المأكولات التي تعد من منتوجات الألبان  - لصالح زيادنة

الفصل الثامن


المأكولات التي تعد من منتوجات الألبان

اللبن هو طعام الفطرة والبساطة، وهو الذي اختاره المصطفى صلى الله عليه وسلم حينما عُرِجَ به إلى السماء، وقال في الحديث: «فأتيت بثلاثة أقداح قدح فيه لبن وقدح فيه عسل وقدح فيه خمر فأخذت الذي فيه اللبن فشربت فقيل لي أصبت الفطرة أنت وأمتك»(1).
واللبن يدلّ على النقاء والطُّهْرِ والطيبة، ويدلّ على نقاء السريرة، وصفاء النفس، ونزاهة الروح، فيقال: «قلبه زي الحليب»، أو «قلبه أبيض زي اللبن».
وهو يستعار للدلالة على المواشي بشكلٍ عامّ، لأنها هي التي تدر اللبن وتنتجه، وقد تقاضى المعازيب ذات يوم حول قِرَى الضيف عند مَن يكون، فقال أحدهم في حجته: «الله يحرمك من اللبن إذا أحرمتني من الضيوف»، وهو يقصد باللبن أمهات اللبن وهي المواشي.
واللبن يدلّ كذلك على عصر الطفولة والرضاعة فنجد في الأمثال الشعبية قولهم: «طَبْع اللبن لا يغيّره إلا طَبْع الكفن» (2)، أو «لبن أُمّه على ثُمّه» (3)؛ أي ما زال صغيراً يافعاً قليل التجربة.
وما يهمنا الآن هو المأكولات التي يتم إعدادها من اللبن ومشتقاته وعليها سيدور بحثنا في هذا الفصل:
الحليب:
يُغلى الحليب ويُتْرك حتى يبرد ثم يُشرب فاتراً، وقد يُضاف إليه السكَّر فيكون طعمه أكثر حلاوة. وهناك من يشرب الحليب دون غلي، وخاصة الرعاة الذين يشربون الحليب من أخلاف النياق فيكفيهم عن الخبز والطعام. وأذكر أن شخصاً يُدعى سلامة قال لأبي بأنه لم يذق طعم الخبز طيلة أربعين يوماً، فسأله ماذا كان يأكل؟، فقال بأنه كان يشرب من حليب النياق ويكتفي به عن بقية الأطعمة.
حليب اللِّبَاء:
حليب اللِّبَاء هو الحليب الذي يُحلب من الشاة بعد ولادتها مباشرةً حيث يشكّل غذاءً رئيسياً لابن الشاة المولود حديثاً، وعندما يُغلى هذا الحليب على النار يصبح كالبيض المقلي ويتحوّل إلى كُتَلٍ صغيرة ويكون لونه أبيض يضرب إلى الصفرة وهو مفضّل ومرغوب جداً عند النساء والأطفال. ويسمّيه العامة «حليب لْبِِـيّ».
الحليب الرايب:
هو الحليب الذي يُخَمَّر ويُروّب فيصبح كالجبن الطريّ بسبب الدسمة التي فيه، وهو يُرَوّب من أجل خضّه في اليوم التالي، وقد يرغب بعض أفراد العائلة في أكل شيء منه مع الخبز، ولكنه ثقيل كثير الدسم وتظلّ رائحة الحليب فيه، ومن أمثالهم عن الرايب: «الرايب للحبايب والزبدة للقرايب» (4).
اللبن:
هو اللبن المخضوض الذي يُخْلَط بالماءِ عند الـمَخْضِ وتُخرج منه زبدته، ويكون طعمه يميل إلى الحموضة، وهو يُشرب أحياناً طازجاً بعد إخراج زبدته منه مباشرة.
واللبن يدخل في كثير من المأكولات الشعبية حيث يضاف إلى القمح المجروش وتُعمل منه مديدة القمح باللبن والتي ذكرناها في الفصل السابق، ويضاف كذلك إلى لحم المواشي ولحم الطيور عند طبخها، فيصبح للحم نكهة طيبة زكية، ويصبح المرق أشهى وألذّ. وعندما يضاف اللبن أو مريسة اللبن إلى اللحم عند طبخه فإنه يقضي على رائحة اللحم أو الزَّفَرَة التي فيه وتصبح رائحته طَيِّبةً مستساغة.
فَتّة اللبن:
تُصنع من اللبن فَتَّـة شهيرة هي فتـة اللبن بالسمن البلديّ، حيث يُقَطّع خبز الصاج في صحن كبير ويضاف إليه اللبن الطازج ويُحَرّك باليد حتى تتشَرَّب به قطع الخبز، ثم يضاف إليه السمن البلدي أو الزبدة المقدوحة وهي الزبدة المغليّة، ويؤكل مع البصل الأخضر. وهذه الفَتَّة تكاد تستعمل يومياً في موسم اللبن وأوانه.
الجميد:
تستهلك العائلة أكثر اللبن المخضوض، أو «اللبن الخضيض» وما يزيد عن حاجتها يُغلى على النار حتى يتخثّر، ثم يوضع في كيس من القماش الأبيض يسمى «خريطة»، أو «خريطة اللبن» ويُعلَّق على عمود من أعمدة البيت الداخلية، ثم يضاف إليه الملح فتسقط منه مياه بيضاء بفعل لون اللبن عن طريق فتحات القماش الضيقة التي بين الخيوط، ويسمى اللبن الصافي الذي في الخريطة «جميد» لأن اللبن أصبح جامداً بعض الشيء، أما الماء الأبيض الذي يسيل من الخريطة فيسمى «ميص»، وتغسل المرأةُ الخريطة من الخارج عدة مرات في اليوم حتى لا يبيض عليها الذباب، لأن بيوض الذباب تفقس ديداناً بيضاء صغيرة ذات رؤوس حادة، الأمر الذي لا ترضى المرأة أن تراه على لبنها أو قريباً منه. ثم يضاف إلى الخريطة ما يزيد من اللبن في الأيام التالية حتى تمتلئ ويضاف إليها الملح في كلّ مرة، وهكذا يمكن حفظ هذا اللبن لعدة أيام واستخدامه عند الحاجة.
أما المرأة التي لا تواظب على تنظيف الخريطة من الخارج فإن الذباب يتهافت عليها ويبيض عليها ويفسدها، ومنه جاء المثل الشعبي: «دار الذبّان بتدوّر على دار اللبّان»(5).
والجميد شديد الحموضة بسبب إضافة الملح إليه وسيلان الماء منه، وهناك من يُحبّ هذا اللون من اللبن ويأكل منه مع خبز الصاج الساخن.
وللجميد استعمال آخر فعندما يظلّ شيء من اللحم يزيد عن استعمال العائلة فإن المرأة تضعه في خريطة اللبن لأنه لا يوجد لديها ثلاجة بطبيعة الحال، فيبقى اللحم طريّاً لا يتغير طعمه ولا يفسد، وعند الحاجة تخرج المرأة منه بعض القطع التي تكون باردة وبها طعم اللبن الحامض ويكون لطعمها نكهة زكية خاصة.
العفِيق:
بعد أن يصبح لدى المرأة كمية كافية من اللبن الجميد تقوم بعجنها وإضافة الملح إليها، ثم تعمل منها أقراصاً كرويّة بحجم حبّة البرتقال، تسمى «أزرار عفيق» والواحد منها «زَرّ عفيق»، ثم تنشرها على قطعة خشبية مغطاة بقطعة كيس نظيفة أو قطعة بيضاء نظيفة من القماش، وتغطي أزرار اللبن بقطعة قماش أخرى حتى لا يلتصق بها الغبار وتتركها في الشمس حتى تَجفّ، ويبقى لونها أبيض ناصعاً ونظيفاً، والعفيق الجيّد هو الذي تكون دسمته قليلة فيحافظ على بياضه، أما إذا زادت كمية الدسم فيه فيتحول لونه إلى الصُّفرة ويصبح طعمه غير مستساغ.
الكِشْك:
في أواخر موسم اللبن تضيف المرأة إلى اللبن الجميد عند عجنه كمية من الفلفل الأحمر المطحون، وتعمل منه أزرار عفيق كالتي ذكرناها فيصبح لونها يميل إلى الحمرة، وقد يضاف إليه قليل من الطحين فيصبح أكثر هشاشة وأسهل كسراً، وهذا النوع من العفيق يسمى «كِشْك»، وطعمه لذيذ جداً بسبب حرارة الفلفل وحموضة اللبن.
العفيق المشوي:
يؤكل العفيق مشوياً حيث يوضع على النار لفترة قصيرة فيصبح طرياً بفعل الحرارة ويكون به طعم النار ويؤكل مع الخبز أو دونه.
المريسة:
يُكسر زرّ العفيق إلى قطع صغيرة، وتوضع هذه القطع في صحن ثم تُنقع في الماء وتُترك لبعض الوقت حتى تتحلّل وتلين وتصبح طريةً، ثم تُمرس باليد حتى تصبح لبناً سائلاً أبيض، وطعم المريسة لذيذ جداً بفعل الحموضة التي فيه وهو ينفع لوجع البطن والمغص، وتؤكل المريسة مغمَّسةً بالخبز، أو تُشرب من الصحن، وتُفَتّ فيها أحياناً قطع الخبز وتؤكل مفتوتةً.
وفي السوائل من الطعام كاللبن والمريسة والشوربة وغيرها هناك من يُغَمِّس لقمته، وهناك من يُصَحِّفها، فأما الذي يُغَمِّس فهو الذي يَغُطُّ اللقمة في الطعام ويخرجها مبلولة ويأكلها، أما الذي يُصَحِّف فهو الذي يثني قطعة الخبز بين أصابعه بطريقة خاصة فيجعلها مجوفة كالملعقة، ثم يَغُطُّها في الطعام فتخرج مليئة به فيلتهمها ويعود ليعمل أخرى وهكذا. وتستخدم هذه الطريقة لتحلّ محلّ الملعقة التي لم تكن تستعمل في ذلك الوقت. ويقال: لقمة مُغَمَّسَة، ولقمة مُصَحَّفَة وهكذا..
السَّلَطَة مع المريسة:
تعمل سلطة الخضروات من بندورة وخيار وبصل ثم تضاف إليها المريسة بدل الماء وتحرك جيداً، وهذه السلطة من ألذّ أنواع السَّلَطَات.
سلطة الكوسا باللبن:
تُسلق حبَّات الكوسا حتى تصبح هشة طرية ثم تمرس باليد ويضاف إليها مريس اللبن والثوم وشيء من زيت الزيتون. وهذا النوع يستعمل في القُرَى تحت اسم «قَرْعِيّة» ويضاف إليه اللبن الجامد بدلاً من المريسة، وربما كانوا في الأصل يستعملون القَرَع مكان الكوسا ومن القَرَع جاءت التسمية «قَرْعِيَّة».
الزبدة والسمن:
ولا ننسى ونحن في معرض الحديث عن اللبن ومشتقاته أن نذكر الزبدة فهي تُغلى في مقلى حتى تذوب ثم تسكب على فتة اللبن إذا لم يكن السمن متوفراً بعد. وقد تؤكل طازجة مع خبز الصاج الساخن.
أما السمن فهو يدخل في معظم الأطعمة حيث تُقَلِّي به المرأةُ طبخاتها، وبه يُقلى البيض، ويُؤَدَّم به الطعام، والآدام هو ما يضاف منه للفتّ والثريد، ويعمل منه الخبز الملتوت بالسمن كما ذكرنا في فصلٍ سابق.
----------------------------

(1) – صحيح البخاري، من الحديث رقم 5287 .
(2) – من الأمثال البدوية، ص 140 .
(3) – المرجع السابق، ص 181 .
(4) - موسوعة الأمثال الشعبية في النقب (مخطوط).
(5) – من الأمثال البدوية، ص 97 .


رجوع