه..".

"يسرقون من الأغنياء ويبذرون على الحفاة العراة الرعاة.."

"كان الناس يحافظون على الأقل على الحدود الفاصلة بينهم بأن الله عز وجل خلق الناس درجات ومراتب.."

"أو ليس الله هو الذي خلقنا درجات..فلم التعدي على حدوده،فليبقى  الأمير أميرا و الراعي راعيا.."

بهذه اللغة الحاقدة كان الشيخ بو الارواح يخاطب نفسه ويغالط من هم حواليه محاولا يخاطب نفسه ويغالط من هم حواليه محاولا إيقاف عجلة التطور التي لا تتوقف،آسفا على الماضي الذي لا يعود..وكان في كل ذلك يذرف دموع التماسيح ويتستر وراء أقنعة من الأخلاق والدين..،وقد بلغ منه الحنق أن أصبح يرمي كل خارج عن معتقد الإقطاع والبورجوازية بالفكر والإلحاد..ولم يتردد في أن يطلب الله عند صلاة ودعاء بأن يهلك أولئك(المنافقين والكفار) الذين يأخذون من الروس مبادئهم ويطبقونها في بلاد الإسلام الجزائر.

لم يكن "بو الارواح" الذي يرمز إلى الإقطاع ليكتفي بالكلام عن المخاطر المحدقة بمصالحه.. وإنما كان يعمل جهوده من أجل تعطيل اوشل المشاريع التي أفرزتها الثورة الاشتراكية..((في ثانويتي يجري العمل باستمرار على قطع خط الانحراف والمروق أمام عدد كبير من شبان يتأهلون للقيادة في جميع المجالات،وأكثر من ذلك للدخول إلى الجامعة لمواجهة طغمة الشيوعيين..".. وهو ما يبين بأن طبقة بو الارواح تتحرك وتنشط لإجهاض الفكر الاشتراكي وإيقاف التيار الثوري الزاحف..إلا أن الزلزال الذي أصاب المجتمع الجزائري وأحدث فيه انقلابات عميقة في الرؤى والأوضاع جعل الشيخ عبد المجيد- مدير الثانوية- يجابه هذه الحقيقة المرة في نفسه ((عبد القادر ابن عمك بدأ ممرنا، عبد القادر بن عمك حصل على الشهادة الابتدائية،ثم الأهلية عبد القادر بن عمك لم ينقطع عن الكفاح دخل الجامعة وتخرج، عبد القادر بن عمك أستاذ في الثانوية..هذه الحرب وما فعل بن سيدي وهذه الخزية وما تفعل)).

إنها صورة حية تكشف عقم مناوآت بوالارواح وجماعته أمام عظمة التغيرات ونبل الأهداف، وتبين بان الجماهير أخذة في طريق الانتفاع من ديمقراطية الاشتراكية وعدالتها..،وبعدها فلا مناوآت((بوالارواح)) ولا دعواته أو إشاعته تستطيع أن تقف حائلا دون إيمان الجماهير بالمبادئ الاشتراكية وحبهم لمثلها ولا نماط العلاقات في مجتمعها..

لقد تابع الشيخ عبد المجيد رحلته في المدينة فاثبت من خلال مونولوجاته ومواقفه بما لا يدع مجالا للشك بان الفكر الإقطاعي لم يعد من صميم العصر، وان لا ((بوالارواح)) بقادر على التكيف بقابل للتلاؤم مع ذهنية كالتي عند بوالرواح..، فكان لزاما أن تصدق في هذا الصراع فكرة(البقاء للإصلاح)وتنتصر..وبما أن نظم الإقطاع والبورجوازية تقوم على أسس لا إنسانية كالنهب والاحتيال والاستغلال وأهانة الآخرين فإنه من الضروري أن يتراجع هذا النظام أمام المد الثوري الزاحف الذي تحسه"بو الارواح" منذ سنوات..(أحسست بالزلزال يوم كان الرعاة والحفاة يدخلون من الريف والقرى ليقتلوا الأسياد هنا  يخرجوا، يومذاك أحسست بالزلزال الحقيقي إنه كم اغا، وكم باشا.وكم قائد وكم ضابط مات على يد راعي أغنام أو خماس أو حطاب أو فحام أمام هذا المطعم..)) وقد جسد الكاتب مصير الإقطاع في صورة فنية رائعة هي صورة بو الارواح المجنون واقف على جسر الهواء بالمدينة تحيطه جموع من أبناء العمال وأولاد الشهداء وصبيان مزيلة بولفرايس والسويقة وسوق العناصر.. إنهم الجيل الجديد من أبناء الكادحين الذين حاصروا بو الارواح المجنون وضيقوا عليه الخناق حتى أنه فكر في الانتحار فعزم على تنفيذ فكرته لولا أن وصلت الشرطة في وقت المناسب ونقلته على التو إلى المستشفي..

وإذا كان جنون "بو الارواح" يشير إشارة واضحة إلى لامقولية الفكر الإقطاعي،والى انه النتيجة المنطقية للتناقض وللزلزال الذي كانت الإقطاعية تحس بوادره فغن الكاتب لم يدفع بطله إلى الانتحار،وإنما حشره في زمرة المرضى وخص له مكانا بالمستشفى.. والتساؤل المطروح في هذا الشأن: هل أن البطل سيرديه مرضه العضال؟ أو أ، أطباءه سيعيدونه إلى رشده؟ وفي هذه الحال، أي رشد يرجع إلى هذا البطل السلبي،أهو الذي يعانق الواقع الجديد،أم الذي يتبرم به؟.. إنها تساؤلات لا تزال أصداؤها في الواقع المعاش تعكس ما قاله "وطار"عن الإقطاعي"بو الارواح" بمعنى أن الإقطاعية لم تمت، لكنها لم تجد حتى الساعة من الأطباء من يخلصها من جنونها أو يعيدها إلى أيام سؤددها ومجدها.." وإنما هي لاتزال موجودة وتعاني من الجنون والهلوسة..

والى أن تحكم الأيام حكمها النهائي على "بو الارواح" وطار،فإن قارئيه وما أكثرهم في العالم ينتظرون منه أبدا عافنيا آخر في مستوى"الزلزال" يصور فيه مال"بو الارواح"في الجزائر.. هل أن ملك الموت يجهز عليه في فراش المرض؟أم أن أطفال مزبلة بولفرايس " يلقون به من على جسر الهواء بقسنطينة؟أم ماذا‍‍‍!.