من كل واد عصا - لصالح زيادنة

من كلّ وادٍ عصا

بقلم: صالح زيادنة

1.   ليت الزمان يعود يوماً

 أصاب أحدهم الكِبر وتقدم به العمر، فأخذ يتذكّر الليالي الماضية وعزم الشباب الذي كان، ويقارن بين تلك الأيام وما آلَ إليه حاله عندما بلغه المشيب وأخذ يقول:

     بالعون وإني جيّد العزم والباس

                         أَرْكَب ولا جَـنَّ المطَايَـا جْفَـالِ

     واليوم أنا بحال الندامة والأتعاس

                        ما أركب ولو داسوا على عضدها لي

الشرح:

بالعَوْن: نوع من القسم يشبه تالله. جيد العزم: شديد العزم. الباس: البأس. جَنّ: جئن. المطايا: الإبل. جفال: جافلة.

تالله أني شديد العزم والبأس، أركب لردّ الغزاة إذا جاءت الإبل جافلة.

أما اليوم وبعد أن أصابني الوهن والكبر فأنا بحال الندامة على ما فات من أيام جميلة ماضية، وفي حال التعاسة مما أنا فيه الآن، ولا أستطيع الركوب على الناقة حتى لو أناخوها وعقلوها وداسوا على عضدها لأركبها فلا أستطيع، فسبحان مغير الأحوال.

  * * * * *

 

2.   تولول ثم تزغرد

 كنت في المصرف وكان يقف ورائي شخص من حارة مجاورة، فجاء زميلٌ لي وقال: أتعرف هذا الذي يقف وراءك، فقلت: نعم أعرفه، إنه فلان، ولكنه كان من جيرانكم أنتم في السابق.

فقال: كان هذا الشخص قد بلغ من العمر أربع سنوات وهو أخرس لا يتكلم، وذات يوم قطعت أمه الشارع وكان يجري خلفها، فضربته سيارة أجرة كانت مارة من هناك، أتذكر سيارات الأجرة السوداء الكبيرة، فقلت نعم، قال ضربته سيارة أجرة من هذا النوع، فأخذت أمه تولول وتصيح، ولكنها بعد لحظات أخذت تزغرد بملء صوتها، أتدري لماذا؟ فقلت: لا، قال: لأن ابنها هذا بعد أن ضربته السيارة أخذ يصيح وينادي أمه وكان لم ينطق قبل ذلك، فانطلق لسانه وحُلَّت عقدة الخَرَس التي عنده، ولهذا السبب قطعت أمه ولولتها وأخذت تزغرد من شدة الفرح، ورُبَّ ضارة نافعة.

  * * * * *

 

3.   أُبُـوَّة

 حدثني أبي أن رجلاً زوّج ابنته لرجلٍ من قرية مجاورة، وكان زوجها يضربها ويهينها دائماً، وذات يوم ذهب أبوها على فرسٍ له ليرى مزرعاً له غير بعيدٍ من بيت ابنته، وأثناء سيره رأى رجلاً على جانب الطريق يضرب امرأةً وهي تصرخ وتولول وتستغيث، فدفع فرسه نحوهما، وعندما اقترب منهما عرف أن المرأة ابنته وأن ذلك الذي يضربها هو زوجها، فكظم غيظه وتظاهر برباطة الجأش وقال له بحنق: اضرب ملعونة الوالدين.. اضربها، وما كاد يصل إليهما حتى نزل من على فرسه وحمل الرجل بين يديه ورفعه عالياً وخبط به الأرض فرَضّ عظامه وانهال عليه ضرباً حتى أشبعه، ثم ركب فرسه وأردف ابنته وراءه وعاد بها إلى بيته، وبعد فترة من الزمان جاء عدد من الوجهاء يتوسطون لإصلاح ذات البين لإعادة المرأة لزوجها وبيتها، وبعد مداولات وافق أبوها على إعادتها شريطة أن لا يتعرض لها بأذى، وهكذا كان فعادت المرأة لبيتها، ويقال إن زوجها لم يضربها بعد تلك الحادثة طيلة حياتها.

 * * * * *

 

4.   يدفنون الفرس

 للخيل معزة خاصة، ومن أجل ذلك يقولون إنه معقود في نواصيها الخير، وقد يكون فأل فرس معينة يجلب الخير لصاحبها، ويقولون:" عْتَاب، وكعَاب ونواصي"؛ فالعتاب عتبات البيت الجديد، والكعب كعب المرأة الجديدة، ويقولون: هذه المرأة كعبها أخضر علينا؛ أي أنها جلبت لهم فألاً حسناً، أما النواصي فهي نواصي الخيل، فالبيت والمرأة والفرس ثلاثة أشياء يتوسَّمون فيها الخير والفأل الحسن. وهناك ثلاثة أشياء يجب عدم التفريط فيها وهي المرأة والبارودة (البندقية) والفرس، وكنت في عرس ذات يوم ودار حديث بيني وبين مجموعة من الشيوخ والمسنين حول الخيل وألوانها وأنواعها، فقال شيخ منهم: كان الناس عندما تموت فرس عندهم يكفنونها ويدفنونها ويذبحون لها عشاء، وهذا يدلّ على دور الفرس وأهميتها عند الناس في العصور الماضية.

  * * * * *

 

5.   العلم زين ..!

 شيخٌ طيّبٌ ومتواضع، له حِنكة ومعرفة تامة بأحوال العرب والقضاء العشائري، التقيت به ذات يوم في مطحنة الحبوب، وكان يحتسي القهوة مع صاحب المطحنة، فقال لي اجلس، فقلت له إنني مستعجل، فقال تعال أقصُّ عليك قصةً حدثت لي مع أبيك، فجلست لأسمع تلك القصة فقال:

كنت فتى ربما في الخامسة عشرة من عمري، وكان أبوك مسؤولاً في بيارة، وذات يوم أخذني لأعمل معه في البيارة، وفي الصباح جاء مسؤول يهودي وقال: من منكم يعرف القراءة والكتابة؟، ولم أصبر أنا، بل قفزت وقلت أنا. فقال لي تعال: فذهبت معه فأعطاني عجلة يجرها حمار أو فرس لا أذكر بالضبط نوع البهيمة، وقال لي: حَمِّل هذه الصناديق المليئة بالحمضيات على العجلة وأنقلها إلى المكان المعد لشحنها، وأنزلها هناك وأكتب عددها على هذا الدفتر، فأخذت العجلة وبدأت أُحَمِّل الصناديق حتى ملأت العجلة ثم ذهبت للمكان المعد لإنزالها وأخذت أنزلها وأرتبها فوق بعضها حتى كاد ظهري ينكسر، وكنت أتصبب عرقاً فعدت لأبيك وقلت له: لا أريد هذا العمل لأنه ثقيل عليّ، فقال لي وهو يخفي ابتسامة عريضة ساخرة: ألم تقل إنك متعلِّم، وهذا العمل يحتاج إلى عِلم، والعلم زين يا ولدي.. العلم زين".

ثم أعطاني عملاً خفيفاً أعمل به ومن يومها وأنا أتذكر تلك الحادثة وأضحك منها ومن ضحك أبيك عليّ.

* * * * *

 

6.   يبيع الفرس ويهرب بها..

 مدير مدرسة حاضر البديهة يحب الطرفة والنكتة، التقيتُ به ذات يوم مع زميلين آخرين، فقال: هل أحدثك ماذا فعل قريبي بمختار قبيلة هذا الشخص؟ وأشار إلى أحد الزميلين، فقلت: وماذا يمكن له أن يفعل!، فقال لقد باع فرسه، أتدري كيف؟، قلت: لا، قال إذن اسمع القصة:

كان لي قريب مسكين على البَرَكَة، وكان يقضي أيامه في بيت الشيخ يعدّ له القهوة ويخدمه، وكان للشيخ فرس أصيلة فكان الرجل يمتطي صهوتها ويخرج بها في كلّ يوم، حتى تظلّ قوية نشيطة، وذات يوم رأى عرساً في قرية مجاورة فلوى عنان الفرس واتجه نحوهم، وعندما وصل كان سباق الخيل على أشده، فدفع فرسه مع السباق فسبقت الخيول جميعاً، ثم عاد بها فسبقت الخيل مرة أخرى، فترك السباق وتوجه لبيت العرس وترجّل عن فرسه وربطها، ثم دخل وسلَّم على الحاضرين وجلس، فسألوه إن كان يريد بيع الفرس، فقال: والله لولا أن أولادي جائعين ما وافقت على بيعها، فساوموه عليها فباعها بخمس ليرات ذهبية، فنقدوه إياها فوضعها في عبِّـه، وعندما أراد الرجوع قال أريد أن آخذ شوطاً على الفرس مع المتسابقين، فانطلق من أمام البيت حتى وصل نهاية الشوط ثم عاد بها نحو البيت، ثم انطلق بها في الجهة الأخرى ولكنه لم يعد في هذه المرة، فانطلقت وراءه الخيل ولكنه اختفى عنها وساعده الظلام فلم يستطيعوا اللحاق به، وعندما وصل بيت الشيخ ربط الفرس مكانها ونام على فراشه وكأن شيئاً لم يكن. وفي الصباح أخذ شيوخ القرية المجاورة يبحثون عن الفرس حتى وجدوها مربوطة بجانب بيت الشيخ، فنزلوا عنده فرحب بهم وأراد أن يكرمهم بعمل القِرَى لهم ولكنهم رفضوا، وسألوه: هل هذه الفرس فرسك؟، ففهم الشيخ أن وراء هذا السؤال قصة، فقال لهم: ما الذي جرى من الفرس أخبروني، فأخبروه بالقصة، فنادى على ذلك الرجل فجاء دون أن يبدو عليه أي اكتراثٍ أو مبالاة، فقال له: هل كنت في العرس الفلاني؟، فقال: نعم، فقال له: هل بعت الفرس؟، فقال: نعم، فقال: أين المال، أعطني إياه، فأخرج الليرات الذهبية من عبِّـه وأعطاها للشيخ، فأعاد للقوم أربع ليراتٍ منها وأعطى الرجل ليرة واحدة. ثم التفت إليهم وقال: هذا درس لكم حتى تنتبهوا مرة أخرى، وإذا كان رجل بسيط منا يضحك عليكم ويفعل بكم ما فعل، فكيف لو بعثنا لكم رجلاً ذكياً من رجالنا. فعاد القوم بالليرات الذهبية وهم يتعجبون من ذلك الرجل الذي استطاع أن يخدعهم ويأخذ مالهم، ويبيعهم فرساً ليست له، ثم يهرب بها بعد ذلك، قصة لا تخلو من طرافة.

 * * * * *

   ---------------

نشرت في صحيفة الحدث في 11/06/2008م .

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة

« لا يسمح باستخدام هذه المادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »

 ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.


صممت هذه الصفحة في 29/08/2008م

بريد الكتروني

موقع الشاعر صالح زيادنة