تأملات في اللغة: القِرَان - لصالح زيادنة

تأملات في اللغة: القِرَان

بقلم: صالح زيادنة


 

كثيراً ما نسمع جملة فلان عَقَدَ قِرَانَهُ على فلانة، وكذلك تم عَقْد قِرَان الآنسة الفاضلة على الرجل الكريم في تاريخ كذا... ونفهم بطبيعة الحال المعنى المقصود من ذلك دون أن ننتبه إلى أصل تلك الكلمات أو إلى مصدرها ولكن لو تأملنا قليلاً وسألنا أنفسنا ما هو هذا القِرَان الذي عُقِدَ بين هذين الشخصين لوجدنا أنفسنا مدفوعين إلى عملية بحثٍ واستقصاء قد تقودنا إلى ما لم يخطر لنا على بال.

انتبهوا إلى كلمة "عَقَدَ وعُقِدَ"، فما الذي يُعْقَد ؟ وما الذي يُحَلّ، أليس الحبل؟ وهل الرجل الذي يعقد قِرَانَهُ على المرأة يلفّ بذلك حبلَه ويعقده حول يدها ليسيرا معاً مُقَرّنين في قِرَان الزوجية.

ولتوضيح معنى كلمة القِرَان نقول: إنّ القِرَان في الأصل هو الحبل الذي يُشَدّ من طرفيه بوعاءين متعادلين لنقل الماء على ظهر البهيمة، وقد يصل طول ذلك الحبل إلى مترين أو أكثر بقليل. وقد كان الناس في العهود القديمة ينقلون الماء في قِرَب (جمع قِرْبَة) مصنوعة من الجلد تُقْرَنُ بذلك القِرَان على ظهر الدابة حيث تتدلّى كل واحدة من هذه القِرَب على جانب، ثم أصبحوا فيما تلا ذلك من الزمان يستعملون الجِرَار (جمع جَرَّة) وهي مصنوعة من الفخّار وسريعة الكسر ويقرنونها على ظهر البهيمة. وبعد ذلك أصبحوا ينقلون الماء في أوعية معدنية أو بلاستيكية كتلك التي تستعمل في عصرنا الحاضر في بعض مناطق البادية، أو في بعض القرى التي لم تصلها بعد شبكة المياه القُطرية.

 وهذا هو المعنى الأصلي للقِرَان، وأذكر عندما كنتُ صغيراً أن عمي قال لي ذات مرة وهو يهيئ نفسه لجلب الماء من البئر: ناولني القِرَان وأشار إلى قطعة الحبل الملقاة على الأرض، فناولته إياها ليقرن بها وعاءين فارغين ويضعهما على ظهر دابته ثم يتجه نحو البئر ليملأهما بالماء. ومن يومها عَلِقَت تلك الكلمة بذاكرتي.

ولم يقتصر استعمال القران على وظيفته الأولى بل تعدّى ذلك إلى مجالات أخرى حيث أصبحت تقرن فيه أشياء مختلفة، يقول صاحب لسان العرب:" والقَرْن هو جمع البعيرين في حبل يُلَزَّان فيه للحدّ من ضررهما وحتى تقلّ أذيتهما.وقَرَنْتُ البعيرين أَقْرُنُهما قَرْناً جمعتهما في حبل واحد (1).

والقِرَان يسمى أيضاً "قَرَن" والفعل منه قَرَنَ يَقْرِنُ قَرْنَاً ؛ يروي الميداني في مجمع الأمثال: "أن رجلا ضلَّ له بعيرٌ، فأقْسَمَ لئن وجَده ليبيعَنَّهُ بدرهم، فأصابه، فَقَرَنَ به سِنَّوْراً وقال: أبيعُ الجملَ بدرهم، وأبيعُ السِّنَّوْرَ بألف درهم، ولا أبيعهما إلاَّ معاً، فقيل له: ما أرخصَ الجملَ لولا الهرة، فخرجت مثلاً (2).

يقول أبو تمام:

                  ولّى الحُمَاةُ وأضحى عند سَوْرَتِهِ         مع الحَمِيَّةِ كالمشدودِ في قَرَنِ

وله أيضاً:

                  العِيسُ  والهَمُّ  والليلُ  التِمامُ  معاً          ثلاثةٌ أبـداً يُقْرَنَّ في قَـرَنِ

ويقول جرير:

                 وكم  قطـعَ  القرينةَ  من  قرينٍ           إذا اختلفا وفي القَرْنِ  التواءُ

وله أيضاً:

                  فكيف ترى جِذابي  يا  ابنَ  تَيْمٍ           وقد  قُرِّنْتُمُ  قَرَنَ  البِكـارِ

وله كذلك:

                 وعلقتَ  في  قَرَنِ   الثلاثة   رابعاً           مثل البكار لُزِزنَ في الأقرانِ

ومن اشتقاقاته:

القرينة: مؤَنَّث القرين وهي الزوجة؛ نقول: زارنا فلان مع قرينته أي مع زوجته (التي اقترن بها بقِرَان الزوجية كما ذكرنا ذلك في بداية هذا المقال).

يقول عمرو بن كلثوم في معلقته:

                 مَتَى   نَعْقُدْ   قَرِينَتَنا   بِحَبْـلٍ          تَجُذُّ  الحَبْلَ أو تَقِصِ  القَرِينا

ويقول الشريف الرضي:

                 تذكّرتُ  أيامَ  القرينةِ   والهوى         يُجَدّدُ  أقرانـاً  لنا   وحبالا

أما المخبّل السعدي فيقول:

                 هلاّ   تُسَلّي   حاجـةً   عَلِقَتْ         عَلَقَ  القرينةِ حَبْلُها  جَـذْمُ

ويقول جميل بثينة:

                 ما   مِنْ   قرينٍ   آلِفٍ   لقرينِها         إلا  لحبلِ  قرينِها  إقصـارُ

ويقول صريع الغواني:

                 قطعَتْ   قتولُ   قرينةَ   الحبـلِ        ونأتْ بقلبِ متيّمِ  العقـلِ

ويقول طرفة بن العبد:

                 عن المرءِ لا تسأل وسل عن قرينه        فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي

- وهناك قرينة من نوع آخر وهي كائن من الجن يلازم الشخص من البشر فينغّص عليه عيشه؛ يقول صاحب المنجد: "القرينة عند النساء جنيّة يتوهمن أنها تظهر أحياناً ويزعمن أن لكل امرأة قرينة أي تابعة وهن يَرْدُدْنَ شرَّها عن الأولاد بأن يلبسنهم عُوذَة يسمّينها ثوب القرينة" (3).

 أما جبران خليل جبران فيقول في إحدى رسائله لميخائيل نعيمة: "ولقد سألتُ نفسي مرّات ما إذا كانت "جنّيّتي" أو "تابعتي" أو "قرينتي" قد تحوّلت إلى عفريت يعاديني ويقاومني ويوصد الأبواب أمامي ويضع العثرات في سبيلي(4).

وعند العامة أن الطفل الذي يبكي كثيراً يكون مصاباً بالقرينة، وتكون هذه القرينة الشريرة هي التي تقرصه وتجعله لا يهدأ ولا يكفّ عن الصراخ.

والمرأة التي لا تحمل في السنوات الأولى من زواجها تكون مصابة بالقرينة وهي التي تمنعها من الحمل وتجعلها تعيش في دوامة من القلق والخوف من العقم.

أما العائلة الفقيرة فتكون لديهم قرينة تعيش في بيتهم وتشاركهم طعامهم وطعام أطفالهم ولذلك يظل رب الأسرة في سباق مع الزمن يعمل ويكد من أجل لقمة العيش دون أن يطرأ أي تغيير على وضعه الاقتصادي.

وطبيعي أن لكل حالة مما ذكرت نوع من التمائم والرقى تبعد القرينة وتطردها إلى غير رجعة، وحتى الناس في الجاهلية كانوا يضعون التمائم على الأطفال خوفاً من القرينة المذكورة. ويفخر الشاعر الضِلّيل (امرؤ القيس) بأنه ألهى صاحبته عن طفلها ذي التمائم الذي لم يبلغ الحول فيقول في عجز بيت له: " ألهيتها عن ذي تمائم مُحْوِلِ ".

ويقول أبو ذؤيب الهذلي يرثي أبناءه الخمسة في عينيته المشهورة:

                 وإذا   المنيةُ  أنشبتْ  أظفارَها            أَلْفَيْتَ  كلَّ  تميمةٍ  لا  تنفعُ

- والقِرَان أيضاً عند المنجّمين هو اجتماع الكوكبين غير الشمس والقمر في جزءٍ واحدٍ من أجزاءِ فلك البروج. (أي يكون أحدهما محاذياً للآخر في سيره). وأذكر أن أبي رحمه الله كان ينظر إلى النجوم (وكنا ننام في العراء) ويقول: "إنها سنة خصب يا أولادي، أنظروا إلى هذا القِرَان ويشير بإصبعه نحو مجموعة من الكواكب الصغيرة المتلألئة، إنها الثريا وها هي تقارن القمر، أي تسير بجانبه وتحاذيه". وكانوا كذلك ينتظرون "نجمة الصبح" وهو نجم شديد اللمعان يظهر قبيل شروق الشمس، فإذا ظهر مع الشمس في آن واحد - وعندها تتعذر رؤيته بسبب نور الشمس – فذلك له تفسير عندهم كسنة خصب أو غيره وعليهم التهيؤ لفلاحة الأرض.

أما نحن اليوم فننتظر الراصد الجوي ليخبرنا أن هناك موجة هوائية باردة تتقدم من جهة الغرب، وغالباً ما تتلاشى هذه الموجة وتتبخر ولا يصلنا منها إلا ذلك الخبر.

- والقَرْنُ من الزمان، هو تلك الفترة المحددة من الزمان التي تعيش فيها أمةُ عصرٍ واحد، وفي التنزيل العزيز: "أَلَمْ يَرَوْا كم أَهْلَكْنا من قبْلهم من قَرْنٍ"، وقول النبي:"خَيْرُكم قَرْنِي، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونهم". ولو تأملنا قليلاً لوجدنا أنه كما تُقرن الإبل وتُلَزّ في الحبال فكذلك الأمم التي تعيش في قرنٍ أو عصرٍ واحد، فهم مقرونون بزمن واحد يعيشون فيه لا يستطيعون العودة منه إلى العصور التي سبقت، ولا الخروج منه إلى العصور القادمة التي لم تأتِ بعد، فهم مقرونون بالفعل في تلك الفترة المحددة من الزمن.

وأرجو في الختام أن أكون قد وفقت في نقل هذه السياحة الفكرية عبر صحراء لغتنا العربية الجميلة.

والله من وراء القصد.

المراجع:

1- لسان العرب – ابن منظور: مادة "قرن".

2 - مجمع الأمثال - للميداني: ( مثل رقم 3790 ).

3 - المنجد في اللغة والأعلام - ص 625 - دار المشرق - بيروت 1997م.

4 - جبران خليل جبران - لميخائيل نعيمة ( ص 295 )– دار صادر – بيروت 1964 الطبعة الخامسة.

5 - دواوين شعرية مختلفة.

                                               * * *