ثقافة العرف والقلالة مقالة لصالح زيادنة

ثقافة العُرْف والقُلاَّلة

بقلم: صالح زيادنة

قلت لابني ذات يوم: أُريد أن أُعلِّمك بعض المصطلحات التراثية لكي تحفظها وتعرف معناها، خاصةً بعد أن ابتعد الناسُ عن منابع تراثهم وتركوا عادات آبائهم وأجدادهم وانساقوا وراء بهرجة المدنية الجوفاء وزُخرف أباطيلها، ولم يعد الجيل الجديد يعرف من تراثه إلا النزر القليل.
فقال: وهل تنفعني هذه المعلومات يا أبي، وأكثر ما تتحدث عنه لم يعد موجوداً على أرض الواقع، وأصبح أكثره محفوظاً في أماكن الآثار والمتاحف نراه ولا نُحِسّ به.
قلت: يا ابني إنَّ من لا ماضي له لا حاضر له، وكلّ ما أُريد أن أُعلّمك إياه هو بعض الكلمات والمفردات القليلة عسى أن تنفعك عند الضرورة.
فقال بتأفّف: قل ما تشاء يا أبي ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
قلت: هل سَمعتَ بالقُلاَّلة، وهل تعرفُ معناها؟
قال: لا، لَمْ أسمع بها من قبل.
قلت: أُريد أن أُبسّط إليك الموضوع وأُقرِّبه إلى ذهنك وفهمك حتى تستوعبه بسرعة، ألم تَرَ في سوق المواشي بعض الخرفان المقصوصة وقد ظلت بقعة من صوفها دون قَصّ تُغطّي ظهرها وحَقَوَيْها.
قال: نعم، رأيتُ ذلك.
قلت وهل تعلم لماذا أبقوها دون قَصّ؟
قال: لا، لا أعلم.
قلت: في فصل الصيف تكون حرارة الشمس عالية في بلادنا، وحتى لا يتعرّض البَهْمُ الصغير لضربةٍ من تلك الحرارة العالية فإنهم يُبقون هذه البقعة من الصوف حتى تُغطّي الظهر وتحافظ على الكليتين فلا يصيبها أذى.
قال: الآن فهمت معناها، وقد كنت أراها ولا أعرف السبب في إبقائها كالنتوء على ظهر تلك الخرفان الصغيرة.
قلت: أتعرف كيف استعارَها الناس في هذا الزمان؟
قال: لا.
قلت: أصبحوا يحلقون للأولاد والشبّان بهذه الطريقة، يَقُصّون شعورَهم ويُبقون لهم قُلاَّلةً على رؤوسهم.
نظر ابني إليَّ نظرة فيها كثير من التساؤل والاستغراب، وقال: ماذا تعني بذلك يا أبي؟
قلت: هل ترى تسريحة شعرك هذه، إنها تُشبه قُلاَّلة الخروف الصغير.
نَفَرَ ابني وقال: ماذا جرى لعقلك يا أبي، أتُشبِّهني بالخروف.
قلت: لا أشبِّهك أنت، بل أُشَبّه تسريحة شعرك هذه ليس أكثر.
تَغَيَّر وجه ابني وتَجَهَّم بعض الشيء وأطرقَ قليلاً كأنه يفكّر في أجوبة لهذه الأسئلة التي لم تفطن له ببال، ولكنه آثر الصمت على الخوض في هذا النقاش الطويل وظل جالساً مكانه.
قلت: وهل تعرف عُرْفَ الديك؟
فأجابني بحنق قائلاً: رغم أنّ أُمي لم تعد تُرَبّي دجاجاً كما كانت في السابق، إلا أنني أعرف عُرْفَ الديك؛ إنه اللحمة الطرية الحمراء التي على رأسه، ثم سكت برهة قصيرة وتابع حديثه وقال: وأعرف أيضاً أنك تريد أن تُشبّه تسريحة أخي الجديدة بعرف الديك، أليس كذلك!.
قلت: عليك نور، إن هذه التسريحة التي يُمَشِّطون فيها الشعر إلى أعلى حتى يصبح كعُرْفِ الديك مستوحاة من العُرْف كما ذكرتُ لك.
قال: وهل هذه هي المصطلحات التراثية التي تريد أن تُعلّمني إياها، ألم تجد خيراً منها حتى شَبَّهتني بالخروف وشبَّهتَ أخي بالديك.
قلت: هناك مغزى آخر أريد أن تفهمه أنت ومن هم في مثل جيلك.
قال: وما هو المغزى الذي ترمي إليه؟
قلت: إن حضارة الغرب التي نقلدها تقليداً أعمى لا تناسبنا، ولا تتلاءم مع عُرفنا وعاداتنا، ولا مع أذواقنا التي تعودت على الأناقة والاحتشام والهيبة والوقار، فلندع شوائبهم لهم، ولنسر على النهج السليم الذي سلكه السلف الصالح من قبل.
قال: لا تُبعد بي كثيراً يا أبي، ولماذا لا نأخذ منهم ما يُعجبنا؟
قلت: إذن ضع حلقةً صغيرة من المعدن في أذنك أو في أنفك أو حتى في سُرَّتِك، ودَعْ أختك تسير مكشوفة البطن والظهر، أليس هذا من عاداتهم.
رأى ابني توتري وعصبيتي، فقال بهدوء: كفى يا أبي.. كفى، إن ما تقوله هو عين الحقيقة، إننا لا نستطيع مجاراتهم في عادات لا تمت إلى واقعنا بصلة، ولا يربطنا بها رابط، وإن في عاداتنا من الفضائل والخلال الحميدة ما لن يصلوا إليه أبداً.

هدأت ثورة أعصابي وخَفَّ توتري فقلت لابني ببرود: وهل اقتنعت بكلامي الآن؟
قال مخففاً عني: لقد اقتنعتُ بكلامك يا أبي، لقد اقتنعت.
قلت: إذن أضف إلى معلوماتك التراثية كلمتي قُلاّلة وعُرْف؟
ابتسم ابني ابتسامة خفيفة ووضع يده على شعره الأملس، وقال وهو ينهض من مكانه: لقد حفظتها يا أبي، لقد حفظتها، ودخل غرفته وتركني ساهماً أُفكّر في قضيةٍ أخرى.


{{{

رهط في: 22/11/ 2009م

---------------

نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء 09/12/2009، العدد (114).

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة

« لا يسمح باستخدام هذه المادة بشكل تجاريّ دون أذن خطّيّ من المؤلف »

 ولا يسمح بنقلها واستخدامها دون الإشارة إلى مصدرها.


صممت هذه الصفحة في 22/01/2010م

بريد الكتروني

موقع الشاعر صالح زيادنة

رجوع