المنديل الأخضر للشاعر صالح زيادنة

  المنديل الأخضر - للشاعر صالح زيادنة

كان ترتيبي الخامس في العائلة بعد أخ ذكر وثلاث بنات وكانت أمي رحمها الله تروي لنا قصة تقول: كنت حبلى بك في الشهر السابع أو الثامن وكنتُ مرهقة وتعبة، عندما عاد أبوك مبكراً من العمل وجدني نائمة ولم أُعد له طعام الغداء فغضب لذلك ولكزني برجله وقال: نائمة وتعبانة، شو حبلى في رابع بنت. وقالت أمي إنها بكت في صمت فليس الأمر في يدها، وفي الليل أتاها في الرؤيا الخضر عليه السلام، وناولها منديلاً أخضر وقال لها: خذي لكِ هذا المنديل. وفي الصباح قامت مستبشرة بعد أن أيقنت بأن ما في بطنها هو ولد ذكر. وكانت تحدثنا دائماً بهذه القصة وتذكّر أبي رحمه الله بها، ومرت الأيام وفي يوم أصبت بخيبة أمل من الأصدقاء ومن الناس ومن كثير من الأشياء فكتبت هذه القصيدة "المنديل الأخضر".


عندما حَبِلَتْ بي أُمّي ...

قالتْ: رأيتُ الخَضْر

يُهْديني منديلاً أخضر

قامتْ والفرحةُ تَملاُ عَينيها

والبسمةُ تَغْمُرُ شَفتيها

في حبٍّ شفّافٍ أكبر

كطَهارةِ منديلٍ أخضر

لم يَعُدْ يُشْغِلُها لَغْطُ أبي

وصِياحاتُ أخي

فهي حبلى بِصَبي ..

هكذا قالَ النبي

* * *  

وأتيتُ أنا ...

أتيتُ بريئاً كالأطفال

أبحثُ عن آياتِ الحبّ

عن لَمَسَاتِ جمال

في وجهِ المرأةِ

في عَينيها ...

في الظلِّ الشَّاحبِ فوقَ الشَّال

أبحثُ في كُلِّ الدنيا

عن طِيبةِ قلبٍ مفقودةْ

لا أعرف حقاً

إنْ كانَتْ في الدنيا موجودةْ

لم أعرفْ حينَ أتيتُ

أنَّ الكَذِبَ يُسيطرُ في الدنيا

وأنَّ طريقَ الصَّادقِ مسدودةْ

* * *  

قالت أمي:

ربّيْتُكَ يا ولدي مرفوعَ الرأس

كشجرةِ أرْزٍ باسقةٍ

تتطاولُ من بين الأغراس

لكنْ يا أُمِّي دَمّرني النَّاس

وحقّكِ يا أمي .. دمرَني النَّاس

كُلٌّ دمرني بطريقتهِ

البعضُ بخِنْجَر ...

والبعضُ الآخرُ بِحَدِّ الفأس

قتلوا في قلبي الإحساس

زرعُوا في صدري الوسواس

في نُورِ الصُّبْح ..

في قلبِ الليل

تتصارَعُ في صدري الأنفاس

هل هذا العالمُ يا أمّي ..

معدومُ الإحساس

* * *

يا أُمّي .. 

هل في كُلِّ الدنيا ..

قلبٌ يَتَعَذّبُ كهذا القلب ؟!

يبحثُ عن شيءٍ لا يوجد

ملاحٌ تائه ... أضاعَ الدَّرْب

هل تسمعُ صوتي يا خَضْر ؟

إنّي أتعذّبُ في الفجر

في نُورِ الصُّبْح ...

في قلبِ الليل

في وَجْهِ الفجر

إنّي أَتَعَذَّبُ يا خَضْر

المنديلُ الأخضرُ يَتعذّبُ يا خَضْر

لكنكَ نور ...

وأنا في قلبيَ نور

في الليلِ الحالكِ والدَيجور

يَبحثُ عن صِدْقٍ عَفَويّ ..

عن حَفْنةِ صَبْر

عن حُبٍّ دافيء

عن طُهْر

آهٍ لو تدري يا خَضْر

كم يعرفُ قلبي من أنواع القهر

* * *

أصحابي يا أُمِّي باعوني

في غَمرةِ حُبّي تركوني

مشدوهاً ...

مقهورَ الوجدان

لا أعرفُ ...

كيف يموتُ ضميرُ الإنسان

وكيفَ تصيرُ النفسُ مجردَةً

يَتَحَكَّمُ فيها الشيطان

* * *

حاولتُ أفسِّرُ معنى الحُبّ

وأُحَلِّلُ دقَّاتِ القلب

وحقِّكِ يا أمي ...

لا يوجد في الدُّنيا حُبّ

الكُلُّ يُمَثِّلُ دَوْرَ الصّبّ

وأنا وحيدٌ تائهُ لا أدري

إنْ كانَ الزمنُ السالفُ خَلّفَني

أو أنَّ الزمنَ الآتي أرسَلَني

لأكونَ وحيداً في هذا العصر

هل تسمعُ صوتي يا خَضْر ؟

صوتي الصارخ في أعماق الصدر

إنّي أتعذّبُ يا خَضْر 

في نُورِ الصُّبح ...

في قلبِ الليل

في وَجْهِ الفجر

إنّي أَتَعَذَّبُ يا خَضْر

المنديلُ الأخضرُ يَتعذّبُ يا خَضْر

|||

*- كٌتبت في 12 / 09 / 1990م.  


رجوع