بين قرقرة الأراجيل وقهقهة المقاهي لصالح زيادنة

بين قرقرة الأراجيل وقهقهة المقاهي

بقلم: صالح زيادنة

يبدو أن صاحبي أصيب بالهَوَس المعرفي، فهو كثيرُ التساؤلِ يسألُ عن كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، ويحاولُ معرفةَ كلّ ما يدورُ حوله وكلّ ما يستجدّ على الساحة من أحداث، وقد جاءني ذات يومٍ متحمساً يفركُ يديه من شدّة الانفعال، فعرفت أن لديه شيئاً يريد أن يُفضي به إليّ ويُخبرني به، وما إن وصل وألقى التحية حتى بادرني بالسؤال قائلاً: هل يُمكنك أن تخبرني بماذا تُفاخرُ الشعوب؟.

قلت: ومن أين لي أن أعلم والشعوب يُمكن أن تُفاخرَ بأشياء كثيرة، فبعضهم يُفاخرُ بمصارعةِ الثيران، وآخرون بمُنَاقَرَة الديوك وغيرهم باصطيادِ الأفاعي وغير ذلك كثير.

قال: لا.. لا.. ليس هذا ما أقصده، بل أقصد في المجالِ العمرانيّ والمعرفي.

حَكَكْتُ ذقني بسبّابتي وأنا أفكِّر ثم قلت: المكتبات العامة يمكن أن نُفاخرَ بها لأنها تُوفّر لأبنائنا المراجعَ والمصادرَ فينجحون في دراساتهم ويتفوقون في مجالات تخصصهم، فهذه واحدة يمكن أن نُفاخرَ بها.

قال: جميلٌ ما ذهبتَ إليه، ولكن متى كانت في بلداننا مكتبات عامة؟

قلت: لا تستعجل الأمور، فربما يأتيك بالأنباء من لم تُزَوِّدِ، فلعل بعضها يفتتح قريباً.

قال: وماذا بعد، ألا يوجد أشياء أخرى.

قلت: مهلاً أخي، ألا ترى كثرة المدارس في بلدنا، ألا ترى المساجد العملاقة التي ترتفع مآذنها في السماء وكأنها تريد أن تقول للملأ الأعلى ألا إننا نحن مسلمون، أليست هذه معالم حضارية يمكن أن نعتزَّ ونفاخرَ بها.

قال: حقاً إنها أشياء لا يمكن إنكارُها، ولكن.. وصمتَ برهةً ثم قال: هناك أشياء جديدة ظهرت في بلدنا، يبدو أنك لم تنتبه لها.

قلت مستغرباً: وما هي؟

قال: ظاهرة انتشار المقاهي ومحلات البلياردو، ألا تقرأ دعاياتها في الصحف المحلية.

قلت: أرى هذه الدعايات ولكنني لا أقرأها.

قال: وهل تعلم كم بلياردو في بلدنا؟

قلت: وهل من المهم أن أعرفَ عددها، وهل وجودها أو عدمه يهمني بكثيرٍ أو قليل.

قال: بلى، فهي رمزٌ حضاريّ هامّ تدلّ على رُقِيّ البلد الذي تكون فيه.

قلت متعجباً: وهل محلات البلياردو رمزٌ حضاريّ، أم أنها رمزٌ للتخلّف والفساد وإضاعة الوقت في لهوٍ لا يُشبع ولا يُغني من جوع.

قال: ألم تكن في واحد منها من قبل؟

قلت: إنني أخجل أن أَمُرَّ بجانبها، حتى لا يراني أحد ويظنني كنتُ فيها.

قال: أنت ذو عقلية قديمة متخلفة، تعيش في عصور ما قبل التاريخ، ولو أتيح لك أن تدخل واحداً من هذه المحلات وتسحب ولو مرةً واحدة عدة سحبات من إحدى الأراجيل لدار رأسُك بعكس عقارب الساعة.

قلت: وهل يرضى العاقل أن يدخل سليماً ويخرج مسطولاً حتى يجاري الحضارة التي تتكلم عنها، وإذا كان هذا هو وجه الحضارة التي تظنها فهي إذن حضارة مساطيل، وليست حضارة تقدّم ورقيّ.

قال: لا تعقد الأمور يا أخي بفلسفتك الجوفاء الفارغة، ألا تعلم بأنها تلمُّ شبابنا بدل أن يسهروا في المدن المجاورة.

قلت: أليست لشبابنا بيوت يمكن أن يسهروا فيها، ألا يمكنهم أن يطالعوا في بيوتهم الكتب ويشاهدوا البرامج المفيدة ويتعلموا أصول دينهم.

قال: ربما، ولكن ألا تعلم أن بها جلسات هادئة ومريحة تُبعدك عن جو البيت وصخبه.

قلت: نعم، وكانت بها في رمضان سهرات رمضانية ملتزمة في وقت صلاة التراويح، وكانت طبولها تدقّ حتى بعد منتصف الليل، ومن حسن الحظ أن واحداً من هذه المحلات لا يبعد كثيراً عن بيتي، وكان يقلقُ راحتي وراحةَ أسرتي على مدار الأسبوع.

قال: وهناك أنواع فاخرة من المعسّل، مثل الفخفخينا على سبيل المثال؟

قلت: وما هي الفخفخينا؟

قال: هي نوع من المعسّل الفاخر، ألم تسمع بها.

قلت: ظننتها في البداية من الفخفخة، لأن من يتفخفخ بها يظن نفسه من أبناء الذوات، ثم أنا لا أعرف أنواع السجائر لأنني لا أدخّن، فكيف أعرف أنواع المعسّل.

قال: وهناك مشروبات خفيفة مثل شراب القوّة، وعادة ما يشرب الواحد عدّة عُلَبٍ منها، فيعود لبيته بعد الثالثة صباحاً وهو موفور النشاط والقوة.

قلت: أقسم بالله إنني لم أرضَ لنفسي أن أشربها في مكّة المكرمة، لمجرد أنني أشك أن كلّ مشروب يُنعش النفس ويجعل الإنسان يفرح هو لا شك يؤثر على الأعصاب، وبالتالي لا يكون فرق بينه وبين المشروبات الممنوعة الأخرى.

قال: وهل أنت مفتي.

قلت: أنا أفتي لنفسي، ما كان جميلاً أتيته وما كان قبيحاً أبيته.

شعرتُ بشيءٍ من الحنق والعصبية وقلت لصاحبي: كيف يمكن لشخصٍ من هؤلاء أن يذهب للعمل صباحاً وهو لم ينم طيلة ليله، وكيف يمكن أن يقود سيارته ويحمّل أطفالنا للروضة أو للمدرسة، ألا نُعرّض حياة هؤلاء الأطفال الأبرياء للخطر عندما نضعهم تحت رحمة سائق مسطولٍ من هؤلاء.

قال صاحبي: لا تنفعل يا أخي بهذه السرعة، ودعنا من الحديث عن محلات البلياردو التي يبدو أنك غير راضٍ عنها، وأخبرني عن رأيك في المقاهي التي في بلدنا؟

قلت: وماذا ينفع رأيي والناس ينظرون إلى الضار والمفيد بعين اللامبالاة، وكأن الأمر لا يعنيهم أو يهمهم في شيء.

قال: إن الإقبال على هذه المحلات أكبر مما تتصوّر، ألم ترَ الجموع الغفيرة التي تَفِدُ إليها في كلّ يوم.

قلت: حقاً ما تقوله، فقد مررت قبل عدة أيام ورأيت أكثر من خمسين سيارة تقف أمام مقهىً فعجبتُ من هذا الإقبال العجيب، والذي يشبه حفلة عرس أو صلاة جمعة بلا تشبيه.

قال: لقد كانت حفلة افتتاح والناس أكثرهم مدعوين، وأنت تعرف أن صاحب الدعوة يوزّع طعاماً وشراباً كثيراً في مثل هذه المناسبة، والمثل يقول: (اللي من بلاش كَثِّر منه).

قلت: لله في خلقه شؤون.

قال: أليس هذا دليل على نجاح هذا الفرع من التجارة.

قلت: جميل، ولكن لو كانت هناك ندوة ثقافية أو أمسية شعرية فهل كنت ترى مثل هذا العدد هناك.

قال: وهل يوجد طعام في مثل هذه الأمسيات الأدبية.

قلت: ولِمَ الطعام؟

قال: الاجتماعات لا تحلو إلا بصحون الفتّ، وأذكر أن أحدهم عمل وليمة صغيرة فدعا إليها كثيراً من الناس، فقلت له: ولمَ كلّ هؤلاء الناس يا أخي، قال: اللي ما له صيت بيعمل لحاله صيت.

قلت: وما دَخْل هذا بذاك.

قال: حديثٌ يجرّ آخر.

شعر صاحبي بأنه أثقل عليّ بكثرة أسئلته ونقاشاته، وأراد أن ينهي هذا الحديث الذي أثار انفعالاتنا، فقال لي: وخلاصة القول.

قلت: خلاصة القول أن نتقي الله في أعمالنا، وأن نبحث عما يفيد الناس لا عما يلهيهم ويخدّرهم ويسطل عقولهم، فالأعمال كثيرة ورزق الله أكثر من خلقه، وقليل من الحلال يُغني عن كثير من الحرام، وأسأل الله أن يهديهم سواء السبيل، وأن يسدد خطانا جميعاً لما يحبّ ويرضى.

ابتسم صاحبي وهو يقول: آمين، آمين.

 

qqq
 

---------------

نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ ‏الأربعاء‏، 09‏ حزيران‏، 2010، العدد (140).

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة

« لا يسمح باستخدام هذه المادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »

 ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.


صممت هذه الصفحة في 09/06/2010م

بريد الكتروني

موقع الشاعر صالح زيادنة

رجوع