بيت الشعر ذلك الكنز الذي قد ضاع - لصالح زيادنة

بَيْتُ الشَّعْر ذلك الكنز الذي قد ضاع

بقلم: صالح زيادنة

عندما كان الشاعر القديم يبكي على أطلال بلدته التي تهدمت وأصبحت أثراً بعد عين، فلا غرو أن نبكي نحن وقد عاصرنا بيت الشَّعْر وعشنا فيه سنين طويلة، نبكيه ونرثيه لأنه ضاعَ واندثرَ بالفعل، ولا أعتقد بأنَّ التاريخَ سيعود للوراء، ولذلك لن يعودَ بيتُ الشَّعْر ولن نعيشَ فيه مجدداً ولن نراه إلا في المتاحف والصور.

بيت الشَّعْر ذلك المنزلُ البسيط الذي آوانا صغاراً، وعشنا فيه حقبةً من شبابنا ضاعَ إلى غير رجعة، ذلك البيت الذي منحنا الحرية المطلقة والدفء والأمان أصبح صفحةً مطويةً في سِفْر الذكريات. إنه ذلك الكنز الثمين الذي لن يدركَ قيمته إلا من عرفه عن قرب، أو من عاصرَهُ وعاش فيه.

أحببتُ أن أكتبَ عنه وأنا يعتصرني الأَلَم وتملأ نفسي المرارة لما آلَ إليه وضعه، ولما جَنَـتْهُ عليه الأيام، ولا أطلب من الدهرِ أن يُعيدَ عجلةَ التاريخِ إلى الوراء، ولكنني أعرفُ أنَّ عصرَ بيت الشّعْر هو عصرُ الحرية والجود والكَرَم والرجولة الحقّة، وعصر المروءة والشهامة والنخوة العربية الأصيلة، وعصر اللغة النقية والنطق السليم الذي لم يدخله لَوْثٌ ولا لَحْنٌ ولا لكنة أجنبية.

إنَّ العيش في بيت الشَّعْر لا يعني الجهل والتأخّر وعدم اللحاق بركب الحضارة، ومن يقول ذلك لا يعرف تلك الحياة على حقيقتها المجرّدة، ولكنه قد يكون سمع بها من مصادر مشوهةٍ مسمومة.

ونحن عندما نقول اليوم: نريد اللحاق بركب الحضارة، فأي حضارةٍ تلك التي نقصدها، حضارة الاختلاط والفساد وانتشار المخدرات والعنف بشتى أنواعه، أم حضارة الكذب والنفاق والمماطلة والتسويف والأخلاق المتدنية الرديئة، فأين نحن من ذلك؟ وهل ما وصلنا إليه اليوم هو تقدّمٌ أم تأخّر؟ أم انحدارٌ نحو هاويةٍ لا يعلم قرارها إلا الله.

أين نحن اليوم وقد أصبحنا نعيش في بيوتٍ من الحجر محدودة المساحة والمكان تشبه جِحَرة الفئران تضيق بالأبناء حيناً فيتشتتون، ولا يجدوا ملجأً لعائلاتهم الصغيرة وطموحاتهم الكبيرة، وتتفكك بذلك أواصر العائلة الواحدة، وعُرَى الروابط الأسرية المتينة التي تجمعهم على التراحم والمحبة والتآلف الروحي العميق.

بيوت من حجر بعد أن كانت من شَعْرٍ أو وَبَر، ولكن الفرق شاسع، فالحرية المطلقة التي منحتها الصحراء لأبنائها جمعتها بيوت الحجر بين أربعة جدران، لتصبح قيوداً نضعها بأنفسنا في أيدينا ونقيّد بها حرياتنا وعاداتنا وخصالنا الحميدة التي تَمَسّكنا بها طيلة قرون عديدة.

هواء نقي ينساب كالنسيم العليل كنا نستنشقه من مصادره الطبيعية، واليوم نعيش على هواء مصطنع تجلبه مراوح كهربائية وندفع ثمنه غالياً، فمتى كان الناس يدفعون ثمن الهواء؟

وضجة عالية تُحدثها تلك المراوح تجعلنا نشعر كأننا نعيش في مصنع بعد ذاك الهدوء وتلك السكينة التي كنا نتمتع بها في بيوت الشعر.

كنا نُحس في فصل الشتاء بكلّ زخّةِ مطر، ونسمع صوت وقعها الرتيب يُدندنُ على سقوف بيوتنا، وربما يسقط بعضُ رذاذها على وجوهنا، فنشعر ببرودة ناعمة ونفرح لها، أما اليوم ونحن في بيوت الحجر فلو جاء طوفان في الليل وجرفَ الأرض من حولنا لما شعرنا به وكأننا نعيش في ملاجئ مغلقة تحت بطن الأرض.

إهانةٌ تلو إهانة نعيشها في بيوت الحجر، فلا يكاد يَمرّ شهرٌ دون أن يزورنا جابي السلطة المحلية ومعه رسالة إنذار بقطع حنفية الماء إن لم ندفع، ولو كان الدفع طبيعياً لقبلنا به، وقلنا ندفع ثمن ما استهلكناه، ولكنهم يبيعوننا الماء بأسعار الكولا، وليس هذا وحسب ولكن علينا أن ندفع أيضاً ثمن سيلان مياهنا في قنوات المجاري، وحتى لو سقينا بعض أشجار التين في ساحات بيوتنا، أو غسلنا الغبار عن سياراتنا، وحتى لو كان هذا القانون لاغياً أو مجمداً فعلينا أن ندفع، وإلا سوف يحملون عفش بيوتنا ويبيعونها في المزاد العلني. فهل كانت هذه الإهانات موجودة في بيوت الشَّعر، أم أنها من معالم الحضارة ومزايا التطور الذي كنا نطمح له، فجنينا على أنفسنا كما جنت على نفسها براقش.

الإهانات كثيرة ومتكررة ولا نكاد نخلص من إهانة إلا ونقع في أخرى، حتى تعودنا الذل والخنوع، وأصبحنا كالخراف الوديعة نأكل ونشرب وندفع، لم نعد نصرخ، ولم نعد نتألم ولم نعد نقول لا، حتى لا تكون تصرفاتنا بدائية ونحن نعيش في عصر الحضارة ونعيش في بيوت الحجر، والتي كانت سبباً في ضياع راحتنا النفسية، وفي تشتيت أفكارنا، وزعزعة استقرارنا وهدوء بالنا.

كنا ونحن في بيوت الشَّعر إذا جاء ضيفٌ يخرج له ربّ الأسرة مرحباً وباشَّاً ويقدّم له القهوةَ والطعامَ أو القِرَى، وكلّ ذلك بنفس راضيةٍ مطمئنة، تهتزّ لأريحية الجود والكَرَم، أما اليوم فعندما يأتي ضيف يخرج له أحدُ الأبناء الصغار ويقول له أبي ليس موجوداً، فيعود الضيف أدراجه، وأصبح في قدوم أي شخص علامة سؤال واستفهام، ما الذي يريده؟ ولماذا جاء؟ وما هي العلاقة التي بيني وبينه؟ حتى أقلع الناس عن زيارة بعضهم البعض، وكَفّوا عن كثير من المجاملات التي كانت بينهم، إنها ظاهرة من مظاهر الحضارة وعلامة من علامات التطور والرقي، التي وصلنا إليها بعد أن أصبحنا نعيش في بيوت الطوب والحجر.

لم تكن بناتنا ونساؤنا يخرجن من بيوتنا ونحن نعيش في بيوت الشعر، ولم يكن يعملن خوادم وجواري كما هي حالنا اليوم، لقد تفسخنا بكلّ ما في كلمة التفسخ من معنى، وأصبح الأب يحتال ويتملّق لتعمل ابنته موظفةً أو سكرتيرة، أو مساعدةً في روضة أو في غير هذه الأعمال، أين نحن اليوم أجبني أخي القارئ، وربما لا يعجبك كلامي لأنك لم تذق طعم الحرية التي ذقناها بالأمس، ولم تذق طعم المرارة التي  نعيشها ونُحِسُّ بها اليوم. 

     

rrr

   ---------------

نشرت في صحيفة الحدث في 09/07/2008م .

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة

« لا يسمح باستخدام هذه المادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »

 ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.


صممت هذه الصفحة في 29/08/2008م

بريد الكتروني

موقع الشاعر صالح زيادنة