اللغة هل هي من صنع البشر - لصالح زيادنة

اللغة.. هل هي من صنع البشر؟

بقلم: صالح زيادنة


  

 اللغة تعني تلك المجموعة من الكلمات والألفاظ، التي يتكلم بها الإنسان، وينطقها ويتفاهم بها بنو البشر. واللغة هي الأداة التي يُعَبّر بها الإنسان عمّا يدور في نفسه، ويُصَوّر بها ما يعتمل في أعماقه من أفكارٍ وأحاسيس، وبواسطتها يستطيع الإنسان أن يتحدّث ويتفاهم مع الآخرين من بني جنسه.

وهي تتكوّن عادة من نبرات صوتية مختلفة التردّد، تنخفض حيناً، وترتفع حيناً آخر، ومن ذلك تنشأ مجموعة أصواتٍ وألفاظ مختلفة، أو ما نسميه بالكلام.

والإنسان عاجزٌ بطبيعته عن التفاهم والتخاطب مع المخلوقات والكائنات الأخرى، لأنه لا يفهم لغاتها، ولا يفقه منطقها وأصواتها.

فهو لا يفهم ما تقوله عصافيرُ الدوري وهي تمرحُ مسقسقةً على الأغصان.

وهو لا يفقه ما يقوله ذَكَرُ الحمام وهو يهدل ويغازل أنثاه.

وهو لا يدرك ما تقوله القطط وهي تموء في شهر شباط بأصوات خاصة لتتزاوج وتحافظ على سرّ بقائها.

وهو لا يَعْقِل ما يقوله الديكُ وهو يصيح في منتصف الليل وكأنه ينادي للصلاة، فتجيبه بمثل صياحه جميع الديوك القريبة من المكان.

وهو لا يفهم ما تقوله الشاة وهي تثغو وتنادي وليدها ليأتي ويرضع ما تجمّع في ضَرْعِها من حليب.

وهو لا يفهم ما تقوله الكلاب وهي تعوي وتجوح في ظلمات الليالي، وكأنها تبكي وتستغفر عمّا فعلت من ذنوب.

وعلينا أن نعلم أنّ لجميع هذه الكائنات لغات خاصة بها، كل جنس منها له لغته الخاصة التي ينطقها ويتخاطب بها مع أبناء جنسه حسب المقاييس والمواصفات التي وضعها الخالق جَلَّ وعلا، حيث تقول الآية الكريمة:

{وورث سليمانُ داودَ وقال يا أيها الناس عُلِّمنا مَنْطِقَ الطير}. (آية 16، النمل) أي إنه عُلِّمَ لغةُ الطير وطريقة نطقها.

وفي آية أخرى:{ألم ترى أن الله يسبح له مَنْ في السمواتِ والأرضِ والطيرُ صافَّاتٍ كُلٌّ قد عَلِمَ صلاتَهُ وتسبيحَه} (آية 41، النور)، ولا تكون صلاة وتسبيح بدون لغة.

وكذلك قصة الهدهد الذي أتى سليمان بخبر بلقيس (سورة النمل) ولا يمكن للهدهد أن يخبر سليمان دون أن تكون له لغة.  

وكذلك النملة التي حذّرت قومها حيث سمعها سليمان وهي تقول كما يذكر القرآن الكريم: "حتى إذا أَتَوا على وادِ النملِ قالتْ نملةٌ يا أيّها النملُ ادخلوا مساكِنَكُم لا يُحَطِّمَنَّكم سليمانُ وجنودُه وهم لا يشعرون". (آية 18 – النمل).

وتؤكد آية أخرى أن هذه المخلوقات ما هي إلا أمم أمثالنا، حيث تقول الآية: " وما من دابةٍ في الأرضِ ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ".(آية 38، الأنعام).

إذن، فإنّ لهذه الكائنات لغة خاصة بها، تتناسب مع أشكالها وأنواعها، كل نوعٍ يلفظ لغته بصوته الخاص، ويعبّر بالطريقة التي وُضِعت له، كما شاء لها الخالق جلّت قدرته، دون أن يكون لأحدها القدرة على تغيير هذه المواصفات وتلك المعايير والصفات.

فالجرو الصغير عند ولادته لا يسقسق بل ينبح لأنه لا يجد صوتاً غير النباح وكذلك الحال لدى سائر الكائنات الحية الأخرى.

واللغة لدى الإنسان هي طريقة التعبير التي يلفظها ويتفاهم بها مع أبناء جنسه من البشر تماماً كما تفعل الكائنات الأخرى على وجه هذه الأرض.

فالطفل الصغير عند بداية نطقه لا يجد غير اللغة التي يتكلم بها أهله فيلفظها بالفطرة دون أي عناء.

وإنما جاءت لغة الإنسان مميزة خاصة، لأنه مخلوق كريم أراد له الخالق جلّ وعلا أن يكون مخلوقاً سامياً ذكياً وعاقلاً ولغته تتفق مع مواصفات صوته، ومع نوع نبراته، وتتلاءم مع الذبذبات الخاصة التي تحدثها أوتاره الصوتية وتخرجها على شكل كلام.

وقد ورث الإنسان لغته عن أبيه الأول آدم عليه السلام الذي علمه الله سبحانه وتعالى أسماء الأشياء جميعاً وأمَرَهُ أن يخبر الملائكة بأسماء هذه الأشياء، فأخبرهم بها، تقول الآية الكريمة:(قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم، فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيبَ السموات والأرض وأعلم ما تُبدون وما كنتم تكتمون. (آية 33، البقرة).

إذن، فآدم أبو البشرية كان يتكلّم منذ أن خُلِق، وأن الله سبحانه خلق له لغةً وعلّمه إياها، ووضع له أسماء الأشياء جميعاً وعلّمه إياها أيضاً، ومن الطبيعي إنه كان يتكلم مع زوجته حواء وإلا كيف أغوته لكي يأكل من الشجرة المحرمة، أليس عن طريق الإقناع بالكلام عن محاسن هذه الشجرة، وعن طيب ثمرها ولذته، وهل يكون إغواء بدون كلام ؟.

فاللغة إذن، خُلقت للإنسان ليتكلم بها، ولا شأن له في كيفية خَلقها، أو في سُنَّة وجودها، فهي ليست من صنعه، وليست وليدة اختراعه.

أما زعم البعض بأن اللغة العربية تنسب إلى يعرب بن قحطان فهو أمر مشكوك فيه، وليس هناك دليل على تصديقه، وقد يكون الرجل أثّر بشكل أو بآخر على اللغة العربية، ولكن لا فضل له في استنباطها أو  اختراعها، فهي موجودة قبله، ولا يمكن له أن يولد من أبوين لا لغة لهما.

ولم نشهد في جميع العصور أن أحداً من البشر قام باختراع أو استنباط لغة، فإذا كان يعرب هذا قد استنبط اللغة العربية، فلماذا لم يظهر بعده يعرب آخر يغير أو يبدل في ألفاظها وكلماتها، أو في قواعدها وأحكامها، بالرغم من مرور آلاف السنين وهي على حالها لم يغيرها الزمان.

وقد ذكر صاحب العقد الفريد نسب يعرب بن قحطان فقال:"هو يعرب بن قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ".. إلى آخر السلسلة التي تصله بآدم، وقد جاء هذا النسب ضعيفاً لبُعد الفترة الزمنية بينه وبين النسّابين، والتي تصل إلى آلاف السنين،حيت يتعذر والحالة هذه، حفظ أسماء وأنساب خلال هذه العصور الطويلة. مع شكوك أخرى كثيرة تحوم حول صحة هذه الأنساب ذلك أن النسابين العرب حاولوا إيصال نسبهم بآدم بكل الوسائل للمفاخرة والمباهاة، وعندما لم تسعفهم الذاكرة الضعيفة بذلك لجأوا إلى التوراة وأخذوا منها بعض الأسماء التي تربط وتصل نسبهم بنوح عليه السلام، وبآدم أبو البشرية (راجع تسلسل الأنساب القديمة في العقد الفريد، وسيرة ابن هشام وغيرها من الكتب القديمة، وقارنها مع تسلسل الأنساب في سِفر أخبار الأيام الأول، من التوراة).

وقد تحفّظ الرسول صلى الله عليه وسلم من صحة هذه الأنساب الطويلة، فقال القتبي:"وما ذُكِرَ بعد عدنان من الأسماء مضطرب فيه فالذي صَحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه انتسبَ إلى عدنان لم يتجاوزه".

وإنما جاء حديثنا ليبين لك - عزيزي القارئ - أن اللغة أزلية، خلقت مع المخلوق نفسه، وتلاءمت مع شكله وتكوينه، وهي ليست من صنع يعرب بن قحطان، وليست من صنع البشر أصلاً، وأنّ لكل مخلوق لغته التي وضعها له الخالق جَلَّ وعلا، ولا شأن لأحد في كيفية خلقها أو في سُنّة إنشائها وتكوينها.

ونسأل الله الهداية والحكمة وسداد الرأي، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

رهط في: 8/2/ 1994 م.

                                              * * *