مقدمة كتاب النحت في ذاكرة الصحراء

مقدمــة

بقلم : صالح زيادنة

 النحت في ذاكرة الصحراء هو كتابٌ صغير يروي فيه الكاتب سهيل عيساوي تجربته الشخصية، واللحظات الجميلة التي قضاها في ربوع النقب، إن كان ذلك في الجامعة حيث درَسَ لعدة سنوات، أو خلال فترة التدريس التي قضى أكثر من عقد يُدرِّس فيها في مدرسة الرازي الإعدادية والثانوية في رهط.

لا شك أن الكتاب كُتب بأسلوبٍ أدبيٍ جميل وبعبارات صادقة معبرة، عبر فيها الكاتب عن شعوره الصادق وإحساسه النبيل وما يكنه من حبٍّ حقيقي لتلك المنطقة التي أحبها وألفها ووجد فيها أهلاً وأخوة ملأوا عليه فراغ حياته.

قليلون هم الذين يحملون مثل هذا الشعور، وقليلون هم الذين يندمجون في مجتمعٍ آخر وبيئة أخرى ويربطون مثل هذه العلاقات الطيبة التي استطاع سهيل أن يحيك خيوطها.

ولولا طيبة معدنه، وعراقة أصله وما يحمله في قلبه الكبير من معاني الصدق والوفاء لما استطاع ذلك، وهو يدرك ذلك جيداً ويقول: "وبعد بضعة أميال تكشف الصحراء معدن ما تحمله في سلالك المستورة, فالغربة كفيلة بتعري الأشياء وكشف اللثام عن معدن المرء".

الصديق الوفي عملة نادرة، ولكن سهيل استطاع أن يختار وأن يكوِّن لنفسه مجموعة من الأصدقاء الذين بادلوه شعوره وحفظوا له ودّه وصداقته. ليس ذلك وحسب ولكن هذه الصداقات نمت وكبرت واستطاعت أن تورق وتثمر لأنه "لا يمكننا تغطية شمس المحبة بأصابعنا الخشنة, وما أجمل أن تغرس شجرة في واحة ثم تتظلل بظلها الوارف".

وهو يدرك أن "الصداقة مثل الحديقة الجميلة تقطف منها أروع الزهور لتشكل منها أجمل باقة ورد, تكلّل جبينك وترافقك في ترحالك وعملك وفكرك. ومن الجنون أن تفرط بزهرة واحدة, فتختل ألوان قوس قزح العجيبة, وتخسر لون ابتسامة تطبع السعادة على جبين روحك".

وهو يتذكّر الأيّام الجميلة التي قضاها في سلك التعليم، ويتذكر الطلبة والمعلمين، ولا ينسى تلك الأيام حتى لو عادت به سفينته إلى الجزيرة التي خرج منها ورست به في مرفئها القديم ويقول: "على المعلم الذي عاش في منطقة النقب أن لا يدفن أجمل اللحظات التي دامت سنين في مقبرة الذاكرة, غير آسف على فنجان القهوة السمراء الذي ارتشفه معهم, على ضحكة امتزجت, على كسرة خبز تقاسموها معاً.

كيف ينسى تلك المنطقة وله فيها "أنفاس مبعثرة, حبات عرق اتحدت مع حبات الرمل, له رسائل مقدسة يحملها آلاف من طلابه, له ضحكات وهمسات وخطوات وآهات وشطحات".

وتظل منطقة النقب بيته الثاني الذي يعود إليه متى شاء دون تأشيرة دخول ويقول: "من كفر مندا الجليل إلى رهط النقب,  يمتد جسر طويل مرصوف بالمحبة والنوايا الطاهرة، أعبر إليه متى أشاء, وتعبرون إليه متى تشاءون, لم أعد بحاجة إلى جواز سفر, فكل المدن والقرى بلادي، وكل القلوب مرفئي, وكل النقب عشيرتي". 

ويتحدث سهيل عن رابطة أقلام الجنوب، وعن حلمه أن تكون كالرابطة القلمية التي أنشأها جبران ورفاقه في المهجر الشمالي في عام 1920م، والتي تركت بصماتها الأدبية على العالم العربي بأسره، وظلت عاملة نشيطة حتى عام 1931م حيث انفرط عقدها بعد وفاة جبران.

ولكن رابطة أقلام الجنوب كانت أكثر هشاشة وأطرى عوداً، ولم تحقق ما كان يصبو إليه سهيل، وما كنا نصبو إليه جميعاً، وسرعان ما انطفأت جمراتها في موقد النسيان، بعد أن هاجرت طيورها لتختفي وراء الأفق، وتغرق في خضم الحياة، وتنصهر في بوتقة العمل.

الحلم شيء جميل، والطموح أجمل وأروع، ولكن الواقع بصخرته الصلبة القاسية، تتكسر عليه أمواج الحلم والطموح، غير أن صاحب العزيمة هو الذي لا يكلّ ولا يملّ فإذا ما انطفأت شمعة قام بإشعال شمعة أخرى.

ويتحدث سهيل عن الندوات والأمسيات الشعرية، وكيف يتجشم الشعراء مشاقّ السفر لساعات طويلة ليقف الشاعر بعدها عدة دقائق يقرأ لجمهوره ما جادت به قريحته، ومهما كان التعب فإن هذه الدقائق القليلة كفيلة أن تعيد للشاعر نشاطه وحيويته وهو يرى نفسه ينثر على الناس من حبات قلبه ومن مكنونات فؤاده، فلذة الشاعر في العطاء أن يرى الناس يأكلون من ثمار إبداعه، وينهلون من نبع معارفه وأفكاره.

ويظل سهيل يرفرف بجناحيه حول المكان الذي أحبّه، والذي تأثر به وأثّر فيه، ويقول في الرسالة الخامسة من رسائل محبته إلى الجنوب: " لو كان بإمكاني أن أطوي المسافات وأحلق فوق السحاب, أتجاوز المدن لأرتشف القهوة مع كل صباح وأتنفس الهواء العليل, أراقب مغيب الشمس من خلف الرمال الذهبية, وأرسم  خارطة الأشياء على الرمال, وأصغي لعازف على الناي, وقصة شيخ يروي حكاية عن النخوة والرجولة، الفروسية والإنسان".

هذا هو كتاب سهيل على صغر حجمه، لكنه بحق نحت في ذاكرة الصحراء، وأي نحت أسمى من هذا النحت الذي يحفر الصداقة على جدران القلوب، ويسطر الوفاء بأسمى معانيه وصوره، فبوركت يا أخي سهيل وبورك عملك، وتأكد بأن من يزرع الخير لا يحصد إلا خيراً، وأن الذين تكن لهم شعور المحبة والوفاء يكنون لك مثل شعورك، فأحاسيس القلوب لا تخيب، وأنت لم تعد بحاجة إلى جواز سفر, فكل المدن والقرى بلادك، وكل القلوب مرفئك, وكلّ النقب عشيرتك.    

وختاماً أتمنى لك أخي سهيل حياة سعيدة هانئة، وأن يظل نايك يعزف ألحاناً شجية من قلبك الكبير، وأن تتحفنا بين الحين والآخر بعمل أدبي متميز.

أثابك الله ووفقك لما فيه الخير والصلاح، وسدد على طريق الحق والرشد خطاك.

وتقبَّل تحياتي

صالح زيادنة - رهط

10 حزيران 2007م

 


رجوع