البريد المقدس لصالح زيادنة

البريد المقدس

بقلم: صالح زيادنة

قال لي صاحبي ذات مساء: هل لك أن تُخبرني يا صاحبي لماذا يربط العامة من الناس قطعاً صغيرة من القماش الأخضر ويعلقونها على غصون الأشجار أو على جدران بعض الأبنية القديمة؟

فقلت له: إن الأمر بسيط، فنحن عندما نقدّسُ شيئاً أو نتبرَّك به نضع علامةً عليه، ونعلّق عليه شرائط خضراء رفيعة حتى يعرف غيرنا ممن يزورون المكان بقدسيته وأهميته في الذاكرة الشعبية، فيتبرَّك به من يأتي بعدنا كما تبرَّك به من جاء قبلنا.

قال لي صاحبي: ألا توجد لهذه العادة جذور في تاريخ الشعوب.

قلت: بلى، فاللون الأخضر يدلّ على الوَرَعِ والتقوى، ومن أجل ذلك كان الناس يُغَطّون قبور الصالحين بقماشٍ أخضر، وكثيراً ما تقطع النساء من أطراف هذا الكساء قطعاً صغيرة تأخذها معها وتُعلّقها في شعر أطفالها أو على أكتافهم حتى تكون حِرزاً لهم وتبعد عنهم الحَسَد وعينَ السوء.

قلت لصاحبي: يبدو أنك لا تسأل هذه الأسئلة إلا وفي نفسك معنى آخر تريد أن تصلَ إليه.

فقال: خطر ببالي أن أُعلِّق قطعاً من القماش الأخضر على فرع البريد في بلدنا وعلى بوابته المقدسة.

قلت: وما للبريد وما لهذه الشرائط، وهل للبريد قدسية؟.

قال: يبدو أن معلوماتك ضعيفة وأنك لا تتابع الأحداث مثلي، ألم تعلم أننا في بلدٍ يصل تعداد سكانه إلى قرابة ستين ألفاً وليس لنا إلا هذا البريد المقدّس.

وأكمل صاحبي كلامه قائلاً: ألا تعلم أن الناس يصطفون بالمئات أمام بوابته المقدسة كما يصطف الفقراء أمام بوابات وكالة الغوث أو الجمعيات الخيرية، وأنك إذا أردت أن تدفع ورقة صغيرة فقد يكون دورك رقم 400، وقد تنتظر ثلاث أو أربع ساعات حتى يصلك الدور، وأنه بإمكانك أن تسافر إلى القدس وتنهي معاملاتك وتعود قبل أن يصلك الدور في بريدنا المقدس.

وكأنّ صاحبي أعجبه الكلام فبدأ يُفرغ ما في وطابِهِ وقال: ألا تعلم أن الناس يتوجهون للبلدان المجاورة لقضاء معاملاتهم هناك، لأنه لا يمكنهم الانتظار طيلة اليوم من أجل دفع فاتورة الهاتف.

قلت لصاحبي: وما المطلوب إذن، ماذا تريد مني أن أعمل؟

قال: هل عرفتَ الآن أن بريدنا مقدّس، وأنه بحاجة إلى علامة وإلى تعليق شرائط خضراء على جدرانه وعلى بوابته الشريفة.

وأكمل صاحبي قائلاً: أليس من العار أن يكون في بلدٍ بهذا الحجم قسم واحد للبريد، وأن يتعارك الناس أمامه كما تتعارك الشياه على الغدير.

قلت لصاحبي: وما هو الحلّ إذَن لهذه المشكلة؟ ألا ترى معي أنه يجب أن تكون هناك معالجة فورية من أجل فتح فرعٍ آخر في البلد، فما هو موقف المسؤولين، وأين هم من هذا الأمر؟.

ضحك صاحبي وقال إنك كمن ينادي في وادٍ خالٍ من الناس، أو كمن يرقص في الظلماء فلا يراه أحد.

قلت: لماذا لا نصرخ ونرفع أصواتنا حتى تُلبى طلباتُنا؟.

قال: سوف ينطبق عليك بيت الشعر القائل:

        لقد أسمعتَ إذ ناديتَ حيّاً           ولكن لا حياةَ لمن تنادي

قلت: وهل المسؤولون في غفلة عن هذا؟ أم هم نيام لا يرون ما يجري في هذا البلد؟

قال: لا، بل هم على عِلْمٍ كاملٍ به، وهم لا ينامون ملءَ جفونهم كما كان يفعل أبو الطيب المتنبي من قبل(1)، ولكنهم في قلقٍ دائم خوفاً على تلك الكراسي أن تقع من تحتهم.

قال: ليتني أعمل نجاراً لأدقَّ بعض المسامير في كراسيهم المتخلخلة علها تصمد ولو لبعضِ حين.

قلت: عُد إلى شرائطك الخضراء، ودعك من تلك الأمور، فإنها لن توقظ ضمائر غلب عليها سلطانُ النوم فلن تصحوَ أبداً.

وضع صاحبي يده على وجهه وضغط بسبَّابته على خدّه حتى كادت تصل العظم، وغرق في وساوس وأفكار لا نهاية لها، وسمعته يتمتم بصوتٍ خفيض ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل، حسبي الله ونعم الوكيل.

{{{

تلميحات:

(1) - عن بيت لأبي الطيب المتنبي يقول فيه:

                 أنامُ مِلءَ جُفوني عن شوارِدِهَا

                                      ويسهر الخَلْقُ جَرَّاها ويَخْتَصِمُ

رهط في: 04/11/ 2009م

---------------

نشرت في صحيفة الحدث بتاريخ الأربعاء 11/11/2009، العدد (111).

 

  جـميع الحقـوق مـحفوظـة للكاتب.

« لا يسمح باستخدام هذه المادة أو بنقلها دون الإشارة إلى مصدرها »


صممت هذه الصفحة في 22/01/2010م - تحديث في: 23/01/2018

بريد الكتروني

موقع الشاعر صالح زيادنة

رجوع