كثرة اللقم تطرد النقم
يحكى أن امرأةً رأت في الرؤيا أثناء نومها
أنَّ رجلاً من أقاربها قد لدغته أفعى سامة
فقتلته ومات على الفور، وقد أفزعتها هذه
الرؤيا وأخافتها جداً، وفي صبيحة اليوم التالي
توجهت إلى بيت ذلك الرجل وقصّت عليه رؤياها
وعَبَّرَت له عن مخاوفها، وطلبت منه أن ينتبه
لما يدور حوله، ويأخذ لنفسه الحيطة والحذر.
فنذر الرجلُ على نفسه أن يذبح كبشين كبيرين من
الضأن نذراً لوجه الله تعالى عسى أن ينقذه
ويكتب له السلامة من هذه الرؤيا المفزعة.
وهكذا فعل، ففي مساء ذلك اليوم ذبح رأسين
كبيرين من الضأن، ودعا أقاربه والناس
المجاورين له، وقدم لهم عشاءً دسماً، ووزَّعَ
باقي اللحم حتى لم يبقَ منه إلا ساقاً واحدة.
وكان صاحب البيت لم يذق طعم الأكل ولا اللحم،
بسبب القلق الذي يساوره ويملأ نفسه، والهموم
التي تنغّص عليه عيشه وتقضّ مضجعه، فهو وإن
كان يبتسم ويبشّ في وجوه الحاضرين، إلا أنه
كان يعيش في دوامة من القلق والخوف من
المجهول.
لَفَّ الرجلُ الساقَ في رغيفٍ من الخبز ورفعها
نحو فمه ليأكل منها، ولكنه تذكّر عجوزاً من
جيرانه لا تستطيع القدوم بسبب ضعفها وهرمها،
فلام نفسه قائلاً: لقد نسيت تلك العجوز وستكون
الساق من نصيبها، فذهب إليها بنفسه وقدّم لها
تلك الساق واعتذر لها لأنه لم يبقَ عنده شيء
من اللحم غير هذه القطعة.
سُرَّت المرأةُ العجوز بذلك وأكلت اللحم ورمت
عظمة الساق، وفي ساعات الليل جاءت حيّة تدبّ
على رائحة اللحم والزَّفَر، وأخذت تُقَضْقِضُ
ما تبقى من الدهنيات وبقايا اللحم عن تلك
العظمة، فدخل شَنْكَل عظم الساق في حلقها ولم
تستطع الحيّة التخلّص منه، فأخذت ترفع رأسها
وتخبط العظمة على الأرض وتجرّ نفسها إلى
الوراء وتزحف محاولة تخليص نفسها، ولكنها
عبثاً حاولت ذلـك، فلم تُجْدِ محاولاتها شيئاً
ولم تستطع تخليص نفسها.
وفي ساعات الصباح الباكر سمع أبناء الرجل
المذكور حركة وخَبْطاً وراء بيتهم فأخبروا
أباهم بذلك، وعندما خرج ليستجلي حقيقة الأمر
وجد الحيّة على تلك الحالة وقد التصقت عظمة
الساق في فكِّها وأوصلها زحفها إلى بيته،
فقتلها وحمد الله على خلاصه ونجاته منها،
وأخبر أهله بالحادثة فتحدث الناس بالقصة
زمناً، وانتشر خبرها في كلّ مكان، وهم يرددون
المثل القائل: "كثرة اللُّقَم تطرد النِّقَم".
الحدأة والضيف
كان أحد الشيوخ معروفاً بعراقة الأصل وطيب
الأرومة والمحتد عزيزاً في قومه، ولكنه كان
فقير الحال معدماً لا يملك مـن متـاع الدنيـا
شيئاً، وكانت له بندقية صيد من بنادق ذلك
الزمان مَهَرَ على إصابة الهدف بها حتى أصبح
يضرب به المثل في شدة التصويب وفي دقة
الإصابة، وكثيراً ما كان يخرج للصيد فيصطاد
بعض الطيور والحيوانات الصغيرة كالأرانب
والحَجَل وما شابه ويعود بها إلى بيته
فيقتاتون بها هو وعائلته، وكان في بعض الأحيان
يعود خالي الوفاض ولا يجد ما يقتنصه، فيبيتون
على الطوى والجوع في ذلك اليوم.
وخرج ذات يوم للصيد كعادته وسار ساعاتٍ طويلة
في الصحراء ولكنه لم يجد ما يقتنصه، فأرهقه
التعب والجوع حتى كاد يهلك، ورأى أثناء سيره
بيتاً كبيراً في الصحراء فقصده ليستريح فيه،
ورأى دخاناً متصاعداً من البيت فحدثته نفسه
بأنه سيصيب شيئاً من الطعام عند هؤلاء القوم.
وكان البيت لأحد الوجهاء المعروفين، وقد أعد
وليمةً أو قِرَى في ذلك اليوم ودعا إليها
معارفه من شيوخ ووجهاء تلك المنطقة، وفرشَ لهم
فراشاً نظيفاً من بُسُطٍ وفرشات صوفية سميكة
ووسائد جميلة مطرزة، وكان البيت يعجّ بالضيوف
والمعازيب، حيث شربوا القهوة المرة وتناولوا
أطراف الحديث، حتى قارب وقت الغداء.
وعندما وصل الرجل إلى ذلك البيت ألقى التحية
وكان مرهقاً رثّ الثياب أشعث الوجه رفيع
العود، وهيئته تـدلّ على الفقـر والحاجـة،
فظنه صاحب البيت شحاذاً أو قصَّاداً فقال له
أجلس هنا يا رجل، وأجلسه حيث توضع أحذية
الضيوف خارج البيت، ولم يلتفت إليه أحد أو
يكترث لوجوده.
وعندما حان وقت الغداء وقُدمت المناسف وعليها
اللحم والثريد، تناول صاحب البيت قطعةً من
اللحم ولفَّها في رغيف من الخبز وأعطاها لذلك
الأعرابـيّ، وكانت اللحمة ساخنة فأخرجها الرجل
وأخذ يتأملها ويتأمل ذلك المضيف، ثم رفعها نحو
فمه ليأكل منها، وكانت حدأة تحوم في الجو فوق
ذلك المكان حيث شمّت رائحة اللحم والزَّفر،
وكان الجوع يملأ الدنيا بسبب الجدب والمحل في
تلك السنـة، فهبطت بسرعة البرق واختطفت اللحمة
من يد الأعرابيّ وطارت وحلقت بها عالياً في
الفضاء. ونظر الأعرابيّ إلى قطعة اللحم التي
اختطفتها الحدأة من يده قبل أن يقضم منها
شيئاً وقد غلبه الجوع ونظر إلى الناس الذين
أخذوا يضحكون ويسخرون منه، فتناول بندقيته
وصوَّبها بكل هدوء نحو تلك الحدأة التي خطفت
اللحمة من يده وأطلق عليها رصاصةً واحـدة،
فهوت الحدأة تُفَرْفِرُ حتى وقعت أمامه
مقتولـة ووقعـت معها اللحمـة التي خطفتها من
يده، فنظر إليها في سُخفٍ ونظر إلى المضيف
نظرة ملؤها الاحتقار والازدراء، ونظر إلى
الضيوف والمعازيب الذين سخروا منه، ثم تناول
اللحمة ومسحها من التراب في طرف ثوبه، وأراد
أن يأكلها لأنه كان جائعاً، وكان الضيوف وصاحب
البيت ينظرون إلى ذلك المشهد مشدوهين، وهنا
قام صاحب البيت من مكانه مسرعاً وتوجه نحو
الأعرابي وسأله قائلاً: أسألك بالله ألستَ أنت
الشيخ فلان الفلاني؟
فقال له: أي والله هو أنا.
فضمه صاحب البيت إلى صدره وأمسكه من يده وأخذه
وأجلسه في صدر المكان حيث يجلس الشيوخ
والوجهاء، وهو يعتذر إليه لما بدرَ منه من
تقصيرٍ في واجبه بسبب جهله به وعدم معرفته له،
وأخذ يحدّثهم عنه وعما سمعه عن سمعته الطيـبة،
وأقسم أن يعمل له قِرَىً لوحده، وعمل له
بالفعل، وانشرحت أسارير الرجل، وتحدث مع
زملائه عن كثيرٍ من القصص والمغامرات التي
تحدث معه في الصحراء، وهكذا عاد للرجل
اعتباره، فاستراح عند مضيفه بقية ذلك اليوم،
ثم عاد إلى أهله وعشيرته ليروي لهم أحداث تلك
القصة المثيـرة.
عن كتابنا "حكايات من الصحراء".
|