حكايات من الصحراء

الأمانة


يُحْكَى أنّه كان في إحدى القبائل رجل يُعرفُ بالفهمِ والإدراكِ والرأي السديد ، وكانَ هو زعيم القبيلة وشَيْخها (1) ، وعندما كبر وتقدّم به العمر ، أصابه الوهنُ والضَّعف ، وكثرتْ أمراضُه ، واشتدّ به الداءُ ذات يوم ، وشعر بأنَّ أيامه باتت قليلة ، فدعا إليه ابنه وأخاه وأفراد عائلته ، وكان  ابنُه حدثاً صغيراً لم يبلغ بعد مبلغ الرجال ، فأوصى الرجلُ أخاه قائلاً : تسلّم الآن يا أخي أمور القبيلة ، وعندما يبلغ ابني هذا سنّ الرجولة ، أعد إليه مقاليد حكم القبيلة ، وكن عوناً له وسنداً حتى يشتدّ عوده وتستقرَّ له الأمور .

ومرّت الأيام وتوفِّي ذلك الرجل وتسلّم أخوه مقاليد الحكم مكانه ، وأصبح شيخاً على قبيلته ، ومرت أعوامٌ وأعوام كبر خلالها ذلك الفتى وأصبح رجلاً بالغاً عاقلاً , وانتظر من عمّه أن يعيد إليـه  الأمانة , وهي حكم القبيلة كما أوصى والده بها قبل وفاته , ولكن عمّه لم يفعل شيئاً من ذلك ، وكأنه نسي الأمر تماماً .

فقال الشابّ في نفسه : والله لأسألنّه عنها ، فماذا ينتظر مني ، ومتى سيعيدهـا إليّ ، ألم أصبح رجلاً في نظره حتى الآن ؟

وجاء ذات يوم لعمّه وقال له : ألا تَذْكُر يا عمّ بأن أبي ترك لي أمانة عندك ؟

فقال العمّ : بلى أذكر . 

فقال الشابّ : وماذا يمنعك إذن من إعادتها إليّ ؟

ابتسم العمّ وقال لابن أخيه بهدوء : لا أعيدها لك ، إلا إذا أجبتني عن أسئلـةٍ ثلاثة .

فقال الشابّ : سلْ ما تشاء يا عمّ .

فقال العمّ : إذا جاءك رجلان يختصمان إليك ، وأنت شيخ للقبيلة ، وطلبا منك أن تحكم بينهما ، وكان أحدهما رجلاً جواداً طيّباً ، والرجل الآخر حقيرٌ وسفيـه , فكيف تحكم بينهما ؟

فقال الشابّ : آخذ من حقّ الرجل الطيّب ، وأضع على حقّ الرجل الحقير حتى يرضى ، وبذلك أحكم بينهما .

فقال العمّ : وإذا جاءك حقيران يختصمان إليك ، فكيف تحكم بينهما ؟

فقال الشابّ : أدفع لهما من جَيْبِي حتى يرضى الطرفان ، وبذلك أنهي ما بينهما من خصومة وأُزيل ما بينهما من خلاف .

فقال العمّ : وإذا جاءك رجلان طيبان يختصمان إليك ، فكيف تحكم بينهما ؟

فقال الشابّ : مثل هؤلاء لا يأتيان إليّ ، لأنه لو حدثت بينهما بعض المشاكل فإنهما يتوصَّلان إلى حَلٍّ لها ، دون اللجوء إلى طرفٍ ثالث ليتدخل في أمورهما .

فقال العمّ : الآن ثبتَ لديّ بأنك تستحق تلك الأمانة عن جدارة ، لما لمسته فيك من الحكمة والفطنة والعقل ، وأنت من الآن ستصبح شيخاً للقبيلة ، وفقّك الله يا ابني لما فيه الخير ، وجعلك خادماً أميناً لأهلك وقبيلتك .

وأعاد العم زمام الأمور لابن أخيه الذي أصبح شيخاً على قبيلته خلفاً لأبيه بعد أن أثبت بأنه بحلمه وحكمته وزينة عقله يستطيع أن يوفّق بين جميع الأطراف ، ويُرضي بعدلِه القاصي والداني منهم .

                        

 

(1) - الشيخ : لقبٌ يطلق على كبير القبيلة وزعيمها .


عودة للصفحة الرئيسية