حزازير من تراثنا الشعبي مقالة لصالح زيادنة

حزازير من تراثنا الشعبي

بقلم: صالح زيادنة

لكلِّ عصرٍ حزازيرُه التي تتلاءم مع ظروف الناس وبيئتهم التي يعيشون فيها، ولمجتمعنا البدويّ حزازيرٌ خاصةٌ به كان يستعملها الناس حتى قبل عقودٍ قليلة، وكانت هذه الحزازير تُعبِّر عن حياة البدويّ في صحرائه، وتُصوِّر أدواته وطرق معيشته، وتُصوّر ألواناً مختلفةً من عاداته وتقاليده، فتارةً تَصِفُ لنا بيته وقهوته وأدواته التي يستعملها في حياته اليومية، وتارةً أخرى تُصوّر لنا مواشيه وبهيمته، وقد استطعت أن التقط بعض هذه الحزازير فشرحتُ معناها وبينتُ صلتها بحياة البدويّ وبيئته التي يعيش فيها، وهي بلا شك جزء من ذلك التراث الجميل الذي أخذ يبعدُ عنا شيئاً فشيئاً بسبب تغيُّر ظروف الحياة وتغيّر الزمانِ والمكان، وها أنا أقدم لكم هذه الباقة الجميلة منها:
1. شي كُبْر الكَفّ يَنْطَح مِيّة وألف:
كنتُ أسمع صغيراً هذه الحزيرة من أمي وأخواتي الكبار، وعرفت أنّ هذا الشيء الذي بحجم الكَفّ هو المشط الذي له أسنان من الجهتين، جهة منها أسنانها أكبر من الجهة الأخرى، وكان هذا المشط في بداية الأمر يُصنع من العظم الفاخر، ثم أصبح فيما بعد يُصنع من البلاستيك شأنه شأن غيره من الأدوات، وكانت الأم تمشِّط أولادها أولاً بالجهة ذات الأسنان الكبيرة، ثم تعود وتمشطهم بالجهة ذات الأسنان الرفيعة والقريبة من بعضها البعض، فتأتي على البقية الباقية من القمل، وكان الناس يعتقدون أن الذي ينقطع منه القمل يموت، فالقمل يكون في الكائن الحي طالما هو حيّ يتحرّك، فإذا ما توفي انقطع القمل عنه لهذا السبب، ومن هنا نرى أن الذي كُبْر الكَفّ هو المشط، وأن المئة وألف التي ينطحها هي أعداد القمل التي يخرجها من الرأس.

 * * *

2. شي كُبْر الذفَال لا بينْقَلّ ولا بينْشَال:
الذفَال معروفٌ ربما لجيلنا نحن، أما جيل الأبناء فيبدو أن معرفتهم به قليلة، ومهما يكن من أمر فنحن نلتقي بالذفال في هذا المكان أو ذاك، وهو على شكل بساطٍ صغير منسوج من خيوط الصوف، وبه بعض الخطوط السوداء التي تُغزل من شعر الماعز وتوضع في المنسوجات غير الملونة للزينة، وله هدبٌ وشراشيب في طرفيه الرفيعين، وله جيبٌ مثنيّ منه يوضع فيه الخبز، وطوله حوالي متر ونصف المتر، والشيء الذي بحجمه أو أكبر منه بقليل، والذي لا يمكن رفعه أو حمله هو القبر، وهم يستعيرون الشكل المستطيل للذفال ليعبِّروا به عن شكل القبر في حجمه واستطالته.
 

 * * *

3. أربعة جَرَّاية والخامسة غازّة الراية:
لو تصورنا أربعة قوائم متحركة وفوقها شيء منتصب كالراية المرتفعة فماذا يمكن أن يكون، وبما أن هذه الحزازير مأخوذة من صميم حياة الناس، وتُصَوِّر أشياءهم وأدواتهم كالمشط والذفال وغيرها، فالكلب هو أيضاً من الحيوانات الأليفة التي يقتنيها البدويّ، وهو رفيق الراعي والقطيع وحارس البيت، وقلما يوجد بيت لا يوجد به كلب أو أكثر، وهذه الحزيرة تُصَوِّر رؤيتهم لذلك الكائن الأليف وهو يجري على قوائمه الأربع ويرفع ذيله للأعلى كما هي طبيعة الكلاب، حزاير من الصنع المحلي لا تَكَلُّف أو تَصَنُّع فيها.
 

 * * *

4. شي كُبْر الكَفّ بيلِفّ الدنيا لَفّ:
وهذه الحزيرة أيضاً من الحزازير التي كانت شائعة لدى أطفال البدو، وهم يَصِفُون فيها شيئاً بحجم الكفّ يدور ويصل مناطق متعددة، وهو في هذه الحالة "المكتوب"، وكانت المكاتيب بهذا الحجم وهذا يدلّ على أن البريد كان موجوداً في ذلك الزمان بدليل هذه الحزيرة التي تصفه وتصف حجمه ودورانه مع ساعي البريد في مناطق مختلفة قبل أن يصل إلى عنوانه.
 

 * * *

5. شي كُبْر الدبُّور هَجَّج الخيل من البُور:
وهذا أيضاً شيء صغير الحجم لا يتعدّى حجم الدبور ولكنه يثير ضجة وصوتاً مرتفعاً يجعل الخيول تجفل وتهِجّ وتهرب من مكانها في المرعى، وهذا الشيء الصغير هو الطَّلَق، أو العيار الناري عند إطلاقه، وعادة ما يصاحب إطلاقه صوت مرتفع وأزيز عالٍ مما يثير الهلع للحيوانات في مراتعها ويجعلها تهرب من مكانها، تصوير بسيط ولكنه يصوِّر الحدث بشكلٍ دقيقٍ وواضح.
 

 * * *

6. شي مَرَق بيني وبينك ما شافته عيني وعينك:
وهذه حزيرة جميلة ومسجوعة تُصوِّر شيئاً غير مرئي يمرُّ بين الناس ولا يراه أحدٌ منهم، وهو في هذه الحالة الهواء الذي نُحِسّ به ولا نراه، وهناك أشياء كثيرة في حياتنا اليومية نُحسّ بها ولا نراها ومنها على سبيل المثال الكهرباء الموجودة في معظم البيوت والتي نشغِّل عليها الأجهزة والمعدّات ولكننا لا نراها.
 

 * * *

7. ناقة سمرا أولادها بيض حليبها مُرّ وتسكن بلاد الحَمّ:
هذه حزيرة جميلة وصف فيها البدويّ شيئاً من الأشياء التي يستعملها في حياته اليومية، وشبَّهَ فيها ذلك الشيء بالناقة وأولادها وحليبها ومكان تواجدها وسكناها، وهذا الشيء هو بكرج القهوة؛ وهو الوعاء الذي يُعِدّ فيه البدويّ قهوته ومشروبه المحبّب، فشبّه البكرج ولونه الأسود من جراء تواجده الدائم على حافة النار شبهه بالناقة السمراء، أما الفناجين البيضاء التي يشربون فيها القهوة فهي تشبه أولاد الناقة ذات اللون الأبيض، أما طعم القهوة فهو مُرّ ووصفه هنا بحليب الناقة، وإن كان حليب الناقة حلو المذاق، أما بلاد الحَمّ التي تسكن بها الناقة السمراء فهي النار التي يكون البكرج على حافتها حتى تظل القهوة فيه طازجة ولذيذة.
 

 * * *

8. عبد سنونه في قفاه:
العبد، وكلنا عبيد لله، المقصود به هنا هو لونه وليس هو بذاته، فما هو الشيء الأسود الذي له أسنان بيضاء في ظهره أو قفاه من الخلف.
بيت البدوي لونه أسود وكلنا يعرف ذلك، لأنه يصنع من شعر الماعز، أما تلك الأشياء البيضاء اللامعة فهي العيدان أو الأسلاك المعدنية الرفيعة التي كان يشبك بها رواق البيت من الخلف في سقفه، أو تشبك بها الحظنة من الأمام بسقف البيت إن جاز أن نسميه سقفاً، فاستعاروا هنا لون العبد الأسود ليصفوا به البيت، ولون أسنانه البيضاء ليصفوا بها العيدان أو الأسلاك المعدنية الرفيعة التي تشبك جوانبه بسقفه.
 

 * * *

9. ثلاثة في البطين لهن رطين:
البطين هو المرتفع من الأرض، والرطين هو الكلام غير المفهوم، فما هي هذه الأشياء الثلاثة الموجودة على البطين وكأنها وهي متقابلة ترطن وتتكلم بكلام لا نفهمه؟
من المعروف أن البدويّ يحبّ أن يبني بيته على مكان مرتفع من الأرض حتى يُشْرف على مساحة شاسعة من الأرض فيأخذ حذره قبل أن يصل الخطر إليه أو إلى مواشيه وبهائمه، وهو عادةً يشعل النار ويضع ثلاثة حجارة على جانب الموقد لتحمل وعاء الطعام وتثبته على النار، وهذه الحجارة هي الأثافي في اللغة الفصيحة، وهي اللدايا في لغتنا الدارجة، ومن عادة البدوي عند رحيله أن يترك هذه الحجارة مكانها ولا يحملها معه فالحجارة كثيرة ومتوفرة في كل مكان، وهي هنا التي تصفها الحزيرة بقولها: "ثلاثة في البطين لهن رطين".
 

 * * *

10. طاسة في البحر غَطّاسة:
منظر الشمس عند الغروب يوحي إلى البدويّ بأنّ قرص الشمس يشبه الطاسة أو الطنجرة المستديرة، وهي عندما تغرب ويختفي قرصها شيئاً فشيئاً تشبه الطاسة المستديرة وهي تغطس وتختفي في مياه البحر، ومن هنا نرى جمال التشبيه الذي يتخيله البدويّ ويحسن وصفه، ونفهم منه أن الشمس هي المقصودة في هذه الحزّيرة.
 

 * * *

11. ثلاثة وثلاثين أخ، بيطُخّن بعضهن طَخ، ولا واحد بيقول أخ:
المِسْبَحَة، أو السَّبْحَة كما نسميها، كلنا نعرفها، وهي تتكون عادةً من 33 حَبّة من الخرز الذي تتفاوت أحجامه وتختلف أنواعه وألوانه حسب جودة المسبحة ونوعيتها، وهذه الحزيرة تُصوِّر حَبَّات تلك المسبحة، وتذكُرُ عدد خرزاتِها وتُصَوِّر ارتطام الخرزات ببعضها البعض عند التسبيح وأنها لا تضجّ ولا تتضجّر من كثرة التسبيح، تشبيه جميل ووصف رائع يدلنا على خيالٍ خصب تتفتق عنه قريحة البدويّ في صحرائه.
وختاماً آمل أن أكون قد وفقت في شرح هذه الحزازير الجميلة، التي نقدمها لكم اليوم كطبقٍ شهيّ من أطباق تراثنا الأصيل الغالي، والله من وراء القصد.

رهط في: 20/12/2009
{{{

---------------

نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء 23/12/2009، العدد (116).

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة

« لا يسمح باستخدام هذه المادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »

 ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.


صممت هذه الصفحة في 22/01/2010م

بريد الكتروني

موقع الشاعر صالح زيادنة

رجوع