حول كلمة عبقري - لصالح زيادنة

حول كلمة عبقريّ

بقلم : صالح زيادنة


 بسم الله الرحمن الرحيم

حول كلمة عبقريّ  

 نقول في كلامنا عن الشخص الفطن النبيه، صاحب الذكاء والفطنة وسرعة البديهة، وكلّ مَن لديه قدرات تفوق قدرات الغير وتميزه عنهم، وكذلك عن الموهوبين الذين مَنَّ الله عليهم بطاقات عقلية متميزة. نقول عن هؤلاء عباقرة، والواحد عبقريّ، والمؤنثة عبقرية وجمعها عبقريات، فمن أين جاءت هذه الكلمة.

تعالوا بنا أولاً نخرج في سياحة قصيرة مع بعض معاجم اللغة لنتعرف على أصل هذه الكلمة ومعناها:  

 في كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (100 – 170 هـ / 718 – 786 م):

عَبْقَرٌ: موضعٌ بالبادية كثير الجنِّ. يقال كأنَّهم جِنٌّ عَبْقَر، قال زهير:

بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَريَّةٌ .......... جَديرونَ يَوْماً أن يَنالوا فيَسْتَعلوا

 وفي الصِّحَاح للجوهري (؟ – 393 هـ / ؟ – 1003 م):

العَبْقَرُ موضع تزعم العرب أَنه من أَرض الجن؛ قال لبيد:

ومَنْ فادَ من إِخوانِهِم وبَنِيهِمُ، .......... كُهُولٌ وشُبَّانٌ كجنَّةِ عَبْقَرِ

 وفي لسان العرب لابن منظور (630 – 711 هـ / 1232 – 1311 م):

عَبْقَر: موضع بالبادية كثير الجن. يقال في المثل: كأَنهم جِنُّ عَبْقَر؛  قال ابن الأَثير: عَبْقَر قرية تسكنها الجن فيما زعموا، فكلَّما رأَوا شَيئاً فائقاً غريباً مما يصعب عملُه ويَدِقُّ أَو شيئاً عظيماً في نفسه نسبوه إِليها فقالوا: عَبْقَرِيٌّ، اتُّسِعَ فيه حتى سمي به السيّد والكبير.

قال ابن سيده: فكلما بالغوا في نعت شيء مُتَناهٍ نسبوه إِليه، وقيل: إِنما يُنْسَب إِلى عَبْقَر الذي هو موضع الجن، وقال أَبو عبيد: ما وجدنا أَحداً يدري أَين هذه البلاد ولا متى كانت.

قال أَبو عبيد: وإِنما أَصل هذا فيما يقال أَنه نسب إِلى عَبْقَر، وهي أَرض يسكنها الجنُّ، فصارت مثلاً لكل منسوب إِلى شيء رفيع؛ وقال زهير:

بِخَيْلٍ عليها جِنَّةٌ عَبْقَريةٌ ........جَديرون يوماً أَن يَنالوا فيَسْتَعْلُوا

 وفي المعجم الوسيط: إصدار مجمع اللغة العربية في القاهرة.

عبقر: موضع تزعم العرب أنه موطن للجن، ثم نسبوا إليه كلّ شيء تعجبوا من حذقه أو جودة صنعه.

والعبقري: نسبة إلى عبقر، وهو صفة لكل ما بولغ في وصفه وما فوقه شيء.

 ومن هنا نرى صلة العبقرية بالجنون، وهو جنون مجازيّ لا يقصد به فقدان العقل، بل يقصد به التفوق العقلي، والنبوغ الظاهر والنباهة الجلية.

وكذلك نرى أن ارتباط العبقرية بالجنون جاء ليؤكد أن الأفذاذ من الناس لديهم قدرات وطاقات إبداعية أو إنتاجية أكثر من غيرهم، وكأنّ لهم صلة بخوارق الجن وقدراتهم الهائلة، فيوحون إليهم بما يعجز عنه البشر، سواء كان ذلك في مجال الشعر والأدب، أو في أي مجالٍ آخر يظهر فيه نبوغهم وتفوقهم على من هم سواهم.

 وكان الناس في العصور القديمة يعتقدون بأن الشاعر مسكون بالجن، ولذلك ساد اعتقاد بأن لكل شاعر قرين من الجنّ أو قرينة تلهمه ذلك الإعجاز اللغويّ الذي يقصر عنه العامة، ومن أجل ذلك كانوا يقيمون الأفراح والولائم عندما يظهر بينهم شاعر، وما تلك الولائم والمناسبات إلا لذلك النبوغ المتميز الذي امتاز به ذلك الشخص دون غيره.

وقد ذكرت كتب تاريخ اللغة بأن الكهان والعرّافين في العصور الجاهلية التي سبقت الإسلام كانوا يسجعون بكلمات غير مفهومة كان الناس يعتقدون بأن الجن يلقنونهم إياها، وعَدَّ مؤرخو تاريخ الأدب بأن ذلك السجع هو بداية فن الخطابة، كما ذكر ذلك شوقي ضيف في كتابه النثر ومذاهبه في الأدب العربي.

وقد حلّق كثير من الشعراء والكُتَّاب في سماء الخَيَال، وتصوَّرَ بعضُهم أنه يتحدّث مع قَرِينٍ له من الجن، وأنّ هذا القرين ينقله إلى قرائن الشعراء والكُتّاب من العصور الماضية فيتحدثون إليهم ويتذاكرون الأشعار، كما فعل ابن شُهَيْد الأندلسي في رسالة التوابع والزوابع، والتي تَخيّل فيها أنه ينطلق إلى أرض التوابع والزوابع، فيعرض شعره ونثره على توابع الشعراء والكتَّاب فيستحسنونه ويجيزونه ويشهدون له بالجودة. وكلّ هذا ليثبت لأبناء عصره بأنه لا يقلّ نبوغاً عمَّن سبقه من أرباب الشعر والأدب.

أما أبو العلاء المعرّي فكتب رسالة الغفران وهي رحلة خيالية إلى الدار الآخرة، إلى الجنة ثم إلى الجحيم، تصف الأحوال في النعيم والسعير والشخصيات هناك، ويتم التحاور خلالها مع عدد من الشعراء والأدباء.

وقد تأثر برسالة الغفران الشاعر الايطالي دانتي أليجييري في كتابه الكوميديا الإلهية، وأخذ عن أبي العلاء فكرة كتابه ومضمونه، ويقول بعض الدارسين إنه أخذ فصولاً من رسالة أبي العلاء بحذافيرها.

ولا يقتصر ارتباط العبقرية بالجنون على العرب وحسب، بل تعداهم إلى الشعوب الغربية الذين أخذوا المعنى عن العرب فقالوا عن العبقريّ genius وهذه الكلمة مأخوذة من كلمة genie التي تعني جني أو عفريت، ومن هنا نرى أن الgenius  هو المسكون بال genie  والذي هو الجن كما ذكرنا.

 ونرجو في نهاية هذا المقال أن يكون ارتباطنا بالعبقرية ارتباطاً مجازياً لا يتعدى صلتنا بالنبوغ وسعة الذاكرة وسرعة البديهة، وأن لا يصل بنا المطاف إلى تلك الجنيّات غير المرئية التي أراد جبران أن يزوجهن لأبنائه في مقالته حفار القبور حتى يقضي على الجنس البشري بعد أن أعطى كلّ واحدٍ من أبنائه رفشاً ومِعْوَلاً وطلب منهم أن يواروا الناس في التراب بعد أن علَّمهم حفر القبور.

رهط في: 7 شباط 2006م

                   * * *