عنصرية النسب في أمثالنا الشعبية مقالة لصالح زيادنة

عنصرية النسب في أمثالنا الشعبية

بقلم: صالح زيادنة

العنصرية هي مظهرٌ سلبيّ من مظاهر الحياة الاجتماعية، وفيها ترى مجموعةٌ معينةٌ من الناس بأنها أفضل من مجموعةٍ أو من مجموعاتٍ أخرى، وفي المعاجم العربية نجد: أن العُنْصُرية هي تعصّب المرء أو الجماعة للجنس(1) ؛ أي للنوع الذي ينتمون إليه، وهي تعني كذلك الشعور بالاستعلاء والفوقية. وكلمة عنصر في الأساس تعني أصل الحَسَب(2)، ومن هنا جاء تعصب بعض الفئات لأصولها ونسبها.
وقد حارب الإسلام هذه الظاهرة ودعا إلى تركها ونبذها، لأنها من الأسباب التي تؤدي إلى التفرقة والكراهية بين أفراد المجتمع الواحد، وفي حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: "دعوها فإنها منتنة"
(3).
وقد تناولت الأمثال الشعبية صوراً مختلفة من أشكال العنصرية، وذكرت بعضاً من صفاتها ومناسباتها، ونحن هنا نركّز على صور العنصرية التي تتعلق بالمرأة وحالات الخطوبة والزواج، خاصة وأن المرأة تعتبر مصدراً لإثارة غيرة الرجل وحميّته وحسده، ولذلك نرى أن بعض العائلات كانت تكره تزويج بناتها خارج نطاق العائلة والقبيلة، وإذا ما حدث ذلك لسببٍ من الأسباب نراهم يقولون:
«
النُّوَّارَة ما بتطلع من الحارة».
وهم بذلك يحاولون إلصاق صفة من النقص أو العيب إلى المرأة، لأنها لو كانت كاملة لما تركوها لغيرهم، وغالباً ما تكون تلك المرأة طيبة وفاضلة، ولكن هذا من باب الغيرة والحسد وحبّ الاستحواذ والعنصرية في نهاية المطاف.
ومن الطريف أنني كنت قبل فترة في أحد الأعراس فمرّت قافلةٌ من السيارات تحمل عروساً من حَيٍّ إلى حيّ آخر في نفس البلد، وكان العريس من عائلة غير عائلة العروس، فالتفت أحد الحجّاج وقال متنهداً: "يا ولداه"، فظننته تحمس لموكب العرس وحنّ لعصر الفتوة والشباب، ولكن شخصاً كان يجلس بجانبي همس في أذني قائلاً: أتعرف ماذا يقصد هذا الحاج؟ قلت لا، قال: إنه يقصد أنه لو كان شاباً لمنع هذا الزواج لأن هذه العروس انتقلت لعائلة يراها دون عائلته، قلت: وكيف ذلك وهذا رجل متدين أعرفه، وقد عمّرنا معاً قبل عدة سنوات فكيف يصدر عنه ذلك، فقال صاحبي: الدين شيء، والعصبية شيء آخر.
فإذا كانت العنصرية والتعصب تصدر عن شيوخٍ حجوا وعمروا وزاروا بيت الله وقبر رسوله الكريم مرات ومرات، فماذا ننتظر من الشباب بعد ذلك.
وكثيراً ما يأتي الناس بأمثال أخرى لدعم أفكارهم وتأكيدها، وقد يطوِّعون بعض الأمثال حتى لو قيلت في مناسبات أخرى لتدعم أفكارهم بشكل أو بآخر، فنراهم يقولون:
«الحَبّة الزينة ما بتطيح من على الشجرة».
وهو يشبه المثل الذي قبله، ولكنهم لا يكتفون به بل يقولون:
«
لو فيها خير ما فاتها الطير».
أما إذا اشتد الخصام بين والد العروس وأقاربها، فهناك مثلٌ فُصِّل لهذا الأمر تفصيلاً، يقولون فيه:
«
ولد العم بينَزِّل العروس من القْطَار»:
والقطار: هو جَمْعٌ من الإبل يتبع بعضها بعضاً في نسق
(4)،وهو هنا موكب العروس، ويعني ذلك أنه يحقّ لابن عمها أو قريبها أن يوقف زواجها حتى لو كانت في طريقها إلى بيت زوجها، ولا يستطيع أحد أن يمنعه من ذلك حتى لو كان العريس عقد عليها عقداً شرعياً وأصبحت زوجته من الناحية الدينية والشرعية. فأين نحن من الدين والشرع؟.
وهناك من يقول المثل بصيغة أخرى وهو: ولد العم بينزِّل العروس من على ظهر الفرس، ولكن العروس كما هو معروف تُحمل في هودج على ظهر جمل ولا تحمل على ظهر فرس، مما يدل على أن هذه الصيغة انتشرت عند عائلات أقل بداوة من تلك التي استعملت المثل الأول.
وقد تكون للعائلة وجهة نظر أخرى في تزويج بناتها، فهي ترى أن الفتاة لو زُوِّجت لأحد أقاربها فغالباً ما يكون: "
ولدها في الفَزْعِة وبنتها في الرَّزْعِة"، أما إذا زُوِّجت لشخص من غير عائلتها فقد يكون ابنها عدواً لأخواله خاصة إذا حدثت بين العائلتين حزازات أو مشاكل مهما كان نوعها، وعندها يُشكّل هذا الابن خطراً على أخواله لأنه يكون قد اكتسب الشجاعة والفروسية منهم، لأن "ثلثين الولد للخال"، وعندها يجب توخّي الحذر منه لأنه "خاف على الخال من البناخ"، و"يا ويل الخال من سيف البناخ"، ويمكن تجنب كل ذلك بعدم تزويج المرأة إلى خارج عائلتها، وبذلك يمكن المحافظة على الشجاعة وعدم تصديرها لعائلات أخرى قد تستفيد منها مستقبلاً.
ولا تقتصر العنصرية على الرجال وحسب، فالنساء أيضاً لهن نصيب من هذا الإرث الطيب، ونرى خلال هذا السياق بعض الصور التي جسَّدت فيها المرأة أشكالاً مختلفة من العنصرية، حدثت أمي رحمها الله أن رجلاً كان يعمل راعياً عند صاحب قطيع كبير من المواشي والبقر، فأراد أن يتزوج فطلب يد ابنة الرجل الذي يعمل عنده، وعندما استشارها والدها رفضت وقالت:
«
رَبَّاط عِجْلي، ما بيصير رَجلي».
وأَبَت أن يكون الرجل الذي يعمل أجيراً عند والدها زوجاً لها في المستقبل، خشية أن تزدريها بعض النسوة إذا ما أقدمت على هذا الزواج غير المتكافئ اجتماعياً، وربما خشيت أن تُعَيَّر بأنها تزوجت خادماً عند أبيها، كانت هي التي تعطيه الأوامر، فكيف يصبح زوجها فيما بعد، وبما أن معظم الناس اليوم هم من العمال، فهل بقي لهذا الوضع ما يبرره؟.
وحدثني أحدهم أن شقيقةً له تزوجت من قريبٍ لها كان يعمل في فلاحة الأرض عند والدها، وكان يُسمعه كلاماً قاسياً في بعض الأحيان فيسكت مغلوباً على أمره، لأن العمل عند هذا الرجل والزوجة ابنته.
ولا يقتصر الأمر عند هذا الحدّ، فالمرأة التي ترى نفسها أكثر أصالة من غيرها تأنف أن تتزوج من رجل من عائلة ليست بمستوى عائلتها، وسمعت إحداهن تقول:
«ا
لوِثر ما بيركب على الأصيلة».
والوثر: هو ما يوضع على ظهر الجمل كالبرذعة للحمار، وهو هنا كناية عن الرجل غير الأصيل، والأصيلة: هي الفرس الأصيلة، وهي هنا كناية عن المرأة ذات الأصول الكريمة، ومعنى المثل أن المرأة التي تنحدر من عائلة كبيرة ترفض الزواج من رجل من عائلة أقل شأناً من عائلتها، وهذا من منظور العنصرية الضيق الذي ترى فيه بعض العائلات أنها أفضل من غيرها.
وبما أن الأمثال هي مرآة صادقة تنعكس عليها سلوكيات المجتمع وحالاته المختلفة، فقد استطاعت أمثالنا الشعبية أن تصور لنا تلك الحالة السلبية التي عانى منها مجتمعنا، وهي وإن كانت آثارها ما زالت باقية حتى اليوم إلا أنها في طريقها إلى الزوال.
وخلاصة القول أن مجتمعنا ما زال يعاني من هذه الترسبات القديمة في عصر انتشر فيه الوعي الديني، وسادت فيه الثقافة الإسلامية، وعرف فيه الناس أنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولكنه ما زال مصراً أن يُبقي رأسه في ربقة رواسب الماضي التي هي أقرب للجاهلية منها للإسلام، فمتى يصحو لنفسه وينفض عن أكتافه غبار الجهل والتخلّف، ويعود للتمسك بهدى الحبيب المصطفى وفضائل الدين والشريعة.

qqq
رهط في: 3/01/2010


---------------------------------
(1) - المعجم الوسيط، الجزء الثاني، ص 654، الطبعة الثالثة، إصدار مجمع اللغة العربية، مصر، 1985.
(2) - لسان العرب، ابن منظور، مادة (عنصر)، المجلد التاسع، ص 427، الطبعة الثانية، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1997.
(3) - صحيح البخاري، حديث رقم: (4622).
(4) - المعجم التاريخي للغة العربية، د. محمد حسن عبد العزيز، ص 287.

---------------

نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء 06/01/2010، العدد (118).

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة

« لا يسمح باستخدام هذه المادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »

 ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.


صممت هذه الصفحة في 22/01/2010م

بريد الكتروني

موقع الشاعر صالح زيادنة

رجوع