مصادر فطرية في اللغة العربية - لصالح زيادنة

مصادر فطرية في اللغة العربية

بقلم: صالح زيادنة


  

إذا تمعّنا في كثير من مفردات اللغة العربية تمعناً دقيقاً، ونظرنا إليها نظرةً فاحصةً عميقة، نجد أن هذه المفردات في كثير من أحوالها قد صيغت من مصادر فطرية بسيطة للغاية.

 ولنأخذ بعض الكلمات على سبيل المثال: فنرى أن الكلمات بابا و ماما أُخذت من صوت الطفل الرضيع وهو يلفظ كلماته الأولى ويردد بصوته الطفولي: با.. با، ما.. ما.. ومن هذه الأصوات جاءت كلمتا أب وأم، وكل ما أُشتق منهما فيما بعد كالأبوّة والأمومة وغيرها من الكلمات.

وفي أسماء الأصوات، ونحن نعرف أن للحيوانات أصواتاً، وللطيور والزواحف وغيرها، نجد أن هذه الأسماء أُخذت أيضاً على الطريقة السابقة. فمواء القط مأخوذٌ من صوته موء.. موء.. وعواء الذئب وابن آوى مأخوذ من أصواتهما: عو.. عو.. وكثيراً ما أقلقت أصوات هذه الحيوانات الإنسان البدائي في صحرائه وفي كهفه ومسكنه.

ونحن نقول سقسقة العصافير، أليست هذه الكلمة مأخوذة من صوت العصافير: سِقْ.. سِقْ.. وهي تغرّد على الأشجار.

وتكتكة الساعة، وطقطقة الأواني، ووعوعة الطفل، ورنين الأجراس وخرير المياه، وصرير الباب، ونقيق الضفدع، وطنين البعوض والذباب وغيرها كثير أُخذت جميعاً من أصوات هذه الأشياء، أو من الأصوات التي تُحدثها وتُسمع عنها.

 وقد جاءت الأصوات على عدة أوزان صرفية منها:

1-      فَعِيل: كفحيح، وخرير، وصفير وغيرها.

2-      فُعَال: كبُكَاء، عُواء، ونُباح وغيرها، أما صياح فقد كُسرت فاؤها لإستثقال الضمة قبل الياء.

3-      فَعْل: كهَمْس، وجَرْس، وخَفْق وغيرها.

4-      فَعْلَلَة: كطَنْطَنَة، وغرغرة، وقضقضة، وشقشقة وغيرها.

 ولو تتبّعت معظم أسماء الأصوات لوجدتها تتبع هذه القاعدة ولا تشذّ عنها، وكلمة صوص أُطلقت على الكتكوت الصغير من شكل صوته المتكرر: صو.. صو.. وكذلك الحال في العديد من مفردات اللغة العربية، وإن دلَّ ذلك على شيء، فإنّما يدلّ على عراقة هذه اللغة وإيغالها في القِدَم، حيث أعطى الإنسان البدائي الأول هذه الأسماء لكثير من الأشياء والمُسمّيات كما سمعها بالفطرة، وتعلّمها بالسليقة، دون أن يتكلّف في وضعها وصياغتها، ودون أن يخترعها اختراعاً أو يكدّ ذهنه  وفكره لوضعها وإطلاقها على مسمّياتها. إنما جاءت تلقائية معبّرة بشكل تامّ عن المعنى الذي أراد لها أن تعبّر عنه. وبقيت بعده ميراثاً ثميناً يحفظهُ أبناؤه وأحفاده، ويردّدونه جيلاً بعد جيل.

والعبرة من هذا الحديث – عزيزي القارئ – هي أن تستنتج أن لغتك العربية موغلةٌ في القِدم، عميقة الجذور، أصيلة المعاني، تكاد تسمو على اللغات جميعاً، وأن بعض مفرداتها الفطرية البسيطة تستعمل في معظم لغات العالم الحي، كلفظة أب وأم وغيرها.

ولنردد معاً قول الله عز وجلّ: "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".

                                              * * *