كنوز يغيبها الثرى لصالح زيادنة

كنوز يُغَيِّبها الثرى

بقلم: صالح زيادنة

شموعٌ أضاءت في فضاء بلادنا ثم ذوت وانطفأ نورها، ومصابيحُ أنارت طريق الأجيال ثم ذبلت وخبا فتيلُها، إنهم كبار السنّ في بلادنا الذين يتساقطون واحداً تلو آخر، إنهم كنوز ثمينة لا تُقدّر بثمن، ولا يمكن للكلمات أن تحمل ما يستحقون من ثناء، ولا للعبارات أن تسطّر سطور صمودهم وصبرهم وإصرارهم ومحافظتهم على إرثنا العربيّ الخالد، ولكنها الحياة التي مهما تمدّ حبال العمر إلا أنها تعود وتطويها في آخر المطاف.

لكلّ واحدٍ من هؤلاء الشيوخ قصةٌ تُروى وحديثٌ يُسمع وحكاياتٌ شيقة وتاريخٌ عريق، ولكلّ واحدٍ منهم أرشيفٌ غنيّ بتاريخٍ عاصروه هم ولم نعيه نحن، وبأحداثٍ عاشوها بحلوها ومرها ولم ندركها نحن، فرووها لنا مراتٍ ومرات، لنعتبرَ ونتعظَ ونسير على خطاهم ونسترشد برأيهم ونقتدي بهم وبأفعالهم التي ستظل محفورةً في تاريخ بلادنا على مدى عصورٍ وعصور.

لقد  كان كلّ واحدٍ منهم شاهداً على عصره، وراوياً لأحداث زمانه، ولكنهم ككلّ البشر لا بدّ أن تسير بهم قافلةُ الحياة إلى الرحلة الأخيرة، فيترك رحيلهم في قلوب من يعرف قيمتهم حسرةً ما بعدها حسرة.

أشعر بحشرجةٍ تقف في حلقي، وبدموعٍ تتجمّد في آماق عيوني وأنا أراهم يذبلون وتُغيّبهم الحياةُ فلا تبقى إلا آثارهم العطرة.

تكلمت مع الكثير منهم ونقلت عنهم ما استطعتُ نقله، ولكنني أعرف بأنني ما نقلتُ إلا القليل، وما هو إلا حفنة من بيدر معلوماتهم وفتات من مائدة معرفتهم.

إننا مُقصّرون، لأننا لم نأخذ عنهم ما يكفي، ولم نسجّل من أخبارهم إلا النزر اليسير، رغم أنهم كانوا يعرفون قيمة ما لديهم من معلومات، وكانوا يفتحون قلوبهم وصدورهم لنا، ويروون لنا بصدقٍ وعفوية ما شاهدوا ورأوا، ولكن جهودنا فردية تظلّ قليلة مهما حاولنا، فالكنوز كثيرة ولكن الناس لا يدركون قيمة الشيء إلا بعد أن يضيع من بين أيديهم.

وقبل أيام كنتُ في خيمة عزاءٍ لواحدٍ منهم، وكنتُ ساهماً أُفكّر في مآل الناس، واسترجع جملةً سبقَ أن قرأتُها لأحد الكتّاب يقول فيها: لو استطعنا أن نكتب تاريخ شخصٍ واحد بكلّ مشاعره وأحاسيسه لكتبنا تاريخ البشرية كلها. فقلت في نفسي: ونحن لو استطعنا أن نكتب تاريخ شخصٍ واحد من هؤلاء الشيوخ لكتبنا تاريخ منطقةٍ بأكملها.

كان يعتصرني الأسى، وتتقاذفني الهواجس، وترفرف فوق رأسي سحابةٌ من الحزن والكآبة، حتى طرقَ سمعي صوتُ شيخٍ يجلس قُبالتي، وسمعته يتحدّث عن عام 1935، ويشرح عن أشياء عاصرها في ذلك الوقت، فانزاحت بحديثه تلك الغلالة السوداء التي كانت تنسدل فوق عينيّ، وأصختُ السمعَ حتى أحتوي حديثه كلّه فلا تفوتني منه شاردةٌ ولا واردة.

 وكان يقارن في حديثه بين فائت الأمس وحاضر اليوم، وكأنه ينحو باللائمة على تقلبات الزمن وعلى الناس الذين تغيروا بين عشية وضحاها. فقال: كنا نذهب إلى مدينة غزة فنرى جنازةً تمرّ ويلاقيها موكبُ عرس فنعجب كيف يحدث هذا في بلدٍ واحد، ونتساءل أين الاحترامُ والواجبُ بين الناس، وأين مراعاة شعور الآخرين، وكان من عادة الناس في بلادنا أنهم يحترمون أهل المتوفى ويراعون شعورهم ولا يقيمون حفلات الأعراس إلا بعد مرور عام، أو بعد أن يمر عيدان، عيد الفطر وعيد الأضحى على ذلك، ولكن دارت الأيام فما كنا نراه غريباً مستهجناً عند غيرنا، أصبح عاديّاً ومألوفاً في بلادنا فسبحان مغير الأحوال.

وأضاف الشيخُ قائلاً: لقد تغيرت القيمُ والمفاهيم وقَلّ الاحترام والواجب بين الناس، فإذا كان بيت أحدهم منصوباً لعرس وتوفي قريبٌ له من لحمه ودمه فلا يقيم له واجباً، وليته يكمل عرسه بهدوءٍ وصمت، ولكنه يقوم بالطبل والزمر وكأن ما حدثَ في جواره لا يعنيه بكثيرٍ أو قليل.

واستطرد يذكر بعض العادات التي كانت سائدة في ذلك الوقت، فقال: كان الناس يبنون بيتاً للعزاء كبيت العرس ويذبحون الذبائح ويقودون شياهاً على أهل المتوفى، وكأنهم في مناسبة عرسٍ لا مأتم، وقد اختفت هذه العادة منذ حوالي خمسين عاماً واختفت معها سلبياتها التي تتمثّل في إجهاد أهل المتوفّى زيادةً على حزنهم على فقدِ عزيزٍ عليهم.

وذكر أحوال النساء في تلك الفترة أيضاً، فقال: كانت النساء يتجمعن في اليوم الثاني للوفاة ويعملن حلقة ويرمين أقنعتهن ويكشفن رؤوسهن ويندبن ويَنُحْنَ بعباراتٍ مسجوعة يذكرن فيها مناقب المتوفى ومدى حزنهن عليه، فيؤججن مشاعر الحزن من جديد، وكانت هذه الدائرة التي يدُرْنَ فيها تسمّى مَنَاحَة، وقد اختفت هذه العادة أيضاً كما اختفت أختها من قبل.

ولم يفت الشيخ موضوع الحداد، فقال: كانت المرأة تغطي كلّ ما هو ذهبيّ وبرّاق من حليّها، فتغطّي الشناف الذي تضعه في أنفها بخيط أخضر تلفه عليه، وكذلك على حُلقانها حتى لا يظهر بريقه وهو يتدلى من أذنيها، وتتقنّع بشاشٍ أخضر داكن اللون أو بقنعةٍ سوداء لا تطريز عليها، إضافة إلى ثوبها الأسود المطرّز بخيوطٍ خضراء أو زرقاء قليلة، وحزامٍ أزرق باهت اللون.

أما الغسيل الأبيض فلا ينشر على الحبال الخارجية، بل تنشره على حبل داخل البيت لأن اللون الأبيض لا يدل على الحداد والحزن، وحتى لا يظن أهل المتوفى أن في هذا شماتة بهم رغم أن المثل الشعبي يقول: "الموت ما فيه شماتة".

وغادر الشيخ بيت العزاء، وبقيت بعده لبعض الوقت أتأمل في قيمة هذه المعلومات التي يسردها الشيوخ، وفي تلك المعلومات التي يسردونها في مناسباتٍ أخرى، وكيف أننا لا نقتنص منها إلا القليل، بينما هي تتقلص وتختفي بمجرد أن يرحل عنا هؤلاء الشيوخ، فترحل معهم معلومات عصرٍ لم يحظَ بالتوثيق أو التدوين، ولو كُتب لأكثرها البقاء لأصبح لدينا تاريخ موثّق صحيح، نستمدّ منه العراقة والأصالة التي كان عليها أهلنا وسلفنا الصالح، فهل نحن معتبرون.   

وهذا غيض من فيض، فهل نستطيع بعد ذلك أن نسابقَ الزمن، وأن نجمع من أفواه الأحياء من شيوخنا ما نستطيع جمعه، أم أننا سنظل كسالى خاملين، ثم نصحو  بعدها ونتحسّر ولكن بعد فوات الأوان.

رهط في: ‏06‏، آذار‏، 2011

 ---------------

نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء 09/03/2011، العدد (177).

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة

« لا يسمح باستخدام هذه المادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »

 ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.


رجوع