الغناء وأنواعه عند البدو - لصالح زيادنة

الغناء وأنواعه عند البدو

بقلم: صالح زيادنة

  بعد أن تكلمنا عن الأدوات الموسيقية في العدد الماضي، نعود اليوم لنتكلم عن الغناء وأنواعه في المجتمع الصحراوي بين مضارب أهل البادية وساكنيها، بين تلال الصحراء ومنخفضاتها، وبين مراعيها وفلواتها، فهي مسرح البدويّ الذي أطلق من عليهِ ألحانه، وهي مُلهمته التي توحي إلى نفسه أنغامَها، وكأنّ صفير الريح في ربوعها نايٌ يرافق غناء البدوي ويمتزج بصوته وألحانه، وكأنّ أرضها وأديمها لوحةٌ يستوحي منها فنّـَه وإبداعه.

  ولو أردنا تعريف الغناء لرأينا أنّه من الغُنَّة، وهي خروج الصوت بنغمةٍ مُرَخَّمة، تختلف عن نغمة الكلام العاديّ. والغناء صوت يعبّر عن فرحة النفس وطربها، وانتشائها وتحليقها في أجواء الغبطة والسرور. وقد يأتي الغناء بنغمة تنطوي على الحزن، ليعبّر عمّا يجيش في النفس من لواعج الأسى ومشاعر الحزن والكآبة. والغناء في الصحراء له ألحان متنوعة تفرضها البيئة الصحراوية من حيث النغمة واللحن، وتلوّنها الطبيعة بألوانها المختلفة التي تتلاءم مع تلك البيئة، وتتناسب مع ظروف العيش في الصحراء.

  والغناء في المجتمع الصحراوي يُقسم إلى نوعين: قسم خاصّ بالرجال وهو الأكثر شيوعاً وانتشاراً، وقسم قليل آخر خاصّ بالنساء ويقتصر على مناسبات الأفراح أو المناسبات الأخرى المشابهة لا يتعداها، ونحن في هذا المقال نبدأ بأغاني الرجال وبالألوان الأكثر شيوعاً، أو التي يعتبرها البدو ركيزة الغناء عندهم ونستهلّها بغناء الهجيني.

الهجيني:

  هو لونٌ من ألوان الغناء الشعبيّ القديم الذي كان يردُّده المسافرون وهم على ظهور إبلهم وهجنهم يقطعون فيافي الصحراء ومسافاتها البعيدة في قوافل مختلفة، منها ما كَثُر عددها ومنها ما هو دون ذلك. وكان في غناء الهجيني ما يُخَفِّفُ وحشة الطريق وعناء السفر، ويحثّ الإبل على السير السريع فتمدّ أعناقها وتُتبعها قوائمها الأمامية ثم تُردفها بقوائمها الخلفية فتمشي وكأنها تعلو وتهبط، وكأنّ المغنّي يحسّ بهذا الارتفاع والهبوط فينطلق صوته ليتناغم مع سير الإبل وهي تتهادى في رمال الصحراء، فيعلو صوته تارة وينخفض تارة أخرى مع إيقاع أخفاف الإبل ووقع خطواتها. 

   وقد جاء اسم الهجيني من الهجين وجمعه هجن وهو الجمل الرشيق السريع المشي الذي يُعَدّ من أجل السفر وقطع المسافات البعيدة. ومن لفظة الهجيني اشتقوا فعلاً فقالوا: هَوْجَنَ، يُهَوْجِنُ هَوْجَنَةً؛ أي تغنّى بهذا النوع من الغناء.

  وقد يشترك في غناء الهجيني شخصان أو أكثر، يردّ الواحد منهم على الآخر بأبياتٍ توحي له أبياتاً مشابهة أو ذات صلة فيطرب لها الرَّكْبُ المسافر وينسى هموم السفر ووحشة الطريق. 

وهذه نماذج من شعر الهجيني:

باسْمَع  نغِيط  القطا  يا  عيَال

  ثِنْتين   سَـوَّن   هجِينِيّـة
يا بنت  لا  توردي  سَيَّـال   لا  عاد  ما  أنتِ  حويطيّة
 

***

 
يا  طير  أنا  بسألـك   بالله   بالصوت ما شفت لي نـورهْ
يا  عينها   عيـن   الغزيّـل   اللي عن  الوكر  مقصـورهْ
 

***

 
يا   وَنّتـي   وَنّـة    الجالي   واللي جَلَى  من   بني  عمّه
العام مثل اليوم كنت أنا غالي   واليوم   أنا   ماني   بيمّـه
 

***

 
يا   ونتي    ونّـة   الثنتيـن   خَلَّن    ولدهـن  بمفلاهن
ولن اقبلن يزعقـن صوتيـن   ولن  بَرَكَنْ  داروا   اثناهن
 

***

 
بالمرقبـة شفت  أنا  خـدّه   برقٍ  لمع  عُقب  عِشْويّـه
ومن  حَطّني  نايـم  بحـدّه   راسي  وراسـه  خلاويّـه
 

***

 
يا  بنت  يا  زينـة  المنطوق   يا شَمعة  البيـت  والعَيْلة
القَرْن الأشقر  حرير  السوق   والخـدّ   يضوي   قناديله
 

***

 
نتحسّب الله  على  الجَبْرَيـن   يدعي   مطرهم    صلافيحِِ
عَيَّوا  على سهَيِّف الذُّرْعَـان   نَومِي  ونومـه  شَلاوِيـحِ
  ***  
طيري  غدا  يا  سَلَق   وراح   لا  يا حلاتي  لا  يا  طيري
شوّحت  له  وابعد   المشواح   واثريت  عينه  على  غيري
 

***

 
يا  ولد يا  راكب  الحنتـور   يا اللي يهفّ الهـوا  هَفِّي
سَلِّم على الصاحب  المذكور   واسْمه مقَيَّـد  على  كَفَّي
 

***

 
يا قلـب يا اللي  غدا  قلبين   تفَرَّقن، وكيف  نجمعهـن
واحد  يلقى  طريـق   الزين   وواحد طريق البيض تابعهن
 

***

 
الهتسـي  اللـي   تبيعونـه  

بألفين  ليرة  ما  هو  بغالي

في أرض الحمادة حين ترخونه   سيلٍ  تحـدّر  من العالـي
  ***  
حسبـي الله على النسـوان   هَـرْج  القفا  ما   يخلّنـه
هَرْج  القفا  عندهن   ناموس   وإن  كان  قليل   يزيدنّـه
 

***

 

المويلي:

  يبدو لي أن لفظة المويلي مشتقة من المويل وهو تصغير للموّال بلهجة أهل البادية، وذلك أن هذا اللحن أشبه ما يكون بالموّال، حيث تُمَدّ فيه النغمة بشكلٍ كبير تجعلها قريبةً من مخرج صوت الموّال، وإن كان من حيث التركيب أقرب ما يكون إلى الهجيني ولكنه أقصر منه نغمة وأسرع إيقاعاً، وهو من الألحان الأصلية التي يعتبرها البدو أصل الغناء عندهم والتي تتركز في الهجيني والمويلي والرِّزْعة والبَدْع، أما الأنواع الأخرى من الغناء فهي أقل شهرة من هذه الأنواع المذكورة وأقل انتشاراً بين الأوساط الشعبية.

  وأغراض غناء المويلي تشابه أغراض الهجيني وكأنهما شقيقان جاءا من حنجرة واحدة، فنرى فيه ذِكر السّفَر والإبل والحنين والغزل وما شابه، وهو بذلك لا يقتصر على المناسبات الخاصة كما هو الحال مع البَدْع أو الرِّزْعة.

وإليك هذا النموذج من غناء المويلي:

 

بيـر زمـزم عليـه   حـارسٍ ما ينـام
والركايــب عليـه   مثـل  رَفّ  الحمام
 

***

 
راعـي الذلـول الحرّة     غَرَّب يا زين شداده
يا أبوي أعطيني الحمرا   خليني ألحـق بلاده
 

***

 
حِنِّي حنينـك  كُلّـه    لا تبخلي يا ناقـة
وأنتِ بتحِنِّي ع البِـلّ   وأنا على الرِّفاقـة
 

***

 
زَامَـتْ عليَّ كبـدي   مِنْ جَمَّتْ الهرابـة
عيني ترعى على وضحا    عَيَّت عن القَرَابَـة
 

***

 
واشْرِف ع راس المرقاب   وأشَوِّح للي قبالي
وأشَـوِّح لك يا خَيِّـي   وانت العزيز الغالي
 

***

 
رُدِّي عَلَـيّ يا يُمَّـه     وأنا عليكي بنادي
وأنا  في بـلاد الغربـة   وأنت في حي بلادي
 

***

 
ريحة حطبكـو  ع النار   سُكَّر طحين رحَاكُو
يا اللي ولدكو عَوَّاد   كيف القلب ينساكو
 

***

 

البَـدْع:

  البَدْع هو نوع من الشعر الارتجالي المسجوع المبني على الجُمَل القصيرة والسَّجْع، والذي يُلقى ويُغَنّى في سامر الأعراس، حيث تقام الحفلات ويتبارز فيه عددٌ من الشعراء الذين برعوا في إلقاء البَدْع أو هذا النوع من الشعر، وإذا ما نبا بأحدهم لسانه بكلمة لا تروق للبدّاع الآخر فحينها يبدأ التراشق بالكلام، وقد يصل الحال إلى إقذاع القول أو ربما إلى المشاجرة، ولكن ذلك ليس في كلّ الحالات، فسرعان ما يتصالح البدّاعون وتعود المياه إلى مجاريها، ويظل البَدْعُ ذلك اللون الشعريّ الخاص الذي نسمعه في الأعراس وفي المناسبات السعيدة ويظل اسمه مقترناً بهذه المناسبات مهما قَسَت الظروف وتغيّرت أحوال الزمان.

وهذا نموذج من شعر البّدْع يعتمد على البيت الواحد:

ربعي يا عصابة راسـي

 

حالي  بلاكم زريـة
ربوعي كلهم نشامـى   ما  فيهم حوفة رديّـة
خُذْ لك كلامْ حلو وتمام    والعاطِل رُدّه عَلَيَّـهْ
ارتاح وريِّحْ جـوادك   دِرّ  المثاقـل عَلَيَّـهْ
الرجل من دون رجاله    ما يسوى كلّه سويّه
الرجل من دون رجاله   تاكل عَشَاه الواويّـة
والرجل ما بين  رجاله   يضرب بالعين القوية
أنا  بَدَّاع وأبوي بَدَّاع   وأمي رقَّاصة نِشْمِيّة
  ***  

  وهذا نموذج آخر من البَدْع المربوع:

خَدّه فَانُوسٍ بالسُّوقِ     يلمـع لميع البـروقِ
يا ويلي قلبي مَحْروق   من هَوَى البنت النِّشْمِيّةْ
  ***  
لأبكِي عليها بالليـلِ   والقلـب طاير جفيلي
وإن ما صَفَتْ لي يا ويلي   من  بعـده حالي ضنِيّةْ
  ***  

الرِّزْعة:

  هي لونٌ آخر من الشعر الارتجالي الذي يعتمده أهل البادية ويغنّونه في مناسباتهم المختلفة وينتشر بين أوساطهم بشكلٍ كبير، وشعر الرِّزْعَةُ يُشبه البَدْع، ولكنه يختلف عنه في النغمة واللحن، فهو أطول نفساً وأرقّ نغمة وأصفى جَرْسَاً ووقعاً على النفس، وهو وإن كانت يُغنّى في مناسبات السَّمَر والأعْرَاس شأنه في ذلك كشأن البَدْع، إلا أنه يمكن أن يَتَغَنَّى به الراعي وهو يرعى مع قطيعه، أو ربما يُسلّي به نفسه وهو في بيته، ومن هنا كان انتشاره أكثر من البَدْع، وكثيراً ما يتبارز فيه أكثر من شاعر فنرى ألواناً مختلفة من البلاغة الشعبية والتشابيه اللفظية الجميلة.

  ولهذا الشعر أغراض مختلفة كأغراض الشعر الفصيح، ولكن يغلب عليه طابع الغزل، والتشبيب بجمال المرأة، والشكوى من بُعدها وما شابه ذلك، إضافةً إلى الألوان الأخرى التي يتناولها الشعر على أنواعه.

  ومن لفظة الرِّزعة اشتقوا فعلاً فقالوا: رَزَعَ يَرْزَعُ رَزْعَاً أو رِزْعَةً؛ أي تغنّى بهذا النوع من الغناء.

  وقد ذكرت الأمثال الشعبية الرِّزْعة في عدة أمثال منها: «العرْس في عَمُّورية وأهل البريج بيَرْزَعَوْا». ونستشف من هذا المثل أن الرِّزْعة كانت تُغنّى في الأعراس، وهناك مثل آخر يحبّب تزويج الفتاة من أقاربها حتى يظلّ أولادها داخل نطاق القبيلة يقـول: "وَلَدها في الفَزْعِة وبِنْتها في الرَّزْعِة".

وهذه نماذج مختارة من شعر الرِّزْعِة:

صَبحَكْ  بالخير يا  راعي الغَنَم  يا  زيـن   خِتْيَار  تَلْفَان  عَلِّمْنِي العَرَب  مِنْ  ويـن
  ***  
مَسِّيكْ  بالخير مَسِّي سَاق طَرْبُوشَـكْ   يا اللي الحرير شَوَّكَك واش حال ملبوسك
  ***  
قاعد على القوز من تحته قناة بتجري   يا  شِين صَادَوْا غَزَالَكْ وَانْت مَا بتدْرِي
  ***  
عَلّيتْنِي يا قلب من كثرة مواجيعـك   والناس ما هم سوى، وَكِّدْ في أصابيعك
  ***  
يا اللي غَنَمْكُو دبيلة أصبحتْ شَاتَيـنْ   وان جِيتْكُو ضَيف تسْقُوني لَبَن مِنْ ويـن
  ***  
يا مَـارق  الدَّرْب سَلِّـم على عَـوَّاد   والهَرْج وصل الشَّنَب مَا هُو كـلام أولاد
  ***  
والله  لأَعَلّمـكْ ، مَانِي عَلِيك جَاحِـد   قلبي وقلبك سوى، ومفتاحهنْ واحـد
  ***  
يا  حلو يا زيـن لا تاخذْ على بَالَـكْ   بَاكِر تشِيل العَرَب، وبنحُطّ في جَالـكْ
  ***  
يا حلو يا زيـن مكتوبـك لفَى مَعْنَـا   يُومِـنْ قَرَيْتْ الوَرَق سَالَنْ مدامعنـا
  ***  
يا بنت يا صغيّرة، يا أخت الصبي سلمان   حِلِّي ازْرَار الوَطَى وامشي مع السلطان
  ***  
الطُّول طُول  شِبْرين، والخِلْقـة  تَعَاجِيبه   والله لألفّكِ في المَحْرَمة وأحُطّكِ في الجِيبة
  ***  
صَبّحَكْ بالخير يا راعي جَمَل وحصَـانْ   واِنْ جِيتنا  ضَيف، تَلْقَى اللَّبَن غُـدْرَانْ
  ***  
يا حلـو يا زيـن لا تـورد على مَانَـا   من شَوفَـك الزِّيـن، وتفَطََّط  شَلايَانَـا
  ***  
يا وارد البِيـر واسْقِينِـي بحَفْنَاتَـكْ   عطشـان ما بي ظَمَا، ودِّي محَاكَاتَـكْ
  ***  
الحلو في أوّل زمانـه، الكُلّ بيريـده   والكلّ في خاطـره يكْبِش ويدِبّ ايده
  ***  
الحلو في  أوّل زمانـه، الكُلّ  بيريـده   واليوم عفريـت، نَاقِل عَيّلِهْ في ايـده
  ***  
عَزَبَاتْ في بَرْبَـرَة كُلَّ أربعـة بِرْيَـالْ   يا نَاس رُبْع المَجِيدِي بِيجَـوِّز الرَّجَّـال؟!
  ***  
شجرة قرنفـل هَدْبَلَـتْ عَ البيـت    لِمّ الحبايـب يَحْضـرن هالقيـت
  ***  
شجرة قرنفـل هَدْبَلَـتْ عَ الرُّفََّـة     لِمّ الحبايـب يَحْضـرن هالزَّفّـة
  ***  

وللمقال تتمة في العدد القادم بعون الله تعالى.

   ---------------

نشرت في صحيفة أخبار النقب بتاريخ 14/03/2005

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة

« لا يسمح باستخدام هذه المادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »

 ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.


صممت هذه الصفحة في 28/08/2008م

بريد الكتروني

موقع الشاعر صالح زيادنة