عودة الخليل بن أحمد - لصالح زيادنة

عودة الخليل بن أحمد

بقلم: صالح زيادنة


 

- استيقظ الخليل بن أحمد ذات يوم وفرك عينيه عدة مرات، ونظر أمامه فانبهرت عيناه لما يرى، والتفت يمنة ويسرة فأصابه شيء من الخبال، وعاد ليفرك عينيه من جديد ويسأل نفسه: "كم لبثت"، ولما لم يجد جواباً، نهض من مكانه وسار على قدميه بخطوات وئيدة متثاقلة، بثيابه الرثة البالية وجسده الناحل الهزيل وهو لا يدري إلى أين المسير. فكل شيء حوله قد تغير؛ المباني والناس وملابس البشر وهيئة المخلوقات وتلك العفاريت التي تسير بضجة عالية من حوله جعلته يضع أصابعه في أذنيه ويقول لنفسه مرة أخرى: "أين أنا، وكم لبثت من سنين ؟".

- ولما أدرك الخليل أنه في بلاد غريبة، أو هكذا تبدو لناظريه على الأقل، إذ لم يعرف أحداً من الناس ولم يجد أحداً من معارفه فقرر أن يسأل أحد المارة وأن يستفسر منه عن تلك الأشياء المبهمة التي يراها أمامه لأول مرة.

- وكان أول من التقى به شاب يربط عُقصةً من شعره، ويضع خرزة ذهبية صغيرة في أذنه، وتتدلى على صدره سلسلة ذهبية رفيعة، ويرتدي ملابس ضيقة تكاد تلتصق بجلده، وهو يمضغ لباناً يخرجه أحياناً ويمطّه ثم يمضغه من جديد: فسأله الخليل: يا أخا العرب، أنا غريب وتائه ها هنا، فأخبرني أين أنا وما اسم هذه البلدة، فأخبره إنها بلدة عربية، فعاد الخليل ليسأله عما جرى لأحوال الدنيا والناس وما هو هذا التغيير الذي لم يفقهه ولم يفهم شيئاً من معناه، ولما كان الشاب مستعجلاً وليس لديه الوقت الكافي للإجابة على كل أسئلة واستفسارات الخليل التي أدرك من خلالها أن هذا الرجل غريب الأطوار حقاً فقد اتصل من هاتفه النقّال بمراسل الجزيرة في المدينة. وطار الخبر بسرعة البرق، فتنافست الجزيرة وبعض وكالات الأنباء والتلفزة العربية الأخرى حول من يكون له سبق النشر، أما السي إن إن فلم تشترك في المنافسة لأن الشخص عربي، فلم تعره اهتماماً ولم تكلف نفسها حتى عناء السؤال عنه لكونه عربياً لا يجذب المشاهد الغربي، ويجب طمس ذكره كما تطمس آلاف المواقع الأثرية والمقابر العربية في بلادنا وتُسوّى بالأرض.

- وفي إحدى المكاتب رأى الخليل عدة صور له أحدها في كتاب تاريخ الأدب العربي لحنا لفاخوري تخيلها رسام اسمه أرتورو أورتس، وضحك منها الخليل لأن الصورة لم تكن تشبهه على الإطلاق، وضحك كذلك على الصورة التي تخيلها جبران وقال بينه وبين نفسه يبدو أنني شغلت الناس وأقلقتهم بهذا العلم الذي ابتكرته.

- ورداً على سؤال لأحد الأشخاص حول إمكانية إضافة العديد من البحور الجديدة قال الخليل:

لقد سميت البحور بهذا الاسم لأن كل واحد منها ينطبق على ما لا نهاية له من شعر العرب، فهي بحور حقيقية من الشعر، أما المتداول منها فهو ما ذكرت، فذكر له السائل متبجحاً بأنه أضاف العديد من البحور الجديدة، فأوضح له الخليل بشيء من الهدوء بأن البحور التي ذكرها ما هي سوى مستنقعات كتلك التي تتكون بعد سقوط الأمطار ثم لا تلبث أن تجف بعد وقت قصير. وهي موجودة في الدوائر العروضية ولكنها غير متداولة في شعر العرب.ولكن السائل أكثر من اللف والدوران فذكر له الخليل قصته مع الطالب الذي لم يستوعب تقطيع الشعر فصرفه بلطف حيث طلب منه تقطيع بيت من الشعر يقول:

                    إذا لم تستطع شيئاً فدعهُ             وجاوزه إلى ما تستطيع

- وذكر له سائل آخر أن الأخفش أضاف بحراً جديداً للشعر هو المتدارك ؛ وأردف أن هذا البحر هو الذي أكسب الأخفش تلك الشهرة وإن كانت له كتب قيمة ككتاب القوافي الذي حققه الدكتور عزة حسن.

وعلم أيضاً أن عاشقة الليل نازك الملائكة كتبت كتاباً حول قضايا الشعر المعاصر بينت فيه جماليات الوتد المجموع. وبعد أن اطّلع الخليل على الكتاب أراد أن يقول لتلك الشاعرة التي حضرت المؤتمر الصحفي: أنت أفهم ذات ثديين في علم العروض كما قال النابغة من قبل للخنساء، ولكنه خجل من كلمة ثديين وسكت وقال بينه وبين نفسه: رحم الله ذلك الفيلسوف الذي قال: "أنا لم أندم قَطّ على كلام لم أقله". ولكن أحد الجالسين أدرك ما دار في بال الخليل وقال له إن هذه الكلمة لم يعد لها أي قيمة في عصرنا بعد أن بنى نزار قباني أهراماً من الحلمات لأن أهرامات خوفو تآكلت بمرور الزمن، وأرّخ في أحد دواوينه لطفولة نهد.

- ولما كان للخليل خبرة بعلم الموسيقى وعلى أساسها بنى علم العروض، أخذه مرافقه إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون وهناك استمع وشاهد آخر الصرعات الموسيقية في بلادنا ناهيك عن الكلاسيكية، ولكن أذن الخليل العربية لم تستسغ كثيراً من الأغاني المعاصرة بسبب الصخب الذي يرافقها من تلك الآلات الغربية التي تطغى عليها، وقال مراسلنا إن الخليل ضحك عندما سمع أغنية إلسح إندح إمبوه، وكذلك الشنغل بنغل. ناهيك عن أغنية النار النار النار وما سار على وتيرتها من الصراخ العصري الذي تصاحبه المؤثرات الحاسوبية المختلفة.

ولما كان الخليل كثير التساؤل فقد أثقل على مرافقيه وأتعبهم، فقرروا نقله لبيت المُسِنّين والعجزة حتى يقضي ما تبقى من أيامه بينهم، كما يقضي كثير من الآباء بقية أيامهم في انتظار ملك الموت هناك.

وما زال الخليل يضغط بإصبعه على صدغه، ويحكّ جوانب رأسه ويفكر في هذه الصحوة الغريبة التي أخرجته من هدوئه الأبدي إلى عصر الجلبة والصخب.

.......................

حول بعض التلميحات:

مجددون ومجترون – مارون عبود

تاريخ الأدب العربي- حنا الفاخوري

كتاب القوافي – الأخفش (تحقيق عزة حسن ).

أهدى سبيل إلى علمي الخليل – محمود مصطفى

قضايا الشعر المعاصر – نازك الملائكة

الرسم بالكلمات – نزار قباني

طفولة نهد – نزار قباني

ديوان الخنساء

                                               * * *