حركية الزمان وجماليات المكان في رواية الزلزال

حركية الزمان وجماليات المكان في رواية الزلزال

(قراءة سيميائية)

الأستاذ/ كرومي لحسن

جامعة وهران

مجلة إبداع

جمعية رضا حوحو  (بشار)

العدد 3/98

 

   إن العلاقة التي تربط الزمان بالمكان هي علاقة تكامل، فكل منهما يكمل الأخر، ومن ثم لا وجود لأحدهما دون الآخر بمعنى، أن هذه العلاقة أساسية لأنها تشخص جدلية في الحياة وتشخيص جدلية الواقع الروائي في حد ذاته، والجدير بالملاحظة، أن الزمن والمكان في رواية الزلزال متداخلان، متمازحان، حاضران حضورا دائما، قد يستحيل معه تناول أحدهما بمعزل عن الآخر...وإن كنا قد سمحنا لأنفسنا بهذا الأمر،فإننا يكون ذلك على المستوى الإجرائي لا غير.

أ‌-     حركية الزمن

       تقترب رواية(الزلزال) في كثر من الجوانب من  القصة القصيرة،فالحدث يمتاز بالإيجاز و التركيز:ذلك أن المؤلف لا يتناول إلا لحظة درامية من حياة الشخصية الرئيسية، يسلط عليها الأضواء ولا يتعداها،كما أ، الزمن مكثف لا يكاد يتجاوز نصف اليوم من حياة البطل، و أما من حيث الشخصيات، الروائية فإننا لا تكاد نلفي، إلا شخصية، واحدة تستقطب الأحداث، في فترة زمانية وجيزة، وفي حيز مكاني محدد وحتى وإن وجدت بعض الشخصيات الثانوية و فإنها لا تدور إلا في فلك الشخصية المحورية وتتفيأ ظلها.

يعد الزمن من العناصر الأساسية التي تساهم في بناء الرواية لأنه ضابط الفعل وبه يتم وعلى نبضاته يسجل الحدث الروائي وقائعه ولأهميته في رواية الزلزال، فإنه يكاد يمثل شخصية بأبعادها وتأثيرها على الرواية.إن الزمن محوري وعليه تترتب عناصر التشويق،والإيقاع و الاستمرار.ثم إنه يحدد في وقت نفسه دوافع أخرى مثل السببية والتتابع واختيار الأحداث...(1)

ويلاحظ أن الزمن في هذا النتاج الأدبي يمتاز بالتكثيف والإيجاز ويمكننا أن غير بين ثلاث مستويات له:

أ‌)   المستوى الأول وهو زمن وقوع الحدث الروائي زمن لا يتجاوز نصف اليوم من حياة الشخصية المحورية، أي أن هذا المستوى يحمل طابع التركيز والإيجاز وكأني بالروائي لم يختر من حياة بو الارواح إلا هذه اللحظة بالذات، والتي يمكن تسميتها بلحظة الاحتضار أي أن الكاتب لم يأت ببطله إلى قسنطينة إلا ليدمره ويعلن عن نهايته الدرامية فيها.

ب )المستوى الثاني وهو ما نطلق عليه تجاوزا،الزمن الميت أي المنتهي و يضم جانبا كبيرا من حياة بو الارواح الماضية ويمتد عبر سنوات عديدة، يصور أسرة آل الارواح الإقطاعية نتعرف إليه عن طريق المونولوجات الداخلية والتداعيات وأسلوب الارتداد والحوار وغيره.

ج) المستوى الثالث وهو الزمن السيكولوجي،الذي تتداخل فيه الأزمنة وتتقاطع الحاضر والماضي والمستقبل وهو خاضع في الأساس لحالة البطل النفسية،يتلون بتلون مزاجه.

  لقد خرج الكاتب في رواية الزلزال على الشكل التقليدي للرواية،أنه لم يلتزم طريقة السرد المباشر القائم على التسلسل الزمني المعروف، بل إتخد اللا تسلسل الزمني  كانت تتحرك في حيز معلوم هو الحاضر،ولكنها كانت تعود في بعض الأطوار إلى الوراء فتحت ستار الحاضر الذي وضع إطار للرواية كان الزمن لا يتردد في أن يتسرب إلى الماضي البعيد طورا والقريب آخر، فيصفه وينتقل إلى المستقبل،فينتزع منه بعض الأحداث ليضعها في حيز الحاضر وفقا لما يتطلبه البناء الدرامي في الرواية.والحقيقة أن اللاتسلسل الزمني ساعد على إظهار بعض الجوانب الخفية من حياة البطل سواء المتعلقة بالماضي أو بالمستقبل إذ يلاحظ أن البطل كان شديد الارتباط بالماضي،ذلك أنه كان يلجأ إلى استحضار بعض المواقف من حياته الماضية،عسى أن يواجه بها صعوبات الحاضر الملحة التي أقضت عليه مضجعة، فكانت الوسيلة التقنية المعتمدة في ذلك هي أسلوب الارتداد فعن طريقة نتعرف إلى ماضي الشخصية ومواقفها إزاء معطيات الحاضر في المدينة، ولعل هذا المونولوج الآتي يستطيع أن يوضح ما ذهبنا إليه.

((لا الحق.الحق.المدينة انقلبت رأسا على عقب زمن الفرنسيين كانت هادئة بشكل ملفت للنظر،تدب الحياة مع مطلع النهار رويدا،رويدا،وتزدهر بين العاشر ومنتصف النهار،ثم فجأة بين العاشر.

ومنتصف النهار حتى الساعة الثالثة،لتستأنف تصاعدها...حتى تشتد بين الخامسة والتاسعة عندما يغادر التلاميذ المدارس والثانويات وتتألق الأنوار وتنطلق العطور من الغادات و الأوروبيات و الإسرائيليات اللائى يمتلأن الشوارع كالحوريات بهجة وحبورا، تغير كل شيء،صدق إبن خلدون عندما قال..."(2)

يلاحظ أن التقاطع في الزمن الماضي والحاضر ساعد على إبراز حالة بو الارواح المأساوية المتدهورة، وكشف يجلاء عن حنينه إلى الماضي الذي كان يكفل له الأرض والسيادة،والنفوذ في ظل الاستعمار. إن استحضار بو الارواح ذكرى الزمن الأقل إنما يمثل في هذا موقف هروبه الوهمي من جحيم الحاضر الذي غدا رمز أي الأرض.أما الماضي فهو الواحة الوارقة الظلال في صحراء حياته الحاضرة المؤلمة يلجأ اليها بو الارواح كلما تأزمت حالته النفسية.ولعل أبرز ما تتميز به رواية الزلزال على صعيد الأدوات الفنية هو التمكن بمهارة من لعبة الزمن.

فليس فيها ذلك الزمن التقليدي كما أسلفت بل أن الحدث يسير عبر عدة أزمنة متداخلة ومتشابكة دون أن يختل الروائي أو يضطرب.

  لقد ساهمت الدياكرونولوجية في بناء درامية الحدث ونأت بالرواية- في كثير من المواقف- عن الرتانة والجمود التي كادت أن تتسبب فيها كثرة المشاهدة الوصفية في رواية الزلزال، على نحو ما جاء في الفقرة التالية"... الحمام في الأقصى.حلاق في حانوت،وآخر على المنضدة عند بابه، الإثنان يعملان بإنهماك ولا مبالاة".

" " ثلاث مقاهي تعمل في التعايش سلمي و كأنهما مفهى واحد، حتى أن المقاعد والمناضذ مختلطة. هنا في الوسط شخصان يحملان جببا بيضاء ويحتسيان قهوة معا" "(3).

-   لعل مثل هذا الوصف الحرفي للواقع يثقل كاهل الرواية، ويبعث في الملتقى الملل.ذلك أن العمل الروائي- في حقيقة الأمر- ليس تقليدا"للعالم الواقع ولا نسخة أمنية من الأشياء،وانما هي رؤية روحية تعيد خلق الواقع من جديد بغناء أكثر أو واقع من جديد بغناء أكثر أو تخلق واقعا جديدا أعمق من الواقع الخرفي المباشر وأعظم إثراء"(4)

       إن القارئ يلاحظ أن إيقاع الزمن لم يكن يسير على وتيرة واحدة رتيبة في رواية الزلزال، بل كان يتحرك مضطربة متوترة تمليها حالة البطل القلقة المتداعية،ويمكن القول بأن البطل كان في صراع مع الزمن، بل أن الزمن يعد المحرك الأساسي لمشاعره. ولعل هذه العبارات الآتية تستطيع تأكيد ذلك:

"جئت اسبقهم،أقسم في الورق الأرض على الورثاء حتى إذا جاؤوا لانتزاعها لم يجدوا الشيء الكثير..."(5).

"لكنك جئت متأخرا ياسي بوالارواح"(6).

"آه، يجب التعجيل"(7).

"الوقت ضيق ولا فائدة من تضييع ما تبقى منه"(8).

" لا أضيع الوقت في التجوال في هذه المدينة المرعبة"(9).

فهذه العبارات وغيرها كثيرة تكاد تشكل حقلا دلاليا مهيمنا في الرواية، وهي تتم عن إحساس الإقطاعي الحاد بالزمن. أن غريزة حب المحافظة على الذات- بقاء الأرض هي التي جعلت بو الارواح يحس بوطأة الزمن"كيف لا و المرء يتألم عندما يشعر بالفناء يدب في كيانه"(10).

لقد شعر البطل بتيار الفناء يجرفه نحو حتفه كلما أخفق كلما أخفق في الحصول على من يقسم بينهم الأرض.إن المرء يشعر بالزمن بقدر عدد المشاريع وقيمتها"(11)،لذلك يلاحظ أن إيقاع الزمن يزداد سرعة ووطأته تشتد على بو الارواح كلما أحس بفشل في تنفيذ المشروع الذي من أجله جاء إلى قسنطينة، والمتمثل أساسا في محاولة النجاة من قبضة نظام الأرض الجديد.ويبلغ الخوف مداه و الحزن أوجه، واليأس منتهاه، ويصاب بو الارواح بالجنون" شعر ببصره يزوغ وبمنحه يهتز،وبالزمن ينقلب رأسا على عقب"(12).

"شعر بالذعر...وهو ينادي بأعلى صوته:سكان قسنطينة الزلزال الزلزال. يا آل بوالارواح الزلزال الزلزال"(13).

إن الزلزال- في منظور الرواية- يعني توقف حركة الزمن بالنسبة للإقطاع، إنه تغير في علاقات القوى الاجتماعية. أما بالنسبة لعمال الأرض فهو يعنى ميلاد زمن جديد ملئ بالخطب والنماء و الإشراق،زمن خال من الممارسات الإقطاعية القائمة على الاستغلال والاستنزاف.أما الجنون فهو رمز لعجز بو الارواح التام عن تحقيق الذات،أي بقاء الأرض واستمرار النفوذ الإقطاعي، اذا ليس الزمن حيادي القيمة في رواية الزلزال، بل يعد من العناصر الأساسية التي أسهمت يقسط وافر في بناء الرواية.

ويبدو أنه كان لحركة الزمن الأثر الكبير في نظام الفصول من حيث الطول والقصر تعبا لنفسية بو الأرواح المتأزمة، المتصارعة مع نظام الزمن الحاضر- زمن نظام الأرض الجديد- كما يوحي بذلك الخطاب الروائي- ومن هنا نفهم أن تقسيم الرواية إلى فصول سبعة لم يكن من قبيل المصادفة أو العبث، وإنما أملته حالة البطل الجوانية و تموجاته الداخلية بمعنى أن أزمته كانت تزداد حدة من فصل لاخر لدرجة أن الفصول الثلاثة الأخيرة جاءت لاهثة، متسرعة،نحس من خلالها بأنفاس بو الارواح وهي تحترق.-

  إن رواية الزلزال تعد رحلة عبر وجدان الشخصية مما عجله الزمن تدور وفقا لإقطاع حياتها الداخلية...،وهو الأمر الذي جعل شكل الرواية يرتبط ارتباطا وثيقا بمعالجة عنصر الزمن.

جمالـيـــــــــات المكـــــــــان

لا أحد ينكر أهمية المكان في بناء الرواية.إنه الجزء المكمل للحدث.كما أنه- المكان- أرضية الفعل وخلفية(14)،والمجال الحيوي الذي تتحرك فيه الشخصيات وتتصارع. وهو أيضا...العمود الفقري الذي يربط بين أجزاء الرواية ببعضها البعض.لقد أدى عنصر المكان دورا بالغ الأهمية في تطوير الحدث،وفي بلورة القيم الفكرية والجمالية في رواية الزلزال،من هنا كاد المكان- في الخطاب الروائي- أن يمثل شخصية بكل أبعادها وتأثيرها على السياق الروائي العام.

ولقد وظف الروائي المكان لخدمة الموقف الدرامي بحيث أسهم في تشكيل بنية الإخفاق التي تعد في رأينا الخيط الناسج لمضمون الرواية.والجدير بالملاحظة أن بنية الإخفاق قد تجسدت على المستوى الألسني"اللغوي" في إشاعة معجم قصصي من مفردات وصور ورموز الإخفاق والخيبة والضعف واليأس والاستيحاش والغربة هلم جرا... والتي يمكن دراستها،وتصنيفها بتطوير مجموعة من الحقول الدلالية فإن بنية الإخفاق-الإحساس بالزلزال- قد تجسدت في كثرة السياقات الفاجعة المحبطة. لمصير الشخصية من مثل قولها:

"آه أنا مريض.. مثقل الروح... إن زلزلة الساعة شيء عظيم..."(15).

-         :"الزلزال الحقيقي إحساس"(16).

-: " قسنطينة الحقيقية زلزلة رلزللها..."(17).

-:" المدينة أشبه ما تكون بباخرة في محيط عظيم، توحي في كل خطوة بالوحشية وبالشعور بالاغتراب، والانقطاع عن العالم"(18).

-:"...فلا أضيع الوقت في هذه المدينة المرعبة".

       إن هذه السياقات- وغيرها كثير- توضح بجلاء نفسية بو الارواح الجوانية المللأى بمشاعر الإحباط والتأزم. وانحصار الذات... لقد ضاق ذرعا بالمدينة وبأجوائها الموحية بالرهبة، والخوف من المستقبل الغامض، هذا المستقبل الذي زادته رهبة تلك الأحاديث المتعلقة بنظام الأرض الجديد./ولقد وظف الروائي ضيق المدينة ليوحى بانحصار الذات.

   ومن هنا نلاحظ أن الخط الدرامي في الرواية قد ارتبط بالخلفية الاجتماعية للمدينة، وبتفاصيلها الدقيقة، وحياتها اليومية الدؤوبة.ولعل الروائي كان قاسيا على البطلة إلى ابعد ما تكون القسوة، فقد جعله يصارع المجتمع متفردا وحيدا، وكأن المؤلف بهذا يؤدي إلى افتتاحية خط معين كان له أثر كبير في الرواية،خط الصراع بين الشخصية الناقمة على المجتمع،وتحديات هذا المجتمع، و المتمثلة في العقبات الموضوعة على طريق كل من حاول أن يتخطى قوانينه مثل بو الارواح.

ولعل هذا هو السبب مأساته،وباعث سقوطه في النهاية.إن الضغط الاجتماعي من الخارج والضغط النفسي من الداخل قد تفاعلا معا،و لم يبق ل"بوالارواح"إلا أن يستجيب للضغطين اللذين أديا به إلى فقدان التوازن وعدم القدرة على تقبل المعطيات الجديدة في المدينة. ومن هنا كان الشكل العام للرواية يتشكل حسب الصراع القائم بين البطل وبين بيئة قسنطينة بنوعيها الطارئ والثابت.

     ويلاحظ أن الروائي قد استغل كل العناصر الأساسية في المدينة،من مقاهي ومباني وجسور وشوارع لتسهم كلها في صنع مأساة بو الارواح.وتقوده في الأخيرة إلى المصير المحترم،ألا وهو الجنون.

أ)- دلالة المقهى:

   يتخذ المقهى أبعادا جمالية من حيث الدلالة.في رواية الزلزال فهو جزء من تركيبة المدينة، يوحي بعدم الاستقرار والإقامة المؤقتة للبطل،كما أنه يغدو رمزا للمتغير وشاهدا على نمط الحياة القديم الأفل، على نحو ما يظهر في الفقرة التالية:

"... قصد بو الارواح المقهى. تمالك على أول مقعد صادفه. جال من الداخل والخارج. المقاعد والمناضد من الحديد، مطلية حديثا. الجدران نقية مطلية حديثا أيضا.

الاكسبريس الإيطالية جمعت الرفاق حتى هنا..."(20).إن الوصف في مثل هذا السياق يشيد عدة معاني ذات طبيعة سيميائية تشترك جميعها في حقل دلالي- يكاد يكون مهيمنا على باقي الحقول الدلالية في رواية الزلزال، هو حقل الإخفاق.

    لعل القارئ يلاحظ تأكيد الرواية الملح على العناصر المادية الموحية بالحداثة و التجدد بشكل لافت للانتباه، مما حملنا على القول إن المقهى لا يتخذ قيمة محايدة في هذا الإنتاج الأدبي، بل أنها ترمز إلى المتغير الحامل في أحشائه بدور التحديد والتطور والحاوي لزمن التحول بحكم هذه الولادة الجديدة للمكان، وهو الأمر الذي أثار هوس بو الارواح وأربكه.

إن هذا الوجه الجديد الذي ظهر به مقهى قد أوحى إلى البطل بأن العالم مقبل على عهد جديد لا أثر فيه لمخالفات الماضي، على نحو ما يستنتج من قوله:" لا حول ولا قوة إلا بالله... لم يبق من الحياة القديمة إلا الآثار، هدموا عالما وأقاموا آخر، داسوا فوق روح عنق قسنطينة، وراحوا يضغطون، وهاهم يضغطون أكثر فوق صخرتها."(21).

لقد بدا المقهى شاهدا على مأساة بو الارواح الذاتية، وباتت بالنسبة له مصدر إزعاج وقلق، لا مكان للراحة. كما أن الروائي قد اهتم برسم الضلال التي تؤكد غربة الشخصية الإستقطابية من خلال حضور المقهى:... ليس هناك جالس غيري سوى صاحب المقهى. صاحب المقهى كهل تخطى الخمسين."(22).إن الإحساس المأساوية الذي غمر الشخصية الإستقطابية في المقهى يوحي إلى استفحال مشاعر الإستيحاش والإحباط وانحصار الذات.

ب‌)  دلالة الشارع:

يعد الشارع من تركيبة المدينة، ومكونا من مكوناتها الأساسية ولقد أسهم إسهاما كبيرا في توضيح المسار البطل الطبقي وكشف أغوار نفسه الرافضة لمبدأ تأميم الأرض،على نحو ما يظهر في الفقرة التالية:"انحدر بو الارواح قليل وجد نفسه في الشارع يوغسلافيا، وتساءل: كيف أتاحت عبقر يهم الاهتداء إلى تقسيم الشارع  بهذا الشكل.نصفه لشهيد بطل، ونصفه لبلد شيوعي في العاصمة أيضا هنا شارع مقسم بيت زيروت يوسف وشي غفارة. في السابق كنا نعتبر هذه المسائل شكلية،أما وقد بدءوا يكشرون عن أنياب الذئاب فتحت المحاسبة"(23).

   لقد أصبح قدرا يمسك بالشخصية المحورية،ولا يدع لها مجالا لحرية التحرك،أي أنه يحاصرها ويجد من حركتها.كما يغدو الشارع مبعث \كرى ومصدر حسرة بالنسبة لهذه الشخصية، حتى يثير أشجانها ويحرك فيها كوامن الشوق إلى الماضي الذي ولي:"... هذا شارع فرنسا سابقا،يبتدئ حيث ينتهي شارع:كراما"حيث ثانوية،"أومال".هنا كان الحب، والغرام والحبور يشع من عيون الغادات الأوروبيات والإسرائيليات.هنا ما كانت تنقطع روائح عطر الياسمين وعطر حلم الذهب وعطر اللبان..."(24).

    كان الشارع صعبا،شرسا- على امتداد الحدث الروائي- إنه يوحي يتقدم مستمر و بمخاض جديد سوف يولد ما هو أهلا للتعبير،الأمر الذي أقض على الإقطاعي مضجعة،وحمله على التشبت بذكرى الشارع القديم في محاولة يائسة لتجاوز اغترابه بالهروب من الواقع الراهن، عن طريق الذكرى.

وقد يغدو الشارع وصفا لحالة تمر بها الشخصية الرئيسية على ما نرى في الفقرة التالية.

"ما أن أنهى بو الارواح آخر درجة،واقتحم شارع19 ماي حنى اشتدت الحرارة عليه أحس بالمادة السائلة تذوب أكثر في نفسه،وتملؤها بالثقل وبالدكنة،صدره إلى الجدران."(25)الملاحظ أن الوحدات الوصفية المتعلقة بالشارع جاءت ملتحمة- في كثير من الواقف- ببنية السرد، بحيث وظفت توظيفا جماليا، أضفي ظلالا ودلالات على مسار القص، وساهم بقسط وافر،في تجسيد بنية الإخفاق،التي تعد التيمةdominant Theme المهيمنة يستنتج من كل ما سبق أن جزئيات الشارع قد وظفت توظيفا جماليا محكما، بحيث أسهمت في تصعيد الموقف الدرامي للحدث العام،وعملت على إذكاء حدة التأزم النفسي لدى البطل، ونمت الحزن المتخر في ذاته.من هذه الزواية يدخل الشارع في رواية الزلزال ضمن المبررات الموضوعية والفنية التي تقنع الملتقي بأمر التصرف الجنوني الذي أقدمت عليه الشخصية الإستقطابية في نهاية المطاف.

ج شكل المدينة المعماري:

   بنيت الرواية على سبعة فصول، يستمد كل منهما عنوانه من أحد جسور مدينة قسنطينة، باب القنطيرة،سيدي مسيد راشد،مجاز الغنم، جسر الشياطين، جسر الهواء. يلاحظ أن المؤلف كان شديد الحرص على إبراز التفاعل القائم بين حياة البطل الجوانية وبين بيئة قسنطينة التي اعتور وجهها التغيير. من هنا تبدأ مهارته في الاستفادة من طرف ظروف البيئة القسنطينية، وهي تلقى الضوء على ما يعتمل في نفس بو الارواح من اضطراب و ذرع. ولقد استغل المؤلف شكل المدينة(ثنائية الارتفاع والانخفاض) في تصعيد أزمة البطل النفسية لا رغامة في نهاية الرواية على الجنون"شعر بالذعر... وراح يركض إلى الفوق، وهو ينادي بأعلى صوته:

-   يا سكان مدينة قسنطينة الزلزال.و الزلزال. يا آل بو الارواح الزلزال.الزلزال."(26) لقد وظفت لهذه المهمة جسور قسنطينة الستة مضاها إليها جسر آخر متخيل،إذ يلاحظ أن حالة بو الارواح كانت تزداد سوءا وتدهور كلما انتقل من جسر إلى آخر حتى يصل إلى جسر الهواء- المتخيل- فيصاب بالجنون،لأنه لم يعثر على أحد من أقاربه الذين كان يعول عليهم في تنفيذ مشروعه، و المتمثل أساسا في محاولة التملص من قبضة التأميم الذي اسهدف أراضيه الزراعية. قلنا إن المؤلف قد استغل جسور المدينة في تطوير الموقف الدرامي للحدث،أي أنه تأتي بعنصر جديد وبتأثير جديد الى وضع أكثر تأزما.ويبلغ السيل الزبى،ويصاب بوالارواح بالجنون في آخر محطة وهي جسر الهواء بعد أن فقد كل أمل في الحصول على من يقسم عليهم الأرض. وفي رأينا أن الروائي قد وظف جزئيات الشكل المعماري للمدينة للتعبير عن رؤيته الفكرية والأيدلوجية بإحكام:

الزلزال ــــــــــــــــــــــــــــ ضياع الأرض الجنون

0

ــــــــ جسر الهواء

ــــــــــــــــــ جسر الشياطين

ـــــــــــــــــــــــــ جسر المصعد

ـــــــــــــــــــــــــــــــ سيدي راشد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سيدي ميـد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ باب القنطرة

1ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ1

هذا الشكل يشير الى أن آمال البطل في الحصول على من يسجل عليهم الأرض كانت تتقلص كلما انتقل من جسر الى آخر، إلى أن تصل آماله درجة الصفر في جسر الهواء،فيصاب بالجنون.

الإحــــــــــــالات

·        نعني بالجمالية البحث في نسق العناصر المكونة للظاهرة، لبيان الوظيفة التي تقوم بها داخل الخطاب الروائي

1)        د.سيزا أحمد قاسم.بناء الرواية الهيئة المصرية العامة للكتاب.القاهرة1984.ص26.

2)        الطاهر وطار:رواية الزلزال.الشركة الوطنية للنشر والتوزيع ط.3.د.ت.ص ب 12.

3)        م.ن.ص:77.

4)        د. عمر الطالب: الاتجاه الواقعي في رواية العراقية.دار العودة بيروت.981.ط1،ص67.

5)        م.ن.ص

6)        الرواية ص 31

7)        م. ن.ص 57

8)        م. ن. ص103

9)        م. ن. ص 49

10)   ينظر: سمير الحاج شاهين: لحظة الأبدية، دراسة الزمن في أدب القرن العشرين م.ع. د. ن بيروت 1980ص5.

11)   ينظر: غاستون باشلار،جدلية الزمن، ترجمة خليل أحمد خليل،ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر1982(د.ط).ص 64

12)   م. ن. ص 75

13)   م.ن. ص 209

14)   أحمد كمال زكي:دراسات في النقد الأدبي.دار الأندلس.بيروت(ص2) ص42،43

15)   م. ن. ص 47

16)   م. ن. ص 29

17)   م. ن. ص 28

18)   م.ن. ص 43،44

19)   م. ن. ص 18

20)   م.ن. ص 18

21)   م.ن. ص 102

22)   م. ن. ص 39

23)   م.ن.ص 44

24)   م. ن. ص 35

25)   م. ن. ص 35

26)   م. ن. ص 209