جماليات الغناء الشعبي لصالح زيادنة

جماليات الغناء الشعبي

بقلم: صالح زيادنة

للقلوب لغةٌ خاصة تفهمها القلوبُ الأخرى، تمتاز بالصدق والعفوية والتعبير الذي لا يعرف الزِّيفَ والرياء، وهذه اللغة هي لغةُ المشاعرِ والأحاسيس، فالمشاعر صادقةٌ على الدوام، فإن أحسَّتْ بفرحٍ فهي تُعبِّر عنه بصدق، وإن أحسَّتْ بكآبةٍ أو جَزَعٍ أو حزن فهي تُعبِّر عنه كذلك تعبيراً صادقاً، فهي صادقةٌ في جميع الأحوال.

ولو تعامل الناسُ بهذه اللغة لوفَّروا على العالم ويلات المعارك والحروب، وما ينتج عن جَشَع الحُكَّام من مصائب تفني الملايين من البشر، ولكنَّ الناسَ يتعاملون بلغة النمر والأرنب ولغةِ الحوت والسمكة، وهذه اللغة نتائجها وخيمة ومعروفة، فالقويّ يأكل الضعيف أو يأكل حقَّه في أبسط الحالات.

وموضوعنا اليوم عن هذه اللغة وتعبيرها الصادق في الغناء الشعبي، وكيف تتغلغلُ معانيها في نفس السامع وتدخله بلا حواجزَ ولا استئذان، والغناء الشعبي هو أنغامٌ مُلَحَّنةٌ لمقطوعاتٍ من الشعر، ونقصدُ بالشعر هنا تلك الأبيات التي نُظمت في عِقْدِ السلاسة، وكُتبت بمداد العواطف، فجاءت صادقةً معبِّرة، فليس كلّ الشعرِ صادقاً، فكثير منه رَصْفٌ للكلام أو زخرفٌ من القول، لمكسبٍ هنا أو لتملّقٍ هناك من أجل مصلحةٍ شخصيةٍ مؤقتة، أو منفعة آنيّةٍ لا تدوم.

وفي بداية مشوارنا تعالوا بنا نخرجُ في سياحةٍ فكرية نتذوّقُ فيها عدداً من مقطوعات شعر الرَّزْع، أو الرِّزْعة، وهو لونٌ يمتاز برقّة العاطفة ونُبل المعنى وسلامة الذوق، إضافةً إلى سلاسة التعبير وطلاوة الجَرْسِ وحلاوة الوقع على النفس. وهذه مقطوعة يقول فيها الشاعر الشعبي:

عَ اليوم يا زِين لَنَّك عَ الرّفَق بتْدُومْ

لأغُزّ رايات وابني في الحَمَاد رْجُومْ

فهو هنا يبدأ بالتمني ويقول: "عَ اليوم" التي تعني: ألا ليتَ، أو بالعامية "يا ريت"، ثم يخاطب ملهمته الغائبة والتي يصفها بالزين وهو الجمال، والمرأة المزيونة هي الجميلة من النساء، ويقول: لو أنّك على الرفقة تدومين. ثم يشترط على نفسه بأنها لو فعلت ذلك لرفع رايات بيضاء، وبنى رجوماً أو أكواماً من الحجارة في الأرض السهلية المنبسطة.

وهو في هذا المعنى يقول: ألا ليتك أيتها الجميلة تُبقين حبلَ الودادِ موصولاً ولا تصرميه بالصدِّ والجفاء، ولو فعلتِ ذلك لرفعتُ راياتِ النصر البيضاء، وبنيتُ ونصبتُ أكواماً من الحجارة تخليداً لهذه المناسبة التي أفوز فيها بقلبك ورضاك.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا النوع من الشعر لا يكون إلا في مخاطبة الغائب، وهو لو وُجِد أو حَضَر لانعدم السبب في مناجاته والتشوّق لرؤيته وسماعِ حديثه.

والمرأة بشكلٍ عام ملهمةٌ للشعر، تُلهم الشاعرَ معاني تخرج به من دائرة المادة والمحسوس إلى فضاء العواطف والأحاسيس، وكل قطعةٍ أو نغمةٍ تخرج من قلبه هي ذبذباتٌ من أوتار شعوره، وتأوداتٌ من صدى أحاسيسه، فتخرج معانيه بتلك اللغة التي قلنا إنها لا تعرف الكذب والرياء، فإذا ما قرأها شخصٌ آخر تدقّ لديه نواقيس المشاعر، وتصهلُ في قلبه خيولُ العواطف، فتدخل الكلماتُ منسابةً كنسيمٍ عليلٍ يمرّ على صفحات خدٍّ أسيل.

وهذه مقطوعةٌ أخرى فيها تعبير صادقٌ وجميل يقول فيها الشاعر:

يا وارد البِيـر  واسْقِينِـي بحَفْنَاتَـكْ

عطشـان ما بي ظَمَا، ودِّي محَاكَاتَـكْ

وهنا نلمسُ شيئاً من تراثنا ونشمّ عبقاً من ماضينا، وهو ورود النساء على البئر، حيث كانت النسوة يتجمعن، ويملأن جرارهن ويتحدثن بكل ما يحلو لهن، ومن هناك كانت تُنقل الأخبار، وتُروى الأحاديث وتنتشر المعلومات، فالبئر وكالةُ أنباء تنبثُّ من خلالها الأنباء، وتُنقلُ الأوصافُ إلى كلّ الاتجاهات، فتنقل النساءُ أخبارَ الفتيات لأزواجهن وأبنائهن، فيقلن: عند فلان بنت جميلة، وأخلاقها حميدة، وهي ليست مخطوبة، فما تلبث تلك الفتاة حتى تُخطب وتتزوّج.

وفي الأبيات المذكورة يتذكّر شاعرنا تلك التجمعات النسوية، ويختار من بينها ملهمته ليخاطبها من بعيدٍ قائلاً: ألا أيتها المرأة التي تَرِدِين ماء البئر، ليتك تسقيني ماءً بحفناتِ يديك، فأنا عطشانٌ ليس من ظمأٍ، ولكن عطشي هو في التقرّبِ منك وسماعِ حديثك.

فهو هنا يختلق سبباً هو التظاهر بالعطش ليس من أجل إرواء الظمأ، بل ليحتال به كي يطفيء نارَ شوقِه ولظى غليله ويستمع لصوتها وحلو حديثها. وهنا نلمس روعةً من البيان الساحرِ الذي يكسو المعاني بثوبِ الزينة والبهاء ويُضفي عليها مسحةً من الأناقةِ والجمال.

وفي مقطوعةٍ أخرى يترنَّم الشاعرُ الشعبيّ ويقول:

ما أحسن خيالك وما أحلى سَبْلة عيونك

مِرْخِي سناسِـل ذَهَب مع جدلـة قرونـك

وهو هنا يتخيّل تلك الملهمة ويصف جمالها كما يراه هو بعين قلبه، ويقول متعجباً من ذلك الحُسن الذي حباها الله به: ألا لله ما أجمل شكلكِ وهيئتك، وما أبهى إغضاضة بصرك وعينيك، وما أجمل تلك السلاسل الذهبية التي تزينين بها قرونكِ وجدائل شعرك. تعبيرٌ في قمة البلاغة والجمال.

وهذه مقطوعةٌ أخرى:

عَ اليوم يا سِتّ لـو في مثلـكِ سـتّة

والزين زي الذهب بينباع بالحتّة

وشاعرنا يقف هنا مشدوهاً أمام هذا الجمال الذي بهرَ عينيه، وسلبه لبَّه، فما كان منه إلا أن أخذ يدعو ويتمنى أن يرى غيرها في مثل جمالها، ويقول: ألا أيتها السيدة الجميلة ليته يكون في مثل جمالك سِتّ أُخَرٌ من النساء، فالجمالُ كالذهب مهما كان قليلاً يظلّ سعرُه مرتفعاً وقيمته غالية ثمينة.

وهذه مقطوعةٌ جميلةٌ أخرى:

يا  حلـو يا زيـن لا تاخذْ علـى بَالَـكْ

بَاكِر تشِيل العَرَب، وبنحُطّ في جَالـكْ

وهو هنا يتخيّل ملهمته عاتبةً غاضبة، ويريد طمأنتها وتهدئة نفسها، ويؤكد لها أنه رغم رحيل أهلها وانتقالهم لمكانٍ آخر، فعمّا قريب سترحل قبيلته أيضاً وتبحث عن مكانٍ غَنِيّ بالعشب والكلأ وسيكون في ناحية قبيلتها، وعندها سيتمكن من رؤيتها مرةً أخرى.

ومثل هذه الأشعار الجميلة لا تُكتب في ضوضاء النهار، وجلبة الحركة والصَّخَب، بل يختار لها الشاعر وقت السحر، فيجد الهدوء والسكينة، والجو الهادئ الذي يمكّنه من التحليق مع أسراب الملائك في فضاءٍ من الصدق والطُّهْر والنقاء والعفوية، فتنبعث الكلمات كقطعٍ صافيةٍ من البلّور وتنساب المعاني كمياه عينٍ ثرّة صافية نقية، ومن يُضفي عليه الله سبحانه كسوةً من الإيمان قد يأتي بكلّ ما هو جميل وبديع، وقد تُصبح كلماته على كلّ شفة ولسان، فالسيرة الحسنة والتقوى والصدق هي صفاتٌ إذا ما تحلّى بها الشاعر فهي تسمو به إلى الرِّفعة، وترتقي به إلى درجات العلى.

وليس من الصعب أن يصلَ الإنسانُ إلى مكانةٍ ترتاح لها نفسُه، ولكن الصعب هو المحافظة على هذه المكانة، فالمغريات كثيرة في هذه الحياة ولكن الصمود في وجهها ودفعها بالتي هي أحسن هو ما يكسب الإنسان سمعته، فسلعة الأدب ثمينة غالية، أما أن تباع في سوق المناسبات فهذا ما يفقدها قيمتها ويفرغها من محتواها.

وهذا غيضٌ من فيض من نبعِ تراثنا الثرّ، الذي مهما اغترفنا من زلاله تظل قلوبنا ظمأى تطلب المزيد منه والمزيد.

qqq
رهط في: ‏28‏ آذار‏، 2010

---------------

نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء‏‏، 31‏ آذار‏، 2010، العدد (130).

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة

« لا يسمح باستخدام هذه المادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »

 ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.


صممت هذه الصفحة في 01/06/2010م

بريد الكتروني

موقع الشاعر صالح زيادنة

رجوع