حكايات من الصحراء

الذي حصد الزيتون


يُحكى أن أحد الأتقياء كان متصوفاً منقطعاً إلى العبادة , وحدث أن جُذِبَ ذات يوم , وكان كلّ مَنْ يُجْذب من هؤلاء الصالحين يهيم على وجهه , ويترك أمور الدنيا ، ولا يهتم لا بملبسه  ولا بمظهره ، وهام الرجل على وجهه وطال شعرُ لحيته , وبَلِيَتْ ثيابُه وأصبحت رثّة مهلهلة , وكان يبيت في أي مكان يدركه فيه المساء .

وذات يوم أدركه المساء في قرية بعيدة نائية , وكانت حالته تدل على الفقر والحاجة , ناهيك عن شكله ومظهره الخارجي ، فجاء إلى أحد البيوت ، ففرشَ له صاحب البيت ,  وقدم له عشاءً مما تيسّر من طعام البيت ، وأخذ معه في الحديث وسأله قائلاً : لماذا لا تعمل يا أخي بدل أن تهيم على وجهك لا تملك شيئاً من أمور الدنيا ؟.

فقال : وماذا أعمل , وأنا لا أُحسن شيئاً من الأعمال .

فقال صاحب البيت  : ألا تحصد ؟!

فقال الرجل : بلى , ولي معرفة بالحصـاد , وسبـق أن حصـدت كثيراً .

فقال له : ما رأيك إذن أن تحصد عندي قطعةً من الأرض , وسأعطيك عليها أجراً يرضيك , ويسدّ حاجتك ويغنيك عمَّا أنت فيه من فقر .

وافق الرجل على هذا العرض دون أن يطلب أجراً ، أو حتى دون أن يسأل عن قيمة ما سيُدفع له عن عمله وأتعابه.

فقال له صاحب البيت : إذن تبدأ عندي في الصباح الباكر إن شاء الله ، وأضاف : هيا لأريك الحقل فهو غير بعيد من هنا ، فذهب معه وشاهد الحقل ، وكان عبارة عن دونمات قليلة تحيطها أشجار من الزيتون من جهاتها الأربع ،  وعمر هذه الأشجار لا يتعدّى الثلاث أو الأربع سنوات .

وأعطى صاحب البيت منجلاً لذلك الرجل حتى يسري عندما يستيقظ في الصباح الباكر ليحصد قبل أن يطير الندى فتتكسر عيدان الزرع ويصعب حصدها .

ونام الرجل ونام صاحب البيت , وفي منتصف الليل  استيقظ الرجل وظن الوقت فجراً فأخذ منجله وسار متوجهاً نحو الحقل  فأراد أن يحصد وقبل أن يبدأ أتتـه حالة الجذب التي تصيبه دائماً ، فأصبح لا يدري عن نفسه . فقال : يا قوة الله , ويا سرَّ جدودي وأخذ يحصد دون أن يدري ما يفعل حتى حصد جميع الحقل . ثم عاد يحمل منجله ونام في مكانه مرهقاً مما أصابه من غيبوبة الجذب ، ولم يستيقظ إلا بعد أن اعتلت الشمس وارتفعـت كثيراً , وكاد الندى يطيـر .

فقال صاحب البيت : إن هذا الرجل لا يصلح للعمل , فأتى إليه وأيقظه وهو يقول له : قم يا رجل , اعتلت الشمس وأنت ما زلت نائماً , .فمتى ستحصد إذن !

فقال الرجل الصالح : ابحث لك عن أناس ليُغَمِّرُوا(1) لك زرعك ، واذهب إلى حقلك فقد حصدته كلّه .

فقال صاحب البيت : حقاً إنك مجنون أيها الرجل ، كيف حصدته وأنت لم تقم من مكانك ، وكيف تستطيع حصده كله في يوم واحد .

فقال له : اذهب كما قلت لك ولِمَّ زرعك فقد حصدته كله كما ذكرتُ لك .

فذهب الرجل غير مصدّقٍ ما سمعت أذناه ، وعندما وصل إلى الحقل صرخ من هول ما شاهد ، وأخذ يلطم على رأسه ويمزق شعره بيديه ، ويصرخ فقد رأى أن الزرع قد حُصد كله بالفعل ، وأن أشجار الزيتون قد حُصدت هي أيضاً ولم تبقَ منها شجرة واحدة .

فعاد إلى بيته باكياً ، وقال للرجل : كيف فعلت ذلك ؟

فقال له : لا أدري .

فأدرك صاحب البيت عندها أن هذا الرجل من عباد الله الصالحين , فأخذ يقبّل يديه ويستسمحه إن كان قد اخطأ في حقّه ويسأله معاتباً كيف فعلت ذلك ، ألم تشعر بأشجار الزيتون ؟!.

قال : لم أشعر بأي شيء سوى أني سمعت صوت المنجل وقد قطع شيئاً صلباً في مكان كذا من الحقل  .

فذهبوا ليفحصوا هذا الشيء فوجدوه عظم جمل مغروز في الأرض وقد قصه المنجل نصفين , فتعجبوا لذلك .

وأكرم صاحب البيت ضيفه ، وجاءت عائلته لتصافحه وتتبرك من كراماته , ثم ودعهم وسار في حال سبيله بعد أن وعدهم أن يزورهم في كل مرة يمر فيها من قريتهم .                             


(1) – الغِمْر : هو الكوم الصغير من القشّ المحصود ، وغَمَّرَ يُغَمِّرُ : أي جمع هذه الأكوام في مكانٍ واحد استعداداً لنقلها .  


عودة للصفحة الرئيسية