حكايات من الصحراء

تقديم


تعريف :

الحكاية في اللغة : " هي ما يُحْكى ويُقَصّ ، وَقَعَ أو تُخُيِّل(1)، وهي : " ما يُقَصّ من حادثةٍ حقيقية أو خيالية كتابةً أو شفاهاً (2) ، وهي مصدر مشتقّ من الفعل حَكَى يحكِي حِكايةً ، أي قصَّ وروى ، والحكْيُ هو الكلام ، والحكاية هي القصة المرويّة التي يتناقلها عامة الناس فيحكيها الكبيرُ للصغير ، وتتناقلها الأجيال حتى تصبح موروثاً شعبياً متعارفاً عليه .

والحكاية نتاجٌ فكريّ جميل ، أنتجته الشعوب عبر تاريخـها الطويـل ، وأودعت بها أروع قصصها ، وأجمل ما مرّ بها من أحداثٍ وحكايات ، فجاءت لتعكس خلاصة تجاربها ، وتعطي صورة نابضة حيّة عن واقع الأمة عبر مراحل تاريخها الطويل ، تتجلى فيها حكمة الشعب وعصارة تجاربه وتفاعله في المراحل التاريخية التي عاشها ، وتعطي وصفاً لبعض الجوانب من الحياة الإنسانية ، والأحداث التاريخية المختلفة ، وإظهار النواحي الفكرية والعقلية التي شهدتها المنطقة في فترة من الفترات ، فتعيد لذاكرة الأبناء صورة تاريخهم المجيد وتراثهم العريق بما عرفه من نُبلٍ وأصالة ، وتعيد إلى أذهانهم صورة آبائهم وأجدادهم ومواقفهم الحميدة وأعمالهم الخالدة ، التي يعتز بها كل محبّ لأرضه ووطنه وأهله وتاريخه .

ولو لم تكن تلك الحكايات تحتوي على مقومات البقاء لما استطاعت الصمود أمام تحديات العصور ، ووقفت بكل شموخ لتؤدي دورها الاجتماعي والفكري الذي من أجله أنشئت .

والحكاية الشعبية موروث تراثيّ عريق يرثه الخلفُ عن السَّلَف ، وما من جيل إلا ويستمد الكثير من حكاياته من الجيل الذي سبقه ، فيستمر التواصل بين الأجيال ، ليربط بين الماضي والحاضر ، فتمتد جذور التراث عميقة في أعماق التاريخ لتصل عقول الأبناء بتراث الآباء والأجداد فيستمر النسل الفكري والمصاهرة العقلية ، بما يحمل ذلك من نقلٍ للصفات والعادات المتوارثة ، ومن معالم للحياة الفاضلة من كرم ووفاء وإيثار وشجاعة وتضحية .

 

تنتقل الحكايات عبر تاريخها الطويل من بلدٍ إلى بلد ومن قطر إلى آخر ، فتكتسب من كلّ مكان مزايا جديدة ، وإضافات مختلفة تطبعها بطابع ذلك المكان ، وتصبغها بصبغته ، وتضاف إليها بعض المؤثرات التي تلائم كلّ بلد ، فتصبـح وكأنها فُصِّلـت على تلك المنطقـة ، وكأنها حدثت بها دون غيرها .

فنرى القصة الواحدة بأنماط مختلفة ، وألوان وشخصيات مختلفة أيضاً ، حيث يصبغها كل قطر بصبغته الخاصة ، فتتعرض الحكاية بذلك إلى كثيرٍ من التحريف والتغيير ، إن كان في الزمان أو المكان أو الشخصيات ، غير أنها في مبناها وأهدافها وجوهرها تكون قصة واحدة قد تكون حدثت في عصور بعيدة وأيام غابرة .

ولو نظرنا إلى المجتمع البشري لرأيناه يقسم إلى ثلاث طبقات ، طبقة تعيش في البادية والصحراء ، وأخرى تعيش في القرى والريف ، وثالثة تعيش في الحواضر والمدن ، ولكل منطقة من هذه المناطق ظروفها ومناخها وبيئتها ومزاياها الخاصة بها ، ومن الطبيعي أن تؤثر كل منطقة على سكانها ، ونرى ذلك التأثير بارزاً في حكاياتهم وقصصهم كما سنبينه بعد قليل .

1 - حكايات أهل الصحراء :

تمتاز حكايات أهل البادية والصحراء من البدو والأعراب بطابع خاص يربطها بتلك الصحراء وظروفها ومناخها وطبيعة الحياة والمعيشة فيها .

فنجد لديهم حكايات عن الكَرَم ، وهو ما يتفاخر به أهل الصحراء ، والفروسية ، والغزو ، والصيد ، والصبر ، والأناة ، والرعي مع المواشي ، أو موارد الماء ، وكلّ هذه الأشياء من صميم حياة البادية وأهلها .

أما القسم الأكبر من حكاياتهم الشعبية فيدور حول الجنّ والعفاريت والغول والأشياء الغريبة التي يرويها أهل الصحراء نظراً لوجود مناطق خالية وغير مأهولة يشعر المارُّ منها بالوحشة والخوف في بعض الأحيان ، فإذا ما مرّ شخص من هذه المناطق الخالية يصاب بالفزع الشديد ويعود ليشرح عما لاقى من خوف وهلع في تلك الأماكن المشبوهة .

فيقصّون قصصاً أقرب إلى الخيال عن حكايات مفزعة حدثت مع بعضهم ، أو سمعوا بها ، أو تعرّض بعضهم لها في يوم من الأيام .

وليست المناطق الخالية مكمناً للجنّ وحسب فهناك خوف من قطاع الطرق الذين يكمنون عادة على المفترقات ، وبين الأودية والجبال . فيظل السائر لوحده يعيش في دوامة من الخوف من المجهول حتى يبتعد عن تلك الأماكن الموحشة أو يجد رفيقاً يؤنسه في طريقه .

وهناك أماكن خاصة تدور حولها حكايات مختلفة ومتعددة ، كشجرة منفردة في الصحراء ، أو مفترق طرق في واد عميق ، أو طريق خالية لا يسكن بجوارها أحد وغير ذلك كثير .

2- حكايات أهل القرى :

أما حكايات أهل القرى فتدور أحداثها حول الفقر ومشكلاته المختلفة والتطلُّع إلى الغنى عن طريق عفريت من الجن ، أو العثور على كنز مرصود مليء بالجواهر الثمينة ، أو العثور على آثار قديمة نادرة وغالية الثمن في مغارة أو في قبرٍ دارس قديم ، أو في بئر مهجورة أو غير ذلك .

ومن الطبيعي أن حكايات أهل القرى لا تخلو من قصص البطولة والوفاء والكرم والذود عن الحِمَى ، وإكرام الضيف وغيره ، إضافة إلى قصص السحر والشعوذة التي تسود بين النساء في كلّ مجتمع إن كان قروياً أو مدنياً أو صحراوياً ، فالمرأة هي المرأة ولا فرق بين هذه وتلك من ناحية المعتقد والتفكير إلا في ما ندر .

ومن هنا نرى أن حكايات أهل القرى تتسم بطابع القرية وظروفها الخاصة فنراهم يتحدثون عن الطابون والفرن ، وفلاحة الأرض ، وزراعة الكروم ، والحراثة على البغال وغير ذلك ، ونرى في بعض القصص الثعلب وقد دخل الطابون وسرق الحليب الذي تسخنه العجوز ، والطابون يكثر في القرى دون غيرها من المناطق ، وهكذا فإن القرية ببيئتها الخاصة وجوّها المميز تطبع تلك الحكايات بما يميزها عن غيرها ، ويلائمها لتكون خاصة بأهل القرى دون غيرهم .

3- حكايات أهل الحواضر والمدن :

أما حكايات أهل الحواضر والمدن فتدور أحداثها حول التجّار ومغامراتهم ومغامرات أبنائهم ، وما يحدث معهم  من قصص الغش والمكر والخداع وغير ذلك ، وذلك يعود إلى جوّ المدينة الذي تكثر فيه التجارة والحركة اليومية النشطة ، بالإضافة إلى قصص الجواري والخدامين ، ومحاولة الوصـول إلى التجّار الكبار أو الـوزراء أو الملـوك ، وحكاياتهم مختلفة ومتنوعة حول هذا الموضوع ، وقصص الغرام التي تحدث بين أبناء الطبقات الغنية والفقيرة ، وما يصاحب ذلك من مشاكل تفرضها الفروق الاجتماعية .

ويفقد دور المرأة جماله ويبدو أكثر شحوباً في كثير من قصص أهل المدن بسبب كثرة الجواري والوجوه النسائية المختلفة ، وما يُعهد إلى المرأة من أدوار تشوّه وجه الجمـال الذي فيها فتبـدو أكثر بذخـاً وترفاً ، متبرجة متصنعة وقد خمدت فيها روح البساطة والوداعة، ولا نجد قيساً يهيم على وجهه ويناجي ليلاه في الليالي المظلمـة، وهذا لا ينفي وجود حكايات كتلك التي تحدث في القرى حيث لا يخلو مجتمع من قصص البطولة والشجاعة والكرم ، وإن كانت تكثر في مجتمع وتقلّ في آخر .

والحكاية نوعان :

نوع خفيف يكثر فيه الخيال ، وتتكلم فيه الحيوانات من أفاع وحيات وثعالب وغيرها ، وتكثر فيه الغولة وأفعالها العجيبة ، وهذا النوع هو ما تقصه النساء على أطفالهن ، ويغلب عليه طابع الخيال والأسطورة وهو أشبه ما يكون بالرسومات المتحركة .

والنوع الآخر ؛ عبارة عن حكايات وقصص هادفة تستخلص منها العبر ، وإن كان فيها بعض اللهو مما يستعمله الرجال في مجالس سمرهم  وأماكن اجتماعاتهم .

وأحياناً يقصد منها إظهار حجة دامغة بقصد إثبات قضية على شخص معين في حال اللجوء إلى حل المشاكل العشائرية المختلفة . والتي تثبت للطرف الآخر حدوث مثل هذه القضية وحلها بالشكل الذي ترويه الحكاية .

متى تحكى هذه الحكايات والقصص ؟

بعد أن يدخل الأطفال إلى منامهم تجلس إليهم الأم أو الأخت الكبرى أو الجدة وتحدثهم عن حكايات مختلفة تجعل عقولهم الغضة الصغيرة تحلق في عالم الخيال وتتصور أحداث تلك القصص في شبه شريط أشبه ما يكون بأفلام الرسومات المتحركة .

وتصبح هذه الحكايات شيئاً روتينياً يعتاد الأطفال على سماعها في كل ليلة ، حيث تتنوع من وقتٍ لآخر ، وقد تتذكر الأم أو الجدة حكايات أخرى تكون قد سمعتها من قبل فتقصها على أطفالها فيتلقونها متلهفين ، ويكون لوقعها تأثير كبير على عقولهم الغضة الطريّة .

الأهداف تربوية :

ولو نظرنا إلى الهدف التربوي الذي يُستخلص من هذه الحكايات لوجدنا أنه يتلخّص في عدة أمور ، منها :

1- إن هذه الحكايات تساعد على توسيع أفق الطفل ، وإطلاق العنان لخياله وأفكاره لتحلّق في أجواء خيالية مليئة بالجمال والرؤى الجميلة ، فتسرح أفكاره ليتابع أحداث القصة مما يطور لديه قدرة التفكير والتخيّل .

2- إعطاء الطفل فرصة للاستماع والاستيعاب والمشاركة في نقاش جماعي بينه وبين إخوانه حول أحداث القصة وموضوعاتها . الأمر الذي يعطيه الفرصة للخوض في نقاشات حول مواضيع مختلفة يمكن أن يشارك بها ويساهم في نقاشها .

3-  إعطاء الطفل فرصة لسرد وقصّ ما سمع وفهم من الحكايات ، عندما يحين دوره ليقصّ حكاية فهمها واستوعبها  الأمر الذي يساعده على الحفظ والاستظهار في مرات قادمة .

4- تساعد الطفل على الخروج من دائرة الخجل عند سرده لقصة أو حكاية وتمكنه من التعوّد على شرح ما يسمعه أو ما يريد قوله للآخرين دون أن يتلعثم أو يخشى من أحد .

وقد تستخدم بعض الحكايات الشعبية بشكل خاطيء من قبل بعض الأمهات وتجعل منها وسيلة تخيف بها الطفل أو تفزعه ، وهناك عدة نقاط يجدر الوقوف عندها وتأملها بكل جديّة لاستخلاص العبر منها وتحاشي ما فيها من ضرر قد يعود بالأذى على الطفل بشكل مباشر أو غير مباشر .

1- تستخدم الحكايات أحياناً لإخافة الطفل وإفزاعه ، وإرغامه على النوم المبكر دون إرادته فتروي لهم قصصاً مفزعة عن الغولة وكيف تأكل بني البشر وتتربص بهم ، أو تروي لهم حكايات مفزعة عن الجن والعفاريت وتقول لهم بعد أن تسرد لهم الحكاية :" غطوا رؤوسكم أحسن تأتيكم الغولة " . ويغطي الأطفال رؤوسهم بما لديهم من غطاء إن كان لحافاً أو حِرَاماً أو غيره مما يسبب لهم ضيقاً في التنفس بسبب قلة الأكسجين . فلتعي الأمهات إلى هذه الناحية وتعرف مضارها وتتحاشاها .

2- الإكثار من الحكايات المفزعة كحكايات الجن والعفاريت والغول الذي يأكل بني البشر ويتربص بهم وغيرها من حكايات ، تزرع في نفس الطفل نوعاً من الإحباط ، والخوف الداخلي ،  والقلق وعدم الثقة في النفس ، فلا يستطيع الخروج في الليل لوحده حتى لو طُلب منه أن يجلب شيئاً من خارج البيت ، الأمر الذي يثبط عزيمته ويضعف شخصيته ، ويسبب له مشاكل مستقبلية هو في غنى عنها .

وهكذا نرى أن للحكاية الشعبية دور هام في الحياة الفكرية والاجتماعية ، وهي موروث شعبيّ عريق لا يمكن التنكر له أو الاستغناء عنه ، وعلينا المحافظة عليه وتوثيقه بالشكل الصحيح حتى يصل إلى أبنائنا وأجيالنا القادمة ويكون درساً وموعظة وهدى لمن يريد أن ينهل من هذا النبع التراثي الصافي .

والله نسأل أن يسدد خطانا ويهدينا سواء السبيل

صالح زيادنة


(1)- المعجم الوسيط ، ص 197 ، ج 1 .

(2)- الرائد ، ص582 .


عودة للصفحة الرئيسية