المطر في التراث الشعبي لصالح زيادنة

المطر في التراث الشعبي

بقلم: صالح زيادنة

المطرُ نعمةٌ سماويةُ مباركة يُنعم بها الله سبحانه على عباده، فتحيا الأرضُ بعد موتها وتُخرج بقلها ونباتها، وتكتسي بثوبِ الربيع السندسيّ الأخضر، وتجودُ بالحبوب والثمرات، فتجد الكائناتُ غذاءها ويُصيب الإنسانُ نصيبه.

وعندما يأتي المطر يغسل وجهَ الأرض بمائه العذب النقيّ، ويُبَلّلُ قشرتها اليابسة المتشققة، فتلتئم جروحُها وندوبها وتدبّ الحياةُ في أوصالها من جديد، ثم تسيل المياه فتملأ الأوديةَ والغدران والآبارَ والسدود، ويشعر الناسُ عندها بالغبطة والفرحة لتدفّق هذا السائل الزلال الذي بدونه لا تكون حياة، وفي سورة الأنبياء من التنزيل الحكيم: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ"، وفي آيةٍ أخرى من سورة الروم: "وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ".

وكان الناس في السابق يعتمدون في معيشتهم على زراعة الحبوب من قمحٍ وشعيرٍ في موسم الشتاء، وعلى زراعة الذرة في موسم الصيف، وكانوا يَصِفُون تلك الفترة بأنها أكثر بَرَكَة من هذا العصر الذي نعيش فيه، ويؤكدون بأن كمية الأمطار التي كانت تسقط في العام الواحد تفوق كمية الأمطار التي تسقط في زماننا بأضعاف مضاعفة، وأن هذه الأمطار أخذت تخفّ وتقلّ في العقود الأخيرة.

وكانوا يزرعون الأرض قبل هطول الأمطار حتى لا يفوتهم الموسم، نظراً لبساطة الآلات الزراعية التي كانوا يستعملونها في ذلك الوقت والتي كانت تجرّها الإبل والبهائم، ويرون أنّ "كلّ بدري من المال فالِح"، ويقولون أيضاً: "ازرع يعدم ولا يظل تندم"، أما زراعة الأرض قبل هطول الأمطار فيسمونها "عفير"، ويقولون زَرَعْنا عفير، والكلمة مأخوذة من العَفْر وهو التراب، وهي كلمةٌ عربيةٌ فصيحة، وهي مذكورة في الأمثال الشعبية كقولهم: "اللي بيعَفِّر بيعَفِّر على قَرْنـه"، وكذلك: "عَفّر يا ثور، بتعفِّر على قرنك"، ولهم مثلٌ آخر يقول: "دجاجة حَفَرَت على راسها عَفَرَت".

وقد ينمو الزرعُ بعد الوسم الأول، فيتفاءل المزارعون ويقولون: "الحَبّة بنت المَيّه"، وكلما كانت نسبة المياه أكثر كانت المزروعات أكثر غزارة وخصوبة، وبالتالي تكون أكثر محصولاً وغلالاً.

وهناك ظاهرة جديرة بالاهتمام وهي أنّ الأمطار يشحّ هطولها في شهر آذار، وتتوقف أحياناً لعدة أسابيع بينما ترتفع درجة الحرارة الأمر الذي يؤدي إلى تلف السنابل أو ضمورها قبل النضوج، ولهذا كان المزارعون يسابقون الموسم ويزرعون قبل هطول الأمطار حتى تمتلئ السنابلُ وتنضج وتكتنز في بداية شهر آذار وقبل تراجع الأمطار واشتداد الحرّ.

وتسقط الأمطارُ غزيرةً في كانون الأول والثاني، ويصحبها بَرْدٌ شديد، وقد يستمر هطولها طيلة أسبوعٍ كاملٍ أو يزيد، وكانوا يسمون الأيام التي لا ينقطع فيها المطر بـ "أيام حَشْر"، لأنهم لا يستطيعون الخروج فيها لمزاولة أعمالهم ويظلوا محشورين في بيوتهم، ويقولون في ذلك: "المطر ضِيق ولو أنه فَرَج".

أما الفترة التي يشتدّ فيها الصقيع فهي "الأربعانية"، وهي فترة تنخفض فيها درجة الحرارة ويسود فيها بردٌ شديد تكاد تتجمّد منه العروق، وهي تمتد من الخامس والعشرين من شهر كانون الأول وحتى الخامس من شباط، وطولها أربعون يوماً ومن هنا جاءها الاسم، وكان الناس يتقونها بإشعال النار للتدفئة، ويلبسون المعاطف الثقيلة المبطنة بفرو الخروف أو الجاعد كما نسميه في اللغة الدارجة، ومن هنا جاء المثل: "أبو فَرْوَة بيتلَبّد لأبو جاعِد".

وكثيراً ما تمرّ سحابةٌ سوداء كثيفة على منطقةٍ معينة ويصحبها مطرٌ غزيرٌ، بينما لا يصل مطرُها إلى منطقةٍ تجاورها، فيقولون في ذلك: "المطر خَطَايِط"، فما تمرّ عليه الغيوم يصيبه الغيث وما لا تمرّ عليه يظلّ بلا مطر، ويأتيه نصيبه في مراتٍ لاحقة.

وقد يشتد المطر فيكون "زواحق"، والواحدة منه زاحقة، وتعني المطر الشديد العاصف، وقد يكون مصحوباً بالبرق والرعد، وبالبَرَد في حالاتٍ أخرى، فيخرج الأولاد ويجمعون بعض حبيباته ويمصونها كالثلج، والبَرَد يُسمّى عند العامة "بَرَدِي"، والمطر المصحوب بالبرد يسمونه "بَرَدِيّة".

وقد تهطل الأمطار على منطقةٍ معينة وتتأخّر عن أخرى، فيقولون: "إن مطرت على بلاد بَشِّر البلاد الثانية"، فهم دائماً يحدوهم الأمل بأنهم سيحصلون على نصيبهم حتى لو تأخر لبعض حين.

أما الرذاذ الخفيف الذي يبلّ وجه الأرض فهو "بْخَاخ"، فإذا زاد عن ذلك فهو "رْشَاش"؛ أي رَشَّات ناعمة من المطر.

وإذا كان أحدهم في سفرٍ وعاد من بلادٍ تتساقط فيها الأمطار الغزيرة، ووجد منطقته جرداء قاحلة تعصف فيها الزوابع والرياح فكثيراً ما يقول: "اللي في بلاد الخير بيكذِّب اللي في بلاد الويل".

وعندما تسقط الأمطار يحفرون مجرى للسيول حول البيت يسمونه "ناياً"، فتجري فيه السيول ولا تعبر إلى داخل البيت، أما "الواكف" وهو الماء المتساقط من سقف البيت فيعملون له ناياً آخر في الطرف الأمامي من حجرات البيت أو "بواهره" كما يسمونها، فيحمل المياه إلى خارجه، ويعملون "نايات" أخرى حول مطامير الحبوب وكُمُور التبن، فتمرّ السيول من حولها ولا تستقر عندها. والمطمارة وجمعها مطامير هي كومة من الحبوب تُغَطّى بالتبن ويُهال عليها التراب فتحفظ الحبوب لفترةٍ طويلة، أما الكِمْر وجمعه كمُور فهو كومة طويلة من التبن تغطّى بالتراب وتُحفظ حتى موسم الشتاء حيث يُستعمل تبنها علفاً للمواشي والبهائم.  

أما الآبار أو "الهَرَاب" فبعد أن تغسل السيولُ وجهَ الأرض وتجرف ما عليها من غبار وأوساخ فعندها "يُقَنّي" الناسُ عليها؛ أي يحفرون قناةً صغيرة تؤدي إلى مصرف الهرابة وهي الفتحة الجانبية التي تدخل منها المياه إلى جوف الهرابة.

أما الثلج فلا يسقط في بلادنا إلا في حالاتٍ نادرة، وكانوا يُسمّون السنة التي يسقط فيها الثلج "سنة الثلجة"، وهذا يدلّ على ندرة سقوط الثلوج في هذه المنطقة، ولكنني أذكر عدة مرات سقط فيها الثلج في بلادنا وغطّى وجه الأرض بثوبٍ أبيضٍ ناصع البياض، وكان سقوط الثلوج يعتبر حدثاً غريباً في بلادنا لأنها منطقةٌ سهليةٌ منخفضة، أقلّ برودة من الجبال والمناطق المرتفعة، فلا يزورها الثلجُ إلاّ لماما.

وإذا ما تأخر المطر واستبطأ الناسُ قدومه فغالباً ما يصلّون صلاة الاستسقاء، ويدعو بعضهم بقوله: "الله يرشانا الغيث".     

ولهم أغانٍ وأهازيج مختلفة في استقبال المطر، ولكننا تكلمنا عنها في مقالةٍ سابقة وليس في الإعادة إفادة.

أما الغيوم فلها أسماء مختلفة حسب بُعدها وكثافتها ولونها، فهناك "المزون" وواحدتها مزنة وهي الغيوم البيضاء الكثيفة التي تبدو في الأفق وتبشّر بقدوم مطر وفير. وهناك "الثَّعَل"؛ وهو الغيم القريب الذي تسوقه الريح فتتدلى خيوطه ويسقط منه مطر غزير.

أما الرهَصَة؛ فهي الغيمة المرتفعة التي تلمع عليها أشعة الشمس وتبدو حولها هالةٌ من الضياء، وكأنها تبشر بمطرٍ قادمٍ قريب، وتسمى في الفصحى "إرهاصة".

وعندما تكفّ الأمطار تكون "الدنيا قد راقت"، والشمس قد خرجت من بِرْزَتِها بعد أن كانت عروسةً محجّبة في خِدْرِها، وفي اليوم التالي عندما تمدّ خيوط أشعتها إلى الأرض تخرج أسرابُ النمل وقد أصبحت لها أجنحة وأخذت تطير وتحلّق في الفضاء فتجد عصافير السنونو تترصّد لها وتلتهمها فريسةً سهلة، وكثيراً ما يساعدها طائر الدوري الأليف ويحصل على رزقه منها أيضاً، وللعامة مثلٌ في ذلك يقولون فيه: "الله لما بيقرد النملة بيخلق لها جنحان".     

ولنا لقاءٌ في مقالٍ آخر بعون الله تعالى.

رهط في: ‏14‏/03‏/2011

 ---------------

نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الخميس 17/03/2011، العدد (178).

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة

« لا يسمح باستخدام هذه المادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »

 ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.


رجوع