العقدة في الفصحى والعامية لصالح زيادنة

العقدة في الفصحى والعامية

بقلم: صالح زيادنة

وأعود اليوم إلى صحيفة الحدث الغراء وقرائها الكرام، الذين أفتقدهم وأحنُّ إليهم. أعود لأستدرّ أشطُر القريحة علّها تجودُ بشيءٍ مما عندها، وإن كانت قد أصابها شيءٌ من الوهن، الذي سرى متخفياً بين أوصالها، وضرب أطنابه بين خيامها، فشحّت ينابيعها وقلّت مياهها، ولكنها اليوم جادت بموضوعٍ حول لغتنا العربية الجميلة والتأمُّل في بعض مفرداتها، والتي تستحقّ كلّ مفردةٍ فيها تأملاً عميقاً وجادّاً، فتعالوا بنا اليوم نتأمّل في كلمة "عُقْدَة" لنرى كم من المصطلحات اشتُقَّ منها، وكم من المعاني وُلد من أحشائها لتصل بنا في نهاية الأمر إلى بساطة مصادر هذه اللغة، وعذوبة وصفاء ينابيعها وصدق ألفاظها وتعابيرها.

فالعُقْدَة هي لَفّة في الحبل تُثنى وتُشد فتثبّت الحبل في المكان المعدّ له، وهي نوعٌ من أنواع الربْط التي تكون في الحبال وأشباهها، وعندما نقول أشباهها فإننا نقصد كلّ قطعة قماشٍ تٌسَوّى وتُعقد ليُشدّ بها على شيءٍ معين.

وهناك أنواع مختلفة من طرق الربط منها: النَّشْط، والدَّرْك، ومنها القَرْن وهو ربط شيئين متوازيين بحبلٍ يلزّهما ويوازي بينهما.

وهذه العقدة التي في الحبل اشتقَّ منها مفرداتٌ كثيرة ومعان أكثر، ودرج استعمالها حتى أن المتكلم ينسى أحياناً مصدر هذه اللفظة، ولا يفطن بباله أنها من تلك الثنية المشدودة في حبلٍ من بيوت وخيام أهلنا الأقدمين.

ونجد أن الأمور عندما تتشابك فهي تتعقّد، فنقول: تعقّدت الأمور، وكأنها عُقَدٌ كثيرة شوّهت شكل الحبل فلم يعد سلساً مستقيماً.

ومن يزيد الأمور تشابكاً فهو يُعقّدها تعقيداً، وكأنما هو يكثر العقد في حبل الأمور فلم تعد صالحةً أو سهلة الاستعمال بسبب ما بها من عقدٍ كثيرة.

أما من يرتبط بفتاة أو امرأة بقصد الزواج فهو يعقد قرانه عليها، وكأنهما يرتبطان بحبل يلفّ قدميهما ويربطهما برباط الزوجية المقدّس. وفي لغتنا الدارجة نقول: عَقَد عليها؛ أي كتب كتابه عليها.

أما مَن ينوي القيام بعملٍ ما بنية صادقة فهو يعقد العزم، وكأن العزم حبلٌٌ يعقده بقوة ليثبت به النية الصادقة التي ينوي القيام بها.

وقد يُعقد اللسانُ فيتلعثم صاحبه ولا يستطيع الإفصاح والتعبير بشكلٍ جيد عما يريده، وفي التنزيل الحكيم على لسان النبي موسى عليه السلام: "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي"، وهو يطلب بذلك من الله سبحانه أن يحلّ تلك العقدة من لسانه حتى يؤدي رسالته بشكلٍ سليم وعلى أكمل وجه.

والعقيدة هي ما رسخ من الإيمان في القلب، وكأن المرء قد عقد إيمانه في قلبه فثبُتَ فيه ولم يبرحه.

والعِقْد هو قلادة المرأة التي تبدو خرزاتُها كعُقَدٍ منظومةٍ في خيطٍ تلفّه حول عنقها، ونجد في مادة "عقد" من لسان العرب أن عديّ بن الرقاع يقول:

    وما حُسَيْنَةُ، إِذ قامَتْ تُوَدِّعُنـا ..... لِلبَيْنِ، واعَتَقَدتْ شَذْراً ومَرْجاناً 

وفي مكانٍ آخر يقول الحطيئة:

    أُولئك قوم، إِن بَنَوْا أَحْسَنُوا البنا.... وإِن عاهدوا أَوفَوْا، وإِن عاقَدوا شَدُّوا

والحديث حول هذه المادة يطول كثيراً ويمكن تتبعه في معاجم اللغة كلسان العرب أو غيره من كتب اللغة وهي كثيرة، ولكننا نكتفي بهذا القدر من الفصيح لنرى ما تداولته العامة حول هذه الكلمة ومعانيها.

فنجد أن العقدة في العامية لها دور لا يُستهانُ به، فقد وردت في الأمثال الشعبية في عدة أمثالٍ نذكر منها:

- العقدة اللي بتحلّها بايدك، أحسن من اللي بتحلّها بسنونك:

فوصفوا المشاكل بالعقدة وكيف أنه يمكن حلّها باليد في بداية أمرها قبل أن تشتد وتتعقّد ويصعب حلّها عند ذلك، لأن العقدة الرخوة يمكن فكّها باليد، أما إذا شُدّت من طرفيها فيصبح فكّها أكثر عُسراً وصعوبة، وربما نحتاج إلى استعمال الأسنان إضافة إلى الأيدي في حلّها.

وهناك مثلٌ آخر يقول:

- كُلّ عُقدة ولها عند الكريم حَلاَّل:

وهذا يعني أن كلّ معضلة أو مشكلة مهما تعقّدت، ومهما ظنّ الإنسان أن حلّها عسير، يحلّها الله سبحانه وتعالى بفضله ورعايته.

وهناك فعلٌ يستعمله أهلُ البادية كثيراً، وهو "عَقَّد"، وهو بمعنى ذهبَ وسارَ، ويبدو للمتأمل وكأنه عَقَد أمتعة السفر وانطلق في طريقه.    

وعقيد القوم؛ هو قائدهم وهو من يحلّ ويعقد وبيده أمور العشيرة والقبيلة، وهو كبيرهم وعقيدهم الذي يُعوّلون عليه عند اشتداد الأمور والأزمات، وعند تطرأ ظروف يكون له هو دوره في حلّها بسياسته وحنكته ومعرفته وخبرته في فضّ النزاعات وحلها.

وفي حكاية شعبية معروفة بيتٌ من الشِّعر العاميّ يتمثّل به البدو كثيراً يقولون فيه:

       هو عَقَد لي عُقْدةٍ ما بها لَمْس... وأنا عَقَدْت له عُقْدةٍ ما تْحِلِّ

وليس هذا وحسب، فالبدو عندما يقطّعون اللحم فكل قطعة لها عندهم اسم، فهناك الورك والكتف والساق والمخة، وهذه القطع كلها من اللحم الجزل الكبير، أما لحمة صفاق البطن فيعقدونها ويرمونها في القدر لتنضج مع اللحم ويسمونها معقودة، وهي لا تقدم عادة للضيوف لأنها لا تحتوي على شيء ذي بال من اللحم.

وحتى مفرق الطرق وملتقاها يسمونه معقد، وإلى الجنوب من رهط هناك ملتقى للطرق كان يسمى معقد أبو عانوس على اسم العائلة القريبة منه، والتي أصبحت مهجرةً فيما بعد.

ومن يتتبع هذه الكلمة يجد العديد من المفردات التي ترتبط بها والتي لها علاقة مباشرة بها، فلنتأمل في هذه اللغة وفي مفرداتها الجميلة حتى نظلّ قريباً منها ومن منابعها الصافية وأصولها العربية الصميمة لأنها رمز عروبتنا وهويتنا القومية ولغة قرآننا وديننا الحنيف.

 

رهط في: ‏01‏ آذار‏، 2011

 ---------------

نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء 02/03/2011، العدد (176).

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة

« لا يسمح باستخدام هذه المادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »

 ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.


رجوع